إسلام ويب

سلسلة الأسماء والصفات [10]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله تعالى محيط بخلقه علماً وقهراً، وحيثما توجهوا إليه أقبل عليهم، فلذلك ينبغي أن يراقب المرء ربه، ويمتثل شرعه وأمره.

    1.   

    ذكر صفات الإحاطة والصورة والوجه

    إثبات إحاطة الله بخلقه

    يقول الشيخ:

    [أحاط بالناس وأينما يول مستقبل فثم وجه الله جل]

    هذه صفة أخرى وهي صفة الإحاطة، وهذه الصفة عبارة عن صفتين:

    الصفة الأولى: صفة الإحاطة بمعنى كمال العلم والإدراك، وهذه هي معنى المعية العامة.

    والصفة الثانية: بمعنى القهر والجبروت، وهذه الإحاطة التي بمعنى القهر تنقسم إلى قسمين: ناجز ومتأخر.

    فالناجز منها: هو أخذ الله الوبيل الذي يأخذ به المكذبين، فأخذه الوبيل الذي يأخذهم به هو من إحاطته بمعنى قهره وجبروته، فهو قهر ناجز.

    وأما المتأخر فهو أخذهم يوم القيامة.

    ففي قوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:43-45] هذا كله من الناجز، ثم قال: بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[القمر:46] فهذا هو المتأخر، والناجز مقتضٍ للمتأخر، فإذا جاء أخذه الشديد فأهلك قوماً في الدنيا بكفرهم، فذلك متضمن لعذابهم يوم القيامة؛ لأن من مات على الكفر فلابد أن يعذب يوم القيامة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ[الإسراء:60] والإحاطة في هذه الآية المقصود بها: القهر الناجز؛ لأن ذلك نزل في أصحاب بدر فقد أحاط الله بهم فساقهم إلى حتوفهم، وقدمهم إلى تعجيل العذاب لهم نسأل الله السلامة والعافية، ولهذا أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أماكن مصارعهم، فجعل يضع يده في مكان ويقول: (هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان).

    فهذا هو تجلي الإحاطة الناجزة بالعباد: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)، لكن الناس هنا لها وجهان: فإما أن يكون المقصود بها الناس عموماً، أي جميع الخلائق من البشر، فهذا إحاطة قهر، فهو سبحانه وتعالى غالب على أمر الجميع، وإما أن يكون المقصود بالناس المهلكين منهم بالخصوص، فتكون الآية مثلاً نازلة في أصحاب بدر وتختص بأهل القليب، ويكون هذا من العام المراد به الخصوص.

    والعام ثلاثة أقسام: عام باقٍ على عمومه، وعام مخصوص، وعام مراد به الخصوص، والفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص: أن العام المخصوص يأتي أولاً عاماً ثم يخصص بعد ذلك، والعام المراد به الخصوص ينزل أول ما ينزل على أن معناه الخصوص، ولفظ (الناس) يأتي في القرآن على الوجهين، فمن العام الباقي على عمومه قول الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ[الناس:1-3]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ[البقرة:21] ، قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ[النساء:1] .

    ومن العام المراد به الخصوص قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ[البقرة:199] ، وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ[آل عمران:173] ، هذا كله من العام المراد به الخصوص.

    إثبات صفة الإقبال والوجه لله جل وعلا

    قوله: (وأينما يول مستقبل فثم وجه الله جل) هذا مأخوذ من آية البقرة، وهو متضمن لصفتين من صفات الله سبحانه وتعالى:

    فالصفة الأولى: صفة الإقبال، فالله سبحانه وتعالى يقبل على عبده إذا أطاعه بالعبادة.

    والصفة الثانية: إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ[البقرة:115] ، فهاتان الجهتان مملوكتان لله سبحانه وتعالى، فليس التوجه إلى إحداهما تعظيماً لتلك الجهة، بل هي مملوكة لله سبحانه وتعالى، وإنما يتوجه الإنسان حيث أمر فقط، فإذا أمره الله بالتوجه إلى أي جهة توجه إليها.

    والمشرق معناه مكان شروق الشمس، والمغرب معناه مكان غروبها، وقد جاء في القرآن لفظ المشرق والمغرب بالإفراد كما هنا: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، وجاء بالتثنية كما في قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ[الرحمن:17]، وجاء بالجمع كما في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ[المعارج:40].

    ومعنى الإفراد: الجنس أي: جنس المشرق، فيشمل جهات الشروق كلها.

    وجنس المغرب في جهة الغروب فيشمل أماكن الغروب كلها، والمقصود بالمشرقين والمغربين: مشرق الشتاء ومشرق الصيف، ومغرب الشتاء ومغرب الصيف؛ لأنهما الطرفان، وخطوط العرض ثلاثة؛ ولذلك تسمى المشارق والمغارب، فالمشارق باعتبار الخطوط الثلاثة: مدار السرطان وخط الاستواء ومدار الجدي، وعليها أيضاً المغارب فهي ثلاثة، ولذلك قال: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) ومع هذا ذكر الطرفين فقط في قوله: (رب المشرقين ورب المغربين)، فالمشرقان المقصود بهما الطرفان، وجعل ما بينهما وسطاً فهو مندرج فيهما، والوسط إذا اندرج أمكن إسقاطه لذكر الحدين، وكذلك يقال في المغربين.

    وقوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة:115] ، معناها: إلى أي اتجاه أقبلتم (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فإن أطعتم فإن الله سبحانه وتعالى يقبل على من أطاعه، وإن كان توليكم معصية فإن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لمن عصاه، ومن هنا لا يمكن أن يعجزه أحد من خلقه، بل لا يمكن أن يتصرف أي تصرف إلا وهو محيط به، هذا معناها من الناحية العقدية.

    لكن اختلف في معناها من الناحية الفقهية، فقالت طائفة من أهل العلم: إنما نزلت هذه الآية في القبلة أول ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فقد كان بمكة يصلي قبل الركن اليماني فيستقبل البيت ويستقبل الشام معاً، فلما اتجه إلى المدينة اختلفا عليه، فكان الشام قبل الشمال والبيت جهة الجنوب، فتحير بينهما فأنزل الله تعالى هذه الآية فكان في ذاك تخييراً للقبلة، ثم نسخ هذا بتعيين البيت في قوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[البقرة:144].

    وقالت طائفة أخرى: بل المقصود بها: قبلة السائر الراكب في النافلة فإنه يصلي إلى أي اتجاه كان، وعلى هذا تكون محكمة غير منسوخة، والإحكام أولى من النسخ، وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة بناء على هذا الخلاف في تفسيرها.

    ووجه الله يطلق على ثلاثة معان:

    فالإطلاق الأول: بمعنى ذات الله سبحانه وتعالى، أي نفس الله سبحانه وتعالى، فيشمل نفسه وجميع صفاته، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[الرحمن:26-27] والمقصود: بقاء ذاته سبحانه وتعالى:

    والإطلاق الثاني: بمعنى السبيل فوجه الله بمعنى سبيله، والعرب يقولون: جاء فلان من هذا الوجه أو خرج في هذا الوجه أي: في هذا السبيل، وعلى هذا قولك: تصدق فلان لوجه الله، أي: في سبيل الله، وما أخرج لوجه الله معناه: في سبيل الله.

    والإطلاق الثالث: بمعنى الصفة المخصوصة وهي المقصودة هنا، فهو إثبات صفة الوجه، وهي من الصفات التي سبق الكلام فيها والإشكال الذي جاء فيها، وذكرنا الحل ذكره ابن القيم والحل الذي ذكره ابن حجر ، فالوجه صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى يجب الإيمان بها، ويجب مع ذلك الإيمان بأن وجهه لا يشبه وجوه المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

    وتنطبق على هذه الصفة القاعدتان السابقتان: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، وأن القول في الصفات كالقول في الذات.

