بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، لا معقب لحكمه، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، وهو الذي يقول في محكم التنزيل وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67]، وقد شاء بحكمته البالغة أن يختم الرسالات والنبوات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل الدين الذي جاء به مكملاً للأديان، فقد أكمل به الله الدين لأهل الأرض، فلا يمكن أن يأتيهم خطاب من عند الله بعده؛ ولذلك قال في نهاية تنزيل أحكامه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ[المائدة:3] فقد ارتضى الله هذا الدين دِيناً للبشرية كلها، وخاطبها بذلك، وقد جاء في الصحيح أن حبراً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! آيةٌ في كتابكم لو فينا -معاشر اليهود- أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وما هي ؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3] قال: أما إني لأعلم أين أُنزلت، ومتى أُنزلت، لقد نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقفٌ بعرفة يوم جمعة، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إلا اثنين وتسعين يوماً، فكان ذلك في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فعاش عشرين يوماً من شهر ذي الحجة، وثلاثين يوماً هي شهر المحرم، وثلاثين يوماً هي شهر صفر، وتوفي في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وقد أنزل الله عليه هذه الآية؛ إيذاناً بأن الوحي قد انقطع، وبأن الدين الذي ارتضاه الله للبشرية هو هذا الإسلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تعهد الله بحفظه ونشره ونصره، وأنتم تعلمون أنه القادر على الوفاء بما تعهد به، وأنه لا يخلف الميعاد، وكان تعهده بحفظه بارزاً في عدة مظاهر:
المظهر الأول منها: حفظ الكتاب الذي أنزله، فالكتب السابقة، إنما كان يستحفظها أهلها، فيحفظها الأحبار والرهبان، وهذا الكتاب تولى الله حفظه بنفسه؛ ولذلك قال الله في ذكر التوراة: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ[المائدة:44] . وقال في القرآن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وقال فيه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42] ، وقال فيه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ[الشعراء:193-196]، فتولى الله حفظه بنفسه، فهذا القرآن المحفوظ في الصدور، المتلو بالألسنة، المكتوب في المصاحف، مادام موجوداً على الأرض، فذلك معناه استمرار هذا الدين وحفظ له، ولا يمكن أن يعتدى على هذا الدين، ولا أن ينقص منه شيء، مادام هذا القرآن قائماً في الأرض حجةً على أهلها، وقد تحدى الله به الثقلين -الإنس والجن- أن يأتوا بسورةٍ من مثله، وقد حاول ذلك بعض البلهاء فما وصلوا إلى نتيجة، جاء مسيلمةُ الكذاب وهو من فصحاء بني حنيفة، فحاول أن يحاكي سورة من القرآن، فما جاء إلا بالمضحكات التي يعجب منها العقلاء، سمع سورة الفيل أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5] وهي غاية في البلاغة والإيجاز، تضمنت تقريراً كاملاً عن قصةٍ عظيمةٍ من قصص التاريخ، وذكرت ما فيها من العبر والآيات، وبينت آثارها، وما ترتب عليها، فجاء هو فسلطه الله على نفسه، فلم يأتِ إلا بقوله: [ الفيل وما الفيل، وما أدراك ما الفيل، ذنبه قصير، وخرطومه طويل!!] وهذا كلام سمج، يضحك منه العقلاء، وكذلك عندما سمع قول الله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا[الذاريات:1-4]، على ما في هذه السورة من البلاغة العظيمة، ومن أعظمها: ما فيها من البديع وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا[الذاريات:1] فالفاء في (ذرواً) مفتوحة فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا[الذاريات:2] والفاء في (وقراً) مكسورةٌ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا[الذاريات:3] والفاء في (يسراً) مضمومة، وجاءت هذه على ترتيب الحركات الفتحةُ، ثم الكسرةُ، ثم الضمة، بالإضافة إلى ما فيها من الإعجاز اللفظي، وحاول مسيلمة الكذاب أن يأتي بشيء يقابل هذا فقال: [والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً!!] فلم يأت بشيء كذلك يستحق أن يسمع. والمتأخرون من أعداء الله تعالى ساءهم وجود هذا القرآن واستمراره، فعندما اجتمعت الحكومة الإنجليزية في سالف الزمان؛ لتنفيذ مؤامرةٍ على المسلمين، قام فيهم خطيبهم، وحمل نسخةً من المصحف الشريف، وقال: ما دام هذا الكتاب موجوداً بأيدي المسلمين، فلن تصلوا منهم إلى مرادكم؛ فلذلك يبقى هذا الكتاب حافظاً لهذا الدين؛ لأن المستقبل له، فالمسلم إذا وجد ضيقاً، وتكالبت عليه الأمم يجد الفرج في كتاب الله، وإذا وجد مرضاً وألماً يجد الفرج في كتاب الله وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[الإسراء:82] ، إذا جهل حكماً أو جهل خُلقاً فيجد الجواب في كتاب الله، فيه حل لكل المشكلات؛ ولذلك لا يمكن أن يحس بالغربة من رفيقهُ القرآن، ولا يمكن أن يحس بالعراء من يعيش في ظلال القرآن، فلا بد أن تستذكر هذه الأمة، وأن تستحضر هذه المعونة التي مجدها الله بها، ببقاء كتاب الله بين أظهرها، وهو تسليةٌ عن كل ما يحصل، فكلما جاءت ضائقة، أو احتج المشركون بشبهة؛ ففي القرآن ما يفرج ذلك، اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ[الإسراء:106-109]، وكذلك اقرءوا قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:32-33] إذا اشتكى الناس هزيمة من الهزائم، لجئوا إلى القرآن، فوجدوا فيه قصص السابقين وما نالوا من الأذى والضيق، فعلموا حينها أن حالهم سيتسع، إذا قرءوا في وقت ضيق وشدة قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:110-111] ، عرفوا أن ما هم فيه إنما هو حلقة من حلقات سلسلة التاريخ، وسنةٌ من امتحانات الله التي يمتحن بها العباد، وأنه كلما جاء العسر فمعه يسران إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح:5-6] ، وإذا جاء الضيق وصبروا، فإن النصر مع الصبر، وإذا جاء الكرب فإن الفرج مع الكرب، وبهذا يتقوى المسلم قوةً ليس لها حدود. أحد العلماء ضايقه الناس فسجن ونُفي، وصودرت ممتلكاته، فأتاه شخص وهو في السجن، فنظر إلى حاله فإذا هو في غاية السرور والسعادة، فقال: يا أبا العباس ما يسرك؟! قال: ماذا يفعل أعدائي بي؟ قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، جنتي في صدري، هذا القرآن بين يدي، فلا يمكن أن يُضايق من يجد المتسع في كتاب الله.
من مظاهر بقاء هذا الدين واستمراره: أن الله سبحانه وتعالى وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدد لها أمر دينها، وهؤلاء المجددون الذين يجددون أمر الدين ما فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ولا ابتعثوا من قبل دولة ولا سلطة، إنما ابتعثهم الملك الديان؛ لتجديد أمر الدين، وفاءً بوعده لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فهم يجددون ما جهله الناس من أمر الدين، وأخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) أولئك اصطنعهم الله سبحانه وتعالى ووفقهم؛ ليجعلهم أمناءه على وحيه، ولم يكن الله ليأتمن على وحيه المهلكين، لا بد أن يختار له الأمناء الموقعين عن رب العالمين، الذين يميزهم الله بما آتاهم وبما وفقهم له وسددهم، ليحفظوا دين الله سبحانه وتعالى، وأنتم تعلمون أن هذا القرآن منزه عن القذر والوسخ والأنجاس، وإذا كان في بيت أحدهم فسيجعله في أشرف مكانٍ في البيت وأطهره وأنظفه، وهذا إنما هو بأمر الله، فكذلك لا يمكن أن يختار الله أوعيته إلا أنظف الناس قلباً، وأتقاهم لله، وأكثرهم إخلاصاً له، وتضحية في سبيله، أولئك هم الذين يؤتمنون على كتاب الله.
ثم إن هذا التجديد الذي تعهد الله به لهذا الدين، يشمل تجديده من ناحية ما يتجدد من الوقائع، فالنوازل والوقائع تتجدد، والناس يبحثون فيها عن حكم الله، فيخرج الله من يستنبط الحكم فيخرجه من القرآن ومن السنة، ويبينه للناس وكأنه أنزل الآن، وكذلك ما يردون به على شبهات المفترين، وابتداع المبتدعين، وما يؤيدهم الله به من التوفيق للأدلة وبيانها.
وكذلك من أوجه التجديد: ما يجددونه من بعث روح الأمل في الناس، وبعث التضحية فيهم، وتنبيههم إلى المخاطر المحدقة بهم، فكل ذلك من تجديد أمر الدين؛ لأن الأمة إذا أحست أن الدين مهدد، فلا شك أنها ستبذل قصارى جهدها في الدفاع عن دينها الذي هو أغلى شيءٍ لديها.
من مظاهر استمرار هذا الدين: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة خاتمةً للأمم، وهي أكثر أمم الأنبياء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه عرضت عليه الأمم، فكان يرى النبي وحده، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، حتى رأى سواداً كثيراً فظن أنهم أمته، فقيل: هذا موسى وأمته، ولكن انظر إلى الأفق قال: فنظرت فإذا سوادٌ عظيمٌ قد سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك في صحيح البخاري أنه قال: (ما من نبيٍ بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر) أي: أوتي معجزةً لو رآها البشر جميعاً لآمنوا، (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)؛ وقال: (لا يبقى بيت شجرٍ ولا مدر إلا دخله هذا الدين)، والشجر أي: البيوت المبنية من الأكواخ والأشجار ونحو ذلك، والمدر: الطوب، أي: لا يبقى بيتٌ من الشجر والطوب إلا دخله هذا الدين، وكذلك أخبر أنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا واقع الآن فالأذان يرفع في جميع أصقاع الأرض، لا توجد مدينةٌ في أنحاء العالم إلا وفيها من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وسيزداد ذلك ويعم، فهذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، والله تعالى بين هذا الوعد في عدد من آيات كتابه، فقد قال تعالى في سياق قصة موسى عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] ، وقال تعالى في ذكر زبور داود: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:39-41].
وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7] .
وقد بين الله سنته الماضية في أحلك الظروف وأقساها على المسلمين، عندما كان يوم الأحزاب، وحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في المدينة، وجاءتهم قريش وأحلافها من جهة الغرب، وغطفان وأحلافها من جهة الشمال، واليهود ومن معهم من جهة الشرق، فأحاطوا المدينة من كل جانب، وأصبح الأعراب الذين حول المدينة يتربصون بهم الدوائر، يريدون الاعتداء على سارحتها، أو على زرعها، ويظنون أن من فيها سيتخطفون في الأرض، ولن تبقى لهم باقية، واشتد الحال بالمسلمين حتى وصل إلى ما بين الله في محكم التنزيل في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:9-11] ، ثم جاء فرج الله عز وجل، وهذا الفرج لم يكن متوقعاً إلا لدى أهل الإيمان والتقوى؛ ولذلك قال الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا[الأحزاب:25-27]، وكل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى وتقديره، وفي ذلك الوقت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (أوتيت مفاتيح الأرض، وأوتيت كنوز كسرى وقيصر) وقال: (لتفتحن كنوز كسرى وقيصر، فتنفق في سبيل الله) فكان المنافقون يقولون: يعدكم محمدٌ أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحدٌ منكم أن يخرج لقضاء حاجته، وفي ذلك الوقت كان المسلمون لا يتجاوزن ألفاً وخمسمائة مقاتل، وهم محاصرون في المدينة، ليس لهم مدد خارجي، وليس لهم أي سلاح ضارب، فلم تمضِ ست سنوات حتى دخلت الجزيرة العربية كلها في دين الله، وخرجت الجيوش الإسلامية فاتحةً إلى العراق والشام، وتوالت الفتوح، وتضاعفت الرقعة، وفتحت كنوز كسرى وقيصر وأنفقت في سبيل الله.
إن هذه السرعة في ذلك الزمان الأول مؤذنة بسرعة النصر في هذا الزمان، فزماننا هذا أسرع، وما يحصل فيه مما ليس متوقعاً أكثر، فقبل سنوات قليلة من كان يتوقع منكم ما حصل اليوم من التطورات في هذا الزمان؟! فمثلاً: التلفون المحمول! من كان يتوقع أننا سنستخدم مثل هذه التقنية عن طريق هذا الجهاز؟! قبل سنواتٍ يسيرة لم يكن أحد يحلم بمثل هذا النوع، لكن ذلك يقع بين الكاف والنون، إذا أراده الله تحقق، ومن هنا لا يُستغرب أن يأتي نصر الله من غير أن نفكر في الوسائل، ومن غير أن نتعب أنفسنا في التخطيط، فسيأتي النصر لا محالة، لكن له شروط لا بد من تحققها، وهذه الشروط يسهل جداً على الأمة الإسلامية أن تحققها، فلا يطلب تحقيقها في جميع الأفراد، بل يطلب تحقيقها في الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وهذه الشروط بينها الله بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ[الحج:41] ، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[النور:55] إذاً: هذه هي الشروط، وهي ميسورةٌ سهلة، وتحقيقها ليس شاقاً، وإذا تحققت لابد أن يأتي النصر الموعود.
ومن مظاهر استمرار هذا الدين، ما ثبت الله به المؤمنين من الثوابت المسلمة التي لا يناقش فيها أحد، مثل قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ[التوبة:52] فالكفار ماذا يطلبون من المسلمين؟ أعداء الله ماذا يريدون ؟ هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: إما أن ينال المسلمون الشهادة في سبيل الله، وإما أن ينالوا النصر وهزيمة الأعداء؟ فهذا مثبتٌ عجيب لقلوب المؤمنين، وهو يقتضي منهم ألا ينهزموا فهم الرابحون على كل حال، قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ[التوبة:52] إما الشهادة في سبيل الله، وهي أحسن، وأبلغ وأكبر من النصر على الأعداء وهو الذي يلي ذلك.
ومن هذه المظاهر: أن الله سبحانه وتعالى يريهم من الآيات في هذا الكون ما يدل على صدق وعوده، وصدق آياته المذكورة في كتابه، كما قال: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[فصلت:53] ، فنحن اليوم نشهد حالات كثيرة من إيمان الكفرة الفجرة، الذين يدخلون في دين الله أفواجاً، ويرجعون إلى هذا الدين طواعيةً من غير إكراه، بعضهم يرجع إليه بسبب اكتشافٍ علميٍ اكتشفه، فوجد أنه موجودٌ لدى المسلمين في كتابهم، أو في سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين يُسلمون بسبب الإعجاز العلمي عددهم كثير، ونجد آخرين يُسلمون بسبب مشاهد ومظاهر رأوها في وقت الحرب مع المسلمين، فقد أسلم كثيرٌ من الجنود الأمريكان عندما رأوا جثث المجاهدين المستشهدين في أفغانستان تمكث الأسابيع ولا تتغير، ليس لهم أية رائحة كريهة، أو تغير في اللون، أو اختلال في الجسم، إنما يعلو محياهم النور، وتظهر الابتسامة، وكذلك أسلم عددٌ كثيرٌ من الجنود الروس، بسبب ما شاهدوا من قبل في وقت الجهاد الأفغاني من النصرة التي نصر الله بها المؤمنين، ومن غرائب ذلك ما أخبروا به اليوم، فقد أخبروا الأمريكان في حربهم في أفغانستان، وقالوا لهم: مادمتم لم تشاهدوا الإبل، فلا بأس عليكم. قالوا: ما هي الإبل ؟ قالوا : كنا في الليل نرى بالرادار إبلاً أو جمالاً تقدم إلى المعسكر، فنراقبها بالرادار والتصوير، فإذا دخلت المعسكر تفجرت، فكانت كالصواريخ أو القنابل!! وقد شاهدت في جريدةٍ أمريكية عن بعض الجنود الأمريكان الذين كانوا مشاركين في تلك الحرب في أفغانستان أنهم شاهدوا في الليل جملاً عملاقاً يتقدم، فذكروا نصيحة الروس، فضربوه بالرصاص؛ فلم يؤثر فيه، كلما ضربوه قطع مسافةً إليهم، حتى وصل إلى المعسكر فتفجر، وهو مشاهد على الشاشات ليس معه أي أحد، وليس محملاً بأي شيء، لكن هذا من مكر الله وكيده.
وكذلك عدد من الذين يحضرون هذه الحروب، فيشاهدون من المجاهدين الصبر والمثابرة في الجهاد في سبيل الله، فيسلمون بسبب ذلك، فأحدهم أسلم في باكستان وقال: إنه لن يخرج من باكستان حتى يحفظ القرآن، وذلك بسبب أنه رأى الطائرات تقصف المجاهدين في خنادقهم، فإذا ولت وفرغت حمولتها، خرج منهم رجل فوضع إصبعه في أذنه وأذن، فما يكتمل الأذان حتى يخرج الناس من الخنادق، ويقيمون الصلاة، ثم يرجعون إلى خنادقهم قبل أن تأتي الطائرات، فهذه من الأمور التي يشاهدها الكفار، فيشهدون بها، وتكون سبب إسلام بعضهم.
وهنالك بعض الآيات الكونية التي لا تتعلق بنصرة الدين، لكنها تتعلق بصحة ما جاء في القرآن، فإسلام عدد كبير من الأطباء بسبب شفاء بعض المرضى الميئوس منهم بسبب شرب زمزم، أو بسبب قراءة القرآن؛ واضحٌ منتشر، وكذلك بعض الأمور العجيبة التي ترونها، وقد تكون أمراً معتاداً لدينا نحن، لكن يجعله الله سبباً لإسلام بعضهم، لقيت شاباً إنجليزياً في (برمنجهام) قد أسلم وحُسن إسلامه، فسألته أسلمت على يد من؟ فقال: أسلمت على يد هرة!! لم يسلم على يد أحدٍ من الدعاة، ولا بسبب شريطٍ ولا بسبب كتاب، إنما أسلم على يد هرة، فسألته عن ذلك، فذكر أنه كان سائقاً لليموزين -أي: تكسي- فاستأجره رجلٌ في وقت المساء. وهو من شرق آسيا لا يدري هل هو من باكستان أو بنغلاديش أو غيرها، فحان وقت صلاة المغرب، فطلب منه أن يتوقف، وأن يترك العداد يشتغل حتى يصلي صلاة المغرب عند مسجد من المساجد، قال: فدخل الرجل يصلي وأنا مرتاح؛ لأنني من الصباح وأنا واقف والعداد يشتغل، فليس علي خسارة! فخرجت من السيارة فإذا هرة جميلة عند باب المسجد، فذهبت لأداعبها، وألعب معها، ففرت مني ودخلت المسجد، فرجعت كئيباً حزيناً، فما وصلت إلى السيارة حتى خرجت مرةً أخرى تنظر إليّ، فرجعت إليها، فدخلت المسجد، ثانيةً .. وثالثة، فعرفت أنها تُحس أن شيئاً ما يعصمها في الداخل، وأنني لا أتجاسر عليها إذا دخلت، فتبعتها قليلاً لأرى ما بالداخل، فنظرت فإذا جميع المصلين في حال الركوع، وهم جميعاً خاشعون لله، نظرت إلى أناس كلهم يدينون لرب العالمين في هيئةٍ واحدة، فكان هذا سبب إسلامه.
وآخر أبوه يهوديٌ متعصبٌ متطرف من أغنياء الإنجليز، وهو طبيب من مشاهير الأطباء في لندن ويعمل معه طبيب ليبي في نفس المستشفى الذي يعمل فيه، فحصل بينهما شجار، فهذا اليهودي قال: ما من شعبٍ من شعوب الدنيا أوسخ ولا أقذر من المسلمين، فالطبيب الليبي قال له: هذا غير صحيح، وإن أقذر شيء في الإنسان لدى المسلمين أطهر من وجهك أنت، أنت تغسل وجهك كم مرة في اليوم؟ قال: مرة في الصباح. قال: المسلمون ينظفون موقع خروج النجاسة، ويغسلونه خمس مرات، في أوقات الصلاة، وذكر له الوضوء، فأنكر هذا، فقال: تعال معي لتشهد ذلك في مسجد من المساجد، فخرج معه، فلما أتيا إلى مسجد لندن في إحدى الصلوات الجهرية -أظن أنها صلاة العشاء- وقف قبل الصلاة عند مكان الوضوء، فإذا الناس مقبلون على الوضوء، يأتي الإفريقي والآسيوي والإنجليزي والعربي المسلم، كلهم يتوضأ بنفس الهيئة، يغسل كل عضو ثلاث مرات، وهم لا يشاهدون هذا الرجل، ثم دخل المسجد وقال له: انتظرني هنا فقد حان وقت الصلاة، وأنت لا يحل لك أن تدخل المسجد، دعني أصلي وأعود إليك، فوقف حول الميضئة والناس مازالوا يأتون فيتوضئون ويدخلون، قال: انتظرت قليلاً فإذا الباب عندما يفتح يخرج إلي منه صوت جميل بنغمة هادئة، فأحببت أن أسمعه عن كثب، فاقتربت إلى الباب، فأدخلت وجهي فقط، فسمعت الإمام يقرأ قراءة هادئة جداً، والناس وراءه في صمت رهيب يستمعون إليه، سمعت ذلك وقتاً ثم خرجت، ولم يشد هذا الأمر انتباهي كثيراً، فأنا كثيراً ما أسمع الأغاني والأناشيد، فهذا أمر طبيعي عندي، فوقفت في المكان الذي تركني فيه صاحبي، فلما قضى الناس الصلاة وسلموا، صاروا يخرجون أفواجاً، وكلما مر عليّ أحد منهم نظر إليّ نظرة مستغرب، وبدأ يقترب مني ويسألني ما شأنك ؟ حتى تجمهر حولي عدد من الناس يقولون: إن وجهك مضيء يُشرق، وكنت أنكر ذلك ولا أظنه صحيحاً، حتى جاء صاحبي، فقال: ماذا في وجهك ؟ قلت: ليس به شيء قال: بلى إن وجهك يضيء كالقمر، قال: فأنكرت ذلك فتقدمت إلى المرآة فنظرت، فإذا فيه بقايا من النور الذي ذكروا، فوجد أنه الجزء الذي دخل منه في المسجد، فقد أصبح مثل فلقة القمر، فكان هذا سبب إسلامه، وهذا الذي حصل لهذا الرجل لا يحصل الكثير من المسلمين ممن يدخل المسجد، لا يحصل لهم هذا النور، لكنها آية خصه الله بها.
ومثل هذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في محلم بن جثامة، الذي قتل رجلاً يشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله عند إسلامه: (اللهم لا تغفر لـمحلم )، فمات فدفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه أخرى فلقطته الأرض، ثم دفنوه ثالثةً فلفظته الأرض، فواروه بالحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الأرض لتواري من هو شر منه)، ولكنها آية، كذلك هذا الرجل الذي ابيض وجهه، كثير من المسلمين ممن هو خير منه لا يحصل له هذا، لكنها آية كانت سبب إسلامه.
ومثل ذلك طبيبٌ أمريكي متخصصٌ في الأمراض الباطنية، جاءته امرأةٌ مغربية مصابة بالسرطان في مراحل متقدمة، وأخبرها أنه ليس لها أي علاج، وأعطاها بعض مسكنات الألم، ونصحها بالخروج من المستشفى؛ لأن بقاءها فيه مُكلف، بل نصحها أن تذهب إلى قريتها أو مكانها حتى تموت، وكان ذلك بأسلوب مهذب، وفهمت منه المرأة اليأس من حياتها، وأنها لا يمكن أن تعيش، فقالت له بكل صراحة: أنا موقنة بأنني سأموت، لكن أخبرني فقط كم تتوقع بقي من عمري؟ قال: حوال شهر.
فذهبت هذه المرأة، وطلبت من زوجها أن يرتحل بها إلى مكة المكرمة، فذهب بها إلى المسجد الحرام، فلم تقبل الخروج منه، وجلست تشرب ماء زمزم وتقرأ القرآن، فلما مضت المدة المسموح بها في التأشيرة، وجدت أن شعرها قد ازداد وقد كانت تشرب الكيماويات التي تزيل الشعر، ووجدت أن صحتها قد تحسنت، وبعد مدة وجدت أنها قد برأت تماماً، ولم تعد تحس بشيء، فرجع بها زوجها إلى نفس الطبيب الأمريكي، فلما شاهدها كاد يغمى عليه من الهول، وأمر بإجراء فحوص عاجلة لها، فوجد أن كل شيء سليم! وهو لا يصدق هذا، سألها عن السبب، فذكرت له ذلك، فكان هذا سبب إسلامه.
وآخر أيضاً كان يعالج الأمراض النفسية، ووجد أن الأصوات من أبلغ المؤثرات، فكان يجمع أشرطة الأغاني والموسيقى وغيرها من مختلف أنواع الشعوب، حتى أصوات الطيور يسجلها، فيسمع المرضى تلك الأشرطة، حتى وقع على شريطٍ من القرآن بتلاوة الشيخ محمد علي المنشاوي من سورة الرعد، فوجد أنه أشد تأثيراً على المرضى من كل الأشرطة، فحاول أن يستعرض ما فيه، فسمع الكلام وإذ بالصوت عادي جداً ليس مثل أصوات المغنيين الجميلة، فعرف أن القضية لا تتعلق بالنغمة والصوت، وإنما تتعلق بمضمون الكلام، وبحث عن تفسير هذه السورة، حتى وصل إلى قول الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[الرعد:28] فقال: هذه النكتة! فكان ذلك سبب إسلامه، ومثل هذا كثيرٌ جداً في أنحاء العالم.
ومن هذه المبشرات التي تقتضي استمرار هذا الدين أن أعداء الدين اليوم معترفون به، وأعتاهم الجيش الأمريكي أكبر مؤسسة لعداء الإسلام وأقواها، ومع ذلك فإن للجيش الأمريكي معهداً لتكوين أئمة مساجد الجيش الأمريكي، وقبل ثلاث سنوات طبع الجيش الأمريكي نسخةً من المصحف، واتخذ قراراً بأنها تعتبر قطعة سلاح، أي: أنها محترمة، لا يحل لأي عسكري إلا أن يحترمها غاية الاحترام مثل احترام السلاح.
ومن هذه المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين: رجوع كثير من أوساط المسلمين إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن نشهد اليوم زيادة أعداد المساجد، وزيادة المصلين فيها، والذين كانوا منكم في هذه المدينة قبل فترة، لا شك أنهم يتذكرون عندما كان عدد المساجد فيها يسيراً، وكان رواد المسجد عدداً يسيراً من الشيوخ وكبار السن، واليوم -ولله الحمد- أعداد المساجد بهذا الحجم، وروادها بهذا العدد، وكثير منهم من الشباب الذين هم في مقتبل العمر، ومثل ذلك في أوساط النساء، وهن اللواتي كثيراً ما يعتلي بهن أصحاب الفجور، ويجعلونه من حبائل الشيطان ومن وسائل الإغواء، فاللواتي يلتزمن، ويهتدين، ويتسترن من النساء، أعدادهن متزايد، وليس ذلك خاصاً بشريحةٍ ولا طبقة، بل هو منتشرٌ في المستويات الراقية من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك في بلاد الكفر، فأعداد المساجد الآن في باريس وحدها تتضاعف في كل عام تقريباً، ما من عام يمر إلا ويزداد العدد بمثله تقريباً، بالإضافة إلى إقبالٍ شديد عليها، فقلما يبنى مسجد إلا ويمتلئ، وبالأخص في أيام الجمع، بل إن كثيراً من الذين فجروا وفسقوا وأوغلوا في أنواع الفجور والعصيان؛ أصبحوا اليوم من الداعين إلى الإسلام، بل وأصبح كثير منهم من الدعاة البارزين المشاهير، وتسمعون اليوم عدداً كبيراً من الخطباء والوعاظ الذي كانوا عصاة، ثم هداهم الله كالشيخ أحمد القطان في الكويت، والشيخ محمد العوضي، والشيخ عادل الكلباني والشيخ محمد بن سعيد القحطاني والشيخ سعيد بن مسفر القحطاني ، والدكتور عمرو خالد المصري الذي كان من بيئةٍ موغلة في الإسراف في أمور الدنيا، ومن أرقى الطبقات الاجتماعية في مصر، وقد تربى بعيداً جداً عن دين الله والالتزام به، وقد أصبح اليوم يهتدي على يديه أعداد كبيرة جداً من الناس، وقد حضر مؤتمراً إسلامياً في باريس، وهو مؤتمر اتحاد المنظمات الإسلامية العاملة في فرنسا، وحضر هذا المؤتمر أكثر من مائة ألف من المسلمين، وكان من أبلغ المحاضرين المؤثرين فيه.
وهكذا عددٌ كبير من الذين يرتادون المساجد اليوم في كل مدينة من مدن العالم، كانوا قد فجروا وبغوا وطغوا ووصلوا إلى ذروة العصيان، ثم هداهم الله، فرجعوا طائعين غير كارهين، وأقبلوا على الدين من جديد، وقد حدثني أحد المهندسين الجزائريين وقد كان من هؤلاء الذين طغوا من قبل، قال: لم أكن أعرف شيئاً اسمه الصلاة، وكنت يوماً من الأيام راجعاً من العمل في وقت صلاة العصر، فرأيت أمام البيت والدي وهو شيخٌ كبي،ر ولا أسلم عليه إلا مرةً في الأسبوع، مع أننا نسكن في بيتٍ واحد!! فقلت: من أين جئت يا أبتي ؟ قال: من المسجد، قلت: ما هو المسجد ؟!، فأخذ بيدي فإذا مسجد قريب من باب دارنا، لكنه في زقاق ضيق ومختفي بطرف البيت، قلت: ماذا تعمل فيه ؟ قال: أصلي أنا والمجموعة التي معي، فإذا هو يصلي مع تسعة كهول كبار السن، قال: فقلت له: إذا مت أنت وهؤلاء الكهول فسيهدم هذا المسجد ولن يتذكره أحد، قال: لا. بل سيصل المصلون إلى باب دارنا هنا، فقال لي المهندس: واسمه محمد حبيب الله البشير : فوالله الذي لا إله غيره، لقد خرجنا من ذلك البيت توسعةً للمسجد، فالبيت أعطوه للمسجد فصار توسعة له.
واليوم شباب الجزائر خير من كهولها، وهذا دليلٌ على أن الصحوة بدأت من جديد؛ ولذلك فإن بعض طلاب العلم الدارسين هنا في موريتانيا من أبناء الجزائر يذكرون أن آباءهم كانوا أعداءهم، يمنعونهم من الصلاة، ويمنعونهم من قراءة القرآن، ويمنعونهم من الأذكار، وإذا وجدوا عندهم أي كتاب مزقوه، ويحاولون أن يكون معاشهم من الخمر وأنواع الفجور، ومع ذلك خرج من هؤلاء طلاب للعلم، مهاجرون بدينهم، يدرسونه -إلى الآن- في المحاضر.
وأذكر شاباً أتانا قبل سنوات هنا في المحضرة من بلاد المغرب، وما زال موجوداً هنا في موريتانيا حسب ما أعتقد، ذكر أنه مات أبوه وترك له خمّارة! فكان يبيع فيها الخمر، ألفى أباه يكتسب بذاك الكسب، ولم تكن له هوايةٌ إلا جمع الدراهم والدنانير، وهو مشتغل بذلك، يقول: حتى أتاني شاب أنيق نظيف، فكان يجلس إليّ ويتحدث إليّ، ثم بدأ يدعوني لزيارة المسجد، فزرت معه مسجداً، ثم دعاني لقراءة الحزب من القرآن، وهو أمرٌ معهود في المغرب، فأهل المسجد جميعاً يأخذون المصاحف ويقرءون حزباً واحداً بنغمة واحدة، قال: ثم بدأت ألتزم بأوقات الصلاة إلا صلاة الفجر، ثم فوجئت أن هذا الشاب الصديق صار يأتيني في وقت الفجر ويوقظني، فأذهب معه إلى المسجد، وبعد فترة ناقشني في قضية العمل في الخمر، وقال: أليس الأولى بك أن تحول هذا المتجر إلى متجر من نوع آخر أكثر ربحاً، وأكثر زواراً ورواداً، وأطيب، قال: أول مرة أسمع أن الخمر كسب خبيث، تفاجأت فترة مما قال، ثم عرفت أنه قد صدقني، وأنه محبٌ لي، فكان هذا سبب هدايته والتزامه.
تاريخ الأمة حافلٌ بالعز بعد الذل، وليس هذا مستغرباً، تعرفون أن التتار لما دخلوا بغداد في عام (654) من الهجرة، وذبحوا الخليفة وسبعمائة ألف معه على شاطئ النهر!! وكانت المرأة من التتار تأتي عدداً من رجال المسلمين فتقول: انتظروني هنا حتى آتي بالسكين أذبحكم بها، فينتظرونها حتى تأتي بالسكين فتذبحهم واحداً بعد الآخر وهم ينظرون؛ بسبب الوهن الذي دب في النفوس، وما هي إلا فترة يسيرة حتى عادت بغداد إلى مكانتها، ورجع إليها المسلمون بكل قوة، وانهزم التتار، ولهذا يقول أحد الشعراء فيها:
بغداد صاحبة الزمان صروفا شتى ولابسة الزمان ظروفا
شابت وعاودها الشباب ولم تزل أماً لأفذاذ الرجال عطوفا
لم تنس عهد بنين قد ثكلتهم وسرى بهم ريح الذناء عصوفا
ونظير هذا كثير، فعندما استقر العُبيديون بالقاهرة، وقتلوا علماء أهل السنة، ذبحوا منهم أكثر من ثلاثمائة عالم، وأرادوا القضاء على السنة بالكلية، حتى زعم زاعمهم أنه لن تقوم للسنة قائمة بعد اليوم في مصر، ولم تمض سنوات قليلة حتى ذهب الله بهم ورجعت إلى السُنة مكانتها وقوتها، جاء صلاح الدين الأيوبي الذي كان من خدمهم فأصبح قائداً لأهل السنة، وأصبح على تلك المكانة، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ويقوم ثلث الليل دائماً، وكان محدثاً، فاجتمع حوله يوماً عدد من طلاب الحديث، فسألوه أن يحدثهم بحديث مسلسل بالابتسامة، وهو حديث مشتهر على ألسنة المحدثين، فحدثهم به ولم يبتسم، فقالوا: لو سمح سيدنا بالابتسامة حتى يتسلسل لنا الحديث، فقال: إني لأستحي من الله أن أبتسم وبيت المقدس بيد الصليبيين، ثم غزا الصليبيين حتى أخرجهم من بيت المقدس وحرره منهم، وكذلك ما حصل للأتراك المسلمين عندما غزوا مدينة هرقل وهي القسطنطينية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتح عليكم القسطنطينية مدينة هرقل ، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشه) ، خرج محمد الفاتح لحصارها، وهو يعلم أن ملوك المسلمين وأمراءهم من قديم الزمان كانوا يغزونها من أجل هذا الوعد، ويرجون أن يكونوا هم الموعودين بهذا الوعد: (نعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشه)، فقد غزاها يزيد بن معاوية ومعه أبو أيوب الأنصاري ، وغزاها عدد كبير من قادة المسلمين فلم تفتح، فغزاها هو ففتحها الله عليه، فلما فُتحت ودخل عزيزاً منصوراً كنيسة (أياصوفيا) وهي الجامع الكبير باسطنبول الآن، واجتمع المسلمون للصلاة قال: هل أحد في الجيش منذ أن بلغ لم تفته تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في الجماعة ؟! قالوا: لا. قال: إنها مسألة كنت أحتسبها عند ربي، ولم يكن يطلع عليها أحد، ولكني اضطررت لأن أبينها اليوم، فما فاتتني تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في الجماعة منذ بلغت إلى وقتي هذا، فتقدم فصلى بالناس.
ومن هذه المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين: أن الشيوعية الحمراء التي تمسخ الشعوب وتهجرها، وتعرفون ما حصل فيها من قبل من الاستبداد والشدة، وتعرفون أن شعب الشيشان قد تعرض من قبل للتهجير والإبادة، وأُخرج من بلاده كاملاً، شعب بكامله يُهجر من بلاده، وكذلك الشعوب المجاورة فإنها خضعت تحت سلطان الشيوعية سبعين سنة، وهاهم اليوم تخرج منهم النماذج الفذة المدافعة عن الإسلام، مثل القائد جوهر دوداييف رحمه الله، والقائد شامل باساييف وغير هؤلاء من المجاهدين في سبيل الله، وأذكر قبل سقوط الشيوعية أننا كنا في زيارة هنالك، فلقينا امرأة روسية مسلمة كبيرة السن، فأخبرتنا أنها لو وجدت من يريها المصحف لأعطته كل مصوغاتها ومقتنياتها، مقابل رؤية المصحف فقط!! تقول: أتمنى أن أرى المصحف، ولا تعرف كم جزء هو، فهممت أن أعطيها مصحفاً، فنصحني أصحابي وقالوا: لا تفعل، فإنك لو فعلت لماتت من حينها فرحاً به!! وكان الوقت إذ ذاك في شدته وقسوته، وكان الشباب يدرسون أحكام الطهارة والصلاة والعبادات تحت الأرض في الأقبية، وهم الذين خرجوا اليوم يقودون المسلمين في الجمهوريات الإسلامية كلها، أولئك الذين كانوا يتعلمون الأحكام في ظل سلطان الشيوعية الذي يضرب بيدٍ من حديد، وأذكر أن شباباً من طاجكستان أتوني وهم يريدون الدراسة، فوجدت أن كل واحدٍ منهم يلبس ثياباً قد جعل فيها مخابئ للكتب، وكانوا يشترون نسخاً من الكتب الصغيرة جداً -المضغوطة- يضعونها داخل ملابسهم، بحيث لا يطلع عليها أحد بوجه من الوجوه، ويخرجونها بصعوبة من داخل ملابسهم، ثم يردونها بعد نهاية الدرس.
كل هذا دليلٌ على أن هذا الدين عظيم، وأنه لن يتراجع أبداً ولن ينهزم، وأن البلايا والمحن التي تصيب هذه الأمة إنما هي معالم على طريق الحق، ونكبات أصابت من هو خير منا، وسيستمر الأمر خيراً مما كان، فلابد أن يبقى في هذه الأمة من يجاهد في سبيل الله ويعلي كلمة الله وينصر الحق، والآثار واضحة شاهدةٌ بهذا، لا ينكرها بوجه من الوجوه إلا مكابر.
أخبرني رجلٌ من الفلسطينيين: أنه لقي حبراً من أحبار اليهود في فلسطين، فقال له: ماذا تعلم عن المعارك القادمة؟ فقال: ما شأنك وشأنها؟ قال: نسمع أن اليهود سيهزمون في فلسطين، وأن دولتهم ستسقط؟ قال: نعم، ذلك واقع، لكن لستم أنتم أصحاب ذلك، قال: وما يدريك؟ قال: أصحاب ذلك من يكون عددهم في صلاة الفجر في المساجد كعددهم في الجمعة! إذا وصل العدد الذي يشهد صلاة الفجر في الجماعة قدر العدد الذي يشهد صلاة الجمعة فسيحصل ذلك، وهذا الذي قاله هذا اليهودي قد بدأت اليوم ملامحه، فالرجل الذي حدثني بهذا قد توفي رحمه الله، وهو شيخٌ من شيوخ القدس اسمه بيوض التميمي من ذرية تميم الداري رضي الله عنه، وكان عضواً في المجمع الفقهي، واليوم يخبرني عددٌ من الذين يأتون من فلسطين بإقبالٍ عجيبٍ على الله سبحانه وتعالى، وبالأخص في الشباب والنساء، ويذكرون من التزام الناس ما لا يتصوره أحد في ظل القمع الصهيوني والإهانات والأذى.
سئل عبد الفتاح مورو عن النهضة في تونس، وعن الصحوة الإسلامية فيها ما سببها، مع أن تونس من قبل ركز عليها الفرنسيون من أجل مسخها حضارياً بالكلية، وما لم يقوموا به قام به ( بورقيبة )؟ فقال: كانت بداية الصحوة في تونس قطرةً من دم سيد قطب ، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لما قتل سيد قطب وصل خبر قتله إلى المسلمين في تونس، والشباب غارقون في أمرهم، لا يعرفون شيئاً عن واقع الأمة، ولا عن الدعوة، ولا عن الجهاد في سبيل الله، فحينئذٍ فكروا في هذا الأمر، فبدأت الصحوة في تونس بثلاثة أشخاص، كانوا يتدارسون مختصر الأخضري في المسجد، وبهؤلاء الثلاثة بدأت هذه الصحوة المنتشرة التي دخل الناس بسببها في دين الله أفواجاً، وهذا من العجائب الغريبة، ومثله ما حصل قديماً في ليبيا، عندما ظن الإيطاليون الفاشيون أنهم قضوا على الروح الجهادية في ليبيا بالكلية، فوجدوا أن المجاهدين يزداد عددهم، وفي كل فترة يزداد العدد، والحصار والقتل والتشريد مستمر، وكل ذلك يزيدهم عدداً، فقال أحدهم كلمته المشهورة: (إن المجاهدين المسلمين كشجرة الصنوبر، كلما قطع منها غصن نبت غصنان) فالعدد يزداد ولا يزيده القتل ولا التشريد ولا السجون إلا زيادةً وتقدماً. ومن كان يظن أن تركيا التي مسخها مصطفى كمال أتاتورك ، وحرم فيها الأذان بالعربية، وحرم فيها الحجاب، ستعود إلى حالها اليوم؟! إن الذي يزور تركيا الآن وقد زارها من قبل عشر سنين أو قبل خمسة عشر سنة يرى العجب خلال هذه الفترة، مدرسةٌ واحدة في تركيا يحفظ فيها أعداد هائلة من الشباب القرآن حفظاً عجيباً جداً ما رأيت مثله، شاب يحفظ القرآن، يحفظ الكلمة والتي قبلها والتي قبلها حتى يكمل القرآن إلى الخلف، يحفظه إلى الوراء كما يحفظه إلى الأمام، ويحفظه بأرقام الآيات وأرقام السور، إذا قلت له: هات الآية رقم كذا من السورة الفلانية، فإنه مباشرةً ينطلق، هذه المدرسة قائمة إلى الآن، ونظيرها كثير جداً من المدارس العلمية والقرآنية، وإقبال الناس على الحجاب والالتزام شيء كثير جداً، فكل هذا يدلنا على أن المستقبل لهذا الدين، وأن كل مضايقةٍ له لا يمكن أن تؤثر فيه، ولا يمكن أن تزيده إلا إقبالاً، وتعلمون أن الصحوة في هذا البلد استفادت كثيراً مما حصل من قمع الصحوة في الجزائر، لما قُمع الناس في الجزائر تحمس الناس هنا للدين، فرجع كثير من الشباب الموريتانيين للالتزام بالدين حين سمعوا الأخبار، وهكذا كلما حصلت واقعةٌ، كما إذا حصلت مشكلة في فلسطين فأوذي المسلمون هناك، أو في العراق أو في أي مكان؛ ينتشر الإسلام في أطرافٍ أخرى، وقد مثّل له أحد الناس باليبس من الأرض، فالأرض اليابس منها قدر الربع، والبقية كلها بحار، لكن لو قُدر أن جزيرة من الجزائر خسف بها فاختفت، فلا بد أن يظهر من اليبس قدرها أيضاً، إذا اختفت قارةٌ من القارات، فستظهر قارة أخرى؛ لأن القضية مبنية على هذا التوازن، فلهذا إذا حصلت المضايقة على الإسلام في جانب، ظهر الانفتاح والزيادة في جانب آخر، وما هذا إلا نظير قول الشاعر:
كأن عيني وقلبي بعدكم طرفا غُصنٍ من البانة الخضراء فينانِ
يسيل جانبه ماءً إذا اشتعلت ناراً مؤججةً في الجانب الثاني
أو كما قال أبو بكر بن جريج رحمه الله:
قلبٌ تقطع فاستحال نجيعا فجرى فسال مع الدموع دموعا
رُدت إلى أحشائه زفراته فقبضن منه جوانحاً وضلوعا
عجباً لنارٍ أظلمت في صدره فاستنبطت من جفنه ينبوعا
لهبٌ يكون إذا توقد في الحشا أيضاً ويظهر في الجفون ربيعا
فكلما اشتدت المضايقة في جانب من الجوانب يتسع الحال في جانبٍ آخر، وقد تعهد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ألا يسلط على هذه الأمة عدواً من سوى أنفسها، فيستأصل بيضتها، وإذا سُلط عدو على جانب من الجوانب؛ فسيحصل رخاءٌ في المقابل في جانب آخر، كلما حصلت شدة في مكان، فاعلموا أن الاتساع واقعٌ في مكان آخر، وهذا مبشر عجيب؛ والشدة لما وقعت على المؤمنين بمكة جاء الفرج بالهجرة، فالفرج لم يأت في البداية في دارهم الأصلية مكة، لكنه جاء في مكان آخر، وقد كانوا يبحثون عن مكانٍ مطمئنٍ، فهاجروا إلى الحبشة، فلم يكن المطمأن هنالك، بل كان بالأرض التي هي بين الحرتين، وقد أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أرضٌ ذات حرارٍ ونخلٍ بين جبلين، فظنها الأحساء وهجر فكانت المدينة، إن وعد الله سبحانه وتعالى حق، ولا بد أن يتحقق، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الناصرين لدينه، وأن يعزنا بالدين، وأن يعز بنا الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر