بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد سبق في الحلقة قبل الماضية بيان حال الرجال الذين صنعوا معركة بدر، وكتب الله لهم بذلك البقاء، وغفر لهم ما تقدم وما تأخر، وبقي من بيان مقدمات هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل مهاجرًا إلى المدينة، ووجد الإسلام قد فشا فيها، في الشباب وفي قليل من الشيوخ، وجد بعض الشيوخ من سكان المدينة يعلنون الإسلام في الظاهر، ويبطنون الكفر، ويمالئون اليهود في السر، وهؤلاء هم نواة النفاق، ووجد اليهود في المدينة على ثلاثة أقسام؛ أي: ثلاث قبائل من اليهود، كل قبيلة مستقلة عن الأخرى، فبنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، كل له حصونه ومنطقته، ومزارعه في المدينة، ووجد حول المدينة بعض القبائل البدوية التي تتنقل في الصحراء، ويمكن أن تغير على المدينة في كل وقت، ويمكن أن تكون علاقة مع قريش، فيكون ذلك خطرًا على أهل المدينة.
وكان تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي:
أولًا: إصلاح الجبهة الداخلية، وبعد ذلك حصول الأمن من المخاوف القريبة؛ حتى يتمكن بعد ذلك مما أوجب الله عليه من الجهاد في سبيله، وهذا التدرج قد سبق أنه من أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقدم قط على مغامرة، ولا على مخاطرة، كل أموره مدروسة موزونة معروفة العواقب والنتائج.
والاعتماد في ذلك كله على التوكل على الله، والاتصال به، وقصد مرضاته، وقصد وجهه الكريم، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بترتيب حال أهل المدينة، وقد وجدهم أهل حرب، وقد دامت الحرب بين الأوس والخزرج مدة من الزمن، فقتل فيها عدد كبير من سادتهم؛ ولهذا قالت عائشة: ( كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم )، فقتل فيه كثير من كبار السن، وبقي الشباب الذين يمكن أن يستقبلوا هذه الدعوة، وأن يلتزموها، وأن يضحوا في سبيلها، ومع ذلك بقي من الكبار بعض الذين مردوا على النفاق، كـعبد الله بن أبي ابن سلول، وزيد بن اللصيت، وأبي عفك، وعدد من كبار السن، الذين تفرقوا في حصون المدينة وأحيائها، بعضهم من الأوس وبعضهم من الخزرج، وبعضهم من بني بلي، وهم من حلفاء بني قيلة، الذين يسكنون في المدينة، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم العلاقة بالجميع، وهو يعرف المنافقين واحدًا واحدًا كما يعرف أصابعه، ولكنه لم يرد أن يقول الناس: محمد يقتل أصحابه، ولم يرد أن يقع شرخ في داخل المدينة، وأن يبدأ الصراع في داخلها، وهذا يدلنا على أن من عناصر القوة التي تحتاج إليها هذه الأمة في كل وقت: إصلاح ذات البين، وعدم إثارة النعرات، سواء كانت عنصرية أو قبلية أو جهوية، أو غير ذلك، حتى يأمن الناس على أنفسهم، وحتى يساعد كل إنسان منهم الآخر، وحتى يتعاونوا فيما بينهم، فإذا صلحت الجبهة الداخلية حصلت القوة، واستطاعوا حينئذٍ الانتصار على العدو.
أما إذا كان الشرخ موجودًا، فسيستغله العدو، وسيجدون ثغرات يدخلون من خلالها؛ فلذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم أولًا بإصلاح ذات البين، فأزال عن الأنصار ما كان بينهم من الحرب والخلاف، وحسن العلاقة حتى بالمنافقين، فكان يزور عبد الله بن أبي ابن سلول في بيته، ويأكل عنده، وقد جاءه يومًا يركب حمارًا له، فقال عبد الله بن أبي: أخر عني حمارك؛ فقد آذاني نتنه، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتأثر من هذا الكلام؛ وذلك لحلمه، وتمام خلقه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه من ترتيبه للبيت الداخلي أن اعتنى بالكبار، الذين دخلوا في الإسلام، وصدقوا، فأنزلهم منازلهم كعمرو بن الجموح، فهو كبير السن، وكان من المتعصبين للأصنام، وكان له صنم ورثه عن والده، ويجعله في غرفة نومه، ويسهر في تقديسه والتسبيح بحمده، والصفير بين يديه، فإذا نام سرقته زوجته، فسلمته لأولاده، فرموه في المرحاض، ولطخوه بالنجس، فيستيقظ وهو يبحث عن صنمه، فلا يجده، فيذهب إلى المرحاض، فيجد الصنم ملقى فيه، أخذه مرة من ذلك الوسخ فغسله، وطيبه وصب عليه المسك، وقال: لا بد أن أنتصر لك ممن لطخك بالنجس، فانتظرت زوجته حتى وجدت منه فرصة، فقالت: هذا الصنم نحن نريد منه النصر، فكيف ننصره؟ نحن نريد أن ينصرنا- ليس بيننا وبينه نسب، ليس ابن عم لنا- فكيف ننصره نحن؟! فقال: صدقت فلما كانت المرة الثانية، ووجده مرميًّا في الأوساخ والأقذار، كلمه، فقال: ما لك لا تنتصر لنفسك؟!
ثم إن أولاده أخذوه في المرة الثالثة فقرنوه بكلب ميت، ورموه في بئر الأوساخ والقمامة والأقذار، فاستخرجه، فلما نظر إليه في ذلك الحال- وهو مقرون بكلب ميت- قال: والله لو كنت إلهًا لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن، فرماه، وكسر عنقه، فأسلم صادقًا، وحسن إسلامه، وتخلص من الشرك، وكان من المضحين الباذلين، الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بهم، ويقدمهم، ويستشيرهم؛ ولذلك لما سأل بني سلمة- وهو منهم- قال: من سيدكم؟ قالوا: سيدنا الجد بن قيس على بخل فيه، قال: (وأي داء أدوأ من البخل، بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح).
وكذلك من هؤلاء الكبار، الذين قرب النبي صلى الله عليه وسلم مجالسهم: عبد الله بن عمرو بن حرام، وهو من بني سلمة أيضًا، وهو والد جابر بن عبد الله، وكان كبير السن، وكان له تسع بنات، وولد واحد، وكان من المضحين الباذلين، فلما سمع أمر الإسلام أتته ابنته، فقالت: يا عمرو، لا تسبق إلى هذا الأمر، فهو الخير والله. فقال: قد كان أصدقاء لي من اليهود يحدثونني أن نبيًا قد أطل زمانه، وأنهم سيسبقون إليه فيقاتلون معه العرب، فوالله لنسبقنهم إليه، فكان من السابقين الأولين إلى الإسلام.
ومن هؤلاء أيضًا: الحباب بن عمرو والمنذر بن عمرو، شيخ القراء أمير بئر معونة رضي الله عنه.
فكل هؤلاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني مجالسهم، ويعرف لهم مكانتهم، فقد كانوا من أولئك القلائل من كبار السن الذين دخلت هذه الدعوة قلوبهم، فآمنوا بها وصدقوا.
ونظير هذا ما نجده أيضًا في تعامله مع المهاجرين، فكثير من كبار السن من المهاجرين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقربهم ويدنيهم، كـعبيدة بن الحارث بن المطلب، وهو أسن من آمن به من قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعله بمثابة عمه، ويخاطبه على ذلك الأساس، وقد كان من أبطال هذه المعركة، فهو من الثلاثة الذين أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للبراز، وقد نال الشهادة ذلك اليوم، وكان سيد شهداء بدر الذين قتلوا، ولما وضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قطعت ساقه، وهو يجود بنفسه، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لوددت أن أبا طالب حي؛ حتى يعلم أننا أحق منه بقوله:
كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ومن هنا، فإن هذا الترتيب الذي عمله النبي صلى الله عليه وسلم حافظ على التوازن في المدينة، فترك لـسعد بن معاذ زعامة الأوس، ولسعد بن عبادة بن دليم زعامة الخزرج، وجعل على كل بطن من الأنصار نقيبًا، واعتنى بذوي المنازل منهم، وأنزل كل إنسان منهم منزلته، والتمس العذر للمعذورين منهم في كل أمر، فصلحت الجبهة الداخلية، ثم أراد النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أن يسد باب الخطر من قبل اليهود، فدعا زعاماتهم، فاجتمع بهم، وبين لهم أنه نبي، وعرض عليهم أن يسلموا، فإن لم يسلموا فإنه يعرض عليهم الأمن والأمان، وأن يعيشوا من سكان المدينة ومن رعايا الدولة الإسلامية، ليس بينه وبينهم حرب، ولا يعينون عليه غازيًا، ويدافع هو عنهم إذا تعرضوا لأي خطر.
وقد قبل اليهود هذا الصلح، فكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، فكان أول صلح عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد، وهو يعلم أن اليهود أهل نكث للعهود والعقود، ويعلم أنهم قطعًا سينكثون هذا العقد ويردونه، ولكن مع ذلك لم يشأ أن يفتح جميع الجبهات في وقت واحد، فأراد التدرج.
ثم بعد هذا غزا بعض الغزوات القريبة، فغزا إلى الأبواء، وإلى بواط، وإلى ذي العشيرة، وهي أماكن قريبة من المدينة، فيها تجمعات من هذه القبائل البدوية، كبني ضمرة، وبني مدلج، فعقد معهم هدنة كذلك، وكانت هذه الهدنة ذات قيمة وفائدة؛ لأنهم أصبحوا ملزمين من خلال الصلح أن يخبروه بكل خطر يهدد المدينة، وأصبحوا في صف الإسلام مؤازرين مناصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يدخلوا في الإسلام، ومن خلال هذه الغزوات سير النبي صلى الله عليه وسلم بعض السرايا التي تستقبل المهاجرين الذين ينقطعون في الطريق؛ فالمهاجرون يخرجون خفية، وليس معهم زاد ولا ماء، فيحتاجون إلى نجدة في الطريق، فسير النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من السرايا لهذا، فسير سرية عبيدة بن الحارث، وسرية حمزة، وسرية أبي سلمة، وسرية عبد الله بن جحش، كلها سرايا تنقذ بعض الذين علم أنهم هاجروا من مكة دون زاد ولا ماء فتأتي بهم، وكانت سرية حمزة من أهم هذه السرايا، فقد أراعت أهل البادية، وجاءت بـالمقداد بن عمرو، ومن معه، وكانوا قد نفد ماؤهم وزادهم بوادي قديد.
ثم بعد هذا كان التأهب لهذه الغزوة، ومن المعلوم أن أهل الجاهلية كانوا يزنون الأمور بميزان المادة، فحال أهل الجاهلية إذا تعرضنا لعناصره البارزة، وأردنا صورة حقيقية ليس فيها تهويل ولا تضخيم، سنجد أن الذي ينتشر فيهم هو:
عبادة الأصنام، وطلب النفع منها، وقطيعة الأرحام، وزيادة الأغنياء غنًا وزيادة الفقراء فقرًا، والاستغلال الكامل، فكل إنسان يستغل من استطاع استغلاله، وفشو التقليد الأعمى، والانتصار للقبيلة، والأقارب- حتى لو كانوا على باطل- وسوء الأخلاق، وانتشار الفواحش؛ من شرب الخمر، والزنا، وغير ذلك.
فهذا هو حال أهل الجاهلية، وهي الصورة الحقيقية عنهم، وهذه الصورة إذا طبقناها على واقع كثير من المجتمعات المسلمة، فقليل ما نفقده منها، قليل جدًا من شأن الجاهلية ما نفقده، إذا طبقنا على واقع الناس فسنجد أن كثيرًا من الناس الذي يفعلونه من العبادات هو ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من ملة إبراهيم، يحجون ويصلون بعض الصلوات ويطوفون بالبيت، فيفعلون هذه الأمور لكنها خالية من الروح، يفعلونها لأنهم وجدوا آباءهم يفعلون.
ونجد أنهم كلما قدروا على فاحشة ارتكبوها، وأنه لا ينتشر فيهم الأمر بالمعروف، ولا النهي عن المنكر، ولا يجد أحد منهم عناية بذلك.
ونجد أنهم تتفشى فيهم القطيعة- قطيعة الرحم- وأنه يتفشى فيهم كذلك الميز العنصري، والقبلي، فكل إنسان ينتصر لقبيلته، ولو لم تكن مصيبة، ولو لم تكن مظلومة.
وكذلك ما نجده اليوم من فشو كثير من الفواحش، ودعوة كثير من الناس إليها، هو قريب مما كان عليه أهل الجاهلية، فقد كانوا يتفاخرون بها.
وبهذا يعلم أن إطلاق الجاهلية ولو كان لا يقتضي التكفير، ولا يقتضي العموم إطلاقًا عامًا، هو إطلاق وارد على كثير من المجتمعات المسلمة، فقد فشا فيها الجهل، فأصبحت تعيش جاهلية، لكنها جاهلية جديدة تختلف عن الجاهلية القديمة في بعض الجزيئات.
وليس معنى هذا تكفير الشعوب، ولا الحكم على عوامها، بل إن الصورة التي تنطبع في ذهن الصادق عن الجاهلية قليل ما يفقده منها إذا قارن ذلك بواقع الأمة.
ومن هنا فإن أهل الجاهلية كانوا يهتمون بالمال وجمعه، فالغني يريد أن يزداد غنى بكل الوسائل، فانتشر الربا انتشارًا عجيبا، كان التاجر يستغل فقر وحاجة الفقير، فيقول له: أعطيك هذا الدين إلى أجل قريب، فإذا جاء الأجل وليس لديه ما يقضيه به، فيقول: إما أن تقضيني وإما أن تربي لي، فيضرب الدين في اثنين مثلًا، أو ثلاثة أضعافًا مضاعفة، ويؤخر الأجل وهكذا، فلا تقع صفقة إلا وفيها ربا، فيها انتفاع.
وانظروا إلى حال الناس اليوم، لو نزل أي إنسان إلى النشاط التجاري للناس، فسيجد الصفقات في غالبها وجمهورها فيها طلب هذا النفع بالربا.
لهذا كان من المهم أن يهتم النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر بالجانب المادي من حضارة المشركين، فالنكاية فيهم ليست بالقتل، وهذا الدين دين سلام وأمان، ولا يحب إشاعة القتل، ولكن مع ذلك لا بد من النكاية بأهل الجاهلية حتى يرجعوا إلى هذا الدين، وأبلغ نكاية فيهم هي ما يتعلق بالمال.
وأيضًا فإن المهاجرين الذين خرجوا إلى المدينة، وهم عدد كبير من الرجال، والنساء، والكبار، والصغار، قد تركوا كل أموالهم بمكة، وجاءوا وليس معهم معاش.
نعم، حقق الأنصار في المدينة ذلك التعاون العجيب، وتلك الصورة الناصعة للإسلام، فتنافسوا في إكرام المهاجرين، وتقاسموا معهم ما يملكون، وهذه الصورة خلدها الله بأبلغ عبارة وأتمها، فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[الحشر:9]، فقد بين الله أنه سبحانه وقاهم شح أنفسهم، فآثروا المهاجرين على أنفسهم، لكن مع هذا لابد أن يزول هذا الوصف- الذي هو الفقر- الذي اتصف به كل المهاجرين: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا[الحشر:8]، لابد أن يزول عنهم هذا الوصف؛ لأنه ليس من أوصاف القوة، والإسلام دين القوة، وإزالته عنهم أيسر الطرق لها ارتجاع أموالهم التي انتزعها قريش منهم؛ فلذلك كان التركيز في البداية على القوة المالية لقريش، وعلى الجانب الاقتصادي.
فاتجهت غزوة بدر إلى هذا الجانب، ومثلها بدايات الغزوات التي أريدت بها النكاية في قريش، كان يترصد بها للعير، فقريش ليس لهم اقتصاد إلا من قبيل التجارة، ولهم رحلتان: رحلة في الشتاء، ورحلة في الصيف، رحلة إلى الشام، ورحلة إلى العراق، فالرحلة إلى العراق تخرج في الشتاء؛ لأن المياه قليلة، والأراضي شاسعة متباعدة، والرحلة إلى الشام تكون في الصيف؛ لأن المياه ذات وفرة، والقرى كثيرة في طريق الشام، وهذا ما امتن الله عليهم به في قوله: لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[قريش:1-4].
فكان إذًا من إستراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لعير قريش التي تأتي بالمؤن والتجارات من الشام، أو من العراق، وكانت طريق الشام أقرب إلى المدينة؛ لأنها في البداية كانت تمر على المدينة، فلما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إليها لم يجدوا بدًا من تغيير طريق خط سير العير، فجعلوها تمر من غرب المدينة بينها وبين البحر، وتمر على أملج، وتمر على رابض، فتتيامن إلى جهة البحر في رجوعها.
وسبب ذلك أنهم عرفوا أن أهل المدينة قد أصبحت قيادتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان قريش يعولون على بعض الصداقة في اليهود، كصداقتهم بـكعب بن الأشرف، وأبي رافع بن أبي الحقيق، ويعولون أيضًا على بعض الصداقة بكبار السن من أهل المدينة من الأوس والخزرج؛ كـعبد الله بن أبي، وغيره، لكن هذه لم يعد لها ذلك الأثر في المدينة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وقد سمعوا هاتفًا يقول:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالف
فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرًا ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله في الفردوس منية عارف
من هنا قرر النبي صلى الله عليه وسلم أولًا الاستعداد لهذه المعركة دون إشعار الناس بذلك، وهذا الاستعداد ليس كما يتوهمه الناس أن الحرب تؤخذ لها العدة الكبيرة من السلاح، والعتاد، والرجال، والمؤن، لم يكن استعداد النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل، بل كان بالإعداد الروحي، والإيمان، وإحياء التوكل على الله سبحانه وتعالى وقصد وجهه الكريم، وإحياء الرغبة في الشهادة في سبيل الله، فهذا الذي يهيئ الناس للمعركة.
والمهاجرون كانوا من قبل تربوا تربية أكثر من تربية الأنصار، فقد مكثوا ثلاث عشرة سنة مع النبي صلى الله عليه وسلم في مدرسته، وكان كثير منهم معه في الشعب، فليس لديهم أي إشكال في أي أمر يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
والأنصار محبون وناصرون، ولكنهم إنما بايعوا على حمايته هو مما يحمون منه أزرهم، وبايعوه في العقبة على بيعة النساء: ألا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، وألا يعصينه، فالأنصار بايعوا على هذا، ولم يبايعوا على القتال، فعقد النبي صلى الله عليه وسلم بعض الاجتماعات التي هي تحضيرية يقدم فيها ما يحمس الناس لطلب الشهادة في سبيل الله، وما يحمسهم للتوكل على الله وابتغاء مرضاته.
وهذه الاجتماعات يحضرها المهاجرون والأنصار، فقد أدمج الإسلام بينهم، ولم تعد هذه الفوارق بينهم إذ ذاك، لكن لما عرض عليهم القتال والتعرض للشهادة لم يظن الأنصار في البداية أنه يعنيهم، فلم يجبه إلى ما قصد إلا المهاجرون، فأجابه أبو بكر، فبين له قال: ( والله لا نقول ما قال بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ثم أجابه المقداد، فقال: يا رسول الله، والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما تخلف منا رجل ولا امرأة ).
أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، وحينئذٍ فهم الأنصار أنه يعنيهم، فقال له سعد بن معاذ: ( لعلك تقصدنا معشر الأنصار؟ فقال: أجل، فقال: يا رسول الله، والله لو خضت بنا عرض هذا البحر لخضناه معك ولم يتخلف منا أحد، ولتجدن فينا ما يسرك ).
فاجتمعت كلمة الأنصار، وحصلت المسابقة منهم والمبادرة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من الذين ينتظرون، ويسوفون، ويطيلون الأمد، بل عندما استجاب الأوائل من الأنصار خرج مباشرة لهذه المعركة، فخرج الناس ولم يشتهر الخبر في المدينة، فكثير من الرجال لو علموا لخرجوا لكنهم لم يعلموا، وكثير من الذين خرجوا لم يصحبوا معهم ما يكفي من الزاد، ولا من العتاد؛ لأنهم تحمسوا فاستعجلوا عن ذلك كله.
أصبحوا كمن ينظر إلى الجنة، ويعلم أنها على مسافة قريبة، وهو يريد أن يسبق إليها، فلا يريد أن يمر ببيته حتى يصحب شيئًا من زاده؛ لئلا يفوته الركب، ولئلا يسبقه أحد إلى الجنة، فخرجوا يتبادرون إلى الجنة.
وخلف رسول الله عليه وسلم على المدينة أول مهاجر إليها بعد مصعب بن عمير، وهو عبد الله بن أم مكتوم، وكان رجلًا ضريرًا أعمى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلفه في عدد من الغزوات على المدينة؛ لأنه رجل اتصف بإيجابية عجيبة.
هو رجل ضرير، من صباه وهو أعمى، ولكنه كان شجاعًا وكان صدوقًا وكان صبورًا، ثلاث صفات عجيبة جدًّا اتصف بها، وهذه الصفات جعلت منه رجلًا إيجابيًا يتكلف أكثر مما يمكن أن يتوقع منه؛ ولهذا كان ثاني من وصل إلى المدينة من المهاجرين بعد مصعب بن عمير، هذا الرجل الأعمى الضرير ثاني من يصل إلى المدينة، والغريب في أمره أنه يريد دائمًا أن يسد مسدًّا لهذه الأمة، وأن يتولى أمرًا لا يستطيع القيام به أحد.
انظروا إلى من يترشح لأن يسد مكان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وفي ذلك الوقت، همة عالية جدًّا؛ ولذلك فإنه رضي الله عنه لما خرج مع سعد بن أبي وقاص إلى القادسية في قتال الفرس، واستقبلتهم فيلة كسرى على شاطئ دجلة، قال هو لـسعد- وقد أثقلت الجراح سعدًا: يا سعد، إني رجل ضرير، لا أرى العدو فأفر منه، فأعطني اللواء، فلن أزال أتقدم حتى ينهزم العدو، أو ألقى الشهادة، فأعطاه اللواء فتقدم به، ولم يزل يتقدم، هو لا يرى العدو حتى يخاف منه، والسيف بيده يقاتل حتى قتل في سبيل الله شهيدًا في معركة القادسية.
فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة نزل بذي الحليفة، فرد عثمان بن عفان إلى زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فولاه تمريضها، وهذا من المهمات؛ أن يكون القائد مكفيًا في أهله، أن يتولى عنه أحد كفاية في أهله، وعثمان رضي الله عنه أيضًا سد مسدًّا كبيرًا؛ لأنه فرغ تفكير النبي صلى الله عليه وسلم للمعركة، وكل إنسان لا يجد من يكفيه مئونة أهله، لابد أن تكون إنسانيته تقتضي منه على الأقل أن تأخذ جزءًا من رحمته وتفكيره، فينصب إلى أهله، لكن إذا كان مكفيًا في أهله فسينطلق في مشروعه.
ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا)، وقال: (من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة).
وفي عصرنا هذا فإن أحد الدعاة المشاهير، وهو الإمام حسن البنا رحمة الله عليه، لما بلغ ولده سن التعلم، كان هو أصلًا هوايته ووظيفته التعليم، هو معلم، فأراد أن يعلم ولده ولكنه علم أنه سيعطل جزءًا من تفكيره ووقته، فعرض على إخوانه وأصحابه أن يخصصوا له معلمًا يتولى عنه هذه المسئولية؛ ليبقى هو فارغًا لمهمة الدعوة والتفكير فيها، ففرغوا له رجلًا ما له شغل إلا أن يتولى عنه مسئولياته الشرعية، فقال: ما جعل الله في عنقي من المسئولية عن هذا الولد قد جعلته في عنقك، وأنت المسئول عنه، واذهب والله يوفقك، فانقطع من هذه المسئولية، فولَّاها ذلك الرجل فتفرغ هو لهذا العمل، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولى عثمان على علاج ابنته رقية رضي الله عنها وأرضاها، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد العير، والعير قد تجاوزت المدينة، مرت بسرعة بين المدينة وبين البحر، فمرت بالمنطقة التي تسمى اليوم بالفقرة، ويقودها أبو سفيان بن حرب، وعندما مر من تلك المنطقة توجس، أو تخيل أن النبي صلى الله عليه وسلم سيغزو في طلبه، فأرسل منذرًا إلى أهل مكة، وقد رأت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في المنام، فقالت: رأيت كأن شهابًا نزل على أبي قبيس، فتفرق منه الجمر في بيوت مكة، فلم يبقَ بيت من بيوتها إلا دخلته جمرة، فقصت هذه الرؤيا على أخيها العباس بن عبد المطلب، وكان العباس مؤمنًا، وقد شهد بيعة العقبة مع الأنصار، وقد شهد موت أبي طالب، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: (يا عم، قل كلمة أجادل بها عنك. فقال: يا رسول الله، والله لقد قالها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما سمعتها).
فـالعباس كان أقرب إلى أبي طالب من النبي صلى الله عليه وسلم فسمع هذه الكلمة، ولكن لم يسمعها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قبولها مشروطًا بسماع النبي صلى الله عليه وسلم لها، وبهذا يعلم أن العباس كان امرأً مؤمنًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أقره بمكة في وظيفة، وهي جمع الأخبار عن قريش، فكان يخفي إيمانه، ويتستر بمظاهر يراها أهل مكة مما كان عليه من قبل، فهو مشتغل بتجارته، وبالربا الذي كان أهل الجاهلية يفعلون، وهو بين أظهرهم يغدو على مجلسهم، ويروح عليه، فلما سمع رؤيا أخته أعلنها في الملأ من قريش، فقال له أبو جهل: يا بني عبد المطلب قد تنبأ رجالكم فسكتنا، فلم ترضوا حتى تنبأ نساؤكم، يهزأ بهذه الرؤيا، فسكت العباس، وقال: والله لتتحققن رؤيا أختي، فبينما هم على ذلك، إذا ذلك المنذر الذي أرسله أبو سفيان، وقد وقف على أبي قبيس في صورة مفظعة، وهو يصيح، يدعو بالويل والثبور، فاجتمع عليه أهل مكة فأخبرهم أن عيرهم قد أخذت، ففشا الرعب في أهل مكة؛ لأن كل آمالهم تتعلق بالأرباح التي يجنونها من العير، وما في مكة أحد إلا وله مال في تلك العير.
فتأهبوا جميعًا للدفاع عن عيرهم، وكان من لا يستطيع الخروج يستأجر من يخرج بالنيابة عنه، فخرج ألف رجل من أهل مكة، وصحبوا الخيل والإبل، والقينات والخمور، وتزودوا بأنواع الزاد، وصحبوا السلاح، وانطلقوا، فخرج معهم العباس بن عبد المطلب في نفر قليل من بني هاشم، منهم طالب بن أبي طالب، وقد رجع في الطريق، ولم يدرَ أين ذهب، وذلك بسبب خلاف بينه وبين أبي جهل عندما قال: يا بني هاشم، والله ما خرجتم وأنتم تريدون قتال ابنكم، وإنما خرجتم رئاء الناس، فغضب طالب، فقال:
يا رب إما يغزون طالب في مقنب من هذه المقانب
فليكن المغلوب غير الغالب وليكن المسلوب غير السالب
ثم رجع، فلم يسمع عنه خبر بعد ذلك.
ومن الذين خرجوا أيضًا عقيل بن أبي طالب، وبعض أولاد الحارث بن عبد المطلب، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكاملوا إذا هم ثلاثمائة رجل، وليس معهم من السيوف إلا ثمانية، وليس لهم من الخيل إلا ثلاثة وعندهم، مائة بعير كل بعير يتعاقب عليه ثلاثة، وزادهم إنما هو السويق والتمر، شيء قليل جدًا من السويق، وشيء قليل من التمر.
وهذا يدلنا على أن الله سبحانه وتعالى لا يريد من عباده المعونة، فهو القادر على خلقه، وإنما يكلفهم ويمتحنهم، فإذا صدقوا نصرهم، فالنصر بيده، لا يمكن أن يحقق بالعدة ولا بالعدد، وإنما هو من عند الله، كما قال الله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[آل عمران:126].
فكانوا يسألون عن العير، وعلموا أن قريشًا أخرجوا الجيش في طلبهم، فلما علموا ذلك ازداد توكلهم على الله تعالى، وازدادت رغبتهم في الشهادة في سبيل الله، حتى إن أحد رجال الأنصار عرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سمعوا أن الجيش قد خرج- أن يردوا رسولًا إلى المدينة يستنفر من بقي وراءهم من الرجال، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وكان المؤمنون يريدون العير، ويكرهون ذات الشوكة، أي: الجيش، لما سبق في القضية المادية، فساروا يريدون الاستباق مع العير؛ حتى يحولوا بين أبي سفيان، وبين المياه التي ينزل عليها عادة، فسبق الركب العير، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحي من أحياء العرب من جهينة، فسألهم عن العير، فذكروا أنهم سمعوا أنها تصل بعد يوم أو يومين، فتركهم وأرسل الرسل في الأحياء يتلمسون أخبار العير، فجاءه طلحة بن عبيد الله فذكر أنه سمع أمةً على ماء لبعض العرب تقول لمن يستدينها: ما هو إلا يوم واحد تصل عير قريش، فأعمل لهم، فأقضيك من الأجرة، فعرف أن العير قريبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلمسه للأخبار يتخذ المعاريض، وقد قال: (في المعاريض مندوحة عن الكذب)، والمعاريض: هي الكلام الذي يفهم منه السامع شيئًا، والمتكلم به يقصد شيئًا آخر، وقد لقي رجلًا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو، وما وراءه من الخبر، فأخذ منه المعلومات التي يريدها، ثم قال له الرجل: وممن أنتم؟ فقال: نحن من ماء، وحرك راحلته فجعل الرجل يقول: أمن ماء العراق، أم من ماء نجد؟ لم يدر معنى ذلك.
وقد جاء الرسل بواردة لقريش- أي: برجل جاء واردًا من الجيش- فكان الصحابة يستقصونه عن الأخبار، يستخلصون منه الأخبار، فإذا حدثهم أنه وارد الجيش ضربوه وإذا حدثهم أنه وارد العير تركوه، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سلم قال: (إذا صدقكم ضربتموه، وإذا كذبكم تركتموه)، أسئلة دقيقة، سأله: من يحمل اللواء؟ فبين أن قريشًا أعطوا اللواء بني عبد الدار وقد كان ذلك من وصية قصي من قبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالوفاء منهم، فأعطى اللواء مصعب بن عمير، وهو من بني عبد الدار، ثم سأله: كم ينحرون في كل يوم؟ فقال: ما بين عشرة وتسعة، تارة ينحرون عشرًا من الإبل، وتارةً ينحرون تسعًا، فقال: (ما بين تسعمائة إلى ألف).
عرف النبي صلى الله عليه وسلم متى يصلون إلى بدر، فلم يعد يتحدث عن العير، وفات أبو سفيان، وجاءت النذور بقدوم الجيش، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ببدر، فجاء المطر فلبد الرمل الذي هو في الجانب الغربي في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبل السباخ، وفيها الوحل، وهي في طريق جيش قريش.
فمن هنا أسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأتوا الماء، وتأخر جيش قريش بسبب الوحل، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم على العدوة، أي: عدوة الوادي الغربية، وأراد النزول عند أقرب المياه إليه، فيذكر أن الحباب رضي الله عنه قال له: يا رسول الله، هل هذا منزل أنزلك الله إياه، أو هو الحرب والرأي والمكيدة؟ فقال: (بل الحرب والرأي والمكيدة)، فقال: ليس هذا بمنزل، انزل على أدنى المياه إلى قريش، وغور الآبار الأخرى، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على أقرب الآبار إلى قريش- أدنى المياه إليهم- ليحول بينهم وبين الماء، فكانت خطة حربية رائعة، ورتب الجيش في ذلك المكان؛ فقدم أهل الرمي، وجعل وراءهم الرجال الثمانية الذين بأيديهم السيوف، ثم في الأطراف أصحاب الرماح، ففي الوسط أصحاب النبل الذين ينضحون الخيل ويرمونها، وفي الأطراف أصحاب الرماح، وفي الوسط أصحاب السيوف، وشكا إليه رجل أنه لا يجد سيفًا، فأخذ جذلًا من الشجر، فهزه فكان سيفًا، فأعطاه إياه، وبنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له عريشًا على العدوة، وهو ينظر إلى الوادي، فجلس فيه ينتظر إذن الله له ببدء المعركة، ومعه أبو بكر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يجتهد في الدعاء، ويرفع يديه إلى الله تعالى، فيقول: (اللهم نصرك الذي وعدتنا، اللهم نصرك الذي وعدتنا، فوقع رداؤه عن كتفيه، فقال له أبو بكر: يا رسول الله حسبك، فإن الله منجز لك ما وعدك)، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف الجيش، وبين للناس المصارع، فقال: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وكان يضع يده في التراب، فما حدد موضعًا إلا ومات فيه الشخص الذي سمى.
وقد أرسل قريش نفرًا منهم لاستطلاع جيش المؤمنين، فأطلوا على العدوة، ومنهم عمير بن وهب، وكان رجل حرب، فرأى المؤمنين، فقللهم الله في عينيه، رأى أنهم ثلة قليلة جدًا، وأطل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من فوق العدوة، فرأوا جيش قريش، فقللهم الله في أعينهم، ورآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي، فرآهم قليلًا أيضًا، والمقصود بذلك قلة عقولهم، وشجاعتهم، وتضحيتهم، وقلة نصرهم، فهذا خبر، والخبر ليس فيه كذب؛ فلذلك قلتهم التي أراه الله هي قلة نصرهم.
فالتقى الجمعان، وحينئذٍ أنزل الله نصره، فجاء الملائكة من السماء، وبدأت المعركة، فقاتل المؤمنون، وصمدوا، وأبدى الشباب بسالة عجيبة، يقول عبد الرحمن بن عوف: لما صف رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس للقتال نظرت عن يميني وشمالي، فإذا فتية صغار لم يشهدوا حربًا قط، فتيان صغار من الأنصار، وكان التكليف في صدر الإسلام يشمل البالغين وغير البالغين، كل من آمن بالله ورسوله يشهد المعركة، وتجب عليه التكاليف، وتحرم عليه المحرمات، وفي غزوة أحد اختص الخطاب بالمكلفين؛ اختص الوجوب والتحريم بالمكلفين؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم في بدر أذن للصِّبيان، وممن خرج معه عمير بن الحمام، ولم يبلغ الاحتلام، وهو من القتلى الشهداء الذين قتلوا يوم بدر، أما في غزوة أحد، فقد أذن لمن كان قد أتم خمس عشرة سنة، ورد من كان دونها، إلا رجلين كما سبق، أحدهما: رافع بن خديج، وكان قد أتم المدة، ولكنه نحيف الجسم، فجاء سمرة بن جندب، ولم يكمل هذه المدة، لكن قال أهله: إنه يصرع رافعاً، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم صراعًا بينهما، فصرعه سمرة بن جندب، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له، قال عبد الرحمن: فخشيت على نفسي؛ لما يعلم من عداوة قريش له، هو رجل كبير مشهور، وكانت له بطولات مشهورة في الجاهلية، فهو الذي قتل قاتل أبيه، وأنقذ عثمان بن عفان بعد أن أُسِر، وقتل أبوه، وأنقذ عير قريش في معركة بني جذيمة، فخاف على نفسه من شدة قريش عليه، لكنه فوجئ بأن الشباب يبتدرونه، فيقولون: يا عم، إذا رأيت عمرو بن هشام فأرناه. فيقول: سبحان الله! وما حاجتك إليه؟ فيقول: قد بلغتني عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأريد أن أقتله، فبينما هو على ذلك رأى كتيبة من كتائب قريش، وأبو جهل في وسطها تحيط به الرماح من كل جهة، كجذع الشجرة، فقال: هذا أبو جهل. فانطلقوا إليه يبتدرونه، فشقوا الصفوف دونه حتى وصلوا إليه فضربوه بسيوفهم فأردوه، قتلوه.
وانهزم عدد من المشركين، فهربوا، وقتل من سادتهم نفر كثير، فمنهم: أبو حكيمة، وهو زمعة بن الأسود، وكان من سادة قريش؛ ولذلك يقول فيه أبوه:
وما لـأبي حكيمة من نديد
ومنهم أبو جهل، ومنهم طعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ولم يبقَ حي من أحياء قريش إلا وقتل عدد من سادته، إلا من لم يحضر، وقد انسحب في الطريق بنو عدي بن كعب، وبنو زهرة، فلم يشهدوا، وسبب ذلك أن بني عدي تذكروا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهم بالمرصاد، وإذا شهدوا فسيقاتلهم قتالًا مستميتًا، قال: لو شهدها عدوي لما تركته حتى يقتلني أو أقتله.
وكذلك بنو زهرة فإنهم في الطريق قال لهم حليفهم الأخنس بن شريق: يا قوم، إنكم لستم مثل قريش، فإنما تقاتلون ابن بنتكم- يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلئن قتل لكان الثأر عليكم، ولكان العار عليكم، فرجعوا ولم يشهدها أحد من بني زهرة، فطلب عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة البراز، وكان عادة لدى المشركين، وعادة لدى بعض الشعوب، أن يخرج من يريد المبارزة؛ أي: أن يبارز قرنًا واحدًا لا يقاتله غيره، فإذا قتل أحدهما الآخر كان ذلك انتصارًا له، ثم يطلب البراز مرة أخرى وهكذا، فطلبوا البراز فخرج لهم ثلاثة من الأنصار، فقالوا: من أنتم؟ فعرفوهم بأنفسهم فقالوا: أكفاء كرام، ولكننا نريد بني عمنا، فأخرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب.
فلما برزوا للقتال قتل علي الوليد، وقتل حمزة شيبة، وتبادل عبيدة بن الحارث وعتبة الضربات، فكلاهما أثخن صاحبه، فقتل علي وحمزة عتبة، وحملا عبيدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءا به وقد طنت ساقه؛ أي: قطعت ساقه.
وكان الرجل من المؤمنين يتبع رجلًا من المشركين منهزمًا، فيطير رأسه أمامه دون أن يضربه، وهم يرون ذلك من ضرب الملائكة، ويرون الأصابع تنقطع من غير ضرب، وقد علم الله الملائكة القتال: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[الأنفال:12]، فضرب الرقاب، وضرب الأنامل، واضربوا منهم كل بنان.
فحسمت المعركة، وأعلى الله جنده، وقد كان إبليس جاء إلى قريش في الطريق عندما مروا بالجموم في صورة شيخ كبير السن، فقال: إنني رجل حرب مجرب، وقد تجاوزت المائة في هذا الشأن- أي: في الحروب- فهل لكم أن أصحبكم وأن أكون ناصرًا لكم، وأريكم ما أرى من شأن الحرب، فقالوا: وددنا ذلك فصحبهم، فلما رأى الملائكة خاف خوفًا شديدًا فـنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ[الأنفال:48].
وعندما وصلوا إلى بدر- أو قبيل وصولهم- بلغهم الخبر أن العير قد نجت، فرأى بعضهم أنه لا داعي للقتال، وعليهم أن ينسحبوا، لكن أبا جهل قال: والله لا يسمع العرب أننا خرجنا في غزو فرجعنا دون حرب، بل حتى نقتل هؤلاء الماردين، وحتى نشرب الخمر، وتغني لنا القينات، وننحر الجزر. فاستحسن إبليس هذا الرأي، وساعد عليه، وكان الرأي الآخر ينصره عتبة بن ربيعة من قبل، فخاصمه أبو جهل، فقال: يا أبا الوليد، والله ما قلت هذا الرأي إلا لأنك تخاف على ابنك أبي حذيفة، وكان من المؤمنين، فغضب عتبة، فقال: سيعلم المصفر استه من الذي انتفخ سحره، فغضب عتبة غضبًا شديدًا، فانتفخ رأسه حتى لم يجدوا مغفرًا على قدر رأسه، من انتفاخه، فأخذ بردًا له فاعتجر به- أي: اعتم به- وبارز وليس على رأسه مغفر، بل ليس على رأسه إلا البرد الذي يعتم به، وكان ذلك سببًا لإهلاك الله له، فالله تعالى بين أنه سيقطع طرفًا منهم، وهذا الطرف لابد أن يكون ذا نكاية شديدة فيهم، فهذا أول يوم يلتقون فيه، فحسمت فيه المعركة لصالح الإسلام، وأعلى الله جنده، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم، واغتم إبليس غمًا شديدًا، ورجع المنهزمون إلى مكة بجروحهم وخيبة أملهم، وأسر سبعون، وقتل سبعون من خيرة قريش، فلما أسر منهم من أسر، وقتل من قتل، أقام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان، فلما صلى العصر أمر أصحابه بدفن الشهداء، وبجر النتنى من المشركين ورميهم في القليب، فجيء بهم يجرون، فرموا في القليب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بداية المعركة قال: (من لقي منكم العباس بن عبد المطلب فلا يقتله)، وكثير من الناس يظنون أن السبب قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا صحيحًا، فقرابته إذا كانت مع الكفر ليست عاصمة لدمه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن العباس مؤمن، وهو موظف له في وظيفة، وهي جمع أخبار قريش، وهو يكتمها، ولا يريد أن يفشي هذا السر، لا يريد أن يقول: إن العباس مسلم، فلا تقتلوه، فلما رأى أبو حذيفة بن عتبة رضي الله عنه أباه يجر على وجهه تغير وجهه لذلك، وقال: لئن لقيت العباس لألجمنه بالسيف، ولكنه ندم على هذه الكلمة ندمًا شديدًا، فجاء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وتاب، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يزل يخاف هذه الكلمة، حتى كان يتعرض للشهادة في كل معركة، وقد قتل يوم اليمامة، وقد حفر لرجليه في الأرض، هو وسالم مولاه، حتى قتلا.
وهذه المعركة قيمتها بالإضافة إلى قتل رءوس الكفر والنكاية بهم أنها أيضًا حطمت المعيار المادي لدى الناس، فقد كانوا ينظرون إلى أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى الذين معه، على أنهم ثلة قليلة، وأنهم رعاع، وأنهم من الضعفاء، وهذه النظرة هي التي كانت سائدة لدى أهل الجاهلية؛ ولذلك قال عروة بن مسعود لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سفارة قريش: يا محمد، ما أرى معك إلا أشابة من الناس، جدير أن يفروا عنك ويتركوك، فهذه نظرتهم، وهي نظرة كل الكافرين إلى أتباع الرسول، فأصحاب نوح قالوا له: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ[هود:27]، فكل المكذبين دائمًا يتهمون أصحاب الرسل بهذا الاتهام، وأبو سفيان لما لقي هرقل سأله: أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: هم أتباع الرسل، فأتباع الرسل دائمًا في البداية هم الضعفاء؛ ليعلم أن الله لا ينصرهم بالناس، إنما ينصرهم بنصره جل جلاله.
فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، وبعد أن ووري القتلى من المشركين في القليب وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكلفًا من عند الله تعالى في تثبيتهم، فقال: (يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، حتى دعاهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا؟ فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا. فقال له عمر: يا رسول الله، ما تكلم من هؤلاء النتنى؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول).
وهذا يفهمه كثير من الناس على وجه الخطأ والغلط، يظنون أن الأموات مطلقًا أسمع أو مساوون للأحياء في سماع كلام الناس، وهذا التصور غير صحيح، فالأموات قد انقطع سمعهم الذي هو الوسيلة الحسية للسماع، فأبدانهم أكلها التراب، ولم تعد تسمع قطعًا، والأرواح لا تسمع إلا ما أسمعها الله تعالى، فما أسمعهم الله، سمعوه وما لم يسمعهم لم يسمعوه، والله يُسمعهم سؤال الملكين، ويسمعهم الحوار مع العمل، فكل ميت يأتيه عمله إن كان صالحًا في أحسن صورة، وإن كان سيئًا في أسوأ صورة، فيكلمه، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله إليهم، فكان كلامه ضربًا من عذاب القبر لهم، فعذبهم الله بسماعهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يخاطبهم بهذا الخطاب، أما ما عدا ذلك؛ فهو على القاعدة الأصلية وهي أن الميت إذا وصل إلى البرزخ، فقد حيل بينه وبين هذه الحياة الدنيا: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:100]، وقد قال الله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ[الروم:52]، وقال تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ[فاطر:22]، فإنما يسمع الله تعالى من شاء: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ[فاطر:22-23].
فأسمعهم الله تعالى هذا التبكيت الذي بكتهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة، ولم يرد اتباع المنهزمين من قريش، وفي ذلك درس عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بالإبادة وإزهاق الأرواح، وإنما جاء لقتال الذين يمنعون الناس من هذا الدين؛ حتى لا تكون فتنة.
فالهدف إذًا ليس اتباع المنهزمين وتقتيلهم والنكاية بهم، بل الهدف أن ينتصر الدين، وأن يقتل من يحول بين الناس وبين الإيمان، ومن يفتنهم عنه، ومن يخاف على الدين منه، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفراء، وكان قد ترك بها أحد أصحابه، وهو خوات بن جبير الأنصاري رضي الله عنه، وقع عن بعير فانكسرت ساقه، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفراء، فمر به قافلًا.
فلما نزل بالصفراء في ليلة باردة سمع أصوات الأسرى، فاستعرضهم فدعا علي بن أبي طالب، فأمره أن يقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرًا، فلما سمعا ذلك قال عقبة: أأقتل بين ظهراني قريش صبرًا؟! فقال: لست من قريش، إنما أنت من يهود صفورية، وذلك أن جده- وهو ذكوان- كان عبدًا لـأمية، وهو من يهود صفورية، فلما كف بصر أمية كان يقوده، فاستلحقه- أي: نسبه إلى نفسه بالتبني- كما كان أهل الجاهلية يفعلون، وأصبح ذريته منهم، والأنساب كلها مبناها على الستر والدرع والناس جميعًا لآدم، وآدم من تراب.
فقتل هذين الرجلين من أعداء الله تعالى، وكانا من أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعقبة بن أبي معيط هو الذي وضع عليه السلى بين كتفيه، وهو ساجد لربه عند الركن اليماني، والنضر بن الحارث كان يأتي بالقينات والمغنيات من العراق، فيدعو الناس، فيسقيهم الخمر، وتغني لهم المغنيات، ويقول: هذا خير مما يسمعكم محمد، فأنزل الله فيه: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ[لقمان:6].
وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر عبد الله بن مسعود، فبشره بقتل أبي جهل، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بمصرعه، والمكان الذي يقتل فيه، فذكر أنه وجده يجود بنفسه، فصعد عليه ليقطع رأسه، فقال: لقد ارتقيت مرتقًا صعبًا يا رويعي الغنم- يقصد ابن مسعود- فقتله ابن مسعود ولم يبالِ به، فجاء الشباب الذين ضربوه بسيوفهم يتنافسون أيهم قتله، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيوفهم، فأخبر أن الذي قتله هو معاذ بن عمرو بن الجموح.
وكذلك لما رأى بلال رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف وقد أخذ أمية بن خلف أسيرًا، قام بلال فقال: أمية بن خلف رأس الكفر، لا نجوت إن نجا. فابتدره الناس فقتلوه، فقال عبد الرحمن لبلال: رحمك الله يا أخي، لقد أضعت عليَّ فدائي. فعبد الرحمن كان يريده أسيرًا للفداء- وكان أمية بن خلف من قبل صديقًا لسعد بن عبادة بن دليم، كان سعد تاجرًا، وأمية من أشهر تجار قريش، وقد نزل عليه بمكة في أول الهجرة ضيفًا قبل غزوة بدر.
فخاصم سعد رجالًا من قريش، وقال: لقد أخرجتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسعدنا الله به، فاستقبلناه، فكذبوه فغضب فخاصمهم، حتى كادوا يقتتلون، فجاءه أمية فخلصه منهم وذهب به إلى بيته، فقال: يا سعد، لقد كنت أظنك أعقل من هذا، أتنخدع بمحمد وما جاء به؟ فغضب سعد وقال: لقد أخبرني أنك مقتول فيمن سيقتله. فارتاع لذلك أمية وأتى زوجته وقال: أما سمعت ما يقول أخي الخزرجي، لقد أخبر أنه سمع محمدًا يعدني في الذين سيقتلهم. ارتاع لذلك لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكذب، فأصابه خوف شديد، وكان يريد الرجوع أيضًا في الطريق دون بدر، ولكن قادة قريش منعوه من ذلك، قالوا: يا أبا صفوان، لو رجعت لرجع الناس، فإنما أنت سيد مطاع في قومك، فلا ترجع، فاغتر بذلك فقتل فيمن قتل.
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى إلى المدينة، جاءه كتاب من قتيلة أو نتيلة ابنة النضر بن الحارث فيه أبياتها المشهورة التي تقول فيها:
يا راكبًا إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتًا بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق
خللت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق
صبرًا يقاد إلى المنية متعبًا رسف المقيد وهو عانٍ موثق
أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت فربما من الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلنأتين بأعز ما يغلو لديك وينفق
فـالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق
فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة عظيمة ورحم هذه المرأة، فقال: (لا يقتل قرشي بعد اليوم صبرًا)، ولما استعرض الأسرى قال: (لو كان المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)، وهذا من وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المطعم بن عدي لما مات أبو طالب جاء يعرض خدمته على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنت في جواري، ولن يصل إليك أحد من قريش، فكان في جواره أشهرًا حتى رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره لما أحس بالضغط عليه. وشاع هذا الخبر في أحياء العرب، فازداد خوف القبائل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المؤمنين.
وتزامن ذلك مع الحرب بين الفرس والروم، وهما القوتان العاتيتان في ذلك الزمان، وكانت الحرب بينهما مستمرة لمدة، فكانت الحرب في تلك الأيام، فغلب الروم فارس، فانهزمت فارس، وكان ذلك ما يحبه المؤمنون، فقريش يحبون نصرة فارس على الروم؛ لأن الروم أصحاب دين، وفارس مجوس، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحبون نصرة الروم؛ لأنهم أصحاب ملة سماوية، وقد كان أبو بكر من قبل الهجرة راهن أمية بن خلف عندما أخبره أن الروم سيغلبون فارس في بضع سنين، عند نزول آية الروم، وهي قول الله تعالى: الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[الروم:1-5].
فقال أمية: والله لا ينتصرون عليهم. فقال أبو بكر: سأجعل لك عشرًا من الإبل إذا انتصر فارس، وتجعل لي عشرًا إذا انتصر الروم. فقال: في أي مدة؟ فقال: في ثلاث سنين، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع إليه فزده في الإبل، وزده في المدة؛ لأنه قال: في بضع سنين، والبضع قطعًا من ثلاث إلى عشر. فقال: في تسع سنين، فزاده في الإبل حتى كانت مائة، وزاده في المدة إلى تسع سنين.
وهذه الحرب أيضًا فيها فوائد كثيرة للإسلام، فقوى الشر إذا شغلت بحروبها فيما بينها كان ذلك نفعًا للشعوب المستضعفة المسكينة، فستجد راحة من مكايدهم وعداواتهم ومؤامراتهم؛ ولهذا فقد كان الناس في أيام الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي يجدون فسحة وأمانًا، وقد فقد اليوم حين أصبح في العالم قطب واحد، وهو الولايات المتحدة الأمريكية وأحلافها من الأوروبيين، فأصبح العالم الآن يدار من جهة واحدة.
فقد كان العالم في ذلك الوقت يدار من جهتين، برأسين: من جهة فارس ومن جهة الروم، والحرب بينهما فيها مصالح عظيمة؛ فلذلك هيأها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليشتغل عنه الروم بحرب فارس، وليشتغل عنه فارس بحرب الروم.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا إلى المدينة، ورجع قريش إلى مكة مهزومين، ولكنهم عندما اجتمعوا بالعير قرروا ألا يطلبوا فداء الأسرى، وألا يرسلوا وفدًا في طلب المفاداة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة من الزمن، وقرروا منع البكاء والعويل، وألا يجهر أحد بالبكاء.
وبينما هم على ذلك إذا عجوز من أهل مكة قد ضاع لها بعير فبكت من الليل، فسمع ذلك الأسود وقد قتل ولده زمعة، فسأل: هل أحل البكاء على القتلى؟ فقيل: لا، إنما هي عجوز تبكي أن ضل لها بعير. فقال أبياته المشهورة: أتبكي أن يضل لها بعير..
ورثى فيها أولاده الذين قتلوا.
وعندما وصل الأسرى إلى المدينة وزعوا في البيوت للنفقة عليهم، ومن حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستفادة من كل أحد فيما يحسنه، فقرر أن كل من آمن من الأسرى فهو حر يطلق، وكل من علم عشرة من أهل المدينة الكتابة فهو حر، وكان قريش يعرفون الكتابة وسكان المدينة لم يكونوا يكتبون، وهذا يدلنا على الاستفادة حتى من الكفار في علومهم وما لديهم مما هو نافع، فكل من علم عشرة الكتابة أطلق سراحه.
ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طال الأمر على أهل المدينة وقالوا: لم يأت قريش في فداء الأسرى، قال: (أول من يقدم عليكم في فدائه هذا. وأشار إلى أبي وداعة، قال: فإن له ابنًا كيسًا)، وهذا الابن الكيس هو المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالكيس، أي: العقل.
فكان أول من قدم في فداء الأسرى، وفادى أباه، فبدأ قريش يتوافدون لفداء الأسرى.
وقد اختلف المؤمنون في أمرين في هذه المعركة في نهايتها:
الأمر الأول: ما يتعلق بالغنيمة، فهي أول غنيمة ذات بال يغنمونها، والجيش بعضه يقاتل، وبعضه يأخذ السلب من القتلى، فلمن تكون الغنيمة، هل للذي قتل صاحبها؟ أو للذي أخذها؟ فحصل الخلاف بينهم، وقد حسم الله هذا الخلاف بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ[الأنفال:1]، فانتزعها الله منهم جميعًا، فجمعت ووضعت في مكان واحد، ثم بعد ذلك أمر الله بتخميسها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ[الأنفال:41]، وهذا الخمس موزع إلى خمسة أقسام، قال: وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ[الأنفال:41].
ثم قسم النبي صلى الله عليه وسلم الأخماس الأربعة الباقية في المقاتلين جميعًا، والأعظم من ذلك أنه قسم الأجر أيضًا، فكان يسهم للرجل في الأجر والمغنم، مما يدل على أن كل عمل جماعي مشترك يراد به نصرة الله ورسوله، فأهله شركاء في الأجر والمغنم، فللنائم منهم أجر القائم، فـعثمان بن عفان الذي لم يشهد المعركة، وعدد من الذين أرسلوا في الخدمات كالمياه ورعاية الإبل وغير ذلك، أسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأجر والمغنم.
وهنا درس آخر عظيم: وهو الإسهام في الأجر، فالأجر من المعلوم أنه أخروي، وأنه عند الله تعالى، وتقسيمه من الأمور التي لا يطلع عليها الناس في الدنيا، لكن مع ذلك مما يشجع الناس أن يقال لك حظك من الأجر، والأجر من المعلوم أنه ليس مثل أمور الدنيا، لا يتكيف ولا يكال ولا يوزن، فيقال: لك أجرك في هذه المعركة، فلك سهم، لو جعل أجر المعركة مثلًا مليار سهم، وكان المقاتلون ثلاثمائة مثلًا، أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو أربعة عشر، أو خمسة عشر، فكل إنسان منه له ما يقابل فردًا من ثلاثمائة وثلاثة عشر مثلًا من هذه الأسهم من الأجر.
وكان من الدروس البليغة حسم هذا النزاع عن طريق الوحي ببيان أن الأمر العام المرجع فيه إلى الله ورسوله: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ[الأنفال:1].
وقد ربط ذلك أيضًا بإصلاح ذات البين فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[الأنفال:1].
الأمر الثاني: هو الخلاف في الأسرى، فقالت طائفة من أهل الإيمان لما تأخرت قريش في الفداء: لابد أن يقتلوا جميعًا. وكان هذا رأي عمر بن الخطاب، وقالت طائفة: بل نفاديهم. وكان هذا رأي عدد من أهل المدينة، فأنزل الله في ذلك: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا[الأنفال:67-69].
فأحل الله لهم ما غنموه من فداء الأسرى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: (لو نزل عذاب في هذا الأمر لما نجا منه غير عمر)، فـعمر كان رأيه ألا يفادى الأسرى، وهذه من موافقاته التي وافق فيها الوحي قبل نزوله.
وسنقتصر على هذا الحد من سرد هذه المعركة لنصل إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة إلى تقويم الله لها في هذه السورة التي هي سورة الأنفال التي قوم الله بها هذه المعركة.
وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يرزقنا الصدق والإخلاص، وأن يعزنا بدينه، وأن يعز دينه بنا، وأن يجعلنا أجمعين من جنود رسول الله صلى الله عليه وسلم الناصرين له.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر