الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد قال المصنف: [النسخ]
عقد هذا الباب لبيان النسخ وذكر أقسامه، والنسخ معناه في اللغة: الإزالة، فيقال: نسخت الرياح الأثر، إذا أزالته وغيرته، ويقال: نسخت الشمس الظل؛ إذا أزالته. ويطلق أيضاً على النقل، فيقال: نسخ الكتاب إذا نقله، فهذا معناه في اللغة.
وأما معناه في الاصطلاح: فهو تغيير الحكم الشرعي بخطاب متراخ عنه.
والمقصود بالحكم الشرعي: ما كان خطاباً أيضاً، فلا تنسخ البراءة الأصلية ولا ينسخ بها؛ لأن الأحكام كلها إنما نزلت على براءة أصلية سابقة لها، فلو اعتبر ذلك نسخاً لكانت الأحكام كلها ناسخة لأمر قد سبق، وهو البراءة الأصلية وعدم التكليف، ولا ينسخ أيضاً إلا بالخطاب، فلا نسخ بالقياس، ولا بالاجتهاد، ولا بالإجماع، وإنما يحصل النسخ بالوحي المنزل.
قال المصنف: [وأما النسخ فمعناه لغة: الإزالة] يقال: نسخت الشمس الظل؛ إذا أزالته، [وقيل: معناه النقل، من قولهم نسخت ما في هذا الكتاب أي: نقلته] وحكايته للخلاف في هذا لا وجه لها، بل هو في اللغة يطلق على هذين المعنيين وعلى التغيير، قال: [وحده -أي: تعريفه- هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه، لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه]، وهذا تعريف للناسخ لا للنسخ، فالخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم هو الناسخ، فلو قال: هو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخي الرفع أو تراخي الخطاب عنه، لكان ذلك تعريفاً للنسخ، والمقصود برفع الحكم: إزالته وتغييره، والحكم هنا المقصود به: الحكم الشرعي فقط.
قوله: [الثابت بالخطاب]، أي: الذي أنزل به وحي.
[المتقدم] فالمتقدم لا ينسخ المتأخر.
[على وجه لولاه لكان ثابتاً]، أي: لولا ذلك الوجه لكان الحكم ثابتاً.
[مع تراخيه عنه] أي: تأخره عنه، فلو جاء متصلاً به لاعتبر ذلك تخصيصاً ولم يعتبر نسخاً، وهذا التراخي ليس له مدة محددة، بل قد يحصل بالقرب، كما حصل في قصة الصدقة بين يدي النجوى، فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[المجادلة:12-13]، فنسخ ذلك الحكم على القرب، وذلك بفضل الله ورحمته، وقد نسخ قبل التمكن من الفعل، فدل ذلك على جواز النسخ قبل التمكن من الفعل.
قال المصنف: [ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم]. يقصد: أن أقسام النسخ منها: نسخ اللفظ وبقاء حكمه، كآية الرجم التي كانت في سورة الأحزاب، وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله)، وكانت هذه الآية ثابتة في سورة الأحزاب، فنسخ لفظها وبقي حكمها، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم خمسة أشخاص، وهم اليهوديان، وماعز، والغامدية، وصاحبة العسيف، وكذلك عمل به خلفاؤه الراشدون فقد رجم عمر رضي الله عنه امرأتين، ورجم عثمان كذلك امرأة، ورجم علي بن أبي طالب رضي الله عنه شراحة، فكل هؤلاء رجموا بهذه الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها، لهذا قال: [ويجوز نسخ الرسم] والمقصود به: المكتوب والمقروء، أي: اللفظ، [وبقاء الحكم]، أي: بقاء حكم ذلك اللفظ الذي نسخ.
قال: [ونسخ الحكم وبقاء الرسم]
أي: يجوز أيضاً أن ينسخ الحكم ويبقى اللفظ متلواً فيما يتلى من القرآن، كقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ[البقرة:240] ، فهذه الآية بقي لفظها ونسخ حكمها، بالآية التي قبلها في رسم المصحف، وهي متأخرة عنها في النزول، وهي وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، وكذلك قول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ[البقرة:180] ، فقد نسخ هذا الحكم، وبقي اللفظ مما يتلى، ومثل ذلك: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ[الأنفال:65] ، فقد نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها وهي قول الله تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ[الأنفال:65-66]، فهذه الآية ناسخة لسابقتها، وقد أثبتت سابقتها في الرسم، وبقيت مما يتعبد بتلاوته، لكن لا يعمل بحكمها، فالحكم قد نسخ.
ثم قال: [والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل]، أي: يجوز النسخ إلى بدل، بأن تنزل آية أخرى بدل تلك، أو حكم آخر بدل الحكم الذي نسخ، ويجوز النسخ إلى غير بدل، أي: بالإحالة إلى ما كان من البراءة الأصلية، وهذا محل خلاف بين الأصوليين، فقد ذهب جمهورهم إلى أن النسخ لا يكون إلا إلى بدل؛ لأن الله تعالى يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة:106] ، فلا بد من البدل الذي هو خير أو مثل للمنسوخ، والآخرون يقولون: البراءة بدل وهو خير أو مثل؛ لأن الله كان تعبدنا بذلك الحكم ثم لما نسخه تعبدنا بالإباحة فيه، فكان ذلك إلى غير بدل، وحمل عليه نسخ الصدقة بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: هي من النسخ إلى غير بدل، وقيل: بل ذكر البدل وهو: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لأنه قال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[المجادلة:13] فذلك من النسخ إلى بدل.
قال المصنف: [وإلى ما هو أغلط، وإلى ما هو أخف] أي: يجوز النسخ إلى ما هو أغلط بالزيادة في الحكم، أو إلى ما هو أخف بالأسهل، وهذا أيضاً محل خلاف بين الأصوليين، فذهب بعضهم إلى: أن النسخ لا يكون إلا بالأسهل؛ لأن الله تعالى يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة:106] فالأسهل هو الخير أو المماثل، وأما الأشد فلا يكون كذلك، والذين يرون صحة النسخ بالأغلظ والأشد، يقولون: الأشد خير من المنسوخ؛ لأنه أكثر منه أجراً، وقد عرف النسخ بالأخف مثل قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ[الأنفال:65] ، فنسخ بقوله:: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ[الأنفال:66] ، فكان ذلك تخفيفاً، وأما النسخ بالأغلظ، فمثله ما ورد من التحريم بعد الإباحة: كتحريم لحوم الحمر الأهلية بعد إباحتها، وذلك مما تكرر فيه النسخ، فقد تكرر النسخ في أربع مسائل وهي:
1- القبلة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يصلي إلى البيت الحرام، ثم لما هاجر صلى إلى الشام سبعة عشر شهراً، ثم نسخت القبلة فأعيدت إلى البيت الحرام.
2- وكذلك منها متعة النكاح، فقد حرمت بإعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عنها، ثم أذن فيها في بعض الغزوات، ثم حرمها وبقيت على التحريم.
3- ومثل ذلك: الحمر الأهلية، فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلها، ثم في إحدى الغزوات أذن بأكلها لجوع الناس، ثم بعد ذلك حرمها فاستمرت على التحريم.
4- ومثل ذلك: الوضوء مما مست النار، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ مما مست النار، ثم ترك الوضوء من ذلك، وكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار.
وهذه الأربع هي التي نظمها الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله:
النسخ ذو تكرر في أربع جاءت بها الكتب والأخبار
في قبلة ومتعة وحمر كذا الوضو مما تمس النار
قال المصنف: [ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالكتاب وبالسنة].
ذكر المصنف أنواع النسخ باعتبار الناسخ، فالناسخ: إما كتاب وإما سنة، والمنسوخ في كل واحد منهما: إما كتاب وإما سنة، ومذهب الشافعي أن الكتاب لا ينسخ بالسنة، وأن السنة لا تنسخ بالكتاب، ومذهب الجمهور حصول النسخ بينهما.
فيجوز نسخ الكتاب بالكتاب بالاتفاق، مثلما ذكر في آيتي العدة وآيتي العدد في الغزو، فآية العدة جاء فيها قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا[البقرة:240] ، ونسخ ذلك بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، وآيتا العدد جاء فيهما قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:65-66].
ويجوز كذلك نسخ الكتاب بالسنة على الراجح، مثل قول الله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ[البقرة:180] ، فقد نسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).
وكذلك نسخ السنة بالكتاب، ومثاله: نسخ استقبال الشام في الصلاة بقول الله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[البقرة:144].
فهذا الكتاب ناسخ للسنة.
ونسخ السنة بالسنة كثير، كقوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)، وكقوله في لحوم الأضاحي في النهي عن ادخارها ثلاثاً: (إنما كنت نهيتكم من أجل الدافة) ونحو ذلك.
قال: [ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالكتاب وبالسنة، ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر]، أي: يجوز نسخ الكتاب بالمتواتر من السنة، والواقع أن التواتر وصف طارئ، لأنه يتعلق بالنقل لا بالنزول، فالمقصود أن ما لم ينقل متواتراً بالسنة لا يمكن أن ينسخ به الكتاب عند طائفة من المتكلمين، ولكن العبرة هنا بالصحة، فإذا صح النقل -ولو لم يصل إلى حد التواتر- فذلك كاف في النسخ، لأن التواتر وصف طارئ بعد نزول الوحي، فهو متعلق بروايته لا بنزوله.
قال: [ونسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر] أي: أن الآحاد كذلك يمكن اعتبار النسخ فيها بالمتواتر قطعاً، كأحاديث الآحاد تنسخ بمتواتر القرآن ومتواتر السنة، وتنسخ الآحاد بالآحاد؛ لأنها في منزلتها.
ولا ينسخ المتواتر بالآحاد؛ لأنهما ليسا في منزلة واحدة، والناسخ لا يكون أضعف من المنسوخ، لكن هذا كما ذكرنا مستغنى عنه؛ لأن التواتر والآحاد راجعان إلى النقل، والنقل متأخر عن النزول، فلا يجوز نسخ الكتاب بالسنة، وهذا هو مذهب الشافعي ، ومذهب جمهور الأصوليين جواز ذلك، وقد بينا مثاله في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ[البقرة:180] .
قال المصنف: [ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد ]، كذلك لا يجوز نسخ المتواتر من السنة بالآحاد، وهذا قول لبعض أهل العلم، وقد بينا أنه إذا ثبت النقل فذلك كاف؛ لأن الشيء ينسخ بمثله وبما هو أقوى منه، أي: لا ينسخ بما هو أضعف منه.
وللنسخ حكم منها: التدرج في التشريع، فإن الشارع الحكيم يراعي مصالح عباده، فلو أنزل الأحكام بَاتَّةً على الوجه الذي تستقر عليه، دون تدرج ومرور بتلك المراحل، لكان ذلك أدعى لعدم الاستجابة، فكان من لطفه وحكمته أن ينزل الأحكام متدرجة، وأن يحصل فيها النسخ.
وهذا النوع من النسخ من خصائص هذه الشريعة المحمدية، فالشرائع قبلها كانت تُنَزَّل دفعة واحدة، وتُفسخ دفعة واحدة، فقد آتى الله موسى التوراةَ مكتوبة في الألواح، وأنزل الصحف على إبراهيم، وأنزل الإنجيل على عيسى مكتوباً في الصحف، وأنزل الزبور على داود مكتوباً في الصحف، ولهذا استنكر المشركون تدرج نزول القرآن، فرد الله عليهم بقوله: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106] ، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:32-33].
هذا الباب معقود للتعارض بين الأدلة.
والتعارض: نوع من التخالف، يقتضي توارد الدليلين المختلفين على معنى واحد، بأن يرد أحدهما بالإثبات والآخر بالنفي.
وعقد المصنف هذا الباب لبيان ما يمكن منه وما لا يمكن، وللعمل عند حصوله، أو توهمه.
فينبغي أن يبين أولاً: أن التعارض لا يمكن أن يحصل في الأخبار كما أن النسخ لا يقع فيها، فالنسخ مختص بالإنشاء لا بالخبر، والخبر لا يدخله النسخ؛ لأن نسخه تكذيب له، والوحي لا كذب فيه، وكذلك التعارض لا يقع في الأخبار؛ لأن ذلك تكذيب، وإنما يمكن التعارض في الإنشاءات، ولا تعارض بين قطعيين قطعاً؛ لأن ذلك يقتضي أن أحدهما ناسخ للآخر، ولا بين قطعي وظني؛ لأن القطعي مقدم على الظني، فيبقى التعارض بين الظنيين فقط، فنطاقه إذن ضيق، وهو من الأمور المحتملة. أي: المتشابه، فلذلك للأصوليين فيه طريقتان: إحداهما: البداءة بالترجيح بين النصين، وهذا مذهب الحنفية.
والثانية: البداءة بالجمع بينهما، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وقد قال مالك رحمه الله: إعمال الدليلين أحب إليّ من إلغائهما أو إلغاء أحدهما.
قال المصنف: [إذا تعارض نطقان]، والمقصود بهما ما كان من الوحي، كالآيتين مثلاً، أو الحديثين، أو الآية والحديث، فإذا تعارض نطقان. أي: نصان لفظيان، [فلا يخلو إما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عاماً والآخر خاصاً، أو كل واحد منهما عاماً من وجه، وخاصاً من وجه]، هذا التقسيم يرجع إلى الدلالة، فإذا تعارض نطقان -أي: لفظان من الوحي- فلا يخلو الأمر من أن يكونا عامين، فكل واحد منهما عام في مكانه، وذلك مثل: (نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس)، وقوله: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فكل واحد منهما عام في بابه، فالنهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر وصلاة العصر عام في هذا الباب في النوافل، والنهي عن الجلوس في المسجد حتى يصلي الإنسان ركعتين عام أيضاً.
- أو أحدهما عاماً والآخر خاصاً، أي: أن يأتي أحدهما عاماً والآخر خاصاً، أي: أخص منه فيكون مخصصاً له، كالنهي عن بيع ما ليس لدى الإنسان، والإذن في السلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الإنسان ما ليس عنده، وأجاز السلم، فالأول عام في كل ما ليس لدى الإنسان، والثاني خاص بالسلم، فيحمل ذلك على التخصيص.
- أو كل واحد منهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه، وعليه يحمل ما سبق في النهي عن الصلاة بعد العصر، والنهي عن الجلوس في المسجد حتى يصلي الإنسان ركعتين، فيقال: هذا عام من وجه والآخر خاص من وجه، ويبحث عن الوجه الذي يعمم منه أحدهما أو يخصص منه الآخر.
قال المصنف: [فإن كانا عامين فأمكن الجمع بينهما جمعا]، إن كانا عامين وأمكن الجمع بينهما، جمع بينهما، فالجمع مقدم على الترجيح، قال: [وإن لم يمكن الجمع بينهما يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ]، فإن علم التاريخ فالمتأخر منهما ناسخ للأول، وإن لم يعلم التاريخ توقف فيهما، أي: لعلمنا أن أحدهما منسوخ بالآخر، وجهالتنا بالناسخ.
قال: [فإن علم التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر، وكذلك إن كانا خاصين]، أيضاً فهو مثل العامين، إن أمكن الجمع بينهما جمعا، وإلا فإن عرف التاريخ حمل ذلك على النسخ، وإن لم يعرف التاريخ توقف بينهما؛ لأن ذلك من النسخ الذي لم يعرف فيه الناسخ من المنسوخ.
قال: [وإن كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً، فيخصص العام بالخاص] كما بينا، قال: [وإن كان أحدهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه فيخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر].
وللخروج من التعارض طرق:
أولاً: أن يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين فيجمع بينهما حينئذ، ومثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عكيم (أنه كتب إليهم قبل موته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)، فجمع بينهما أن الإهاب اسم لما لم يدبغ، فيحمل حديث ابن عكيم على ما لم يدبغ، وحديث ابن عباس على ما دبغ، فيكون ما دبغ قد طهر، وما لم يدبغ باق على النهي، ومحل هذا عند صحة حديث ابن عكيم والراجح فيه عدم الصحة.
ثانياً: أن يجعل أحدهما ناسخاً للآخر إذا علم التاريخ، ومثال ذلك: قول الله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ[البقرة:184] ، فقوله: (فمن تطوع خيراً فهو خير له)، يدل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، فإنه قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:184] وهذا يقتضي ترجيح الصيام على الإفطار، فحينئذ يُجعل الثاني ناسخاً، أي: أن الصيام أفضل لمن لا يشق عليه.