    الكلام على الصورة في حق الله عز وجل

    أما بالنسبة للصورة فلم يذكرها الشيخ هنا، وقد جاء فيها عدد من الأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) وهذا الحديث الراجح فيه أنه ليس من أحاديث الصفات أصلاً، وأن الضمير في قوله: (فإن الله خلق آدم على صورته) يعود على الأخ، أي: صورة أخيك هذا، فإذا كنت تحترم أباك آدم فاعلم أن وجه أخيك هذا قد خلق على صورة وجه آدم، فعظمه واحترمه أن تلطمه وتضربه على وجهه؛ ولهذا فاحترام الوجه مطلوب حتى في حق الكفرة، فإن الله سبحانه وتعالى عندما علم الملائكة القتال، قال: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[الأنفال:12] وهذا يقتضي اتقاء الوجه في الضرب.

    والأحاديث الأخرى فيها التصريح بالصورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) وفي رواية: (على صورة الرحمن) فاختلف العلماء في معناه:

    فقالت طائفة: المقصود بها الصورة التي يرتضيها الله سبحانه وتعالى، فإن أكمل صورة عند الله سبحانه وتعالى هي الصورة التي خلق عليها آدم، وعلى هذا لا تكون الصورة صفة من صفات الله وإنما المقصود بها الاختيار، فصورة الرحمن معناها: الصورة التي هي أفضل الصور عنده وهي التي خلق عليها آدم.

    القول الثاني: أن الصورة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ تكون من الصفات المشكلات التي يجب الإيمان بها ولا يحل البحث في كيفيتها، وليس معناها أن آدم بينه وبين الله تعالى تشابه، بل المقصود أنه خلق سميعاً بصيراً متكلماً، وهذه صفة الله سبحانه وتعالى فإنه سميع بصير متكلم، وآدم كذلك.

    وأما الصورة التي جاءت في حديث يوم القيامة: (أن الله سبحانه وتعالى يتجلى لعباده المؤمنين في صورة ينكرونها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: لست ربنا، ثم يتجلى لهم في أحسن صورة فيعرفونه فيكشف عن ساقه فيخرون له سجداً)، فالصورة حينئذٍ المقصود بها ما يريهم الله سبحانه وتعالى.

    فالصورة الأولى ليست ذات الله سبحانه وتعالى قطعاً؛ لأنهم لم يعرفوه بها.

    والصورة الثانية كذلك؛ لأنها بدل عن الأولى، فليس المقصود أن ذلك نظر إلى ذاته سبحانه وتعالى، وأن ذاته يجوز إطلاق الصورة عليها بدلالة هذا الحديث؛ لأن هذا الحديث فيه أنهم يرونه في صورته فيقولون: لست ربنا فيأتيهم في صورة أخرى، فهذا دليل على أنه ليس المقصود بذاته؛ لأنه لا تعروه الحوادث والآفات، ولا يمكن أن يحصل عليه تغير؛ لأن التغير منافٍ للخلود، ولكن المقصود ما يتجلى لهم.

    1.   

    الكلام على حجاب الله تعالى

    والحجاب ليس على الله سبحانه وتعالى فهو غير محجوب ولا يمكن أن يحجب أصلاً، بل الحجاب على الناس؛ ولهذا قال: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15] ، فالناس هم المحجوبون، فيكشف الحجاب عن الناس فيتجلى لهم ببعض صفاته أو بالكمال الذي فيه فيعرفونه.

    وهذا الحجاب أنواع: منه حجاب النور، وهذا في حق المقربين والمصطفين، والحجاب الآخر: هو الحجاب الكوني في حق من سواهم؛ ولهذا قال: (لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض وما فيهما) السبحات: هي أنوار وجهه، وقال: (رداؤه الكبرياء) وهذا معناه: اتصافه بصفة الكبرياء سبحانه وتعالى وتجليه بها، وحظره بأن يتصف بها من سواه، وهذا تشريف لصفة الكبرياء؛ لأن الله جعلها رداء نفسه فهي صفة عظيمة جداً محظورة على الخلائق، فهي صفة كمال لله، ولو حاول البشر الاتصاف بها كانت صفة نقص فيهم، وهي مذمومة ولا يجوز أن يتصفوا بها أصلاً.

    فإذا قيل: كل صفة كمال اتصف بها المخلوق فالله سبحانه وتعالى أولى بالاتصاف بها، وأن كل صفة نقص هي عيب في المخلوق فالله سبحانه وتعالى منزه عنها من باب الأولى.

    فما يقال في صفة الكبرياء؟!

    فالجواب عن هذا: أن صفة الكبرياء بالنسبة للمخلوق في أصل التصور البشري هي صفة كمال وليست صفة نقص، ولهذا يتصف بها الملوك والجبابرة والكبراء، ولكنها صفة نقص شرعاً، فلو لم ينزل الشرع بتحريمها لكان الناس يتنافسون فيها؛ لأنها من المظاهر التي تميل إليها الطباع، وأيضاً فإن هذه القاعدة محلها فيما لم ترد فيه النصوص، أما ما وردت فيه النصوص فالله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه.

    1.   

    الأسئلة

    لا يفهم من قول الله: (قبل أن تنفد كلمات ربي) أن كلمات الله تنفد

    السؤال: قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ[لقمان:27] ، وفي قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي[الكهف:109] .

    قد يفهم من ظاهر الآية أن كلمات الله تنفد بدليل قوله: (قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي)، فما الجواب عن ذلك؟

    الجواب: لا يقصد بهذا أنها تنفد أبداً، بل هذا من الغايات التي لا حصر لها، فلن ينفد البحر أصلاً بالكتابة، فإذا كان الشيء يعلق على مستحيل فإنه مستحيل، فنفاد كلمات الله علق على أمر مستحيل، فالبحر لن ينفد وتنفد سبعة أبحر تمده من بعده، فالذي علق عليه أبلغ منه استحالة وأشد بعداً؛ ولهذا فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا)، لا يقتضي إثبات الملل لله سبحانه وتعالى، بل يقتضي نفي الملل؛ لأن معناه: لا يمل وأنتم تملون معناه: حين تملون، و(حتى) هنا بمعنى (حين) وهذا معروف في لغة العرب ومنه قول الشنفرى :

    صليت مني هذيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا

    معناه: لا يمل الشر حين يملونه.

    البحث في كيفيات صفات الملائكة إذا تعلقت به فائدة لا حرج فيه

    السؤال: النهي عن البحث في الكيفيات، هل يتعلق أيضاً بالملائكة كتكليم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، هل يجوز البحث في كيفيته أم لا؟

    الجواب: المخلوق مطلقاً البحث في كيفيته إذا كان مما يتعلق به فائدة للإنسان لا حرج فيه شرعاً؛ فلذلك البحث في كلام جبريل وعن نزول الوحي لا حرج فيه، ولهذا سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفيته، ولو كان مما لا ينبغي السؤال عن كيفيته لما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل على السؤال عنه، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم الكيفية، فذكر أنه أحياناً يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس، فلا يرى ملكاً ولا يستطيع أن يستوعب الكلام في ذلك الوقت، بل يسمع مثل صوت السلسلة الثقيلة على الحجر الصلب؛ ولهذا فإن من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده ونزل عليه الوحي على هذه الصورة يسمعون مثل أزيز النحل، كما كان عمر يسمعه، فيعرف أن هذا هو الوحي قد نزل ذاك الوقت، وهذا مما يمكن تفاوت الناس فيه بتفاوت قوتهم الروحانية، فمن كان ضعيف الروحانية لا يمكن أن يحس بشيء من هذا أصلاً، ومن كانت روحانيته قوية فإنه يمكن أن يسمع مثل أزيز النحل كما حصل لـعمر، ومن قوى الله روحانيته بأكثر من هذا كرسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه مثل صلصلة الجرس، وتفاوت الناس في السماع إنما هو بتفاوت قوة الروحانية؛ لأن الملائكة من عالم الأرواح.

