بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فموضوعنا هذا بعنوان: (مقومات الداعية) وسنتكلم فيه إن شاء الله على العناصر التالية:
فضل الدعوة والدعاة.
فائدة الدعوة.
أهداف الدعوة.
وسائل الدعوة.
صفات الداعية الناجح.
إن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالدعوة فقال: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25] ، ووصف رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالدعوة فقال: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46] ، وأمره بالدعوة فقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[القصص:87] ، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125] ، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن سبيلهم الدعوة فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108] ، وأخبر كذلك أنها أحسن الأقوال وأرضاها عنده فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت:33] ، وقد رتب الله عليها من الفضل العظيم، والأجر الجزيل الشيء الكثير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أعطاه الراية يوم خيبر: (فوالذي نفسي بيده! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فجعل هداية شخص واحد على يديه خيراً له من أن يملك حمر النعم، أي: خير من أن يملك ما في الأرض من الإبل، والمقصود بذلك: أن يتصدق بها في سبيل الله مثلاً.
ويكفي في بيان فضل الدعوة أنها وظيفة الأنبياء، فقد أختارهم الله لها: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[النساء:165] ، ومن المعلوم أن رسل الله هم أفضل خلقه، وقد اختارهم من ملائكته، ومن البشر، فقال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75] ، فالذين اصطفاهم الله اختار لهم وظيفة يقومون بها وتلك الوظيفة هي أفضل الوظائف وأسماها عند الله سبحانه وتعالى، وأعلاها.
ومن فضل الدعوة أن القائم بها قائم بالحجة لله في الأرض، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ[النساء:135] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ[المائدة:8] ، وقد افترض الله ذلك على هذه الأمة فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[آل عمران:104-105] ، وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ[التوبة:71] .
أما فائدة الدعوة فهي: مدافعة الباطل، فإن الله جعل الدار الدنيا مسرحاً للتدافع بين الحق والباطل، ورتبها على هذا الصراع الأبدي المستمر الذي لا ينقضي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض مصلحين وهم: حزب الله، ومفسدين وهم: حزب الشيطان، وجعل الصراع مستمراً ودائراً بين هذين الحزبين، لكن الله سبحانه وتعالى حكم بالعاقبة للمتقين، وجعل حزب الله أعلى منزلة وأسمى قدراً، فقال: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[المجادلة:22] ، وقال تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[المائدة:56] ، وفي المقابل قال: إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ[المجادلة:19] .
وقد حكم الله سبحانه وتعالى بالغلبة لحزبه، فقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106] ، وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21] ، وقال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف:128] ، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55] ، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:40-41] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7] .
وقد جعل الله هذا التدافع مصلحة للأرض، فلو توقف لحظة لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ[البقرة:251] ؛ وذلك أن هذه الدنيا دار عملٍ ولا جزاء، وقد جعل الله فيها هذا الصراع فلو تغلب الحق على الباطل لم يكن للدنيا معنىً؛ لأن أهلها قد نجحوا في الامتحان فينبغي أن ينقلوا إلى الجنة، ولو تغلب أهل الباطل على الأرض فلم يبقَ للحق صولة ولا صوت، لحلَّ على أهل الأرض سخط الله ومقته، كما يحل في آخر الزمان إذا لم يبقَ في الأرض إلا حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله باله، فعليهم تقوم الساعة، وفي ذلك يقول الأنبياء في حديث الشفاعة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله).
فلذلك مصلحة هذه الأرض في وجود هذا الصراع، ولا شك أن هذا الصراع من طبيعته أن الأيام يداولها الله بين الناس، كما قال تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[آل عمران:140-141] .
وتلك المداولة تقتضي أن تكون للباطل صولة، ولكنه سرعان ما يضمحل ويتراجع فلا تدوم صولته، لكنها قد تطول بحسب ما هو مصلحة لأهل الأرض في ذلك الطور، ولا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى وحده بحكمته البالغة، وقد طالت صولة الباطل في أيام نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولا تزال صولات الباطل بعد ذلك في مدٍّ وتراجع: تطول أحياناً وتقصر بحسب حكمة الله تعالى، وما علمه في أزله وأراده لخلقه، لكن من المعلوم أن النتيجة محسومة بعلم الله السابق، وأن العاقبة للمتقين على كل حال.
أما أهداف الدعوة: فلها هدفان كبيران:
أولهما: المعذرة إلى الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر به؛ لأننا مكلفون متعبدون بهذه الدعوة، وهي من صميم تكليفنا وعبادتنا لله، حتى لو أيقنَّا أنه لا يستجاب لدعوتنا، فإن ذلك لا يمنع القيام بها، بل لابد أن نؤديها كما أمر الله سبحانه وتعالى، ونتعبد الله سبحانه وتعالى بها؛ ولهذا فإن نوحاً عليه السلام مع طول المدة لم ييئس ولم يقنط، ولم يتراجع، بل استمر على منهجه يغير من أساليب الدعوة بحسب الأحوال، فلذلك قال فيما حكى الله عنه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً[نوح:5-14] .
فنوَّع الأساليب باعتبار أحوال قومه، وصبر على أذاهم، واستمر في دعوته، ومع هذا قال الله تعالى: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ[هود:40] ، وليس ذلك راجعاً إلى أنه فشل في دعوته، أو لم ينوع الأساليب أو قصر بل قد نجح غاية النجاح، وبذل قصارى جهده، وشهد الله له بذلك، وسيشهد له به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته يوم القيامة، لكن أراد الله ألا يستجاب لدعوته على مستوى واسع في ذلك الزمان، ثم يرفع الله قدره بأن يجعله أباً للبشر، فلو استجاب له الناس إذاً لم يكن نوحٌ أبا البشر؛ لأن البشر قد انتشروا وكثروا إذ ذاك من سلالات متنوعة، فلا يمكن أن يكون أبا البشر إلا بذلك الطوفان المهلك للجميع، ولا يأتي الطوفان مهلكاً للجميع إلا إذا قلَّ أتباع نوحٍ من الناس.
الهدف الثاني: لعل الناس يستجيبون لهذه الدعوة فيخرج الله منهم من ينصر دينه، ويعلي كلمته ويلتزم بأوامره، ويتقيد بحكمة إنزاله إلى الأرض، إنما خلق الله الإنس والجن؛ لعبادته، وإنما أنزل الله آدم وذريته إلى هذه الأرض؛ لتحقيق الاستخلاف فيها، ولا شك أن بعض الناس أوتي ملكة التأثير في بعض، وأن كثيراً من الذين انحرفوا عن الطريق إنما انحرفوا بتأثير غيرهم عليهم، ولهذا فإن الذين استكبروا والذين استضعفوا يختصمون يوم القيامة في النار، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ[سبأ:31] ؛ لأنهم اتبعوهم في غوايتهم.
وهذان الهدفان جاء التصريح بهما في سورة الأعراف في قول الله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[الأعراف:163-164] ، (معذرة إلى ربكم) هذا الهدف الأول، (ولعلهم يتقون) هذا الهدف الثاني.
ومع هذا لابد أن يعلم الذين يسعون إلى تحقيق هذا الهدف أن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية إرشاد، وهداية توفيق.
فهداية الإرشاد يمكن أن يقوم بها البشر، وهداية التوفيق لا يمكن أن تقع إلا بأمر الله سبحانه وتعالى وحده.
والله سبحانه وتعالى نفى القدرة على هداية التوفيق عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[القصص:56] ، وأثبت له القدرة على هداية الإرشاد، فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:52-53] .
وهداية التوفيق هي المذكورة في الفاتحة في قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] ، وهداية الإرشاد هي المذكورة في قصة ثمود، في سورة فصلت، في قول الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى[فصلت:17] ، (فهديناهم) أي: هداية الإرشاد، ببعثة رسول إليهم، وإقامة الحجة عليهم، (فاستحبوا العمى على الهدى) فلم ينتفعوا بتلك الهداية، فمن شاء الله هدايته لابد أن يهتدي ولو لم يبذل معه الكثير من الأسباب، ومن لم يرد الله له الهداية لا يمكن أن يهتدي، ولو بذلت له كل الأسباب، ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ[يونس:99-100] ، وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:109-111] .
ولهذا جعل الله الهداية نوراً يقذفه في قلب من شاء من عباده، كما قال في وصف الإيمان: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا[الشورى:52] .
أما وسائل الدعوة: فهي كما رأينا في قصة نوح تتنوع باجتهاد الداعية، وبأحوال المدعوين، وليست توقيفية ولا محصورة في نماذج معينة، وإنما يجتهد الإنسان في تبليغ رسالات الله، وفيما ائتمنه عليه من الوحي بتبليغه بأي وسيلة تؤثر في الناس وتوصل الحق إليهم، وَلْيسْعَ للأجدى والأنفع، وليأخذ بالأسهل فالأسهل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً ولا قطيعة رحم، ويمكن أن يستعين بالوسائل المستوردة من خارج بيئته، حتى لو كانت مستوردة من الكفار، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع وسيلة تؤدي إلى إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه إلا أعملها، حتى لو كانت مستوردة من خارج البيئة العربية: فالخندق فكرة مستوردة من فارس، والخاتم فكرة مستوردة من الروم، والمنبر فكرة مستوردة من الحبشة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سبع وسائل للدعوة: أربع منها في آية، وثلاث في آية، فقال في الآية الأولى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108] ، وقد تضمنت هذه الآية أربع وسائل من وسائل الدعوة.
أول وسيلة منها: البصيرة، فلابد أن يكون الداعي إلى الله سبحانه وتعالى بصيراً بمن يدعوه، وبما يدعو إليه، وبأصول التأثير على من يدعوه، فالمعرفة قبل الدعوة، ومعرفة الإنسان ببيئته من بصيرته بها؛ لأنه قد ينشغل بالجزئيات والأمور اليسيرة مع أن بيئته تحتاج أموراً أكبر منها وأهم، فإذا لم يكن ذا بصيرة ببيئته فإن دعوته ستنحرف عن مدارها، وتقدم ما ليس أولى بها على ما هو الأولى بها، وهذه البصيرة بعضها مكتسب، وبعضها موهوب من عند الله سبحانه وتعالى: فالمكتسب منها: ما يتعلمه الإنسان من العلم النافع، ومن الاطلاع على أحوال الناس وأساليب عيشهم، والأساليب المؤثرة فيهم، وما يكتسبه من المهارات، وما يبدعه هو من التجارب الجديدة التي تثبت جدارتها وأحقيتها فيأخذ بها. وأما الموهوب من عند الله سبحانه وتعالى، فهو من آثار التقوى والالتزام والورع، فمن كان صادقاً مع الله سبحانه وتعالى لم ينبُ حديثه عن القلوب، بل استمع الناس إليه بإنصات في أغلب الأحيان، ومحل ذلك الناس الذين ليس في قلوبهم مرض، أما الذين في قلوبهم مرض فإنهم لا يمكن أن يستمعوا إلى كلام المخلص أصلاً، بل يفرون منه كما يفرون من الأسد!!
ومن هنا فإن الناس في الدعوة على أربعة أقسام:
القسم الأول: الذين لا يتحملون سماعها، ولا يطيقونها، ويفرون منها كما يفرون من الأسد، وهم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51] .
القسم الثاني: الذين يطيقون سماعها بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى القلوب، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16] .
القسم الثالث: الذين يفصلون فيها، فيقبلونها من بعض الناس دون بعض، فإذا سمعوا من يدعو إلى الله ممن يعجبهم شكله أو نسبه أو حسبه أو يعرفونه، استمعوا إليه، وأصاخوا له، وإن قام مجهول لديهم، أو من لا ينزلونه هذه المنزلة في أمور دنياهم لم يستمعوا إليه، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين اتصفوا بصفة من صفات بني إسرائيل حين قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ[البقرة:247] ، واتصفوا كذلك بصفة من صفات أهل مكة وأهل الطائف من المشركين، عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، عندما قالوا: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ[الزخرف:31] .
وهؤلاء أنواع وأجناس: فمنهم من لا يحمله على ذلك إلا الحسد، كحال اليهود الذين حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم حسداً من عند أنفسهم، فمنعهم ذلك من اتباعه وطاعته، مع علمهم علم اليقين، أنه الرسول الذي أخذ عليه موسى وغيره من أنبيائهم العهد إذا بعث أن يؤمنوا به ويتبعوه.
ومنهم من يحول بين الالتزام بالدعوة والانتفاع بها التقليد لما كان يجده في مجتمعه أو لطريقة آبائه، فهو مقلد تقليداً أعمى، فلا يمكن أن ينتفع من أي شيء جديد، وهؤلاء في تقليدهم قد سلكوا طريقة من طرائق المشركين، وقد وصف الله المشركين المعرضين بقوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[الأنفال:22-23] .
أما النوع الرابع: فهم الذين يسمعون الدعوة من كل أحد، ولا يفصلون فيها، فيأخذون بالحق، ويردون الباطل، وهؤلاء هم الذين أثنى الله عليهم في كتابه، وقال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18] ، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً[الفرقان:73] ، وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا[الأعلى:9-13] ، وقال: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[الذاريات:55] ، فأولئك هم الذين ينتفعون بالذكرى، وهم أهل الإيمان المستجيبون للدعوة.