ثالثاً: وإن لم يُعلم التاريخ، يُتوقف بينهما، وقد حُمل على هذا حديث بسرة بنت صفوان، (من مس ذكره فليتوضأ)، وحديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء، قال: (لا، إنما هو بضعة منك)، فهذان الحديثان تعارضا، ولم يعرف التاريخ بينهما، لم يعرف أيهما السابق، فيتوقف بينهما، وعند الحنفية يرجح حديث طلق بن علي عن حديث بسرة بنت صفوان ؛ لأن هذا من أحكام الرجال، ولم يروه أحد من الرجال، فلا يؤخذ برواية المرأة له، وعند الجمهور يرجح باعتبار قوة الإسناد، وحديث بسرة لا شك أقوى إسناداً من حديث طلق بن علي، وأيضاً فإن العمل بالاحتياط؛ للخروج من الخلاف وبإعمال الدليل، مرجح لحديث بسرة على حديث طلق، هذا إذا كان الدليلان عامين.
أما إذا كان الدليلان خاصين فللخروج من التعارض بينهما طرق:
الطريق الأولى: الجمع بينهما، كما في حديث جابر، في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة)، وفي حديث ابن عمر أنه صلى الظهر بمنى، فهذان الحديثان تعارضا وهما خاصان، فجمع بينهما النووي بقوله: ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، ولكن قد يحمل هذا على أن أحدهما نسي وأن الآخر ذكر، وأن الأمر جائز، إذ لو كان الأمر مما يطلب فيه الحسم لجاء فيه نص حاسم.
والطريق الثاني: إن لم يمكن الجمع بينهما فالثاني ناسخ إن علم التاريخ، مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ[الأحزاب:50] ، فظاهر هذا إباحة الزواج للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون انحصار في عدد محدد، ثم أنزل قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا[الأحزاب:52] ، وقد علم أن هذه الآية نزل بها جبر يل بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم بـميمونة بنت الحارث، وهي آخر امرأة تزوجها، فعلم أن هذه الآية ناسخة لسابقتها، ومع ذلك ففي حديث عائشة أنه ما توفي حتى أحل الله له كل شيء كان حرمه عليه في النكاح، فيدل ذلك أيضاً على أن هذه الآية نسخت.
والطريق الثالث: إذا لم يمكن النسخ فالترجيح، مثل حديث ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وفي حديث ابن أختها عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، فـميمونة صاحبة القصة مقدمة في الرواية على ابن عباس ، وأيضاً يشهد لحديث ميمونة حديث أبي رافع ، فإنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال وكنت السفير بينهما، فهو صاحب القصة أيضاً؛ لأنه السفير بينهما، فهو مقدم في الرواية على ابن عباس، ويرجح أيضاً بكثرة العدد في الرواية، فكونه تزوجها وهو حلال روته ميمونة وأبو رافع، وكونه تزوجها وهو محرم انفرد به ابن عباس .
أما الحالة الثالثة من أوجه التعارض فهي أن يكون بين دليلين، أحدهما عام والآخر خاص:
فيُخصص العام بالخاص، وذلك مثل قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[المائدة:38] فعمم كلَّ سارق وكل سارقة، وخصص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعداً)، وبقوله: (لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر)، وكذلك قوله: (حتى يؤويه الجرين)، وكذلك قوله: (ولا في حريسة الجبل).
وكل هذا يدل على تخصيص السرقة بالنصاب وأن يكون مما لا شبهة للسارق فيه، وأن يكون محرزاً بحرز جنسه، فتعتبر هذه الأحاديث مخصصة لعموم الآية.
أما الحالة الرابعة: وهي أن يكون التعارض بين دليلين أحدهما أعم من الآخر من وجه، والآخر أخص من الآخر من وجه فيجمع بينهما باختلاف المحل، بأن يخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر، إن دل على ذلك دليل، ومثاله قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، فهذه الآية عامة في المتوفى عنها، فيشمل ذلك الحامل وغير الحامل وهي كذلك خاصة بالمتوفى عنها فتخرج المطلقة، والآية الثانية: (( وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )) فهذه الآية خاصة بالحوامل وعامة في كل ذات فرقة سواء كانت متوفى عنها أو مطلقة، فالعمومان يخصصان بالخصوصين، فيخصص قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] بأن ذلك في غير الحوامل، أو يخصص بأن ذلك في الطلاق دون الوفاة، وهذه المسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال، فقيل: تعتد بأربعة أشهر وعشراً أي: بعدة المتوفى عنها مطلقاً، وقيل: تعتد بوضع الحمل، وقيل: بأقصى الأجلين.
وللخروج من التعارض طرق:
أولاً: أن يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين فيجمع بينهما حينئذ، ومثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عكيم (أنه كتب إليهم قبل موته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)، فجمع بينهما أن الإهاب اسم لما لم يدبغ، فيحمل حديث ابن عكيم على ما لم يدبغ، وحديث ابن عباس على ما دبغ، فيكون ما دبغ قد طهر، وما لم يدبغ باق على النهي، ومحل هذا عند صحة حديث ابن عكيم والراجح فيه عدم الصحة.
ثانياً: أن يجعل أحدهما ناسخاً للآخر إذا علم التاريخ، ومثال ذلك: قول الله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ[البقرة:184] ، فقوله: (فمن تطوع خيراً فهو خير له)، يدل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، فإنه قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:184] وهذا يقتضي ترجيح الصيام على الإفطار، فحينئذ يُجعل الثاني ناسخاً، أي: أن الصيام أفضل لمن لا يشق عليه.
ثالثاً: وإن لم يُعلم التاريخ، يُتوقف بينهما، وقد حُمل على هذا حديث بسرة بنت صفوان، (من مس ذكره فليتوضأ)، وحديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء، قال: (لا، إنما هو بضعة منك)، فهذان الحديثان تعارضا، ولم يعرف التاريخ بينهما، لم يعرف أيهما السابق، فيتوقف بينهما، وعند الحنفية يرجح حديث طلق بن علي عن حديث بسرة بنت صفوان ؛ لأن هذا من أحكام الرجال، ولم يروه أحد من الرجال، فلا يؤخذ برواية المرأة له، وعند الجمهور يرجح باعتبار قوة الإسناد، وحديث بسرة لا شك أقوى إسناداً من حديث طلق بن علي، وأيضاً فإن العمل بالاحتياط؛ للخروج من الخلاف وبإعمال الدليل، مرجح لحديث بسرة على حديث طلق، هذا إذا كان الدليلان عامين.
أما إذا كان الدليلان خاصين فللخروج من التعارض بينهما طرق:
الطريق الأولى: الجمع بينهما، كما في حديث جابر، في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة)، وفي حديث ابن عمر أنه صلى الظهر بمنى، فهذان الحديثان تعارضا وهما خاصان، فجمع بينهما النووي بقوله: ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، ولكن قد يحمل هذا على أن أحدهما نسي وأن الآخر ذكر، وأن الأمر جائز، إذ لو كان الأمر مما يطلب فيه الحسم لجاء فيه نص حاسم.
والطريق الثاني: إن لم يمكن الجمع بينهما فالثاني ناسخ إن علم التاريخ، مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ[الأحزاب:50] ، فظاهر هذا إباحة الزواج للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون انحصار في عدد محدد، ثم أنزل قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا[الأحزاب:52] ، وقد علم أن هذه الآية نزل بها جبر يل بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم بـميمونة بنت الحارث، وهي آخر امرأة تزوجها، فعلم أن هذه الآية ناسخة لسابقتها، ومع ذلك ففي حديث عائشة أنه ما توفي حتى أحل الله له كل شيء كان حرمه عليه في النكاح، فيدل ذلك أيضاً على أن هذه الآية نسخت.
والطريق الثالث: إذا لم يمكن النسخ فالترجيح، مثل حديث ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وفي حديث ابن أختها عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، فـميمونة صاحبة القصة مقدمة في الرواية على ابن عباس ، وأيضاً يشهد لحديث ميمونة حديث أبي رافع ، فإنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال وكنت السفير بينهما، فهو صاحب القصة أيضاً؛ لأنه السفير بينهما، فهو مقدم في الرواية على ابن عباس، ويرجح أيضاً بكثرة العدد في الرواية، فكونه تزوجها وهو حلال روته ميمونة وأبو رافع، وكونه تزوجها وهو محرم انفرد به ابن عباس .
أما الحالة الثالثة من أوجه التعارض فهي أن يكون بين دليلين، أحدهما عام والآخر خاص:
فيُخصص العام بالخاص، وذلك مثل قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[المائدة:38] فعمم كلَّ سارق وكل سارقة، وخصص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعداً)، وبقوله: (لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر)، وكذلك قوله: (حتى يؤويه الجرين)، وكذلك قوله: (ولا في حريسة الجبل).
وكل هذا يدل على تخصيص السرقة بالنصاب وأن يكون مما لا شبهة للسارق فيه، وأن يكون محرزاً بحرز جنسه، فتعتبر هذه الأحاديث مخصصة لعموم الآية.
أما الحالة الرابعة: وهي أن يكون التعارض بين دليلين أحدهما أعم من الآخر من وجه، والآخر أخص من الآخر من وجه فيجمع بينهما باختلاف المحل، بأن يخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر، إن دل على ذلك دليل، ومثاله قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، فهذه الآية عامة في المتوفى عنها، فيشمل ذلك الحامل وغير الحامل وهي كذلك خاصة بالمتوفى عنها فتخرج المطلقة، والآية الثانية: (( وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )) فهذه الآية خاصة بالحوامل وعامة في كل ذات فرقة سواء كانت متوفى عنها أو مطلقة، فالعمومان يخصصان بالخصوصين، فيخصص قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] بأن ذلك في غير الحوامل، أو يخصص بأن ذلك في الطلاق دون الوفاة، وهذه المسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال، فقيل: تعتد بأربعة أشهر وعشراً أي: بعدة المتوفى عنها مطلقاً، وقيل: تعتد بوضع الحمل، وقيل: بأقصى الأجلين.
وللخروج من التعارض طرق:
أولاً: أن يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين فيجمع بينهما حينئذ، ومثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عكيم (أنه كتب إليهم قبل موته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)، فجمع بينهما أن الإهاب اسم لما لم يدبغ، فيحمل حديث ابن عكيم على ما لم يدبغ، وحديث ابن عباس على ما دبغ، فيكون ما دبغ قد طهر، وما لم يدبغ باق على النهي، ومحل هذا عند صحة حديث ابن عكيم والراجح فيه عدم الصحة.
ثانياً: أن يجعل أحدهما ناسخاً للآخر إذا علم التاريخ، ومثال ذلك: قول الله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ[البقرة:184] ، فقوله: (فمن تطوع خيراً فهو خير له)، يدل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، فإنه قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:184] وهذا يقتضي ترجيح الصيام على الإفطار، فحينئذ يُجعل الثاني ناسخاً، أي: أن الصيام أفضل لمن لا يشق عليه.
ثالثاً: وإن لم يُعلم التاريخ، يُتوقف بينهما، وقد حُمل على هذا حديث بسرة بنت صفوان، (من مس ذكره فليتوضأ)، وحديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء، قال: (لا، إنما هو بضعة منك)، فهذان الحديثان تعارضا، ولم يعرف التاريخ بينهما، لم يعرف أيهما السابق، فيتوقف بينهما، وعند الحنفية يرجح حديث طلق بن علي عن حديث بسرة بنت صفوان ؛ لأن هذا من أحكام الرجال، ولم يروه أحد من الرجال، فلا يؤخذ برواية المرأة له، وعند الجمهور يرجح باعتبار قوة الإسناد، وحديث بسرة لا شك أقوى إسناداً من حديث طلق بن علي، وأيضاً فإن العمل بالاحتياط؛ للخروج من الخلاف وبإعمال الدليل، مرجح لحديث بسرة على حديث طلق، هذا إذا كان الدليلان عامين.
أما إذا كان الدليلان خاصين فللخروج من التعارض بينهما طرق:
الطريق الأولى: الجمع بينهما، كما في حديث جابر، في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة)، وفي حديث ابن عمر أنه صلى الظهر بمنى، فهذان الحديثان تعارضا وهما خاصان، فجمع بينهما النووي بقوله: ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، ولكن قد يحمل هذا على أن أحدهما نسي وأن الآخر ذكر، وأن الأمر جائز، إذ لو كان الأمر مما يطلب فيه الحسم لجاء فيه نص حاسم.
والطريق الثاني: إن لم يمكن الجمع بينهما فالثاني ناسخ إن علم التاريخ، مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ[الأحزاب:50] ، فظاهر هذا إباحة الزواج للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون انحصار في عدد محدد، ثم أنزل قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا[الأحزاب:52] ، وقد علم أن هذه الآية نزل بها جبر يل بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم بـميمونة بنت الحارث، وهي آخر امرأة تزوجها، فعلم أن هذه الآية ناسخة لسابقتها، ومع ذلك ففي حديث عائشة أنه ما توفي حتى أحل الله له كل شيء كان حرمه عليه في النكاح، فيدل ذلك أيضاً على أن هذه الآية نسخت.
والطريق الثالث: إذا لم يمكن النسخ فالترجيح، مثل حديث ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وفي حديث ابن أختها عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، فـميمونة صاحبة القصة مقدمة في الرواية على ابن عباس ، وأيضاً يشهد لحديث ميمونة حديث أبي رافع ، فإنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال وكنت السفير بينهما، فهو صاحب القصة أيضاً؛ لأنه السفير بينهما، فهو مقدم في الرواية على ابن عباس، ويرجح أيضاً بكثرة العدد في الرواية، فكونه تزوجها وهو حلال روته ميمونة وأبو رافع، وكونه تزوجها وهو محرم انفرد به ابن عباس .
أما الحالة الثالثة من أوجه التعارض فهي أن يكون بين دليلين، أحدهما عام والآخر خاص:
فيُخصص العام بالخاص، وذلك مثل قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[المائدة:38] فعمم كلَّ سارق وكل سارقة، وخصص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعداً)، وبقوله: (لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر)، وكذلك قوله: (حتى يؤويه الجرين)، وكذلك قوله: (ولا في حريسة الجبل).
وكل هذا يدل على تخصيص السرقة بالنصاب وأن يكون مما لا شبهة للسارق فيه، وأن يكون محرزاً بحرز جنسه، فتعتبر هذه الأحاديث مخصصة لعموم الآية.
أما الحالة الرابعة: وهي أن يكون التعارض بين دليلين أحدهما أعم من الآخر من وجه، والآخر أخص من الآخر من وجه فيجمع بينهما باختلاف المحل، بأن يخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر، إن دل على ذلك دليل، ومثاله قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، فهذه الآية عامة في المتوفى عنها، فيشمل ذلك الحامل وغير الحامل وهي كذلك خاصة بالمتوفى عنها فتخرج المطلقة، والآية الثانية: (( وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )) فهذه الآية خاصة بالحوامل وعامة في كل ذات فرقة سواء كانت متوفى عنها أو مطلقة، فالعمومان يخصصان بالخصوصين، فيخصص قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] بأن ذلك في غير الحوامل، أو يخصص بأن ذلك في الطلاق دون الوفاة، وهذه المسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال، فقيل: تعتد بأربعة أشهر وعشراً أي: بعدة المتوفى عنها مطلقاً، وقيل: تعتد بوضع الحمل، وقيل: بأقصى الأجلين.
وللخروج من التعارض طرق:
أولاً: أن يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين فيجمع بينهما حينئذ، ومثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عكيم (أنه كتب إليهم قبل موته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)، فجمع بينهما أن الإهاب اسم لما لم يدبغ، فيحمل حديث ابن عكيم على ما لم يدبغ، وحديث ابن عباس على ما دبغ، فيكون ما دبغ قد طهر، وما لم يدبغ باق على النهي، ومحل هذا عند صحة حديث ابن عكيم والراجح فيه عدم الصحة.
ثانياً: أن يجعل أحدهما ناسخاً للآخر إذا علم التاريخ، ومثال ذلك: قول الله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ[البقرة:184] ، فقوله: (فمن تطوع خيراً فهو خير له)، يدل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، فإنه قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:184] وهذا يقتضي ترجيح الصيام على الإفطار، فحينئذ يُجعل الثاني ناسخاً، أي: أن الصيام أفضل لمن لا يشق عليه.
ثالثاً: وإن لم يُعلم التاريخ، يُتوقف بينهما، وقد حُمل على هذا حديث بسرة بنت صفوان، (من مس ذكره فليتوضأ)، وحديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء، قال: (لا، إنما هو بضعة منك)، فهذان الحديثان تعارضا، ولم يعرف التاريخ بينهما، لم يعرف أيهما السابق، فيتوقف بينهما، وعند الحنفية يرجح حديث طلق بن علي عن حديث بسرة بنت صفوان ؛ لأن هذا من أحكام الرجال، ولم يروه أحد من الرجال، فلا يؤخذ برواية المرأة له، وعند الجمهور يرجح باعتبار قوة الإسناد، وحديث بسرة لا شك أقوى إسناداً من حديث طلق بن علي، وأيضاً فإن العمل بالاحتياط؛ للخروج من الخلاف وبإعمال الدليل، مرجح لحديث بسرة على حديث طلق، هذا إذا كان الدليلان عامين.
أما إذا كان الدليلان خاصين فللخروج من التعارض بينهما طرق:
الطريق الأولى: الجمع بينهما، كما في حديث جابر، في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة)، وفي حديث ابن عمر أنه صلى الظهر بمنى، فهذان الحديثان تعارضا وهما خاصان، فجمع بينهما النووي بقوله: ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، ولكن قد يحمل هذا على أن أحدهما نسي وأن الآخر ذكر، وأن الأمر جائز، إذ لو كان الأمر مما يطلب فيه الحسم لجاء فيه نص حاسم.
والطريق الثاني: إن لم يمكن الجمع بينهما فالثاني ناسخ إن علم التاريخ، مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ[الأحزاب:50] ، فظاهر هذا إباحة الزواج للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون انحصار في عدد محدد، ثم أنزل قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا[الأحزاب:52] ، وقد علم أن هذه الآية نزل بها جبر يل بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم بـميمونة بنت الحارث، وهي آخر امرأة تزوجها، فعلم أن هذه الآية ناسخة لسابقتها، ومع ذلك ففي حديث عائشة أنه ما توفي حتى أحل الله له كل شيء كان حرمه عليه في النكاح، فيدل ذلك أيضاً على أن هذه الآية نسخت.
والطريق الثالث: إذا لم يمكن النسخ فالترجيح، مثل حديث ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وفي حديث ابن أختها عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، فـميمونة صاحبة القصة مقدمة في الرواية على ابن عباس ، وأيضاً يشهد لحديث ميمونة حديث أبي رافع ، فإنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال وكنت السفير بينهما، فهو صاحب القصة أيضاً؛ لأنه السفير بينهما، فهو مقدم في الرواية على ابن عباس، ويرجح أيضاً بكثرة العدد في الرواية، فكونه تزوجها وهو حلال روته ميمونة وأبو رافع، وكونه تزوجها وهو محرم انفرد به ابن عباس .
أما الحالة الثالثة من أوجه التعارض فهي أن يكون بين دليلين، أحدهما عام والآخر خاص:
فيُخصص العام بالخاص، وذلك مثل قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[المائدة:38] فعمم كلَّ سارق وكل سارقة، وخصص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعداً)، وبقوله: (لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر)، وكذلك قوله: (حتى يؤويه الجرين)، وكذلك قوله: (ولا في حريسة الجبل).
وكل هذا يدل على تخصيص السرقة بالنصاب وأن يكون مما لا شبهة للسارق فيه، وأن يكون محرزاً بحرز جنسه، فتعتبر هذه الأحاديث مخصصة لعموم الآية.
أما الحالة الرابعة: وهي أن يكون التعارض بين دليلين أحدهما أعم من الآخر من وجه، والآخر أخص من الآخر من وجه فيجمع بينهما باختلاف المحل، بأن يخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر، إن دل على ذلك دليل، ومثاله قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، فهذه الآية عامة في المتوفى عنها، فيشمل ذلك الحامل وغير الحامل وهي كذلك خاصة بالمتوفى عنها فتخرج المطلقة، والآية الثانية: (( وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )) فهذه الآية خاصة بالحوامل وعامة في كل ذات فرقة سواء كانت متوفى عنها أو مطلقة، فالعمومان يخصصان بالخصوصين، فيخصص قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] بأن ذلك في غير الحوامل، أو يخصص بأن ذلك في الطلاق دون الوفاة، وهذه المسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال، فقيل: تعتد بأربعة أشهر وعشراً أي: بعدة المتوفى عنها مطلقاً، وقيل: تعتد بوضع الحمل، وقيل: بأقصى الأجلين.
[الإجماع]
عقد هذا الباب للنوع الثالث من الأدلة الإجمالية وهو الإجماع، فيسبقه الكتاب والسنة.
والإجماع مصدر أجمع على الأمر، وأجمع الأمر: إذا عزم عليه، فمعناه: العزم، ويطلق على الاتفاق: ((فأجمعوا أمركم وشركاءكم))، أي: اعزموه واتفقوا عليه.
وهو في الاصطلاح: اتفاق علماء أو مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور بعد موته على حكم شرعي، لذلك قال المصنف: [وأما الإجماع: فهو اتفاق علماء العصر]، أي: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أيّ عصر من العصور [على حكم الحادثة] أي: على حكم شرعي اجتهادي، فإجماعهم حجة، لقول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[النساء:115].
وشرطه حصول الاتفاق بين كل المجتهدين، فإن خالف واحد لم ينعقد الإجماع في عصر من العصور، والعبرة فيه بالعصر، فإن انقرض العصر وهم متفقون على أمر فلا يحل إحداث قول جديد، وإن لم ينقرض العصر بل بقي بعضهم أحياء فيمكن إحداث قول جديد؛ لأن الإجماع لم يتم انعقاده بعد، فلا يعرف الإجماع في حياة أصحابه إنما يعرف بعد موتهم.
ولا يكون هذا الإجماع إلا على حكم شرعي، فلا إجماع على العقليات ولا على العاديات؛ لأنها لا يحتاج فيها إلى النقل.
واختلف: هل من شرط الإجماع أن ينعقد على دليل أو لا يحتاج إلى ذلك؟
فذهب بعضهم إلى أن الإجماع لا بد له من مستند؛ لأن الأمة لا تجمع على ضلالة، وما لم يرد فيه نص فهو من تشريع ما لم يأذن به الله وهو ضلالة، فلا بد أن يكون الإجماع مستنداً إلى دليل.
وقال آخرون: بل الإجماع نفسه دليل، فلا يحتاج إلى مستند، ولعل القول الأول هو الراجح، لكن لا يشترط لمستند الإجماع أن يصل إلينا، فيمكن أن يستند الإجماع إلى حديث لم يبلغنا، أو إلى قياس أو اجتهاد ونحوه من الأدلة فلا يصل إلينا، ففي كل عصر من العصور، يمكن أن ينعقد الإجماع، لكن نقل الإجماع أصعب من انعقاده، فالذي ينقل الإجماع لا بد أن يكون شديد الاطلاع بحيث يعرف كل المجتهدين في العصر الذي ينقل الإجماع فيه، وقد اطلع على أقوالهم جميعاً، فمثلاً: لو أن شخصاً من أهل العلم في زماننا هذا، اطلع على علماء هذا العصر جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، وعرف من بلغ رتبة الاجتهاد منهم والفتيا، وعرف أقوالهم في نازلة محددة كالصلاة في الطائرة مثلاً، فحكى إجماع أهل هذا العصر على جواز الصلاة في الطائرة، فيكون هذا إجماعاً لهذا العصر، فإن انقرض لم يحل نقضه، أما الإنسان غير المطلع على أوضاع العالم، فيمكن أن يكون في مشارق الأرض أو في مغاربها من وصل إلى رتبة الاجتهاد ولم يعلم هو به، أو علم به ولم يصل إليه قوله في تلك المسألة، فلا يصح حينئذ له أن يحكي الإجماع، ولهذا فالذين يحكون الإجماع في هذه الأمة قلائل، من أمثال ابن المنذر وابن حزم وابن تيمية وابن عبد البر ، فهم العمالقة الكبار المطلعون على أوضاع العالم، الناقلون لعلوم المشارقة والمغاربة ولأهل الأطراف.
قال المصنف: [وأما الإجماع: فهو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة]، والمقصود بالاتفاق هنا: هو تواطؤ فتواهم عليها، ولو لم يجتمعوا، ولو لم يتعارفوا فيما بينهم، ولم تصل فتوى بعضهم إلى بعض، فالمقصود أن تتواطأ فتواهم على الأمر.
قال: [ونعني بالعلماء: الفقهاء]، والمقصود بهم هنا: المجتهدون، فلا عبرة بمخالفة العامي، ولا بمخالفة النحويين في مسائل الاجتهاد، ولا بمخالفة المتكلمين كذلك فيها، بل ولا بمخالفة بعض المحدثين فيها ممن ليس فقيهاً بالغاً لرتبة الاجتهاد، فالعبرة إذن لأهل الاجتهاد والفتيا.
قال: [ونعني بالحادثة: الحادثة الشرعية] أي: في الحكم الشرعي، فيخرج من ذلك الأمور العقلية، فلا فائدة من حكاية الإجماع على أن السماء فوق الأرض، أو الواحد نصف الإثنين مثلاً، وكذلك مخرج للأحكام العادية، فلا فائدة من حكاية الإجماع على أن النار محرقة، أو أن الماء حلو أو نحو ذلك.
ثم قال المصنف: [وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها]، فمن خصائص هذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة، فلا يمكن أن يجتمع مجتهدوها جميعاً على ضلالة؛ لأن أهل الاجتهاد فيها هم أمناء الله على الوحي، وليس بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي يصحح ما أخطئوا فيه، بخلاف الأمم السابقة، فإن علماءها وإن كانوا مؤتمنين على الوحي في منزلتهم إلا أنهم إذا أخطئوا فسيأتي بعدهم نبي يصحح الخطأ، وهذه الأمة لا يأتي بعد علمائها نبي، فعلماؤها مثل أنبياء بني إسرائيل مؤتمنون على الوحي، فلا يمكن أن يجتمعوا على ضلالة، ولهذا أخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله: ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) فالوحي من عند الله ولم يكن ليجعله بدار هوان، فيختار له الموقعين عن رب العالمين الذين هم محل ثقة ورضا، وخيارهم إنما هو من عند الله تعالى، والله أعلم حيث يجعل رسالته، يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، ولهذا قال: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51] .
قال المصنف: [لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)].
وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً في كل طريق من طرقه، إلا أن طرقه كثيرة وله شواهد كثيرة تؤيده.
قال: [والشرع ورد بعصمة هذه الأمة]، أي: قد ورد في الشرع كثير من النصوص التي تدل على عصمة هذه الأمة، والمقصود بعصمتها في إجماعها.
قال المصنف: [وَالإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي]، أي: أن إجماع أهل كل عصر حجة على من بعدهم، فليس حجة على أفراد ذلك العصر ولا على من قبله.
قال: [وَفِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ] أي: لا يشترط أن يكون الإجماع في عصر الصحابة كما شرط ذلك بعض الأصوليين، بل في كل عصر يمكن أن يقع الإجماع.
وقال: [وَلاَ يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ عَلَى الصَّحِيحِ] إذا حصل الإجماع، فإن الشافعية لا يرون اشتراط انقراض العصر، وقد ذكرنا أن الراجح شرط انقراضه؛ لأن أهل العصر حجة على من بعدهم، ولأن علياً رضي الله عنه رجع عن بعض أقواله التي وافق فيها الصحابة في أيام عمر ، كرجوعه عن فتواه ببيع أمهات الأولاد، فقد كان وافق عمر والصحابة على حرمة بيع أمهات الأولاد، ثم بعد ذلك في خلافته رجع عن ذلك القول، فقيل له: ألم تكن تقول بما تقول به الجماعة؟ فقال: كان ذلك أيام أمير المؤمنين عمر ، ولم تسعني مخالفته، أما اليوم فأرى غير ذلك، فقال له عبيدة السلماني : رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، فضحك علي إقراراً لذلك، فلذلك الراجح اشتراط انقراض العصر.
قال المصنف: [فإن قلنا: انقراض العصر شرط، فيعتبر قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار مِن أهلِ الاجتهاد]، يعتبر خلاف التابعي الكبير في أيام الصحابة؛ لأنه ولد في أيامهم وتفقه وأصبح يفتي كـ: سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد ، فهؤلاء اختلافهم معتبر في أيام الصحابة، لأنهم وُلدوا في حياتهم، وتفقهوا فأصبحوا من مجتهدي ذلك العصر.
بخلاف من وُلد ولم يتفقه إلا بعد انقراض العصر، فليس له أن يخالف حينئذ؛ لأنه مسبوق بالإجماع.
قال: [وَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ]. أي: إذا قلنا باشتراط انقراض العصر فلأهل كل عصر أن يرجعوا عن ذلك الحكم بعد أن اتفقوا عليه، فلأفرادهم أن يرجعوا عنه إذا رأوا ما هو أقوى منه، والرجوع ليس عيباً، بل قد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس، فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
ويقول أحد العلماء رحمه الله:
ليس من أخطأ الصواب بمخط إن يأب لا ولا عليه ملامه
إنما المخطئ المسي من إذا ما ظهر الحق لج يحمي كلامه
حسنات الرجوع تذهب عنه سيئات الخطا وتنفي الملامه
وهذه للعلامة الشيخ محنض بابه رحمه الله.
ثم قال: [والإجماع يصح بقولهم وبفعلهم]، أي: أن الإجماع يحصل بالقول والفعل، فإن فعلوا أمراً ولم ينكر أحد منهم على أحد وأظهروه واتفقوا عليه وتواطئوا عليه اعتبر ذلك إجماعاً، وليس هذا مثل الإجماع السكوتي؛ لأن الإجماع السكوتي لا يقتضي أن يكونوا فعلوه جميعاً، بل قد يكون فعله بعضهم أو قاله، وسكت الآخرون عنه.
قال: [وبقول البعض وفعل البعض] أي: إذا قال بعضهم بإباحة أمر وفعله الآخرون فذلك يعتبر إجماعاً؛ لأن الفاعلين له كأنما قالوه؛ لأنهم استباحوه بالفعل.
قال: [وانتشار ذلك وسكوت الباقين عنه] أي: إذا أفتى أحد المجتهدين في عصر في أمر جديد، واشتهرت فتواه، وسكت الآخرون ولم يخالفوه، فيعتبر ذلك إجماعاً، وهذا الذي يسمى بالإجماع السكوتي، وقد اختلف هل هو حجة أم لا؟ فقيل: هو حجة قطعية كالإجماع القولي. وقيل: هو حجة غير قطعية. وقيل: غير حجة أصلاً. وقد كثر استدلال الحنابلة بالإجماع السكوتي، ومحله قبل تدوين المذاهب، أما بعد التدوين ففتوى مجتهد على وفق مذهبه لو سكت عنها الآخرون وهم يخالفونه في مذاهبهم، فليس ذلك إقراراً له على تلك الفتوى؛ لأنه علم من مذاهبهم مخالفتها.
قال المصنف: [وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ، عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَفِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ: حُجَّةٌ].
هذا نوع آخر من أنواع الأدلة، وهو من الأدلة المختلف فيها، وهو: قول الصحابي، أي: مذهبه.
والصحابي: هو من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به على الوجه المتعـارف به في الدنيا، ومات على ذلك، ولو تخلل ذلك رِدَّةٌ على الصحيح.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل هذه الأمة وأعلاها قدراً ومنزلة، وإن كانوا غير معصومين، إلا أنهم أولى بالمغفرة ممن بعدهم؛ لسابقتهم في الإسلام، وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أجدر الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم؛ لمعرفته لهم، لذلك فهم جميعاً عدول بتعديل الله تعالى لهم -كما سبق- ففي باب النقل والرواية: لا شك أن قول الصحابي حجة مطلقاً، سواء عُرف اسمه أم لم يعرف، فكل من ثبتت صحبته إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت ذلك القول عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُبحث في ترجمة ذلك الصحابي، ولا في مستوى عدالته وضبطه، فهم جميعاً عدولٌ أهلُ ضبطٍ.
وأما فيما يتعلق بالاجتهاد، فالذين بلغوا رتبة الاجتهاد من الصحابة: عدَّهم النسائي واحداً وعشرين، وعدَّهم الغزالي تسعةً، وعدَّهم ابن حزم: ثمانيةَ عشر، هؤلاء هم الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، الذين تُروى عنهم الفتيا والقضاء.
وقولُ بعضهم ليس حجةً على بعض، فليس قول أحد من الصحابة حجة على غيره من الصحابة، إذْ هم جميعاً مشتركون في هذه المزية التي سبقت بلُقْيا رسول الله صلى الله عليه وسلم والرواية عنه والسماع منه، وقد يسمع بعضهم ما لم يسمعه غيره، فليس قول بعضهم حجة على بعض.
- لكن اختُلِفَ: هل قول الصحابي حجة على من بعده من غير الصحابة ؟ وهذا ما بينه بقوله: " وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره، على القول الجديد، وفي القول القديم: حجة "، أي: أن مذهب الشافعي اختلف في قول الصحابي، هل هو حجة على غير الصحابي ممن يأتي بعده ؟
فقد قال الشافعي في مذهبه الجديد: إن قول الصحابي ليس بحجة، وقد كان يقول في مذهبه القديم: إن قول الصحابي حجة.
وذهب جمهور أهل العلم إلى التفريق بين قول الصحابي فيما محمله: التوقيف، وبين قوله فيما محمله: القياس، فقوله فيما يؤول إلى القياس ليس بحجة، وقوله فيما مرجعه ليس إلى القياس بل بالتوقيف ولا يُقال بالرأي، فهو حجة.
ومثل قول الصحابي الخلاف في فعله، فأفعال الصحابة ليست - في الأصل - بحجة، لأنهم غير معصومين، وفعل غير المعصوم ليس بحجة.
لكن إن فعلوا أمراً، ولم ينكر فيه بعضهم على بعض، فرُويَ عن بعضهم فعله، ولم يُروَ عن الآخرين مخالفتُه، فيعتبر ذلك الفعلُ استباحةً، ولهذا استدل البخاري رحمه الله في الصحيح بأن ابن عباس رضي الله عنهما أمَّ متيمِّمَاً، وهذا من الفعل لا من القول، وهو استدلال بعمل هذا الصحابي الجليل.
ومثل ذلك: الاستدلال بأخذ ابن عمر ما زاد على القبضة من لحيته في الحج والعمرة.
قال المصنف: [باب الأخبار].
والأخبار جمع خبر، وهو ما يحتمل الصدق والكذب من الكلام، والمقصود به هنا: تعريف الخبر وبيان أنواعه من ناحية الاحتجاج.
قال: [وَأَمَّا الأَخْبَارُ: فَالْخَبَرُ مَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ]، أي: ما يقبل التصديق والتكذيب.
ثم قال: [وَالْخَبَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:] أي: من ناحية الورود والرواية، [آحَادٍ وَمُتَوَاتِرٍ] والآحاد أكثر والمتواتر أقل.
ثم عرف المتوتر بقوله: [فَالْمُتَوَاتِرُ: مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ]، المتواتر مشتق من التواتر: وهو أن يطأ بعض الإبل أثر بعض، فيقال: تواترت الإبل، أي: وطئ بعضها أثر بعض، ويقال: تواتر السيل، أي: تواطأ في اتجاه محدد، فبدل أن كان شفعاً أصبح وتراً، فإذا كانت الناقة تطأ على أثر الأخرى، فقد كانت مع الأولى ثانية تالية لها فكانت شفعاً، فلما وطئت أثرها أصبح أثرهما كأثر واحد فكانتا وتراً بذلك، ولهذا يسمى بالتواتر، وعرفه بأنه: ما يوجب العلم، أي: أنه يوجب العلم اليقيني الضروري، وقد سبق ذكر ذلك في شرح العلم الضروري.
ثم قال: [وَهُوَ: أَنْ يَرْوِيَ جَمَاعَةٌ لاَ يَقَعُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ مِثْلِهِمْ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ]، أي أنه خبر جماعة تحيل العادة اتفاقهم على الكذب، بأن لم يكونوا من سن واحدة، ولا من مكان واحد، فإذا كانت الجماعة سرية من جيش لها قائد واحد -مثلاً- فيمكن أن تتواطأ على الكذب بأمر ذلك القائد، لكن إذا كانت الجماعة من مختلف الأعمار والألسنة، ولم تخرج من مكان واحد، ولم تجمعها قيادة أمير واحد، فإن العادة تحيل تواطؤها على الكذب، ولا تحديد لعدد الجماعة، بل ذلك مما يتفاوت الناس فيه، فقد يحصل العلم اليقيني بخبر بعضهم ولا يحصل بخبر ضعف ذلك العدد لعدم حصول الثقة، فلهذا قال: وهو أن يروي جماعة -أي: أن يحدثوا- لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم، أي: لا تجيز العادة أن يتواطؤا على الكذب إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه، أي: أن يكون ذلك في كل طبقة، فيستوي طرفيه ووسطه في العادة والعدد.
استواء طرفيه: أي طرف الإسناد الأعلى وطرفه الأسفل، ووسطه: أي: ما بينهما من الطبقات.
في العادة: أي: أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب. وفي العدد: أي: في حصول العدد أن يكونوا جماعة، فإن انفرد عدد يسير محصور في طبقة من الطبقات لم يعتبر ذلك متواتراً بل اعتبر آحاداً، وذلك مثل حديث: (إنما الأعمال بالنيات) فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بقيد اللفظ والصحة عمر بن الخطاب وانفرد به، ورواه عن عمر بالقيدين السابقين علقمة بن وقاص وانفرد به، ورواه عن علقمة بالقيدين السابقين محمد بن إبراهيم التيمي وانفرد به، ورواه عن محمد بن إبراهيم بالقيدين السابقين يحيى بن سعيد الأنصاري وانفرد به، ثم رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من سبعمائة نفس فتواتر بعد ذلك، وهذا لا يكون متواتراً؛ لأنه في بعض طبقاته انفرد به بعض الناس دون بعض.
وقوله: إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه. أي: إلى نهاية الإسناد.
قال المصنف: [وَيَكُونُ فِي الأَصْلِ عَنْ مُشَاهَدَة] أي: أن التواتر لا يكون إلا عن الحسيات، فلا تواتر في العقليات، ولا في التجريبيات أي: العاديات، فلا يمكن أن يقال: تواتر لديّ أن السماء فوق الأرض، أو أن الواحد نصف الإثنين، وذلك في الأمور العقلية لا فائدة فيه، فلا عبرة بكثرة القائل في الأمور العقلية، إنما العبرة بصحة ذلك عقلاً وقبوله وتسليمه، ومثل ذلك في الأمور العادية، فلا عبرة بكثرة الناقلين فيها، إنما العبرة بالتكرار حتى يحصل القطع العادي به.
[عن مشاهدة أَوْ سَمَاعٍ] فلابد أن يكون ذلك عن محسوس بإحدى الحواس الخمس.
[لاَ عَنِ اجْتِهَادٍ] فلا عبرة بذلك؛ لأنه من الأمور التي مرجعها إلى العقل، فاجتهادات الأشخاص تثبت عنهم بأنهم قالوا ذلك فقط، لكن ذلك لا يقتضي ثبوت ما اجتهدوا فيه، ولا يقتضي صحة اجتهادهم، فالعبرة إذن بأن يكون المنقول مما أصله ومرجعه إلى الحس بإحدى الحواس الخمس.
فهذا القسم الثاني من أقسام الخبر وهو: الآحاد.
والآحاد جمع أحد وهو الواحد، والمقصود بخبر الآحاد في اصطلاح الأصوليين: ما رواه آحاد من الناس لا يصلون إلى درجة التواتر. ولهذا عرفه المصنف بقوله: [والآحاد: هو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم]، فقد قسم الخبر إلى قسمين: إلى متواتر، وآحاد، فالآحاد هنا على حذف مضاف تقديره خبر الآحاد، وهو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم، والمقصود هنا بإيجاب العمل، أي: على فرض صحته واقتضائه الوجوب، فالآحاد ليس بالضرورة صحيحاً حتى يوجب العمل.
وقوله: [ولا يوجب العلم] أي: ما لم يحتف بالقرائن، فقد يحتف خبر الآحاد بالقرائن فيقتضي العلم الضروري كذلك، كما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، وما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم من أخبار الآحاد، فقد احتف به من القرائن ما يقتضي الثقة به حتى يكون كالمتواتر، فيحصل به العلم، وهذا العلم نظري لا ضروري، لأن الآحاد يبحث في عدالتهم وضبطهم، وينقسم خبر الآحاد من ناحية العدد إلى: غريب، وعزيز، ومشهور، ومستفيض.
فالغريب: ما انفرد به واحد في طبقة من الطبقات ويسمى فرداً، فإن كان المنفرد في أصل الإسناد سمي فرداً حقيقياً، وإلا سمي فرداً نسبياً لدى المحدثين.
والعزيز: ما انفرد به اثنان في طبقة من الطبقات.
والمشهور: ما انفرد به ثلاثة إلى تسعة في طبقة من الطبقات. والمستفيض: ما انفرد به عشرة فصاعداًَ ولم يصل حد التواتر. وقيل: المستفيض هو المشهور، فهذا التقسيم هو تقسيم الآحاد باعتبار أفراد الناقلين و اعتبار عدد الناقلين، وذكر المصنف تقسيماً آخر، فقال: [وينقسم إلى مرسل ومسند]، وهذا التقسيم للخبر مطلقاً لا بقيد كونه للآحاد، بل هو للخبر مطلقاً ينقسم إلى مرسل ومسند، فالمرسل هو: ما سقط منه الصحابي، وقد عرفه هو هنا بأنه ما لم يتصل إسناده، والمسند هو: ما اتصل إسناده من مخرجه إلى نهاية إسناده، قال رحمه الله: [فالمسند ما اتصل إسناده، والمرسل ما لم يتصل إسناده]، وهنا عمم المرسل فأطلقه على المنقطع مطلقاً، وهو أنواع: فمنه المعلق وهو: ما حذف أول إسناده مما يلي المخرج ولو استمر ذلك إلى منتهاه.
ومنه المنقطع وهو: ما سقط منه واحد في الوسط أو أكثر على غير التوالي.
ومنه المعضل، وهو ما سقط منه اثنان على التوالي.
ومنه المرسل وهو ما سقط منه الصحابي فنسبه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه هي أقسام المنقطع الواضح الانقطاع، ويبقى الانقطاع الخفي وهو: التدليس، وهو نوع آخر من الانقطاع، محتمل لأن يكون قد حصل انقطاع، فإن كان من مراسيل غير الصحابة فليس بحجة، ومراسيل الصحابة حجة، وهي أن يحدث الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم بحادثة لم يشهدها، كحديث ابن عباس رضي الله عنهما عما قبل فتح مكة، فإنه في تلك الفترة كان بمكة، ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقد هاجر العباس بأسرته قبيل الفتح، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران فاستكمل أفراد أسرته الهجرة، ورجع هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة، وقد ختمت به الهجرة فكان آخر المهاجرين، كما ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا فـابن عباس من المهاجرين؛ لأنه من آخر الأسرة التي هاجرت من مكة إلى المدينة، بعد ذلك ختمت الهجرة فلا هجرة بعد الفتح، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (مضت الهجرة لأهلها)؛ فرواية ابن عباس للهجرة وما بعدها من الأحداث إلى فتح مكة كلها من مراسيل الصحابة؛ لأنه لم يشهده، ومثل ذلك: رواية عائشة لبدء الوحي وهو قبل مولدها، فهي تروي بدء الوحي فكانت تقول: (أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)، وهي لم تشهد ذلك، لكن هذا من مراسيل الصحابة، فالصحابة لا يروون إلا عن الصحابة، فمراسيلهم مقبولة قطعاً، فإذا حدثوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ونسبوا إليه الخبر فذلك كالمتصل ولا فرق.
قال المصنف: [فإن كان من مراسيل غير الصحابة، فليس ذلك بحجة]؛ لأن التابعين يحدث بعضهم عن بعض وفيهم العدول وغير العدول، كما يحدثون عن الصحابة، قال: [إلا مراسيل سعيد بن المسيب ؛ فإنها فتشت فوجدت مسانيد عن النبي صلى الله عليه وسلم]، فـسعيد من سادة التابعين ومن كبارهم، ومراسيله كلها فتشت -أي: بحث عنها- فوجدت مسندة من طريق آخر، وكان سعيد من أخص أصحاب أبي هريرة، ولـأبي هريرة أصحاب آخرون يروون عنه، فربما أرسل سعيد ما أسنده غيره من أصحاب أبي هريرة، وقيل: إلا مراسيل كبار التابعين من أمثال سعيد بن المسيب وفقهاء المدينة الستة الآخرين، وككبار التابعين من أهل العراق كـطارق بن شهاب وزر بن حبيش وعبيدة السلماني وعامر الشعبي، فهؤلاء لا يروون إلا عن الصحابة فمراسيلهم تعتبر حجة؛ لأن جهالة الصحابي لا تضر، وأما صغار التابعين من أمثال: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، فمراسيلهم ليست بحجة، ومثل ذلك أواسط التابعين، فمراسيلهم ليست بحجة كـالحسن البصري وإياس بن معاوية بن قرة ومحمد بن إبراهيم التيمي ، فهؤلاء مراسيلهم أيضاً ليست بحجة عند جمهور الأصوليين، والسبب أنهم يروون عن الصحابة وعن غير الصحابة، وقد جهل من رووا عنه فيما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان صحابياً فلا يضر، لكن من المحتمل أن يكون من غير الصحابة، فإذا كان من غير الصحابة فلا بد من تسميته ومعرفة عدالته وضبطه، ولهذا قال ابن سيرين : والله ما كنا نبالي عمن نأخذ هذا العلم، حتى ركب الناس الصعب والذلول، فقلنا: سموا لنا رجالكم، فمن كان مقبولاً قبلناه، ومن كان مردوداً رددناه.
وخبر الآحاد مقبول في العقائد وفي غيرها؛ لأن العبرة فيه بالصحة، فإذا صح وعلمت صحته حصلت الثقة به، وقد ذهب بعض المتكلمين إلى أن أخبار الآحاد إنما يعمل بها في الجانب العملي لا في العقدي، وهذا القول لا حجة عليه، فإذا اتفقوا على صحتها وأنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمكن الطعن فيها لا من ناحية الدلالة ولا من ناحية الإسناد.
قال رحمه الله: [والعنعنة تدخل على الأسانيد]، أي: أن الإسناد قد لا يصرح فيه المحدث بسماعه من شيخه، وقد لا يعزو عليه إلا بعن وأن، كأن يقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، ويأتي بالعنعنة، أو أن يقول الشيخ مباشرة: عن فلان، أو يقول: أحدثكم عن فلان، ومثل ذلك: أن فلاناً قال كذا، فهذه إذا كان الشيخ فيها غير معروف بالتدليس حملت على السماع، وإن كان معروفاً بالتدليس لم تحمل على السماع، إلا إذا كان ذلك في الصحيحين، فإن صاحبيهما انتقيا حديثهما وانتخباه، فما كان فيهما من معنعن المدلسين فقد علما انتفاء علة التدليس عنه؛ لاحتياطهما واطلاعهما الواسع في هذا الباب، فهما أميرا المؤمنين في الحديث، ولذلك فما رواه مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة كله محمول على السماع، ومثل ذلك ما كان في صحيح البخاري من عنعنة قتادة عن أنس أو من عنعنة أبي إسحاق السبيعي ، فكله محمول على السماع، وإن كان هؤلاء قد عرفوا بالتدليس إلا أن أئمة الحديث ينتخبون من حديثهم ما ثبت سماعهم فيه.
ثم قال: [وإذا قرأ الشيخ يجوز للراوي أن يقول: حدثني أو أخبرني].
إذا قرأ الشيخ الكتاب فسمع ذلك السامع، فيجوز أن يقول: سمعت فلاناً يحدث وهذا الأصل، أو أن يقول: حدثنا فلان، فإن انفرد هو بالسماع قال حدثني فلان، وإن كان مع غيره قال: حدثنا فلان إن كان قصده بالتحديث، فإن كان لم يقصده بالتحديث كما حصل للنسائي مع الحارث بن مسكين حين غضب عليه فطرده من مجلسه، فكان النسائي يختبئ فيسمع حديث الحارث بن مسكين، ثم بعد هذا إذا أخرج عنه في سننه يقول حدث الحارث بن مسكين وأنا أسمعه، وذلك ورعاً أن يقول حدثنا؛ لأنه يستثنيه، فيقول حدث الحارث بن مسكين وأنا أسمعه، وكذلك إذا قرأ التلميذ على الشيخ، فالتلميذ يجوز له أن يقول: حدثنا أو أخبرنا عند جمهور أهل الحديث، وهذا مذهب البخاري ومالك ، وقد درج المتأخرون على التفريق بين التحديث والإخبار، فيقولون: حدثنا لما كان من السماع، ويقولون: أخبرنا لما كان بالإجازة أو غيرها من أوجه التحمل، فلذلك قال المصنف: [وإذا قرأ هو على الشيخ يقول: أخبرني ولا يقول: حدثني]، وهذا قول لبعض أهل الحديث، والبخاري ومالك يريان أن لا فرق بين حدثنا وأخبرنا، قال: [وإن أجازه الشيخ من غير قراءة] كما إذا وثق بمعلوماته، وصحت قريحته وقراءته، فأجازه بكتاب معين من غير قراءة على الشيخ فيقول: أجازني فلان، ويجوز أن يقول: أخبرنا فلان إجازة، وجمهور المحدثين أنه يجوز أيضاً أن يقول أخبرنا فلان دون أن يذكر الإجازة، لكن لا يجوز في عرف المتأخرين أن يقول: حدثنا لما تلقاه بالإجازة فقط، ومثل ذلك ما تلقاه بالمناولة أو بالوجادة أو بالوصية أو بالكتابة أو بالإعلام، فهذه هي مراتب التحمل، ثمانية: السماع من الشيخ، والقراءة عليه، وإجازته، والمناولة، والكتابة، والوصية، والإعلام، والوجادة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر