إسلام ويب

العدالة الاجتماعيةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله الأرض وما فيها لمصلحة بني آدم، فهيأ لهم وسائل العيش، وجمع فيها أنواع الأرزاق، وسخر فيها لنبي آدم أربعة أمور هي أصول المنافع: المطعم، والمشرب، والمسكن، والملبس، فيجب على المسلم أن يتعامل مع المال بالاعتدال، وعدم الإسراف، وأن يستقر المال في يده لا في قلبه، فيسخره في طاعة الله ولا يكون هو مسخراً يعبد المال.

    1.   

    تدبير الله سبحانه للخلق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فإن الله عز وجل خلق هذه الأرض وما فيها لمصلحة بني آدم، فهيأ لهم وسائل العيش، وجعلها كفاتاً أحياء وأمواتاً، وجمع فيها من أنواع الأرزاق وما تحتاج إليه البشرية، ما لا يمكن أن ينفد حتى تنفد البشرية: (وإن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها).

    ومن أجل هذا: فإن من بدائع لطف الله سبحانه وتعالى حين نشر البشرية في هذه الأرض، وعلم بأعداد البشرية الهائلة التي تزداد على الزمن وتتضاعف، أن خلق الموت ليعين به على نقص هذه الأعداد حتى تتسع الأرض لأهلها، ولو لم يخلق الله الموت لامتلأت الأرض ببني آدم، ولأخذوا ما فيها من الخيرات، واستوعبوا ما فيها من الطاقات، ولم يستطيعوا بذلك الاشتراك في العيش في هذه الحياة الدنيا، ولكن الله خلق الموت لهذه الحكمة البالغة.

    ثم لو أنه أعلمهم بالموت ولم يخلق لهم الأمل لضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حتى لو اتسعت وكثرت الأرزاق فيها؛ لأن من علم أن الموت وراءه يرصده، لا يمكن أن يطيب له عيش؛ لكنه خلق لهم الأمل، فلا يزال الإنسان يؤمل الحياة حتى وهو في السياق والنزع، فيؤمل أن يعيش؛ ولذلك يكتسب، ويقدم شيئاً للذين يعيشون على هذه الأرض من بعده.

    الناس ثلاثة أنواع

    وقد جعل الله الناس ثلاثة أنواع:

    النوع الأول: من لا يستطيعون اكتساب أرزاقهم، فهم عاجزون إما عجزاً كاملاً وإما عجزاً ناقصاً، فليس لديهم من الطاقات ما يتحملون به اكتساب أرزاقهم وحاجياتهم.

    النوع الثاني: من ساوى الله تعالى بين ما آتاهم من الطاقات وبين حاجاتهم، فلديهم من الطاقات ما يستوعب حاجاتهم ولا يزيد عليها شيئاً.

    النوع الثالث: من آتاه الله من الطاقات أكثر من حاجاته، فهو ينتج لغيره، وجعل الله سبحانه وتعالى بتدبيره هذا الصنف محتاجاً إلى الأصناف الأخرى، لا يستطيع أن يمنّ عليها، وجعله -بأمله- يفكر التفكير الذي يعيش فيه القرون وراء القرون، فالمنتج لا ينتج لعمره فقط، ولو كان كذلك لما أنتج المبدعون الذين أتوا بإبداعات كان لها ما وراءها في تاريخ البشرية، ولو كانوا كذلك لانتخبوا حسب حاجاتهم فقط؛ ولكن لتدبير الله تعالى خلق الأمل فيهم، فصار هؤلاء يفكرون لزمن غير محدد، ومن هنا ينتجون إنتاجاً غير منقطع.

    ضروريات البشر

    إن الله سبحانه وتعالى ضمن لآدم في الجنة أربعة أمور، وهي أصول المنافع فقال تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119] ، وهذه أربعة أمور من ضروريات البشر.

    فأولاً قال: (إن لك أن لا تجوع فيها)، فهذا يسد ضرورة الطعام، وثانياً قال: (ولا تعرى)، وهذا يسد ضرورة اللباس، وثالثاً قال: (وإنك لا تظمأ فيها)، وهذا يسد ضرورة المشرب، ورابعاً قال: (ولا تضحى) أي: لا تبرز للشمس، فهذا يسد ضرورة السكن، وهذه الأربع هي أمهات ضروريات البشر مطلقاً.

    وبعد هبوط آدم إلى هذه الأرض وخروجه من الجنة هو وحواء، بعد أن بدت لهما سوآتهما، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ[الأعراف:22] أضيف إليها حاجة الإنسان إلى جنسه؛ ليكون ذلك مدعاة لاستمرار النسل، فكانت ضرورة خامسة لأهل الأرض.

    هذه هي الضرورات، وما وراءها ينقسم إلى قسمين: حاجيات وتحسينيات (تكميليات)، وكل ذلك يحتاج إليه البشر؛ لكن حاجتهم إلى الضروريات أعظم من حاجتهم إلى الحاجيات، وحاجتهم إلى الحاجيات أعظم من حاجتهم إلى التكميليات.

    ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى جعل الضروريات ميسرة مهيأة في جميع الأزمنة منذ عهد آدم إلى زماننا هذا، فالهواء -الأوكسجين- الذي يتنفسه الناس على الأرض ميسر سهل، ولو أنه كان مثل المعادن النفيسة التي تحتاج إليها البشرية، لكان محتاجاً إلى طاقة وبذل وجهد، فيموت عدد كبير من الناس ممن لا يستطيعون الوصول إلى تلك الطاقة ولا إلى ذلك الضروري، ولكن الله علم حاجة الجميع إليه فيسره لهم فوق الأرض.