    وهذه الهيئة بين فيها الرسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليست في كل القرآن، بل يأتيه الوحي أيضاً عن طريق الملك فيكلمه فيعي عنه ما يقول، ولم يرد أنه ألقى إليه كلاماً من القرآن بحضرة أحد، بل كان يأتيه بصورة الملك فيكلمه ويسمع الناس التناجي بينهما، سولكن لا يسمعون شيئاً مما قال الملك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه به خشية أن ينساه، حتى أنزل الله عليه هذه الآية: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[القيامة:16-19]، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرق وقت نزول الوحي بصورة الملك، فإذا انطلق الملك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان، فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأه جبريل.

    مصطلح الروحانية مستعمل عند المتقدمين

    السؤال: مصطلح الروحانية، هل هو سائغ لغة؟ وهل يستعمله المتقدمون؟

    الجواب: نعم؛ لأن الروحانية اسم مصدر صناعي من الروح، والمقصود به قوة الروح وملكاتها المختلفة، ويستعمله المتقدمون كثيراً، وبالأخص الذي يتكلمون في هذا الفن.

    كتابة كلمات الله الكونية غير محدثة بل هي أزلية

    السؤال: هنا يرد إشكال فيما يتعلق بكتابة الله سبحانه وتعالى للكلمات الكونية، مع أنها غير محصورة؟

    الجواب: أن كتابة الله لها في الأزل كتابة غير محدثة، والكتابة المحدثة هي المنتهية، أما القديم فإنه لا يقتضي فناءً ولا انحصاراً، فتلك الكتابة ليست محدثة أصلاً حتى يقال: إنه قد كتب وحصر، بل تلك الكتابة أزلية قبل الكون كله، فلا تقتضي انحصاراً ولا نفاداً.

    وأيضاً: فإن كتابته لا تقتضي أن الله قد تكلم به من قبل في ذلك الوقت، بل المقصود أنه كتب كل ما أراد أن يتكلم به في المستقبل، ثم يتكلم في أي وقت بما شاء أن يقع فيه.

    نزول بعض الملائكة غير جبريل ببعض الآيات إنما هو للتشييع فقط

    السؤال: ورد أن بعض الآيات من القرآن نزل بها غير جبريل من الملائكة، مع أن الله قد استأمن جبريل على الوحي، فكيف يكون الجمع؟

    الجواب: أن ما ورد في بعض الآيات من نزول غير جبريل من الملائكة بها فذلك إنما يكون تشييعاً فقط، وجبريل قد نزل ونزل معه غيره كما ورد في سورة الأنعام، وهي أطول سورة مكية نزلت دفعة واحدة على قول، وكانت السور المكية قصاراً، فجاءت سورة الأنعام طويلة فنزل معها عدد كبير من الملائكة، وقد ورد أن خواتم سورة البقرة نزل بها رضوان خازن الجنة، لكن ذلك لا يقتضي انفراده بالنزول، والقرآن كله نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو جاء معه ملك آخر بالبشارة فلا يخطر بذلك أن جبريل غير مؤتمن عليه، بل الملك الآخر للتشييع فقط ولتعظيم الشيء الذي نزل معه، والآية صريحة في أن كل القرآن نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فنزول رضوان مع خواتيم سورة البقرة إنما كان لتشييعها؛ وذلك لأنه لا يقرأ منها جملة إلا أوتيها، فقد كانت تشريفاً عظيماً.

    تكليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج نوع من أنواع الوحي

    السؤال: عن تكليم الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؟

    الجواب: أن هذا نوع من أنواع الوحي، وقد أوصل العلماء أنواع الوحي إلى اثني عشر نوعاً باختلاف الوارد فيه، فمنها الثلاثة المذكورة في سورة الشورى:

    فالنوع الأول: هو المذكور في قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً[الشورى:51] ، والمقصود بالوحي رؤيا النوم، معناه: أن يرى ذلك في النوم، ومنامات الأنبياء وحي كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والنوع الثاني: هو المذكور في قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الشورى:51] ، وهذا مثل تكليمه لموسى، وتكليمه لمحمد صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج كلمه الله من وراء حجاب وافترض عليه الصلوات الخمس، وشرفه بغير ذلك من أنواع التكليف، وهذه ميزة للنبي صلى الله عليه وسلم وتفضل عليه، فموسى كلم في الأرض بسيناء، والرسول صلى الله عليه وسلم كلم فوق سبع سماوات، وكلاهما كليم الله.

    النوع الثالث: هو المذكور في قوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ[الشورى:51] ، وفي القراءة الأخرى: (أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)، ومعنى ذلك في قراءة الرفع: أن هذا نوع مستقل، فالنوعان السابقان بينهما ما يجمعهما، وهذا النوع مستقل؛ لأنه بواسطة الملك، وأما قراءة النصب فتجعل هذا نوعاً آخر من حيث أن أنواعه كلها مترابطة.

    والفرق هنا بين الرفع والنصب دقيق: فقراءة الرفع: (أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) المقصود بها: أن الوحي سيكون على نوعين فقط: النوع الأول بالمباشرة والنوع الثاني بالواسطة -أي: بواسطة الملك- وإذا نصبت فقلت: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) فالمقصود بذلك حصر بالأنواع المختلفة وترابطها جميعاً، وغير هذا من الأنواع مثلما جاء في حديث الحارث بن هشام وغيره.

    فإذاً: أنواع الوحي متعددة، وصوره وطرائقه مختلفة، وجبريل إذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بأي صورة كان، ولم يلتبس عليه إلا مرة واحدة حين سأله عن الدين ولم يعرفه فيها حتى انطلق وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بأنه لم يعرفه، وقال: (ردوا علي الأعرابي)وفي رواية: (ردوا علي الرسول، فطلبوه ولم يجدوا شيئاً، فقال: إنه لجبريل، وإنه لم يأتني قط بصورة إلا عرفته إلا ما كان من هذه المرة).

    الخلائق التي كلمها الله عز وجل

    السؤال: ما هي الخلائق التي كلمها الله عز وجل؟

    الجواب: أما الخلائق التي كلمها الله سبحانه وتعالى: فمنها ما جاء في القرآن من تكليم السماوات والأرض، ومن الوحي إلى النحل، وجاء في الحديث بعض التكليم لبعض الأشياء بعينها مثل القرية في قوله: (وأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي)، وتكليم الجبال كذلك، لكن كل هذا من الكلمات الكونية، فليس في هذا التكليم تشريف بخصوصه، وإنما يكون الاجتباء بالكلمات التشريعية.

    وبالنسبة لتكليمه لآدم عليه السلام ولجميع الرسل فهو في اليقظة: وحياً من وراء حجاب، وفي المنام مباشرة، ومنه ما كان بواسطة الملك.

    معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في المطر: (إنه حديث عهد بربه)

    السؤال: في حديث نزول المطر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فيه: (إنه حديث عهد بربه)فما المقصود بذلك، مع أنه إنما ينزل من مكان قريب؟

    الجواب: أن المقصود به أن الله سبحانه وتعالى نزله من مكان لعبادته لا يعصى فيه إلى هذه الأرض التي هي مكان المعصية، فكان هذا الماء مباركاً، والله سبحانه وتعالى باركه في قوله: وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً[ق:9] وليس المقصود أن المطر منزل من ذات الله سبحانه وتعالى، بل المقصود من خزائن رزقه وهي في السماء كما في قوله: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ[الذاريات:22] والسماء المقصود بها العلو مطلقاً فكل ما علاك فهو سماؤك، وقد جاء هذا في قول الشاعر:

    إذا ما استحمت أرضه من سمائه جرى وهو مودوع وواعد مصدق

    فالشاعر يصف فرساً يجري فيقول: (إذا ما استحمت أرضه من سمائه) أي: انصبغ بطنه من عرق ظهره، فسمى البطن أرضاً وسمى الظهر سماء، (جرى وهو مودوع) أي: متروك دون أن يحرك ودون أن يهمز، (وواعد مصدق) معناه: ما وعد به من السبق على غيره من الخيول لابد أن يصدق فيه.

    كلام الله لإبليس كان من الوحي

    السؤال: ما هو تكليم الله لإبليس؟

    الجواب: أما بالنسبة لتكليم الله تعالى لإبليس عليه لعنة الله فيما جرى بينهما، فيبدو أنه أيضاً كان من الوحي، وأنه ليس بالمباشرة وإنما عن طريق الملك، فقد كان إبليس يدخل في عموم خطاب الملائكة، فحين أمر الملائكة بالسجود لآدم كان هو مأموراً معهم، ولكنه امتنع فكان سؤاله لربه وجوابه له وتعهده له بالبقاء.

    وكذلك الكلام مع فرعون: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً[يونس:90-92] فهذا ليس كلاماً لفرعون، بل لم يكلمه الله وإنما أخبر عن هذا فقط، ولهذا لم يقل: (قال) وإنما قال: (أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ) (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) فلم يقل: فقال له، وإنما هو توعد من الله سبحانه وتعالى ولم يكلمه به.

    كيفية خلق إبليس من نار

    السؤال: كيف خلق إبليس من نار؟

    الجواب: وبالنسبة لخلق إبليس فقد جاء أنه خلقه من نار، ولكن لا ندري كيف خلق من نار، بل هو خلق منها وسيعود إليها نسأل الله السلامة والعافية، فخلق من مارج من نار، أي: اقتطعت قطعة من النار وصور منها إبليس، ولهذا فإن معنى مارج من نار: أي: قطعة مشتعلة من النار خلق منها إبليس وذريته.

    وأما في حجمه فلم يرد شيء، لكن ورد أنه يتعاظم في بعض الأحيان وينتفخ، وأنه يتصاغر في أحيان أخرى، ويبدو أن الجن أيضاً كلهم هكذا، فلهم ملكة التشكل بأشكال مختلفة، وبعضهم أعظم أجساماً من بعض، وبعضهم يسهل عليه التشكل في صور عظيمة وبعضهم ليس كذلك.

    واختلف في ذرية إبليس هل خلقوا أيضاً من نار أم لا؟ والراجح أنه هو خلق من النار أما ذريته فإنهم خلقوا على خلق مختلف كخلق ذرية آدم، فإن آدم خلق من تراب، ولكن ذريته لا يمرون بنفس المرحلة التي مر بها، بل بعد ذلك يخلقون من نطفة، كذلك ذرية إبليس لا يخلقون من نار كما خلق هو.

    دفن الجن لموتاهم

    السؤال: أين يدفن الجن موتاهم؟

    الجواب: لا أدري، لم يرد المكان في دفنهم، لكن هم يسكنون في هذه الأرض مثل غيرهم، والأرض قد جعلت كفاتاً أحياءً وأمواتاً، فيدفن فيها الموتى مطلقاً.

    مآل أهل النار من الجن

    السؤال: أين يكون مصير أهل النار من الجن؟

    الجواب: بالنسبة للدنيا فإنهم يدفنون في هذه الأرض التي يسكنونها، فهذه الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، لكن في يوم القيامة من كان منهم من أهل النار ذهب إليها، ويعود الشيء إلى أصله، كما قال أبو تمام في وصف رجل من ملوك المجوس قتله المعتصم فرماه في النار وقال: قد كنت تعبدها حياً فادخلها ميتاً، فقال فيه:

    صلى لها حياً وكان وقودها ميتاً ويدخلها مع الفجار

    وكذاك أهل النار في الدنيا همُ يوم القيامة جل أهل النار

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767974034