أما الوسيلة الثانية: فهي ما أشار الله إليه بقوله سبحانه وتعالى: أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي[يوسف:108] ، فلا يمكن أن تنجح الدعوة إلا إذا وجدت أنصاراً وأعواناً، فدعوة الإنسان وحده لا تؤثر، وإذا أثرت يكون تأثيرها محدوداً ضيقاً؛ ولهذا فإن الله جعل لأنبياء الله أنصاراً وحواريين، يأخذون بسنتهم، وينشرون دعوتهم، ويجاهدون في سبيلها، وهذا ما بيَّنه الله في ثنائه على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عدد كبير من الآيات، فمنها قول الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ[الفتح:29] .
فلابد للدعوة من مجموعة من الناس تتبنى القيام بها، وتتحمل أعباءها، وتتعاون فيها؛ وذلك أن الله تعالى جعل الناس شرائح متنوعة، وجعل مستوياتهم متفاوتة متباينة، وكل شريحة في العادة إنما تتأثر بمن كان منها، كما أن كل أهل مستوىً انتفاعهم الغالب إنما يكون ممن هو في مستواهم، أو ممن نزل إلى مستواهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر حين سأله في بداية الإسلام: (من تابعك على هذا الأمر، فقال: رجل وامرأة وعبد وصبي)، فكل شريحة من شرائح المجتمع قد دخلتها الدعوة بممثل عنها: فالرجل أبو بكر الصديق، والمرأة خديجة بنت خويلد ، والعبد بلال ، والصبي علي بن أبي طالب.
ولا تأخذ الدعوة أبعادها إلا إذا دخلت كل الشرائح؛ لأن كل شريحة إذا كان فيها ممثل، وكان فيها أسوة وقدوة لأهلها فذلك أكمل للاستجابة إلى الدعوة، ثم إن المستويات متباينة متنوعة، ومن كان مستواه ضعيفاً لا يمكن أن يستوعب دعوة ذي المستوى الرفيع إلا إذا تنزل له صاحب المستوى الرفيع، ومن كان مستواه رفيعاً لا يمكن أن ينتفع غالباً من دعوة المستوى الضعيف وهكذا، فاحتيج -إذاً- إلى جماعة لهذه الدعوة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أهمية الجماعة لهذه الأمة، وقد صرح الله بذلك في كتابه بقوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ[آل عمران:104] ، بعد قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[آل عمران:103] .
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـحذيفة : (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وقال: (من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، وقال: (من فارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية)، وقال: (يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذّ في النا) وقال: (يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
والدين كله لا يستقيم إلا بجماعة، ولهذا فالصلاة مثال للدين كله، فيحتاج فيها إلى إمام يتقدم على الناس فلا يُحرمون قبل إحرامه، ولا يركعون قبل ركوعه، ولا يرفعون قبل رفعه، ولا يسلمون قبل سلامه. ووراءه مما يليه أولو الأحلام والنهى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وتأتي الصفوف بعد ذلك تباعاً، الساق بالساق والمنكب بالمنكب، حتى لا تبقى للشيطان فُرجة، فذلك مثال لأمور الدين كلها.
أما الوسيلة الثالثة: فهي الربانية، أي: الاتصال بالله سبحانه وتعالى، وقصد وجهه الكريم بالدعوة، والاتكال عليه سبحانه وتعالى وحده، والبراءة إليه من الحول والقوة، وذلك يقتضي أن ينظر الإنسان إلى الأسباب على أنها تكليف يؤديه، وعمل بمقتضى الشرع، ومع ذلك لا يتَّكل عليها، ولا يثق إلا بوعد الله سبحانه وتعالى ونصره، فالتوكل على الأسباب شرك، وتركها معصية، وهذه الربانية هي المشار إليها في الآية بقول الله تعالى: وَسُبْحَانَ اللَّهِ[يوسف:108] .
فالداعية لابد أن يكون منزهاً لله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به، وأن يكون ذاكراً له شاكراً حتى يستجاب لدعوته.
الوسيلة الرابعة: هي التميُّز؛ فإن الله تعالى يقول: وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108] ، فإذا كان الداعية يفعل ما يدعو الناس إلى تركه، ويترك ما يدعوهم إلى فعله، فلا يمكن أن يستجاب لدعوته، ولا أن يطاع لأمره؛ ولذلك فإن الله تعالى حكى عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام أنه قال: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[هود:88] .
و أبو الأسود الدؤلي رحمه الله يقول:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليمُ
تصف الدواء لذي السقام فذي الضَّنَا كيما يصح به وأنت سقيمُ
وأراك تلقح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُقبل ما تقول ويشتفى بالقول منك وينفع التعليمُ
لا تنه عن خلقٍ وتأتِيَ مثلهُ عار عليك إذا فعلت عظيمُ
ويقول الآخر:
فإنك إذ ما تأتِ ما أنت آمر به تلفِ من إياه تأمرُ آتيَا
وفي رواية:
فإنك إذ ما تأبى ما أنت آمر به تلف من إياه تأمرُ آبيا
والتميز يقتضي من الإنسان الذي يدعو إلى طريق الحق ألا ينساق مع الناس فيما هم فيه، فإذا تنافسوا على أمور الدنيا تذكر قول الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132] .
وإذا جزعوا أو حزنوا لأمرٍ دنيوي فاتهم، أو فرحوا بأمر دنيوي أحرزوه، تذكر قول الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23] ، وهكذا.
فهذه الوسائل الأربع تضمنتها هذه الآية الكريمة قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108] .
أما الوسائل الثلاث الأخر فقد تضمنتها آية النحل، وهي قول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125] .
فأول وسيلة منها الحكمة، وهي وضع الشيء في موضعه: بوضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها، والسيف في موضعه، والعطاء في موضعه، وقديماً قال أبو الطيب المتنبي :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
فالحكمة إذاً هي وضع كل شيء في موضعه، وهي مأمور بها لا محالةَ، ومزية عظيمة رفيعة، وهي وسيلة من وسائل الدعوة، فلابد أن يكون الداعية حكيماً في تصرفاته؛ حتى لا يكون من قطاع الطرق المنفرين عن الله سبحانه وتعالى، فليس قطاع الطرق بالذين يرعبون المارَّة، ويأخذون أموالهم، بل قطاع الطرق على الحقيقة هم الذين يمنعون الناس من الاهتداء إلى منهج الله، وسلوك طريقه، وهم المنفِّرون، وقد حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس إن منكم منفرين).
والحكمة تقتضي من الإنسان أن ينوع الأساليب باعتبار المدعوين، وأن يجامل في موضع المجاملة، وأن يجدَّ في موضع الجد، ولا يقول إلا الحق في كل ذلك.
الوسيلة السادسة من هذه الوسائل: وهي ثانية من الثلاث في هذه الآية، قوله: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ[النحل:125] ، والموعظة خطاب للعاطفة، وتنبيه للإنسان على ما كان غافلاً عنه بإحياء ضميره، ونفض الغبار عنه.
والإنسان فطره الله في الأصل على فطرة الخير، ولا تزال كوامن الخير فيه ما لم يمت قلبه، فتحريك تلك الكوامن الخيرية فيه إنما يتم بالموعظة الحسنة، ولا تكون الموعظة حسنة إلا إذا اختير لها الزمان والمكان والموضوع والأسلوب واللغة، فكل ذلك هو الذي تكون به الموعظة حسنة، فإذا كان الإنسان في أوجِ شهوته وإقباله على المعصية، فليس ذلك الوقت مناسباً لوعظه في الانزجار عنها، بل وعظه حينئذٍ يقتضي أن تأخذه العزة بالإثم، ولهذا أمر الله بالإعراض عن أصحاب المعصية في ذلك الحال فقال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأنعام:68] .
فلابد من الذكرى لكن لا تكون في وقت الخوض، ثم بعدها إذا أعرضوا عن الذكرى ولم يستمعوا ولم يستجيبوا يهجرهم الإنسان بعد الذكرى، فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأنعام:68] .
والموعظة هي إقناع للإنسان عن طريق عاطفته، والعاطفة مؤثرة في الناس تأثيراً بالغاً، لكن بعض الناس قد لا يتأثر عاطفياً فيحتاج إلى الإقناع عن طريق المجادلة.
فكانت الوسيلة السابعة: وهي الثالثة مما في هذه الآية، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125] .
فالجدال هو الإقناع عن طريق العقل بقرع الحجة بالحجة، ولكنه ينقسم إلى قسمين: إلى جدال حسنٍ وجدال قبيح.
فالجدال القبيح ما كان فيه تنكر للحق، وعدم استماع للخصم، وسوء أدب أو رفع صوت، فذلك كله من الجدال القبيح، وقد قال الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ[العنكبوت:46] ، وقال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ[النساء:148] ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125] ، فهذه هي الوسيلة السابعة.
نصل بعد هذا إلى صفات الداعية الناجح:
فالداعية الناجح لابد أن يتصف بعدد من الصفات، بعضها كسبي وبعضها وهبي: فالكسبي منها: الذي يكتسبه الإنسان ويمكن أن يزيد فيه، والوهبي منها: ما يمنحه الله سبحانه وتعالى للذين يأتمنهم على وحيه، ويبعث في أنفسهم حب التضحية في سبيله، والسعي لإعلاء كلمته.
فأول صفة من هذه الصفات: هي الرحمة، وهي خُلُقُ هذا الدين، فلكل دين خلق، وخلق الإسلام الرحمة، وقد كتبها الله على نفسه، وتَسمى بها، وقال سبحانه وتعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54] ، وقال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[الحشر:22] .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها).
فلابد أن يكون الداعية رحيماً بالمدعوين؛ لأن حرصه عليهم ورأفته بهم ستكون سر إصراره في دعوته، واستمراره فيها، وتذكره أن هؤلاء عرضة لأن يكبهم الله على وجوههم في النار، فهو يرحمهم، ويسعى للحيلولة بينهم وبين ذلك، وقد قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[آل عمران:159] .
والرحمة صفة مطلوبة في كل مؤمن، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وفي الحديث المسلسل بالأولوية، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي قابوس ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها).
وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الرحمة في عدد من الآيات، فقد سبق قوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ[آل عمران:159] ، وقال الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128] ، وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29] .
والرحمة تقتضي من الداعية ألا يخاطب الناس من منطلق الترفع والتعالي، بل يخاطبهم من واقع الحرص عليهم؛ لإنجائهم من عذاب الله، يقول أحد العلماء:
ارحم بنيي جميع الخلق كلهمُ وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة
وقِّر كبيرهمُ وارحم صغيرهمُ وراعِ في كل خلق حق من خلقه
الصفة الثانية: الاحتساب، فلا ينجح الداعية إلا إذا كان محتسباً في دعوته لله تعالى، لا يطلب عليها جزاء ولا شكوراً، ولهذا فما من نبيٍّ من الأنبياء إلا قال لقومه: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ[ص:86] ، ولا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً[هود:29] ، وهكذا، فما من نبي من الأنبياء إلا تبرأ من ذلك.
فالداعية إذا كان يطلب غير وجه الله بدعوته فإنما يدعو إلى نفسه، أو إلى ذلك الذي يطلبه، ومن هنا فلا بد من التوحيد في الدعوة، أي: أن تكون الدعوة خالصةً لوجه الله؛ لأنها عبادة يبتغى بها وجه الله ويتقرب بها إليه.
وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك: فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه).
والاحتساب يقتضي من الداعية: أن يجتهد في أن يكون قدوة حسنةً، ومثالاً صالحاً يهتدي به الآخرون، فيحاول أن يكون أبلغ الناس تضحية، وأكثرهم عبادة، وأكثرهم تأثراً بما يقول.
ولذلك فإن ابن الجوزي رحمه الله كان خطيباً مفوهاً، وكان إذا خطب في أمر استجاب الناس لخطبته، فأتاه الأرقاء في الشام فقالوا: لو خطبت عن العتق فلعل موالينا يعتقوننا، فوعدهم خيراً، فانتظروا الخطبة فخطب، ولم يذكر الرقَّ، ثم الخطبة الأخرى ولم يتعرض للعتق، ثم الثالثة فخطب عن العتق، وحظ الناس عليه، فأعتق الناس أرقاءهم، فأتوه فقالوا: رحمك الله تأخرت عن وعدك، فقال: (إني لا يمكن أن آمر الناس بأمر قبل أن أبدأ فيه بنفسي، ولم يكن لي رقيق أعتقه، فأخرت ذلك حتى أحرزت مالاً فاشتريت به رقيقاً فأعتقته، وحينئذ أمرت الناس بالعتق فبادروا إليه؛ لأنني بدأت بنفسي)!
الصفة الثالثة: المعرفة، فلابد أن يكون الداعية عارفاً بما يدعو إليه، وبمن يدعوه، وبأساليب الدعوة، وبمعاش الناس وما هم فيه، وبلغتهم كذلك، فالله تعالى يقول في كتابه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ[إبراهيم:4] .
فإذا كان الداعية لا يستطيع البيان لقومه بلسانهم، فلا يمكن أن يبلغ رسالات الله وأن يبينها، وكذلك إذا كان غير عارف بهم، وبمكان التأثير فيهم، أو بأولويات حياتهم، وأنماط معاشهم، فلا يمكن أن يؤثر فيهم، ومن هنا احتيج الداعية إلى أن يتعرف على المدعوين بأوجه المعرفة المختلفة، وقد سبق أن من قواعد الدعوة: أن المعرفة سابقة على الدعوة.
الصفة الرابعة: الثقة، فلابد أن يكون الداعية واثقاً من نفسه، واثقاً من منهجه، وأن يكون من يدعى واثقاً به، ولابد أن يبني ثقة الناس به هو، فإذاً لابد أن يبني ثقته أولاً هو بنفسه، وبمنهجه، وبالناس، ثم يبني ثقة الناس به، فالذي لا يثق بنفسه لا يمكن أن يضحي.
ولهذا فإن بني إسرائيل حين فرض الله عليهم دخول (أريحا)، قالوا إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ[المائدة:22] ، ففرض الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات كبارهم الذين تعودوا على المذلة لفرعون وجنوده، ونشأ جيل عاشوا في الشغف والتنقل والتيه، فكانوا هم الذين يستطيعون الجهاد في سبيل الله. وإنما وثق من بني إسرائيل رجلان فقط، حكى الله كلامهما فقال: قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أي: من بني إسرائيل الذين هم أهل الخوف والذلة والمسكنة، أو من الذين يخافون الله، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بتوفيقهما لذلك ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:23] .
ومثل ذلك أن يثق بمنهجه، فإذا كان الداعي إلى منهج أو على منهج لا يثق به، ويتردد فيه، ولا يدري هل غيره أقوم من منهجه، فإنه لا يمكن أن ينجح في دعوته؛ لذلك التردد الحاصل لديه، ولهذا قال الزبيري رحمه الله عندما جادله بعض الجهمية:
أأرجع بعدما رجِفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني
إلى أن قال:
فما عوض لنا منهـاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين
صلى الله عليه وسلم
فلابد أن يثق الداعية بمنهجه وأن يعلم أنه أحسن الموجود وأقومه، ولو كان اجتهاداً، فهو يعلم أنه هو أصح الموجودين لو علم أن غيره أصح منه وأحسن لتبعه بالضرورة؛ لأن اتباع الحق واجب، وقد قال عمر رضي الله عنه في كتابه لـأبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).
وكذلك ثقته بالمدعوين، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به.
ثم بعد هذا بناء ثقة الآخرين به هو، فالداعية عرضة للعداوة، كما قال ورقة بن نوفل : (إنه لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) وقد قال الشاعر:
ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل
والداعية قد دعا الناس إلى ذمه بسلوكه طريق الحق، فلابد أن يجد عليه أعداءً يدافعون عن الباطل، ولا يرضون طريق الحق أبداً، وهم خصوم الرسل، وما من نبي إلا وقال فيه بعضهم: كذاب مجنون ساحر إلى غير ذلك من أنواع التُّهمِ والشبهات، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن ذلك ماضٍ مسلسل، فقال: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53] .
ومن هنا فلن يضيق الداعية ذرعاً بما يوجه إليه من الشبهات؛ لعلمه أنها وجهت إلى من هو خير منه، لكن مع هذا يسعى لقطعها عن نفسه ما استطاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع الشبهات عن نفسه، فقد كان في معتكفه في رمضان فأتت أم المؤمنين صفية بنت حيي تزوره في معتكفه، وكان ذلك في ليلة مظلمة فأراد أن يرجعها إلى غرفتها؛ حتى لا تخرج وحدها في الليل، فخرج يقلبها، فرآه رجلان من الأنصار، فلما رأيا المرأة معه أسرعا، فقال: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي ، فقالا سبحان الله!! أنتهمك؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
فلابد أن يكون الداعية بعيداً عن مواقع التهم، وقد كان مالك يعتذر عن نفسه إذا حصل منه أمر ظن أن الناس سينقدونه، وبين وجهه فيه.
وهذا ما حصل للخضر مع موسى، فإن موسى انتقد عليه ثلاثة أمور: الأمر الأول: خرقه للسفينة وقد حمل فيها بغير أجرٍ وهي في عرض الماء، والثاني: قتله للولد الصغير الذي لم يبلغ الحلم والتكليف بعد، والثالث: إصلاحه لجدار أهل القرية الذين امتنعوا من ضيافتهم، ولم يأخذ عليه أجراً، فأجابه عن ذلك جميعاً بما بيَّنه الله في كتابه.
ومما يذكره أهل التفسير في هذا الأمر أن ذلك كان دروساً أخرى لموسى من وجه آخر، فموسى عندما أنكر على الخضر خرق السفينة في الماء كان يظن أن السفينة إذا خرقت ودخلها الماء ستغرق، وقد نبه بذلك إلى أنه هو قد رمته أمه في التابوت في البحر ولم يغرق وهو صغير. كذلك إنكاره عليه قتل الغلام فيه تنبيه لقتله هو للرجل الذي وكزه فقضى عليه. وكذلك في إصلاحه للجدار لولدي الرجل الصالح، فيه تنبيه لقصة حصلت له هو عندما ورد ماء مدين كما قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ[القصص:23] ، فسقى لهما، ولم يأخذ على ذلك أجراً، فكان ذلك تنبيهاً له على فضل الله عليه ونعمته به.
الصفة الخامسة: الحِلم، فلابد أن يكون الداعية حليماً، فمن كان عجولاً لا يمكن أن يحصل على مآربه الدنيوية فضلاً عن أموره الأخروية، والحلم يقتضي من الإنسان أن يكون وقوراً، وأن يكون صاحب سكينة، وأن يكون صاحب ثبات، والحلم والأناة صفتان يحبهما الله ورسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس .
وحاجة الداعية إلى الحلم عظيمة جداً، فبالحلم يعرض عن الجاهلين، وبالحلم كذلك يتغلب على كثير من العقبات التي تعرض له من مخالطة الناس، ولهذا قال الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً[الفرقان:63] .
الصفة السادسة من هذه الصفات: الصبر، فلابد أن يكون الداعية صبوراً على الأذى، وأن يعلم أن هذا الطريق طريق محفوف بالمكاره، وأن الأذى فيه مضمون، لكن الأذى معلمة من معالم الطريق يعرف به أنه سلك طريق الحق. والأذى للسالكين لطريق الحق لله فيه حِكم عظيمة، فمنها:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى يصرف به الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، كما قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً[الأعراف:146] ، وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ[الذاريات:9] ، وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ[التوبة:46] ، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[الحج:11] ، فهذه الحكمة الأولى.
ثانياً: أن هذا الأذى يعرف به السالكون لطريق الحق أنهم ما ضيعوا، وأنهم سلكوا طريق الأنبياء، فمن سلك طريق الأنبياء ولم يؤذَ، ولم يجد ما وجده الأنبياء على هذا الطريق، فليعلم أنه قد ضيع الطريق وسلك فجاً آخر؛ لأنه لم يسلكه نبي قط إلا أوذي، كما بينَّا في حديث ورقة بن نوفل ، وكما نص الله عليه في كتابه: الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3] .
ثالثاً: من حكم الله في الأذى الذي يلحق الدعاة على طريق الحق: أنه رفع لمستواهم ولمكانتهم، فقد يكتب الله المنزلة للداعية فلا يبلغها بعمله، فيقيض الله إليه من يتنقصه ويؤذيه؛ فيرفع الله بذلك منزلته وقدره، وقد يكون ذلك بعد موته، فتتلقى ذلك الألسنة، فيرفع الله قدره بذلك ومنزلته، ويهبُ له أولئك المتنقصون حسناتهم إن كانوا من أهل الإيمان.
رابعاً: من حكم الله في ذلك: أن هذه الدعوة ليس لديها من الوسائل ما تصل به كثيراً من البيئات والملأ فتحتاج إلى الوسائل؛ للوصول إلى هنالك.
ومن الوسائل: أن يتكلم الناس فيها، وينتقدونها، فيكون ذلك وسيلة لتقصي أخبارها والبحث عنها، وقديماً قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
فإذا تكلم فيها الناس اقتضى ذلك أن يبحث عنها الباحثون عن الحق، وأن يتلمسوا أمورها حتى يطلعوا على جليِّ الأمر وحقيقته، فتصل الدعوة إلى أماكن لم تكن لتصلها من قبل، لولا تنقُّص الناس لها.
خامساً: ومن حكم الله فيها: أنها مقتضية لتوحيد جهد الدعاة واتفاقهم، قال الشاعر:
لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تضاعف الأقياد
بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر