إسلام ويب

شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [5]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأصل في استعمال الطهارة الماء، ولكن عند فقده أو العجز عن استعماله يشرع التيمم، وقد كان أول مشروعية التيمم في السفر، وأنه كان بتكرمة لـعائشة رضي الله عنها، وذلك بعد أن استقر لدى الناس حكم الطهارة، والعجز عن استعمال الماء يشمل من كان مريضًا يشق به استعمال الماء، كأن يزيد في مرضه أو يؤخر برأه، وكذلك إذا كان غير قادر على تناوله، أو لم تكن له آلة يتناول بها الماء، أو لم يكن له كِنٌّ يستتر فيه فكان بين أيدي الناس ولا يجد مكانًا يستطيع الاستتار فيه يجوز له أن يقتصر في التيمم على ضربة واحدة؛ أي: على وضع يديه على الأرض مرة واحدة فيمسح بها وجهه ويديه.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    قال البخاري رحمه الله: كتاب التيمم:

    عقد هذا الكتاب لبيان الطهارة الترابية النائبة عن المائية، وهي التيمم، والتيمم في اللغة: مصدر تيمم الشيء إذا قصده، فيقال: (يممه) و(تيممه) إذا قصده، ومنه قول الله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ[البقرة:267]؛ أي: لا تقصدوا الخبيث من أموالكم تنفقونه في الزكاة الواجبة، ولستم بآخذيه في قضاء الدين، (إلا أن تغمضوا فيه)؛ أي: إلا أن تغضوا الطرف عن صاحبه، فهو غير مقبول لديكم في قضاء الدين؛ فلذلك يطلق التيمم على القصد مطلقًا، وقصد التراب للتطهر به يسمى تيممًا؛ لأن الله تعالى يقول: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ[المائدة:6]، والأصل في استعمال الطهارة- أي: طهارة الحدث- الماء، فهو الذي ترفع به الجنابة، وتلك هي الطهارة الكبرى، وهي الغسل، وهو الذي يرفع به الحدث الأصغر، وتلك هي الطهارة الصغرى، وهي الوضوء، ولكن لما كان الماء مادة تقل وتفقد في بعض الأحيان، وكان استعماله أيضًا يشق ببعض الأبدان شرع الله- تخفيفًا لهذه الأمة ومراعاة لأحوال الناس- التيمم.

    وبدأ هذا الكتاب بأصل مشروعية التيمم، وأنه كان تكرمة لآل أبي بكر وعائشة رضي الله عنها بالخصوص، فقال: عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عِقْد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء...)، وفي رواية: (وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؛ فجاء أبو بكر رضي الله عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته)، هذا الحديث هو أول مشروعية التيمم وبيان سبب مشروعيته، فهو عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم- وقد سبقت ترجمتها- قالت: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم) تقصد نفسها ومن ذكر معها في الحديث من الصحابة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأية واحدة خرجت لها القرعة خرج بها في السفر، وذلك من تمام عدله ومن تمام مروءته وإلا فلا يجب عليه ذلك؛ لأن الله تعالى يقول له في كتابه: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ[الأحزاب:51]، قال: (ترجي من تشاء منهن)؛ أي: تأخرها في القسمة، (وتؤوي إليك من تشاء)؛ أي: تقرب، والمقصود بذلك تعجيل وقتها في القسمة، (ومن ابتغيت)؛ أي: اشتهيت (ممن عزلت) أخرت، (فلا جناح عليك) فقد خيره الله سبحانه وتعالى، ورفع عنه الحرج فيما يتعلق بالقسمة بين نسائه، ولكنه من تمام مروءته وكمال عدله كان يقسم بينهن، فإذا أراد السفر أقرع بينهن، وهذا أصل لمشروعية القرعة، فأية واحدة خرجت لها القرعة أخذها معه في السفر، وقد خرج بـعائشة في هذا السفر؛ ولذلك قالت: (مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره)؛ أي: في واحد من أسفاره، وهذا السفر قد اختلف فيه أهل العلم، فقالت طائفة: كان في غزوة المريسيع، وهي غزوة أراد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق من خزاعة، فأتاهم وهم غارُّون على ماء اسمه المريسيع فأخذ مقاتلتهم؛ أي: أسفر رجالهم وسبى نساءهم، وقد قيل غير ذلك؛ أي: قيل: في سفر آخر، والذي يظهر أن ذلك كان في سفر آخر، وإن كان عدد كبير من أهل العلم رجحوا أن هذه القصة حصلت في غزوة المريسيع، والسبب أن غزوة المريسيع هي التي كانت فيها قصة الإفك، وقصة الإفك كانت أيضًا بسبب سقوط قلادة لـعائشة كانت استعارتها من أختها أسماء فسقطت، فخرجت عائشة تطلبها، فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجها في الليل، وكان ذلك سبب قصة الإفك.

    وهذه القصة كانت في رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر إلى المدينة، وقد صرحت عائشة بذلك في بعض طرق الحديث، وهذا يدل على أنها لم تكن في قصة الإفك، إذ لو كانت فيها لأخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها وكان مرجعه من بني المصطلق؛ أي: من غزوة بني المصطلق بعد قصة الإفك قد حصلت فيه فتنة بين المهاجرين والأنصار، وروي بتفاصيله، وقد جد فيه السير برسول الله صلى الله عليه وسلم فجد بالناس.

    أما هذا السفر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في منقلبه ورجوعه رجع حتى إذا كان بالبيداء، وهي الأرض المستوية التي جنوب ذي الحليفة في جهة الجنوب من المدينة، وهي التي قال فيها ابن عمر: (ما أدري ما بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على النبي صلى الله عليه وسلم! فما أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد الذي عند الشجرة)، يقصد مسجد ذي الحليفة.

    (أو بذات الجيش) وهي جبل صغير بقرب البيداء بطرفها الجنوبي، وهي مشهورة بهذا الاسم، وفيها يقول الشاعر الهذلي:

    لليلى بذات الجيش دار عرفتها وأخرى بوادي الريم آياتها سطر

    ووادي الريم قريب من البيداء أيضًا في جنوبها.

    (بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي)؛ أي: انقطع سلكه، والعقد إذا انقطع سلكه سقط مكانه، ولم تشعر هي بانقطاعه؛ لأنها لو شعرت به لوجدته مكانه، والعقد هو: ما أحاط بالعنق من الخرز أو الذهب، وكان هو من خرز، (فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه)؛ أي: نزل وأقام ولم يرد السفر (على التماسه)؛ أي: من أجل التماسه، وهذا من تمام خلقه وحسن عشرته لنسائه، فإنه يهتم لما أهمهن؛ فلذلك لم يرد أن يسافر حتى تجد عائشة عقدها، (وأقام الناس معه)؛ أي: الجيش جميعًا، فهو قائدهم وإمامهم، (وليسوا على ماء)؛ أي: هذا المكان الذي هم فيه ليس فيه بئر ولا ماء يشربون منه أو يسقون منه دوابهم، وفي الرواية الأخرى زيادة: (وليس معهم ماء)؛ أي: ليس في أسقيتهم ماء يتوضئون به أو يشربونه، والمقصود بالنفي العموم، فقد يكون معهم ماء يسير، لكن ليس معهم ماء يكفيهم جميعًا، (فأتى الناس إلى أبي بكر)؛ أي: جاء بعض الناس، والناس هنا من العام المراد به الخصوص؛ أي: بعض الناس فقط؛ لأنه لا يمكن أن يأتي الناس جميعًا إلى أبي بكر، (إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟)؛ أي: شكوا عائشة إلى أبيها (فقالوا لـأبي بكر: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا تفسير لما صنعت، (أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام)؛ أي: متوسد فخذ عائشة في حال نومه بالليل، (فقال: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء) يعاتب عائشة بذلك، فقالت عائشة: (فعاتبني أبو بكر)؛ أي: أكثر من لومي وعتابي، (وقال ما شاء الله أن يقول) فاختصرت كلامه، (وجعل يطعنني بيده في خاصرتي)؛ أي: في حال لومه لي يطعنني بيده في خاصرتي، وهذا يدل على جواز تأديب الوالد لولده بما يؤلمه إذا كان ذلك لا يضر ولا يكسر عظمًا ولا يشين جارحة، وكان تأديبًا على أمر يخالف الخلق أو يخالف الرأي، ويدل كذلك على جواز ضرب من هو بالغ، فـعائشة إذ ذاك بالغة، وهذا الضرب ضرب خفيف ليس مثل الضرب الذي يؤثر، وهو يؤلمها ألمًا متوسطًا، ويدل كذلك على أن ضرب التأديب ينبغي أن يكون في مواضع اللحم، وألا يكون في الوجه، ولا في الأعضاء الحساسة من البدن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)، وهذا يقتضي احترام وجوه بني آدم، وألا تلطم وجوههم أبدًا حتى لو كانوا كفارًا في حال الحرب فلا تضرب وجوههم، ويدل كذلك على أن المحرم يجوز أن يمس جسد محرمه من فوق ثوب؛ لأن أبا بكر طعنها في الخاصرة، وهي ابنته، فهو محرم لها فكان يطعنها في خاصرتها من فوق الثوب، فإذا كان المس بحائل وليس بشهوة فلا حرج فيه؛ فلذلك قالت عائشة: (فما يمنعني من التحرك)؛ أي: للألم الذي أصابها (إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي)، فهي لا تستطيع أن تتحرك؛ لئلا يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، احترامًا له، (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح)، معناه: بعدما ذهب أبو بكر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم (حين أصبح على غير ماء)، فالناس لا يجدون ما يتوضئون به، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم في هذه القصة، فقد يكون لديهم من الماء ما يتوضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الناس معه، (فأنزل الله آية التيمم)؛ أي: في ذلك الصباح قبل الصلاة أنزل الله آية التيمم (فتيمموا)، وهذه الجملة محتملة لأمرين: إما أن تكون بدلًا من (آية التيمم)، أنزل آية التيمم التي هي قول الله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ[النساء:43]، أو أن تكون استئنافًا، معناه: فتيمم الناس حين نزلت آية التيمم وصلوا، فقال أسيد بن حضير، وأسيد هو من سادة الأنصار من بني عبد الأشهل، وأبوه حضير الكتائب، وأسيد يكنى أبا يحيى، وقد أسلم بعد هجرة مصعب بن عمير إلى المدينة، وأسلم يوم إسلامه سعد بن معاذ، ثم أسلم جميع بني عبد الأشهل قبل غروب شمس ذلك اليوم ما عدا رجلين هما: أبو عامر الفاسق، الذي مات على الكفر، وهو والد حنظلة الغسيل، ورجل آخر اسمه عمرو بن ثابت بن وقش بن السكن، وهو الأصيرم، وقد جاء فأسلم يوم أحد وقتل شهيدًا، وكان أسيد أثيرًا عند النبي صلى الله عليه وسلم محبوبًا إليه، وكان من حفظة القرآن، وكانت الملائكة تنزل في الليل لقراءته إذا قرأ القرآن، فيرى الظلة تنزل من السماء كأن فيها مثل السرج، فتتحرك لها الفرس (لقراءته)، وهو من سادة الأنصار كما ذكرنا، فقال أسيد بن حضير: (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر؟) قال: ليس هذا التخفيف الذي أنزله الله بأول بركتكم يا آل أبي بكر، فهذا إقرار لآل أبي بكر بالمنزلة والفضل، فإن الله خفف عن المؤمنين جميعًا ببركتهم، وذلك حين أقامت عائشة بالناس على غير ماء وليس معهم ماء، وفي رواية في هذا الحديث أن أسيداً قال لـعائشة رضي الله عنها: (جزاكِ الله خيرًا، فوالله ما أهمك أمر أو ما أصابكِ أمر تكرهينه إلا أنزل الله فيه لكِ وللمسلمين فرجًا)، وفي رواية: (إلا جعل الله لكِ وللمسلمين فيه خيرًا) فما أصابكِ من أمر تكرهينه إلا جعل الله لكِ وللمؤمنين فيه خيرًا، كقصة الإفك وكهذه القصة، وهذا إقرار بالفضل لأهله، وهو دليل على أن المدح في الوجه إذا كان بصدق وكان شيئًا يسيرًا ليس فيه إطراء ولا كذب، فهو جائز، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المدح في الوجه وقال: (إذا أتاكم المداحون فاحثوا في وجوههم التراب)، ومعناه: من يحترف ذلك ويتعيش به، ويأخذ عليه مالًا، أو من يكذب في المدح والإطراء، هؤلاء هم المداحون الذين نهي عن سماعهم، أما من سواهم فيُسمع منهم، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعراء الذين مدحوه، فسمع من حسان، ومن عبد الله بن رواحة، ومن كعب بن مالك، ومن العباس بن عبد المطلب، ومن كعب بن زهير، وغيرهم من الذين مدحوه من أصحابه صلى الله عليه وسلم.

    (قالت)؛ أي: قالت عائشة: (فبعثنا البعير الذي كنت عليه)؛ أي: الذي كنت أركبه فأصبنا العقد تحته، وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أسيد بن حضير في عدد من أصحابه يلتمسون العقد فجاءوا فبعثوا البعير فوجدوه تحته؛ أي: وجدوا العقد تحته.

    وهذا الحديث يدل على أن أول مشروعية التيمم كان في السفر، وأنه كان بتكرمة لـعائشة رضي الله عنها، وأن ذلك كان بعد أن استقر لدى الناس حكم الطهارة، وقد اختلف في الوضوء والغسل متى أنزلا؛ فذهب جمهور أهل العلم إلى أنهما أنزلا ليلة المعراج مع الصلاة؛ لأنه لم يعرف تاريخ نزول وجوب الوضوء والغسل، ولم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قط صلاة بغير وضوء؛ فلذلك مذهب جمهور أهل العلم أن الوضوء فرض مع الصلاة ليلة المعراج، والغسل من الجنابة كان من ملة إبراهيم، وقد أقر في هذه الشريعة، وأما التيمم فهو الذي نزل متأخرًا بالمدينة، وهو ينوب عن الوضوء وعن الغسل معًا، وقد اختلف كذلك في التيمم هل يحتاج إلى النية أم لا؟ ومذهب جمهور أهل العلم أنه يحتاج إلى النية؛ لأن معناه في اللغة: القصد، والله يقول: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا[النساء:43]، وهذه الآية فيها القصد؛ لأن فيها (فتيمموا) فذلك يدل على النية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، والتيمم عمل، فيحتاج إلى النية.

    ثم قال: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)، هذا الحديث يرويه جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنهما- وقد سبقت ترجمته- عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثناءً على الله وإقرارًا بنعمته، وقد قال الله له: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[الضحى:11]، فهو تحدث بالنعم وهو من شكرها، فقد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه، فذكر أنه أوتي؛ أي: أن الله أعطاه خمسًا؛ أي: خمس خصال لم يعطهن أحد قبله؛ أي: نبي قبله، فخصه الله بهن عن الأنبياء تشريفًا وتكريمًا له، (نصرت بالرعب مسيرة شهر) هذه الخاصية الأولى، فقد نصر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم على أعدائه بالرعب فهم يخافونه من مسيرة شهر؛ أي: إذا كان بينهم وبينه مسيرة شهر خافوه خوفًا شديدًا، فلا يستطيعون المقام في وجهه، وقد جرب ذلك في كثير من الغزوات، ومنها غزوة تبوك، فإنه خرج إلى الروم في ثلاثين ألفًا أو سبعين ألفًا من المسلمين في وقت العسرة والشدة، وكان الروم إذ ذاك في ثلاثمائة ألف، ولكنهم لما علموا أنه نزل بمشارف الشام انهزموا رعبًا منه وخوفًا، فتفرقوا في البلاد، ولم يستطيعوا الصمود في وجهه مع أنهم كانوا قد عسكروا بتبوك يريدون غزو جزيرة العرب، فلما علموا أنه قد اتجه إليهم فروا، وتفرقوا في الأمصار خوفًا منه، وهذا النصر بالرعب قد بقي لأمته بعده، كما أخرج أحمد في المسند أن هذا النصر بقي لأمته بعده، فهم منصورون بالرعب، ومحل ذلك إذا استقاموا على سنته، واتبعوا منهجه وملته، وقاموا بالجهاد الواجب، أما إذا تركوا الجهاد فإن الله سيسلط عليهم في مقابل ذلك ذلًّا لا يرفعه عنهم حتى يعودوا إليه، كما في حديث ابن عمر عند أحمد والبيهقي وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، ومعنى (ترجعوا إلى دينكم)؛ أي: حتى تجاهدوا؛ لأنه المتروك من الدين؛ لأنه قال: (وتركتم الجهاد) فهو المتروك من الدين، فهو الذي يطلب الرجوع إليه.

    وكل من جاهد في سبيل الله فسينصره الله، إذا كان صادقًا سينصره الله على أعدائه بهذا الرعب، وقد وصف ذلك حتى على ألسنة أعداء الإسلام، فقد وصف عدد من الروم الذين أسروا لـأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه- وصفوا له رعبهم من المسلمين، فقالوا: (إنا نرى في كتبنا)؛ أي: أنهم قرءوا في كتبهم السابقة أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يعشقون الموت كما يعشق الناس الحياة، وأنهم في جيوشهم الخيل البلق، وأن في سيوفهم الموت؛ فلذلك كانوا يخافون منهم خوفًا شديدًا بسبب هذا، وقد ذكر ذلك البدوي في مقدمة نظمه لـعمود النسب إذ قال:

    إذ الخيول البلق في فتوحهم والرعب والظفر في مسوحهم

    هم صفوة الأنام من أحبهم بحبه أحبهم وودهم

    كذاك من أبغضهم ببغضه أبغضهم تبًا له من معضه

    أئمة الدين عماد السنة لسانهم لسان أهل الجنة

    (وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) هذه الخاصية الثانية وهي محل الاستشهاد من الحديث، أن الله جعل له الأرض كلها مسجدًا، فالأنبياء من قبله كان في شرائعهم أن الصلاة والعبادة لا تكون إلا في مكان مخصص للعبادة، فلا يمكن أن يصلي الإنسان في شارع، ولا في فلاة من الأرض، ولا في متجر، ولا في بيته الذي ينام فيه، فخص الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعل له الأرض كلها مسجدًا فحيثما أدركت أي مسلم الصلاة يشرع له أن يصلي مكانه، وهذه الشريعة شريعة ليس فيها علمانية ولا تفريق بين الدين والدولة والسياسة وحياة الناس، فالدين حاكم حكمًا دقيقًا في كل جزئيات الحياة، ومتدخل في شئون الإنسان كلها؛ ولذلك فالدنيا كلها في نظر الإسلام محراب كبير للتعبد، يتعبد فيه الإنسان لله سبحانه وتعالى بكل أموره، حتى الزراعة والتجارة والصناعة كلها عبادات لله؛ ولذلك قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ[الأنعام:162-163]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)، وبهذا يعلم أن هذا الدين ليس كغيره من الأديان التي تفصل الدين عن حياة الناس؛ أي: العلاقة بالله والتعبد له عن حياة الناس، بل هذا الدين يقتضي أن كل صيام وقيام وعبادة ونسك وحركة وسكون ينبغي أن يكون عبادة لله، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إني لأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فِي امرأتك)، فجعل ذلك بمثابة الصدقة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أو الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وقال: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة)، فكل هذا من الإسلام ومن شعبه وهو داخل فيه.

    فلذلك قال: (جعلت لي الأرض مسجدًا)، والمسجد: مكان السجود، قال: (وطهورًا)، وهذه اللفظة هي وجه الاستشهاد، فالطهور في اللغة تطلق هذه الكلمة على الماء الطاهر في نفسه المطهر، لغيره وسمي طهورًا للمبالغة في طهارته، ويطلق ذلك على الريق الصافي الذي لم يتغير برائحة ولا بلون، فيسمى طهورًا، ومن ذلك قول حميد بن ثور رضي الله عنه:

    خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها نفسي علي فجور

    إلى رجح الأكفال غيد من الورى إذا بالثنايا ريقهن طهور

    كما سمى الله خمر الجنة طهورًا؛ لأنه لا يصدع عنه أهله ولا ينزفون، لا يصدعون؛ أي: لا يصابون بالصداع، ولا ينزفون؛ أي: لا يسكرون، وكذلك القراءة الأخرى (ولا يُنزَفون)؛ أي: لا يصابون بالسكر، فسماه الله طهورًا في قوله: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا[الإنسان:21]، وهو خمر الجنة، وهذه الآية دليل على أن خمر الدنيا نجس؛ لأنها في مقابلها وعلى عكسها، فإذا كان خمر الجنة طهورًا، فمعناه: أن خمر الدنيا نجس؛ لأنها على العكس منها تمامًا.

    (وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) فالطَّهور آلة الطهارة كالوَضوء والغَسول ونحوها، ففعول بالفتح اسم للآلة؛ أي: ما يتطهر به، وهذا يدل على أن الأرض يُتطهر بها، والمقصود بذلك التيمم، فهي طهور فيما يتعلق بطهارة الحدث بالتيمم، وهي طهور أيضًا للنعل والخف وللرِّجل أيضًا إذا مست نجسًا ثم زال عنها أثره بوطئها للأرض في السير فإنها مطهرة لها، فتكون الأرض طهورًا في الجانبين، في طهارة الحدث، وفي طهارة الخبث.

    (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) فأيما رجل من أمتي؛ أي: أيُّ شخص، لا بقيد كونه رجلًا أو امرأة، بل المقصود أيُّ إنسان (أدركته الصلاة)؛ أي: دخل وقتها، فليصل في أي مكان كان سواء وجد الماء أو لم يجده، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى، وهذا دليل على أن الأرض كلها تسمى صعيدًا، سواء منها ما كان منبتًا وما كان غير منبت، وسواء منها التراب والحصباء والحصى والحجارة وغير ذلك، فكلها داخلة في قوله: (وجعلت لي الأرض) وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة رحمهما الله، فإنهما يريان أن الصعيد الطيب هو ما صعد على الأرض من أجزائها، فيشمل ذلك الحجارة والرمل والحصباء والحصى والسباخ التي لا تنبت، فيتمم بكل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وجعلت لي الأرض)، فهذا يشمل الأرض كلها، وفسروا (طيبًا) في قوله: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا[النساء:43] بأن المقصود به: الطاهر، فما كان نجسًا من التراب لا يتيمم عليه، ومن الحجارة لا يتيمم عليه ولا يُستثنى من ذلك إلا ما اتخذ عقارًا: كالملح إذا أخذ من معدنه وأصبح سلعة تباع فإنه لا يتيمم عليه، وكذلك الرحى إذا استعملت في الطحن فأصبحت آلة فإنها لا يتيمم عليها إلا إذا انكسرت، فلم تعد صالحة للاستعمال، فإنه يتيمم عليها، والجدران التي بنيت بالحجارة أو بالطين يتيمم عليها، وهكذا كل ما كان من جنس الأرض، وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة كما ذكرنا، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن الصعيد هو ما يمكن أن يبقى منه أثر في اليد؛ لأن الله قال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ[المائدة:6]، و(من) عند أحمد والشافعي تبعيضية، معناه: امسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه، وعند مالك وأبي حنيفة (من) ابتدائية، معناه: ابتداء المسح من الأرض؛ أي: تضرب يديك بالأرض أولًا، ثم تمسح بهما ثانيًا.

    وعلى هذا فإن الشافعي وأحمد فسرا قوله تعالى: صَعِيدًا طَيِّبًا[النساء:43] بأنه: المنبت، وقالا: كل ما لا ينبت فليس طيبًا؛ لأن الله يقول: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ[الأعراف:58]، فقالا: ما لا ينبت كالسباخ والحجارة الصلدة فليس طيبًا؛ لأنه لا ينبت والله يقول: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ[الأعراف:58]، والحنفية والمالكية يردون على ذلك بأنهم يقولون: البلد ليس هو قطعة الأرض، بل البلد هو المكان بكامله، وهذا قد لا ينبت بعضه وينبت بعضه الآخر، فالبلد ينبت ما كان منبتًا منه في الأصل، وما ليس منبتًا في الأصل لا يلام إذا لم يخرج منه نبات، وهذا الحديث من أقوى أدلة المالكية والحنفية في تعميم ذلك.

    (وأحلت لي الغنائم) هذه الخاصية الثالثة، وهي أنه أحلت له الغنائم؛ أي: أن يغنم مال العدو فيقسمه في أصحابه على نحو ما ذكر في القرآن، فإن الله أعطاه الغنائم كلها أولًا إذ قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ[الأنفال:1]، فمنح الله جميع الغنائم رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أمره بقسمتها وتخميسها فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ[الأنفال:41]، وكان الأنبياء السابقون يغزون ويغنمون، لكنهم لا يأخذون الغنائم، بل يضعونها فتأتي نار من عند الله فتأكلها، وإذا جاءت النار فامتنعت عن أكلها دل ذلك على أن في الجيش غلولًا؛ أي: أن بعض الناس قد أخذوا بعض الغنائم، وقد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وستأتينا في أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري إن شاء الله.

    (ولم تحل لأحد قبلي)؛ أي: لم يحل له استعمالها، وإلا فجمعها وأخذها كان مباحًا.

    (وأعطيت الشفاعة)؛ أي: أعطاه الله خاصية رابعة، وهي الشفاعة، والمقصود بها هنا: الشفاعة الكبرى، فالشفاعة أقسام، منها: الشفاعة الكبرى، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الناس في المحشر فوق الساهرة إما إلى جنة وإما إلى نار، (فإنهم يأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله فأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح. فيأتونه، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وأنت أبو البشر بعد آدم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول نوح: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم، أنت خليل الله، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وهل كنت إلا قليلًا من وراء وراء، ويذكر أنه قد كذب ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى، فيأتونه فيقولون: يا موسى، أنت كليم الله، اجتباك برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم يؤذن لي بقتلها، ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيأتونه، فيقولون: يا عيسى، أنت كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروح منه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى: نفسي ونفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عبدت من دون الله، لا يجد شيئًا يأثره إلا ذلك، ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم...)، قال: (فيأتونني فأقول: أنا لها، فأخر ساجدًا تحت العرش، فيلهمه الله ثناءً وذكرًا لا يحسنه هو في هذه الحياة، ولم يثن به أحد قط على الله)، فيثني به عليه، (فيناديه ربه جل جلاله: يا محمد، ارفع رأسك واشفع تشفع واسأل تعطه)، فذلك المقام المحمود الذي وعده الله في قوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا[الإسراء:79]؛ وسمي محمودًا لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون؛ آدم ومن دونه، وهذه هي الشفاعة الكبرى.

    والشفاعة الصغرى هي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في رجل من المشركين مات على الشرك فيخفف عنه العذاب، ويخرج من وسط النار فيجعل في ضحضاح من نار، وفي رواية: (فيوضع أخمصاه على جمرتين من نار يغلي منهما دماغه)، وهو أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة، وهذا الرجل على الراجح هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أهون أهل النار عذابًا، وهو يخرج من النار فيوضع في ضحضاح؛ أي: شيء يسير، والضحضاح الماء القليل الذي يبقى على أثر الغدير، أو يوضع على جمرتين عليهما أخمصاه يغلي منهما دماغه- نسأل السلامة والعافية- وهو أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة، فهذه الشفاعة أيضًا مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة في الكافر الصريح الذي مات على الشرك؛ لأن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين كما قال الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ[البقرة:255]، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[الأنبياء:28].

    والشفاعة الثالثة التي تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة لأهل الجنة في دخول الجنة، فإن أهل الجنة يجتمعون عند أبوابها، فأول من يحرك الحلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيشفع لهم في دخولها فتفتح له الأبواب الثمانية في وقت واحد، فإذًا هذه الشفاعات الثلاث تختص برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها شفاعات أخرى؛ منها: الشفاعة في المؤمن الذي كان عاصيًا فاستحق العذاب، فيصرف عن النار بسبب شفاعة الشافعين من أهله ومن الأنبياء والملائكة، ومنها: الشفاعة في المؤمن الذي دخل النار بعصيانه فيخرج منها بالشفاعة، ومنها: الشفاعة فيمن دخل الجنة أن ترفع درجته فيها، ومنها: الشفاعة فيمن دخل الجنة، ليجمع معه أهله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ[الطور:21]، ومنها: شفاعة الباري جل جلاله، فإن الله تعالى يقول لملائكته يوم القيامة بعد أن تنتهي الشفاعات: انتهت شفاعات الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، ثم يمكث ما شاء أن يمكث فيقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خير، ثم يمكث ما شاء أن يمكث، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو من خير، فيخرجون منها وقد امتحشوا فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسادهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يؤمر بهم إلى الجنة.

    فهذه الشفاعات- كما بينا- ثلاث منها من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سواها من الشفاعات يشترك فيه الأنبياء والملائكة والصالحون والعلماء، وفي هذه الأمة رجال كل واحد منهم يشفع في مثل ربيعة ومضر ممن أوجب؛ أي: ممن أوجب دخول النار من عصاة المؤمنين، جعلنا الله وإياكم من الشافعين المشفعين يوم القيامة.

    (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) (كان النبي)؛ أي: كان كل نبي من أنبياء الله يبعث إلى قومه خاصة، كما جاء ذلك في القرآن: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا[الأعراف:65]، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا[الأعراف:73]، وهكذا، كل نبي من الأنبياء يبعث إلى قومه خاصة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة، بل إلى الثقلين: الإنس، والجن، فهو مرسل إلى الإنس والجن معًا، وفي رواية: (إلى الأحمر، والأسود)؛ أي: إلى أنواع الخلائق جميعًا.

    ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو قوله: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)، وهو دليل على أن الصعيد الطيب طهور للمسلمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088464676

    عدد مرات الحفظ

    776885877