    وكذلك الحاجة إلى الماء، جعل الله على الأرض مسطحات مائية تكفي لسقي الناس، وجعل في الصحاري طبقات من الأرض تمسك المياه التي تدخل في أجواف الأرض وتصفيها، وجعل الجبال ذات طاقة لتصفية المياه، وإخراج أملاحها، وإخراج ما فيها من المضار؛ لتكون مهيأة لشرب البشرية، وكذلك أنبت على هذه الأرض من أنواع الأشجار والثمرات والخيرات ما جعل البشرية وغيرها من الحيوانات التي تعيش على هذه الأرض مستغنية بذلك حتى قبل الاختراعات الحديثة، فهذه الضروريات لم تكن محتاجة إلى كبير تفكير ولا إلى كبير اختراع، منذ بدأت البشرية وهي تعرف كيف تبني من الحجارة بيتاً يكنها من الحر والبرد، وهي تعرف كيف تحرث الأرض وتزرع فيها، وهي تعرف كيف تتناول الماء وتستخرجه من الأرض.

    فهذه ضرورات يسرها الله، ولا شك أن كثيراً منكم قد يتعجب إذا علم أن الماء مصنف في جنس المعادن، وهو كغيره من المعادن النفيسة؛ لكنه ما وجد في مكان في أعماق الأرض إلا وقد اكتشفته البشرية فيما مضى، والمعادن الأخرى تحيط به من كل جانب لا ينظر إليها أحد ولا يكتشفها، فكثير من آبائنا وأسلافنا، كانوا يكتشفون المياه في أعماق الأرض، ويعرفون أماكن وجودها، وكان يحيط بهذه المياه أنواع المعادن النفيسة ولا يطلعون عليها، ولا يستطيعون الوصول إليها.

    وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى حين علم حاجة الناس إلى اللحوم وإلى الألبان ومشتقاتها، أنزل ثمانية أزواج من الأنعام من الجنة، فكانت أصول الأنعام في هذه الأرض، ثم أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، فكان أصل الصناعات كلها، وعلم آدم الزراعة فكان ذلك أصل الفلاحة والزراعة كلها، فكانت هذه الأمور كفيلة بضمان البقاء والعيش على سطح هذه الأرض، ولله تعالى من الكواكب الأخرى -في مجموعتنا الشمسية وفي غيرها- ما هو أضعاف الأرض، ولم يجعل عليها هذه الأرزاق، ولم يضع فيها هذه البركات.

    1.   

    الكلام على قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين)

    قال الله سبحانه وتعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[فصلت:12] ، وقال قبلها: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ[فصلت:9-10] .

    فلاحظوا أنه ذكر أربعة أنواع من الخلق في العالم السفلي، تقابلها أربعة أنواع من الخلق في العالم العلوي؛ وذلك للتوازن بين هذين السقفين: السقف الوطائي، والسقف الغطائي، فجعل بينهما توازناً بديعاً عجيباً، فقال: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ[فصلت:9] ، فهذا خلق لقشرة الأرض وما فيها، ثم قال: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا[فصلت:10] وهذه هي الجبال، وفيها من الفوائد للبشرية، والأشياء العجيبة جداً، فهي تمنع الأرض أن تميد بكم، وهي التي يستدل بها الناس ويهتدون بها، وهي التي تخزن المياه وتصفيها، وهي التي تحتوي على المعادن النفيسة في قلوبها، وهي تمنع من العدو، ويستتر بها عن أعين الحيوانات المفترسة، فكل هذا من فوائد هذه الجبال.

    ثم قال بعد هذا: وَبَارَكَ فِيهَا[فصلت:10] ، وهذه البركة التي في الأرض هي التي أخرجت ثمراتها، وأنبتت أشجارها، وجعلت فيها المعادن النفيسة والثمار الطيبة.

    وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ[فصلت:10] ، وهذا النوع الرابع من أنواع الخلق في العالم السفلي، وهو أنه قدر فيها أقواتها، فهيأ في كل أرض من الأقوات ما يحتاج إليه سكانها، فالصحاري التي يقل سكانها تقل الثمرات فيها والزروع، والأراضي المكتظة بالسكان تكثر فيها الأنهار، وتكثر فيها الأشجار، وتكثر فيها الزروع، وهذا تدبير العزيز العليم الذي يعلم الأماكن التي تصلح لاستقرار البشرية، ويجلب إليها النفوس التي تناسب تلك الأرض، فبعض البيئات شديدة الحرارة يجلب لها أقواماً يصلحون لهذه البيئة، وبعض البيئات شديدة البرودة يجلب لها أقواماً آخرين يصلحون لتلك البيئة، وبين هذا وهذا أماكن متنوعة، يجلب لكل بيئة ما يصلح لها من أنواع البشر، ويكون ذلك مؤثراً حتى في أخلاقهم وطباعهم وألوانهم ولغاتهم.

    ومن أجل هذا قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ[الروم:22] ، فربط بين اختلاف الألسنة والألوان، وبين خلق السماوات والأرض؛ مما يدل على أن اختلاف الألسنة والألوان يتأثر بالبيئات وبنمط العيش، وبطريقة السكن، فمن أجل هذا ترون تغير الألوان والألسنة في الأجيال بسبب تغير السكن والبيئة والمعاش، وقد يكون ذلك بالتغير الكامل كما يحصل في الانتقال من اللغات، فأصل اللغات لغات محصورة، قال ابن عباس : هي خمس وسبعون لغة؛ ولكنها تتنوع إلى ما لا يعلمه إلا الله، فشبه الجزيرة الهندية وحدها فيها أربعمائة وثمانون لغة يتكلم بها الهنود في منطقة محصورة في دولة واحدة!

    وكذلك في البلدان الأوروبية -التي هي من أضيق البلدان وأكثرها اكتظاظاً بالناس- عدد كبير من اللغات واللهجات المتباينة، ففي فرنسا وحدها: ثلاث لهجات من هذه اللغة، وفي إنجلترا أربع لهجات متباينة .. وهكذا، وهذا من التطور الحضاري الذي يقتضي تغير اللغات بالكلية، وعليه تجد الفرق بين العبرية والعربية واضحاً جداً، وكذلك الفرق بين الفارسية والتركية مثلاً، وتأثر بعض اللغات ببعض واضح؛ لاختلاط البيئات، كتأثر اللغة الأردية والتركية باللغة العربية، وتأثر اللغة الفارسية باللغة العربية أيضاً .. وهكذا.

    وهذه اللغات لها حركات بطيئة عجيبة تسير مع الزمن، فلو أن أية لغة من اللغات أخذ أهلها قاموساً قديماً كان قبل ألف سنة متداولاً، وأرادوا التفاهم بما فيه من المفردات فيما بينهم، لوجدوا في ذلك أمراً شاقاً عسراً جداً، ومن هنا فإن الأشعار قبل ألف سنة لا يفهما طلاب المدارس اليوم في بلادنا؛ لأن اللغة تطورت بتطور المجازات وتنوع الدلالات، وبذلك لا تفهم تلك الأشعار.

    وأركد اللغات اللغة العربية ؛ فإن أولاد العرب إلى اليوم إذا سمع أحدهم قول امرئ القيس: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) فإنه يفهم معنى هذا الشطر بسليقته، وإن لم يفهم معنى التركيب بكامله، لكنه يفهم الكلمات، وهذا البيت قد قيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة سنة على الأقل.

    ولركود اللغة العربية اختارها الله سبحانه وتعالى لكتابه القرآن، الذي تقوم به الحجة على من بلغ، فلو أن القرآن نزل بلغة غير اللغة العربية لم يعد اليوم صالحاً للفهم، ولأصبح محتاجاً إلى كثير من الشروح في كل زمان؛ لكن نظراً لركود هذه اللغة ولثباتها وندرة التغير في مدلولاتها، اختيرت أن تكون لغة هذا القرآن.

    الكلام على قوله سبحانه: (ثم استوى إلى السماء)

    الأنواع الأربعة من أنواع الخلائق في الأرض قابلها الله سبحانه وتعالى بأربعة أنواع من أنواع الخلائق في العالم العلوي، حيث قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ[فصلت:11-12] ، وهذا يقابل قوله: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ[فصلت:9] ، إذاً: هذه السماوات السبع في العالم العلوي تقابلها الأرضون السبع في العالم السفلي.

    وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا[فصلت:12] ، وهذا يقابل قوله: وَبَارَكَ فِيهَا[فصلت:10] ، وهذا الأمر الذي في السماء محجوب عنا ونحن لا نعلمه؛ لأنه ليس مهيئاً لنا، فالسماء ليست مهيأة لأن يسكنها البشر، ومن أجل هذا لم يكتشفوا ما يقابل هذه البركة التي يكتشفونها في الأرض.

    ثم قال: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ[فصلت:12] ، وهذه تقابل الجبال في الأرض في قوله: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا[فصلت:10] ، فالنجوم في السماء بمثابة الجبال في الأرض.

    ثم قال: وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[فصلت:12] ، وهذا الحفظ هو المقابل لقوله: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا[فصلت:10] ، فهذا الحفظ الذي في السماء، يقابل الأقوات التي في الأرض، ومن هنا يستغني الملائكة بالحفظ عن الأرزاق، فهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وبحفظ الله لهم يستغنون عن الأرزاق، فليسوا مثل أهل الأرض وسكانها يحتاجون إلى هذه الأرزاق.

    ومن تدبير الله سبحانه وتعالى أن هذه الخيرات المحجوبة في الأرض، وبالأخص ما يتعلق بالحاجيات والتكميليات لا يمكن أن يكتشف في عصر واحد، ولا أن تستخرج فيه، إذ لو استخرجت فيه لنفذت احتياجات الناس، والبشرية لا تزال تتمدد وتكثر احتياجاتها، فجعل الله تعالى اكتشاف هذه الخيرات بالتدريج، فنحن في هذه البلاد اكتشفنا معدن الحديد، فعاش الناس زماناً على هذا المعدن، ثم بعده اكتشفت معادن أخرى، فيمكن أن يكتشف من المعادن ما هو أيسر وأسهل منه كالنفط مثلاً أو غيره من المعادن الأخرى التي يحتاج الناس إليها، وهكذا في كل البلدان، وهذا تدبير العزيز العليم.

    تأمين الله الأرزاق في الأرض

    إن من تدبير الله سبحانه وتعالى أن أمّن الأرزاق في هذه الأرض، ولم يجعلها ملكاً فردياً لمكتشفها، وإنما جعلها للبشرية، فجعل المال الذي في الأرض ملكاً لله سبحانه وتعالى، والبشر مستخلفون فيه فقط، وهذا يقتضي منهم ألا يبذروا فيه وألا يسرفوا، وألا يحجروه على أنفسهم، وألا يمنعوا الآخرين من الانتفاع به؛ لأنه مال الله، والإنسان فيه مستخلف فقط، فهو بمثابة الوكيل ينتظر العزل في كل حين.

    وعزله يكون بالموت، فينتقل ويترك ما وراءه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:94] ، أو يكون عزله بالحجر عليه، فلا يستطيع التصرف في ماله بقهره وسجنه، أو بمرضه مرضاً يمنعه من التصرف، أو بنقص عقله بكبره وهرمه، أو غير ذلك من أنواع العزل التي يعزل الله بها من شاء عن التصرف فيما جعل تحت يده من المال.

    والله سبحانه وتعالى بين لنا أن هذا المال الذي جعل في هذه الأرض، ملك له سبحانه وتعالى، وليس ملكاً لنا، وأنه استخلفنا فيه فقط، فقال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] ؛ ولهذا خاطب الملائكة بقوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30] أي: مستخلفاً فيما في الأرض من أنواع الخيرات والأملاك، وبين أنه خلق لنا هذا بقوله: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] .

    وهذا ينقسم إلى ثلاثة أنواع: ما خلق انتفاعاً، وما خلق اعتباراً، وما خلق اختباراً: فما خلق انتفاعاً مثل: أنواع الأرزاق التي في هذه الأرض وينتفع الناس بها.

    وما خلق اعتباراً، مثل: ما في هذه الأرض مما لا ينفع ولا يضر، وإنما نراه فنتعظ، كأنواع الحشرات غير السامة وغير الضارة التي إذا حفرنا في الأرض أمتاراً، نجد فيها أنواع الدود وغيرها من أنواع الحيوانات التي تعيش في جوف الأرض، ويتعظ الإنسان فيها فيقول: من أين يأتيها الهواء؟ ومن أين يأتيها الماء؟ وكيف تعيش؟ وكذلك ما نراه في الصحاري من أنواع الغزلان والوحوش وغيرها، يقول الإنسان: من أين يأتيها الماء؟ وكيف تعيش؟ وما غذاؤها؟ فيتذكر قول الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[هود:6] ، وحينئذ سيكون الإنسان متعظاً مستفيداً من هذه الحيوانات وغيرها مما خلق الله في الأرض، فلم يخلق الله شيئاً عبثاً، بل كل ما في الأرض لحكمة بالغة: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ[الأنبياء:16] .

    النوع الثالث: هو ما خلق اختباراً، وهو ما يسلطه الله على الإنسان من أنواع الجراثيم، ومن أنواع الميكروبات، وأنواع الأوبئة الفتاكة، وحتى أنواع الأسلحة الفتاكة التي ييسر الله من يكتشفها ويستغلها، فهي خلقت اختباراً للبشرية، فالإنسان يمرض، ويصاب بالمصائب، ويموت، وكل ذلك اختبار له : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك:2] ، فكلها من الاختبارات والابتلاءات العجيبة.

    إن هذه الأرزاق إذا علمنا أنها مملوكة لله سبحانه وتعالى فإن علينا ألا نبذر فيها، وأن نعدل في توزيعها، ولا نحتكرها، وألا ندخرها لأنفسنا دون من سوانا، وهذه هي الأسس التي قام عليها الاقتصاد الإسلامي، فكل مشروع حضاري أياً كان، لا بد أن تظهر ثمرته للموضوعات الحساسة التي يعيشها الناس، وإن من الموضوعات الحساسة التي يعيشها الناس موضوع الاقتصاد، وإن النظرة الإسلامية للعالم كله مشروع حضاري متكامل، فمن أجل ذلك اقتضى بيان أوجهه المختلفة، وبالأخص الكلام في الموضوعات الحساسة منه كموضوع الاقتصاد البشري؛ فلذلك لا بد أن يظهر للمسلمين رأي بارز ونظرة موضوعية حيال هذا الاقتصاد، وحيال اكتسابه، وحيال توزيعه، فإن الطاقة التي في الأرض، والنفع الذي فيها ملك للجميع، يدخل فيه المؤمن والكافر، فليس للمؤمن أن يحتكر الخيرات ويمنع الكافر منها.

    ولهذا نص العلماء على أنه لا يجوز للمؤمن إذا لم يجد من الماء إلا ما يكفي لوضوئه أو لشرب كافر أو كلب عقور أو حيوان غير محترم، لا يحل له أن يميته بالعطش ويتوضأ بذلك الماء، بل إما أن يسقيه ويتيمم، أو أن يقتله ويتوضأ بالماء بعد قتله، وذلك أنه مشارك له في هذا الماء وله حق فيه، وهذا يشمل جميع الحيوانات، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بغياً من اليهود غفر الله لها ذنبها؛ بسبب كلب مرت به عند بئر وهو يلهث ويأكل الثرى من العطش، فنزلت ونزعت موقها فاغترفت به من الماء، وأمسكت بفيها حتى صعدت وسقت الكلب، فغفر الله لها).

    وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض)، فهذا يقتضي اشتراك كل أنواع الحيوانات في هذه الأرزاق التي خلقها الله في هذه الأرض، وانتفاع الجميع بها.

    1.   

    مفاتيح الخير ومفاتيح الشر من الناس

    من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومنهم -نسأل الله السلامة والعافية- مغاليق للخير مفاتيح للشر، فالذين هم مفاتيح الخير: يفتحون أبواباً لأنواع الأرزاق والانتفاعات، ينتفع بها المؤمن والكافر والحيوان البهيمي، وغير ذلك.

    ومنهم مغاليق للشر: يغلقون أبواباً فيها مضرة تهلك الحرث والنسل، وتقضي على أنواع الكائنات الحية، سواء كانت من الحيوان أو من النبات.

    ومنهم عكس ذلك: مغاليق للخير، يجدون باباً واسعاً يعيش منه الناس فيفعلون ذنباً يزول به ذلك الباب، وكم من قوم كانت أمورهم مستقيمة، وكانت حياتهم طيبة، فجاء أصحاب الذنوب فأذنبوا وأسرفوا؛ فأغلق الله باب ذلك الخير الذي كانوا يعيشون منه، وأنتم تقرءون في سورة سبأ قصة أصحاب سبأ الذين فتح الله لهم أنواع الأرزاق في هذه الأرض، ويسر لهم سبل الانتفاع بها، وهوّن عليهم الانتقال، ويسر لهم السبل، ولكنهم بغوا وطغوا؛ فبدل الله ذلك، وأهلكهم على يد أضعف خلق الله، على يد فأرة، فأهلكهم الله بذلك، ومزقهم كل ممزق، وجعلهم خبراً بعد عين.

    وكذلك الحال في الأمم التي طغت في البلدان كلها، فعاد الذين بسط الله لهم أنواع الأرزاق، وزادهم بسطة في أجسامهم على قوم نوح، وأطال أعمارهم، ومع ذلك بغوا وطغوا، فأرسل الله عليهم الريح ثمانية أيام حسوماً، فقضت على الأخضر واليابس في بلادهم، وما زالت بلادهم إلى اليوم لا يستطيع أحد السير فيها، وإذا سارت فيها سيارة وأرادت المنقلب في نفس الساعة يضيع أثرها، ولا تهتدي إلى المكان الذي خرجت منه، وبلادهم اليوم بلاد الأحقاف، وهي معروفة بالربع الخالي في جزيرة العرب، وما زالت الريح مستمرة فيها على أثر تلك الريح التي سخرها الله ثمانية أيام حسوماً.

    وكذلك ثمود الذين يسر الله لهم أنواع الأرزاق، وجعل لهم الجبال بيوتاً، بغوا وطغوا فأرسل الله عليهم الصيحة التي أهلكتهم، وشقت شغاف قلوبهم، فلم يستطع أحد منهم أن يصمد أمامها، فهلكوا جميعاً في لحظة واحدة.

    وكذلك قوم لوط ومن سواهم من الأمم الذين كانوا يعيشون في نقطة التوازن في العالم بمكة -شرفها الله وحرسها- كانوا إذا بغوا في الحرم يسلط الله عليهم ما يهلكهم ويبيدهم، فعندما يسر الله تعالى لإبراهيم مكان البيت وبوأه له وأمره أن ينزل عنده أمته وولده، وأراه مكانه؛ أخرج الله بهذا الوادي الموحش الذي لا زرع فيه -بواد غير ذي زرع- هذا الماء الطيب، الذي لم يزل إلى يومنا هذا يسقي الحجيج، وهو ماء زمزم، فساكن هاجر في ذلك المكان العمالقة، ولكنهم حين بغوا فيه سلط الله عليهم جُرهم، فقتلوهم قتل عاد وإرم وأخرجوهم منه، ثم حين بغى جُرهم أهلكهم الله أيضاً، وسلط عليهم الذين جاءوا من سد مأرب كخزاعة وغيرهم، ثم لما بغى خزاعة بالحرم سلط الله عليهم قصياً فأخرجهم، واستمر ذلك في زمان الجاهلية كله؛ ولهذا تقول امرأة من قريش لولدها:

    أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير

    أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور

    الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور

    ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحرير

    يمشي إليها حافياً بفنائها ألفا بعير

    والله آمن طيرها والعصم تأمن في ثبير

    وكان الحكم في الجاهلية والردع عن طريق القوة الباطنية، فلما جاء الإسلام ظهرت القوة الحسية الواقعية، فرفع ذلك العقاب، كما قال ابن عباس : إن العقاب الذي كان يأتي إلى الجاهلية في جاهليتهم كان عقاباً باطنياً، فلما جاء العقاب الظاهري بشرع الله عز وجل رفع الله العقاب الباطني، فكان الذئب في الجاهلية يطرد الأرنب حتى تدخل الحرم فيرجع ويتركها! واليوم أصبح الناس يتجرءون على معاصي الله في حرمه ويقتلون، ويقومون بأنواع الجرائم، فلا يرون بعض تلك الآيات التي كان يراها أهل الجاهلية؛ وذلك حينما ردع الله بهذا الدين، وبما شرع في كتابه المبين من أنواع الزواجر التي تكفي أهل الإيمان، وتردهم عن الطغيان.

    1.   

    النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع المال

    إن النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع هذا المال، فإذا كان الإنسان ينظر إليه وهو يعلم أنه لا غنى له عنه، وأنه عصب الحياة، ولكنه ليس ملكاً له، ولن ينال منه أكثر من رزقه، فإنه سيحاول أن يجعله في يده لا في قلبه.

    فمستقر المال في النظرة الإسلامية اليد، ومستقره في النظرات الأخرى القلب؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)، فتجد الفقير الذي لا يملك ديناراً ولا درهماً غنياً مرتاحاً راضياً بما أوتي، ويتصرف على وفق ما آتاه الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق:7] ، وتجد الغني في المال -إذا كان المال في قلبه- إذا فقد منه درهماً واحداً ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وينشغل في عمرة تنمية ماله حتى يكون خادماً للدنيا، وكان المفروض أن تكون الدنيا خادمة له، فكثير من الناس هم عباد للدنيا يخدمونها، والدنيا ليست خادمة لهم، إذا جعل الله تحت أيديهم بعض هذه الدنيا كان أذىً عليهم ونكالاً ووبالاً، فهم يعملون لها ليل نهار، ويقضون أوقاتهم الثمينة لخدمتها.

    وفي المقابل نجد آخرين لم يؤتهم منها إلا القليل، ولكنهم استغلوه لخدمة أنفسهم، فقدموه لآخرتهم، واستعانوا به، واستعفوا به في دنياهم؛ وبذلك سيروه وفق ما أمر الله به، ومن هنا كان جوابهم يوم القيامة جواباً مجدياً، وجواب الأولين جواباً مخزياً، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه فيما عمل به)، فالمرء سيسأل عن ماله بسؤالين يوم القيامة: من أين اكتسبته؟ هل أخذته من حله؟ ثم بعد ذلك: هل وضعته في محله؟

    وهذان السؤالان لا بد أن يجعلهما الإنسان نصب عينيه، وهو يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، فالناس جميعاً تجار، وهم مفطورون على حب المال، ولكن تفاوتهم في ذلك أن منهم من لا يأخذه إلا من حله، ولا يضعه إلا في محله، ولا يطغى إذا تكاثر عليه، ولا يجزع على ما فاته منه، كما قال تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ[آل عمران:153] ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23] ، فلا ينبغي للإنسان أن يحزن على ما فاته منه؛ لأن ذلك سلبي، ويجعله يتحسر، ويتقطع حسرات على أمر غير مقدور، ولا يمكن أن يناله، فيقتطع جزءاً من وقته وتفكيره دون أن يفيده شيئاً، وليس له كذلك أن يفرح بما نال منه؛ لأن ذلك مدعاة للطغيان؛ ولهذا كان قوم قارون ناصحون له حين قالوا له: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[القصص:77] ، فهذا قانون متكامل، يشتمل على أربعة مواد، ينبغي لكل ساع لجمع المال أن يجعلها نصب عينيه:

    أولاً: أن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة.

    ثانياً: ألا ينسى نصيبه من هذه الدنيا، وحظه منها.

    ثالثاً: أن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن يستشعر مسئوليته تجاه الفقراء حين أغناه الله.

    الرابعة: (ولا تبغ الفساد في الأرض) فلا يبغي الفساد في الأرض.

    وهذا إذا حاولنا شرحه فسيطول بنا الحديث، ولن نأتي إلى حقائق يسيرة من معنى هذه الآية القليلة الألفاظ، الكثيرة المعاني.

    قال الله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ[القصص:77] ولم يقل فيها: (وابتغ بما آتاك الله الدار الآخرة) لأن هذا مستوى من الإيمان رفيع جداً، وهو أن يخرج الإنسان كل ما لديه في سبيل الله، وهذا لا يصل إليه إلا الصديقون، ولا يمكن أن يكون قانوناً عاماً لكل الناس، بل قال: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ[القصص:77] ، و(في) للظرفية المقتضية للوسط، فالظرفية تقتضي الوسط، فليس مطالباً بأن ينفق خير ماله، وليس مطالباً كذلك بأن يتيمم أدناه: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ[البقرة:267] .

    وقوله: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[القصص:77] ، هذا يقتضي من الإنسان أيضاً أن يعلم أن له نصيباً محصوراً قليلاً في هذه الدنيا، حتى لو عاش عمراً طويلاً، فإنه عندما يوضع في قبره سينسى ذلك العمر كله، ويظن أنه ما عاش فيها إلا يوماً أو بعض يوم: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا[طه:104] ، ومن أجل هذا فإن على الإنسان أن يعرف حظه من هذه الدنيا، وأن يعلم أنها ليست له وحده، وأن عليه أن يصلحها ويدعها لمن وراءه، فهو بمثابة الراكب الذي استظل بظل شجرة، فلا ينبغي أن يقطعها ولا أن يفسدها حين ينهي غرضه منها، بل يتركها لمن يستظل، وإذا رجع مرة أخرى استفاد منها.

    وهذا المثال النبوي عجيب جداً أيضاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل فقال: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، الراكب إذا رأى الشجر ينبغي أن يختار خيره، وأبلغه ظلاً، وأنظفه مكاناً؛ لأنه يختار لنفسه المكان الملائم المناسب، ولكنه مع ذلك لا يتعب تعباً شديداً في استصلاح هذا الظل، ولا الاستقرار فيه، فهو يعلم أن الظل سريعاً ما يتحول وينقلب، ويعود الفيء إلى المشرق، ثم تغرب الشمس، وحينئذ يزول الظل: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا[الفرقان:45-46] ، كذلك فإن الراكب إذا استظل بظل شجرة، فكثيراً ما تكون بعد ذلك ذات ظل دائم لمن يأتي بعده؛ لأن العرب يقولون:

    ولن تُصادفَ مَرْعىً مـمْرِعاً أبداً إِلا وَجَدْتَ به آثارَ مُنْتَجِعِ

    فالمكان الذي يستظل الناس به عادةً سيكون مطروقاً ويستظل الناس به، وإذا رحلت عنه قافلة عادت إليه أخرى؛ وقد جاء في الحديث: (لعن الله من غير منار الأرض)والمقصود بذلك: أن من يقطع الأشجار التي هي معالم في الأرض، أو يغير الطرق والسبل، يؤدي بعمله ذلك إلى إتلاف وإفساد في الأرض، فهو ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    واجب الأغنياء نحو الفقراء

    قال الله: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ[القصص:77] ، إن على الأغنياء أن يستشعروا أن الله عز وجل هو الذي قسم هذه الأرزاق، ولم يقسمها على أساس عقل، ولا على أساس علم، ولا على أساس جاه، ولا على أساس قوة بدن، وإنما قسمها لحكمة، وجعلها امتحاناً ومسئولية، فمن آتاه الله هذا المال فعليه مسئولية عظيمة تجاه الفقراء، خاصة إذا جعل الله أرزاقهم تحت يديه، وولاه عليهم، واستخلفه على أرزاقهم، فهو سبيل من سبل الخير، وطريق من طرقه، إما أن يستكثر وإما أن يستقل.

    ولهذا فإن الذين جعل الله أرزاق الناس تحت أيديهم إن أحسنوا نالوا أجور كل من انتفع بما تحت أيديهم من المال، وإن أساءوا فإنه سيكتب عليهم أوزار أولئك الذين منعوهم ما يستحقون، وحالوا بينهم وبين ما خلق الله لهم، وهذا يبين أصلاً شرعياً كبيراً ينبغي أن يدخل فيه كثير من القواعد، فمن أجله حرم الله الربا، ومن أجله حرم الله الاحتكار، ومن أجله حرم الله الإسراف، ومن أجله حرم الله الغش والخيانة، ومن أجله حرم الله سبحانه وتعالى الجهالة في البيع، ومن أجله حرم الله سبحانه وتعالى المكوس وغير ذلك من أنواع الإفساد في الأرض.

    فهذه الأصول ما حرمت إلا من أجل المسئولية التي هي على الأغنياء تجاه الفقراء، وإذا استشعروها فإنهم سيستصلحون المال لا لأنفسهم، بل سينفقون على عدد كبير من الناس، وسيزداد التكافل بذلك بين الناس، ومن أجل هذا شرع الله سبحانه وتعالى الزكاة في المال، وجعلها واجبة على الأغنياء، تؤخذ منهم وترد على فقرائهم، وهي حق في المال نفسه، وشرع كذلك حقوقاً أخرى في المال، ففي المال حق غير الزكاة كما صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وذكر من تلك الحقوق: أن يحتلب الناس من ضروع مواشيه إذا أوردها على المياه، ومن هذه الحقوق: الصدقة من الزرع إذا بدا صلاحه كقوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[الأنعام:141] ، وهذا الحق الذي يجب يوم الحِصاد، قال أكثر المفسرين: هو غير الزكاة الواجبة؛ لأن الزكاة ليست واجبة في يوم الحصاد بعينه، وهذا حق زائد عليها، وهو صدقة شكر على ما أخرج الله لنا من الثمرات.

    1.   

    التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم

    هذا وإن مشروعية الصدقات الأخرى والتكافل الاجتماعي المطلق، به يتم الاتصال بين البشرية، وترتبط الوشائج كالصداق بين الرجل والمرأة، وكالنفقة الواجبة بين الوالد وولده، والزوج وزوجته، والمملوك ومالكه، فهذه النفقات كلها تدخل في إطار هذا التكافل الاجتماعي الذي هو من المسئولية المالية.

    وكذلك الحق العام في المال؛ فإن في المال حقاً عاماً للأمة كلها، يؤخذ إما بطريق التبرع، وإما بطريق التقويم والتقدير، كذلك فإن من موارد التكافل الاجتماعي ومن أوجهه المطلوبة، ما بينه الشارع في أن الأغنياء عليهم أن يشاركوا بأموالهم في إعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، وهذا يشمل إنفاقهم في الجهاد في سبيل الله وغزو العدو، وإنفاقهم كذلك في تعلم العلم وفروض الكفايات، وإقامة الجسور والمساجد والمستشفيات .. وغير ذلك من أنواع المصالح التي يحتاج الناس إليها، وكانت هذه المشاريع في صدر الإسلام فردية، يقوم بها بعض الأفراد، فيقيمون المدارس من تلقاء أنفسهم، ويجعلونها أوقافاً، ويقفون عليها الحوانيت والمزارع، فيضمن ذلك بقاءها واستمرارها وحريتها، وبهذا الوقف خرج العلماء الأفذاذ الكبار؛ لأنها عاشت -أي: الأوقاف- في جو من الحرية، يضمن لها الاستمرار، وعدم التدخل في قراراتها.

    أما حين أخذت أوقاف المدارس، وأصبحت مؤسسات تابعة للدول، فإنها عاشت في أحضان العبودية، وفقدت أنفاس الحرية، ومن أجل هذا لم تخرج العلماء، وإنما أصبحت مؤسسة من مؤسسات النظام الفاسد، فالأزهر كان مؤسسة حرة، ينفق عليه من الأوقاف التي وقفها عليه تجار المسلمين في قرون طويلة، وقد أخرج عدداً كبيراً من العلماء، واستفادت منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عدة قرون؛ وحين جاء عبد الناصر أمم أوقافه وأخذها لصالح الدولة، أصبح الأزهر ينفق عليه من ميزانية الدولة، وأصبحت الدولة هي التي تعين فيه وتعزل، وتضع له المناهج والبرامج؛ فتوقف دوره، وتوقف عطاؤه، ولم يخرج ما كان يخرجه من العلماء، وكذلك في البلدان الأخرى المختلفة.

    وهكذا المستشفيات كان الأفراد والتجار يقومون ببنائها، ويتطوعون بها لصالح الأمة، ويوقفون عليها الأوقاف ذات الريع المستمر، فتستفيد الأمة من ذلك، واستمر هذا زماناً طويلاً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعاش الناس فيه بخير، حتى حصل تعميمها، ورجعت إلى مؤسسات مملوكة للقطاع العام، ليس وراءها عناية ولا صيانة، ولا يرصد لها مال مخصص، أو أصبحت أملاكاً للقطاع الخاص، وفي مجال التنافس لم يعد يسيرها روح الإنسانية والتكافل، فأصبحت مكاناً لكسب المال والتنافس في جمعه.

    وقد كان الناس قديماً يجتهد أحدهم في أن يبني مسجداً أو مدرسة أو مارستاناً -والمارستان هو المستشفى- وفي ذلك يقول أحد الشعراء يمدح أحد العلماء:

    أنشأت مدرسة ومارستاناً لتصحح الأديان والأبدانا

    فالمدرسة لتصحيح الأديان، والمارستان لتصحيح الأبدان.

    وكذلك من أوجه التكافل الديات التي تدفعها العواقل، فإن الخطأ ليس من كسب الإنسان، وليس من طاقته التخلص منه، ولو حمل عليه لنقص إنتاجه، وقصرت به أفكاره عما ينتج لصالح هذه الأمة.

    فلو كان الإنسان يسوق سيارته فحصل حادث من غير قصد منه، فمات به عدد من الناس، وكلف هو بدياتهم أجمعين؛ لترك الناس قيادة السيارات، وتوقفت الكثير من المشاريع النافعة، وكذلك لو أن الإنسان كان يعلم أنه إذا بنى مبنىً، وانهدم في أثناء بنائه من غير قصد منه، ودفع ديات المتأثرين به؛ لتوقف الناس عن البناء، وتعطلت منافع كثيرة للبشرية، وكذلك في الحفر، وكذلك في استخراج المعادن، وغير ذلك من أنواع المشاريع النافعة.

    فلتشجيع الناس على هذا، جعلت هذه العواقل هي التي تتحمل ديات الخطأ سواء كان ذلك في الأنفس أو في المنافع أو في العظام والشجاج.

    وكذلك الدواوين التي تقوم مقام العواقل، فالحضارة منافية للقبلية التي هي نظام بدوي في الأصل، والحضارة تجتمع فيها القبائل، وتختلط فيها الأعراق، وتقف فيها العصبية القبلية، فمن أجل هذا احتيج فيها إلى بديل عن العواقل، فأنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجماع من الصحابة الدواوين، التي أصبح أهل كل مهنة يدفعون فيها الدية تكافلاً فيما بينهم، فالشرطة يدي بعضهم عن بعض، والجيش يدي بعضهم عن بعض، والمعلمون يدي بعضهم عن بعض، والأطباء يدي بعضهم عن بعض .. وهكذا، فهذا عندما يزول النظام القبلي، وتختلط الحضارة، وتنتفي العصبيات.

    هذه الأوجه للتكافل والتكامل بين البشرية ينبغي ألا يغفل عنها، وأن تدعم وتقوى في حياة البشرية؛ حتى يعرف من أين يؤتى بهذا المال؟ وفيما ينفق؟

    1.   

    الإسراف وخطورته

    ثم إن على الإنسان ألا يسرف؛ ولهذا قال: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ[القصص:77] ، فالفساد في الأرض يتناول الإسراف في النفقات؛ لأن الإنسان له طاقة وله حاجة، فعليه أن يقارب بين حاجته وبين ما يستغله، فما يحتاج إليه لا ينبغي أن يكون أكثر مما ينتجه، وإذا كان ينتج الكثير، فإن عليه ألا يزيد في احتياجاته، وأن يرشد تلك الاحتياجات؛ لأن من البشرية قوماً لا ينتجون أصلاً، وهو يقوم عليهم بمقابل ذلك.

    ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه لا يحب المسرفين؛ ولذلك يقول الناظم:

    والسرف السرف إن السرفا عنه نهى الله تعالى وكفى

    ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف

    دخول الإسراف في أعمال البر

    وقد اختلف العلماء في الإسراف هل يدخل في أعمال البر أو لا؟ وأجمعوا أنه يدخل في أمور الدنيا كلها، فذهبت طائفة منهم إلى أن السرف يدخل حتى في أعمال البر، فالذي يتصدق بكل ماله، إذا كان يعلم حاجته إليه ولم يكن له تدبير يعوض به ما أنفقه فهو مسرف، واستدلوا على هذا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن ثابت بن قيس بن شماس جذ نخله فتصدق بثمرته كلها، ولم يستبق منها تمرة واحدة يفطر عليها، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً عند ذلك، فهذا دليل على أن الإسراف في مثل هذه الأمور غير محمود شرعاً.

    فعلى الإنسان أن يترك ما ينفق به على أهله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه مرض بمكة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: (يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا بنية لي، أفأتصدق بمالي كله في سبيل الله؟ قال: لا، أمسك عليك بعض مالك، فقال: أفأتصدق بثلثيه؟ قال: لا، قال: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، قال: أفأتصدق بثلثه؟ قال: نعم، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، فقلت: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي، فقال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك)، فعاش سعد بعد هذا زماناً، وورثه اثنا عشر ولداً لصلبه، وخرج من ثلث ماله في سبيل الله عدة مرات بعد ذلك.

    وهذا يقتضي منا ألا نتعجل في تصدقنا، وأن يكون تصدقنا متزناً، فالإنسان آتاه الله تعالى ثلث ماله عند حضور أجله يمكن أن يوصي به، حتى في حال مرض الموت، ففي الحديث: (إن الله قد أعطاكم ثلث أموالكم عند موتكم تتصدقون به)، وهذا هو الوصية، والوصية لا تزيد عن الثلث، فلا يجوز للإنسان أن يوصي بأكثر من ثلث ماله.

    أضرار الإسراف في المطاعم والمشارب

    السرف يكون أيضاً في المطاعم والمشارب ونحوها مما يقتضي مضرة بالبدن، وهذه المضرة أنواع، فما من شيء فيه منفعة وإلا وفيه نوع آخر من أنواع الضرر، فالماء فيه منافع لا تحصى، ومع ذلك فيه مضار؛ فإنه يقتضي نقصاً لبعض إفرازات المعدة التي يحتاج إليها الإنسان في هضم غذائه؛ وكذلك غيره من أنواع المشروبات، وأنواع ما يستعمله الإنسان في نفسه، فإذا زاد عن الحاجة أو تمحض وحده أضر.

    ومن هنا؛ فإن كثيراً من الأمراض المعروفة اليوم سببها الغذاء: كالمرض السكري، فهو ناشئ عن الإسراف في النشويات، وكمرض القلب فهو ناشئ عن الإسراف في الدهنيات، وكمرض الكلى فهو ناشئ عن الإسراف في المآكل ونقص المشارب، وكذلك أنواع الأمراض الأخرى كبعض الأمراض الجلدية فهي ناشئة عن الإسراف في استعمال السكر مثل البرص والبهق وغيرها، وكذلك بعض الأمراض تنشأ عن الإسراف في استعمال الأملاح، وبعضها ينشأ عن الإسراف في استعمال السوائل كالترهل، وهو السمنة الزائدة، فإنها تنشأ من استعمال السوائل والإسراف فيها أكثر من الحاجة، فتقتضي الاتساع في البطن، فإذا أكثر الإنسان وأسرف فيها تضخم بدنه، فكان ذلك مرضاً من الأمراض؛ لأنه يضعف قواه، ويؤدي إلى احتكاك مفاصله، وتوقف أماكن النمو في بدنه، وكثيراً ما يؤدي إلى أمراض كثيرة.

    كذلك الحركات: فالإسراف فيها يقتضي بعض الأمراض، فالإسراف في الرياضات يقتضي المرض في الغضروف الذي يحول بين فقرات الظهر، فيتمطط ويتمدد.

    وكذلك الإسراف في المشي يقتضي أمراضاً في الركب، كالاحتكاك والاحتقان وغيره.

    فالإسراف مضرة أياً كان هذا الإسراف.

    وكذلك الإسراف في الملابس، فإنه أيضاً يقتضي مضرة، فزيادة ثقلها فيه ثقل دائم على الإنسان، ووزن زائد على وزنه، والإنسان ذو طاقة محددة، عليه ألا يزيد وزنه عليها، وألا تزيد حمولته الدائمة عليها.

    ومن هنا فإن كثيراً من الأمراض ينشأ عن عدم الاعتدال في النعلين، فيكون الإنسان يسير سيراً غير مستقيم، إحدى رجليه أرفع من الأخرى، فيصاب بمرض ونقص للتوازن بسبب ذلك؛ لأن سرعة الدم في أحد الشقين ستكون أبلغ من سرعته في الشق الآخر، فيؤدي هذا كثيراً إلى بعض السرطانات، وبالأخص سرطان الدم وغيره، وقد حصل في إحدى الشركات التي كانت تصنع النعال في الولايات المتحدة الأمريكية أن أقيمت عليها دعوة في المحاكم، بسبب أن نعالها لم يكن مبالغاً في وزنها من ناحية المقاس، فرفعت عليها دعوى أدت إلى إفلاسها، وأخذ أموالها.

    إذاً هذا يقتضي منا عدم الإسراف مطلقاً، ويذكر العلماء أن الإسراف في القراءة مقتض لأمراض بدنية، واختلال في القوة العقلية.

    والقوة العقلية وغيرها من القوى وزنها الله على حسب بدن الإنسان، وعلى حسب روحه، فإذا زادت اختل توازنه، فكثير من الناس يريد زيادة العقل ويتمنى ذلك، لكنه لا يعلم أنه لو زيد عقله لاقتضى ذلك اختلالاً فيه؛ لأن الله وزنه على هذا الميزان، وقدره على هذا التقدير؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى[الأعلى:1-2] ، فهذا التقدير العجيب تقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو الاعتدال العجيب في خلقة الإنسان، فلا بد أن يكون الذراعان على حجم واحد، واليدان على حجم واحد، والأذنان كذلك، والعينان كذلك، والرجلان، والساقان، والفخذان.. وهكذا، حتى يتم قوام الإنسان، وما شذ عن هذا كان عيباً في الخلقة وضعفاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952924