بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على الناس بالرسل الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين ليدلوا الناس على الطريق الذي يرتضي منهم خالقهم سبحانه وتعالى، فما من أمة إلا وفرط فيها رسول دعاها إلى ما يرتضيه منها خالقها سبحانه وتعالى.
وعندما ختم الله رسالات الرسل إلى أهل الأرض جعل العلماء ورثة الأنبياء، فجعلهم الحاملين لمشعل الحق والرافعين للوائه، يجاهدون في سبيله ويعلون كلمة الله سبحانه وتعالى بما يبذلون ويضحون، وقد يسرهم الله سبحانه وتعالى لذلك وأعانهم عليه، واختارهم اختياراً من بين خلقه، فقد قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]، وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51] .
وقد اختار من خلقه أمناءه على الوحي الذين هم خلفاء الأنبياء وحملة هذا الوحي وأمناء الله عليه، وهم الموقعون عن رب العالمين، تقوم بهم الحجة لله على الناس، وقد قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: ما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم!
إن أولئك الذين ائتمنهم الله سبحانه وتعالى على الوحي واختارهم من بين الخلق لإقامة الحجة هم أمناء الله سبحانه وتعالى، قد ارتضاهم لهذه الأمانة، فلم يكن ليجعل وحيه بدار هوان، إنما يختار لوحيه من يصلح لأن يؤتمن عليه.
ويعدهم الله سبحانه وتعالى لذلك إعداداً عظيماً قبل أن يكلفهم بهذه المهمات، وقد انتبه لهذا الإعداد أحد شعراء شنقيط وهو ........ الحسني رحمه الله في قصيدته التي يصف بها الشيخ سديه ابن المختار رحمهم الله أجمعين حيث يقول:
ما للمشيب وفعل الفتية الشببه وللبيب يواصي في الصبا خببه
آلت لذي شمط الخدين رجعته إن القتير ليحمي ذو النهى طربه
لما تأوب لي من طول ما جمحت نفسي هموم رمت صدري بما سلبه
ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري ثم استمر بي الرأي الذي اكتسبه
أن يممت شرف الدين الكمال بنا علياء تعتسف الآكام والهضبة
حتى وضعت عصا سيري بباب فتىً يؤوي الطريد ويولي الراغب الرغبة
من نبعة طيب الباري أرومتهـا بيتاً أحل ذرى المجد العلا نسبه
حارت أناس بجدوى حاتم ولقد نرى سخاء كمال الدين قد غلبه
أحنى على الشعث والأيتام من نصـب على صغير لها قد أكبرت عطبه
أشد عند تمادي أزمة فرحاً بالمعتفين من العافي بكل هبة
يلقى العفاة بوجه من سماحتـه كالهندوان تجلو متنه الجلبه
وإن ألم به ضيف فمرتحل يثني وكان حميد الظن إذ رغبه
ولى يفرق مدح الشيخ في فرق شتى ويكثر مما قد رأى عجبه
رأى هنالك أخلاق الكرام إلى زي الملوك وزي السادة النخبة
رأى مصرعة الأنعام قد قسمت بين الصفيف وبين الجونة الرحبه
رأى الضيوف على باب الكمال كمـا يرى العفاة على عدّ حمت قلبه
من معتفٍ وأخي حوجا وملتمس فصل القضا ومريد كشف ما حجبه
أو كشف مسألة والكل قد وسعت جفانه ولكل منه ما طلبه
فالله بارك في نفس الكمال وفي ما الله موليه من قصوى ومقتربة
إن تستبق حلبات المجد راكضة نحو المعالي تراه سابق الحلبة
لا يضمر الضغن من جار أساء ولا من المصاحب يوهي صبر من صحبه
وكم ذءاً بينما حيي أصلحه خرز الصناع لمسنى أجرة قربه
أما الرقاع فأعناق يجود بها والسير نصح بليغ يبتغي القربة
رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه
فهنا انتبه إلى الاختيار الرباني للذين يأتمنهم الله على الوحي ويجعلهم أساطين الأرض يقومون بالحجة لله فيقولون كلمة الحق مدوية لا يخافون في الله لومة لائم، ويقومون لله بالقسط في عباده، فيؤدون الحق الذي عليهم بعد أن تحملوه، فأخذوه من حله ووضعوه في محله، وجاهدوا في سبيله، فلذلك قال:
رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه
علماً وفهماً يصيد المشكلات به درك الطيرة من سرب المها عطبة
إن أولئك الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لابد أن يتفرقوا في الأرض ضرورة؛ لأن الناس تفرقوا فيها وشغلوا، فلذلك لابد أن يكون في كل بلاد من بلاد الله من يحملون لواء الحق ويضحون في سبيله، ويبذلون كل ما يبذله الناس في أمور الدنيا في سبيل الله عز وجل وإقامة دينه.
ومن هؤلاء حملة العلم الذين آثروه على كل ما سواه، وبذلوا في سبيله أوقاتهم النفيسة، فكما ضحى المجاهدون بدمائهم في سبيل الله كذلك ضحى العلماء بمدادهم في سبيل الله، وكان لهم الدور البارز في تكوين المجاهدين والباذلين بمختلف أنواع البذل، فكم من عالم كتب له أجر الآلاف من المجاهدين والمضحين، وكم من عالم كذلك كتب لدعوته البقاء فاستجاب لها الملايين بعد موته، واستمرت خالدة في هذه الأرض ببركة إخلاصه لله عز وجل وقناعته بصدق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن هؤلاء الذين تفرقوا في الأرض لا يمكن أن يكون لبلد منهم ما هو أوفر من نصيب غيرهم من البلدان؛ لأن عدل الله سابق، لكن إنما تتفاوت حظوظهم باعتبار اعتراف الناس لهم بالجميل أو عدم اعتراف الناس لهم بذلك.
ومن هنا فعلماء قطر شنقيط الميامين الذين خاضوا مشارق الأرض ومغاربها حاملين هذا العلم ومبلغيه إلى كل من يمكن أن يؤتمن عليه، ومربين الأجيال على ما حملوه منه ثم يكن لهم في الماضي من الحظ لدى الناس ما ينقص أجرهم، فلم يشتهروا في حياتهم بالذكر والشكر في أغلب الأحيان، وإنما عاشوا في أغلب الأحيان مغمورين لا يعرفهم إلا أهل بلادهم.
واليوم في هذا الزمان الذي أصبح العالم فيه بمثابة قرية واحدة، وأصبحت الأنباء فيه تتناقل بما يسوء في أكثر الأحيان من مشارق الأرض إلى مغاربها ومن جنوبها إلى شمالها وبالعكس، كان جديراً بهؤلاء أن يذكر ما قدموه لعدة أمور:
أولاً: اعترافاً بالجميل وشكراً للنعمة. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، وفي رواية (لا يشكر الله من لم يشكر الناس)، فلابد أن يشكر الناس بما معهم من الحق.
وقد أمر الله بشكر ذوي النعم كالوالدين في قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[لقمان:14] .
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك بالاعتراف بالجميل لأهله، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أمره بإنزال الناس منازلهم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، ومن المعلوم أن الصحابي الكبير إذا قال: (أمرنا) فالمقصود بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن هؤلاء العلماء قد اختارهم الله للائتمان على وحيه، فمن الثناء على الله ومن إعلاء كلمته ومن إعزاز دينه تشريفهم وتكريمهم، فهم أمناء الرسل وخلفاؤهم، فجدير بهم أن يذكروا وأن يبين فضلهم للأمة، وبالأخص في الأوقات التي تتعالى فيها صيحات المدعين الذين هم من الأدعياء الذين لا يبلغ أحدهم شسع نعل أحد من أولئك، ولا يمكن أن يصل إلى أقل شيء من تضحياته وبذله.
وفي الوقت الذي أصبح الخلف فيه يتنكرون للسلف فأصبحوا يظنون أنهم في غنى عما كان لدى أسلافهم، بل أصبح كثير من الناس يهرع في سباق محموم إلى حضارات أعدائه وثقافاتهم متنكراً لحضارات الأسلاف الذين هم -لا شك- أعقل وأزكى وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
كذلك فإن هؤلاء الأئمة رحمهم الله قد خلفوا مجداً عريقاً ينبغي أن يحيا في أذهان الجيل الصاعد ليعلموا أنهم ورثة لذلك الجيل، وليساهموا في إحياء ما أبقوه، وليسلكوا طريقهم، فقد كانوا مُثُلاً يحتذى بها ويقتدى بها في طريق الحق.
وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن فتنته.
فأولئك الأسلاف الذين شهد لهم بالاستقامة حتى ماتوا على طريق الحق جدير بهم أن تبين سيرهم للناس ليقتدوا بهم وليسلكوا طريقهم.
كذلك لاشك أن البلدان الإسلامية -وبالأخص البلدان الفقيرة- تشهد في زماننا هذا كثيراً من المؤامرات الدنيئة الخسيسة من قبل أعداء الله ورسوله، فهم يشوهون تاريخها ويحاولون قطع الشعوب عن ماضيها، ويحاولون شغلهم بما لا خير فيه، فإذا راجعت المقررات الدراسية التي يقرها المعهد التربوي المحترم في موريتانيا ستجد فيها كثيراً من أدبيات الفرنسيين وغيرهم وقليلاً من تراث المسلمين، وبالأخص التراث العلمي لهذا البلد العريق.
كذلك مما يحدو إلى بيان حال هؤلاء والتنويه بأمرهم أن آثارهم أيضاً في هذه الأمة مشهودة محمودة، فقد سافر عدد منهم، فكانت لهم الصولات والجولات في مشارق الأرض ومغاربها، وأبقوا الأثر المحمود الذي ينبغي أن يشتهروا عليه وأن يذكروا به.
كذلك مما لا شك فيه أن هؤلاء أيضاً من حقهم علينا أن نبين بعض مآثرهم وبعض كتبهم التي تركوها لعلها تجد من يهتم بها فيبحث عنها ويفتش عنها بين مكتبات أهل البادية، لعلها تخرج فيستفيد منها الجيل الصاعد، فكم من إنسان عثر على مخطوطة نادرة ولم يكن هو من أهل العلم فاختزنها في خزانة وبقيت حبيسة طيلة عمره حتى إذا مات اكتشفت وعرفت قيمتها.
ومع الأسف فإن هذا المجال سبق فيه أعداء الله عز وجل من المستشرقين من المنصرين واليهود، فهم الذين سبقوا للتنقيب عن المخطوطات ونشرها، لكن من الواضح أنهم في ذلك لا يقصدون إشهار العلم وإحياءه، وإنما يقصدون إذاعة المنكر وإشاعته بين الناس.
ولهذا فإنهم يبحثون عن الكتب المنحرفة، فيفرحون كثيراً إذا وجدوا كتاباً في الخمريات، أو في أشعار الغزل المنحرف، أو في الفلسفات المترجمة الدخيلة على الإسلام، أو بعض كتب الذين اندسوا في التاريخ ولم يكن لهم ذكر في تاريخ هذه الأمة، فيحاولون نشر هذه الكتب.
وإذا تجرد بعضهم فاطلع على مخطوطة نادرة من التراث المهم لهذه الأمة في مثل مكتبة (الإسكوريال) أو (دبلن) أو غيرهما من المكتبات الغربية الكبرى يحاول إخراجها محرفة، والأمثلة على هذا كثيرة، وبين يدي كتاب المصاحف لـأبي بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله، وهذا الكتاب قد نشره أحد المستشرقين عن نسخة مخطوطة، لكنه تعمد التحريف فيه والتبديل بما لا يدع مجالاً للشك من أنه قاصد لذلك متعمد له، ونظير هذا كثير جداً.
ولذلك فإن الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله عندما ألف كتابه المهم (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) فضح بعض سرائر هؤلاء المستشرقين، فناقش أحد المشاهير منهم وهو يوسف شخت عندما أراد أن يطعن في الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله فذكر أن مسلماً طعن فيه في مقدمة الصحيح، وأنه قال: كان عبد الله بن المبارك ثقة يأخذ عن كل من هب ودب.
وهذا المستشرق تعمد تحريف النص، فالنص في مقدمة صحيح مسلم هو كالتالي: قال عبد الله بن المبارك : كان بقية يأخذ عن كل من هب ودب. وهذا تجريح من عبد الله لـبقية، و بقية من الضعفاء، فغير هو الكلمة فقال: ثقة. وجعل الكلام موجهاً إلى ابن المبارك فقال: وكان ثقة يأخذ عن كل من هب ودب. بدل: وكان بقية يأخذ عن كل من هب ودب.
لكن الله فضحه أولاً بالتناقض، حيث لا يعلم أن من كان ثقة لا يمكن أن يأخذ عن كل من هب ودب، ثم بعد ذلك بما بينه الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله.
إن علماء بلاد المغرب العربي قد اشتهروا منذ القرن الخامس الهجري في بداياته عندما قدم إلى هذه البلاد عبد الله بن ياسين الجزولي رحمه الله داعياً إلى منهج الحق مجدداً للإسلام في هذه البلاد، فأقام أول حركة إسلامية عرفت في هذا البلد وهي حركة المرابطين، أقامها على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الوحيين الكتاب والسنة، وأخذ الناس بالعزائم وضحى التضحية الجميلة العجيبة، فإنه قد خرج مهاجراً من بلده لم يصحب أهلاً ولا مالاً، وما أخذ معه من بلاده إلا سيفه وكتابه.
ولما جاء إلى موريتانيا اعترضه أمراء القبائل، ووجد مضايقة من الملأ والكبار كعادتهم في استقبال كل دعوة وافدة، فمن المعلوم أن كبار كل أهل بلد يقفون دائماً في وجه الدعوات، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا[الأنعام:123] ، فهم الذين يقفون في وجه الدعوات ويناصبون الأنبياء العداء ويناصبون كل من دعا إلى الله العداء، وهم الملأ الذين يريدون الحفاظ على الواقع المنحرف الذي تربعوا على عرشه فلا يريدون تغييره.
لكن الدعاة من سنة الله أن يستجيب لهم الضعفاء، وأن تستجيب لهم الطبقات المسحوقة، وأن يستجيب لهم الشباب، كما قال تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ[يونس:83] .
وعندما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أضعفاء الناس اتبعوه أم أقوياؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل.
فأتباع الرسل في كل زمان ومكان والمستجيبون والمبادرون لهذه الدعوة في الغالب هم المسحوقون في أمور الدنيا يعوضهم الله عنها خيراً منها.
فإن الملأ يريدون الحفاظ على الواقع؛ لأن مصالحهم مرتبطة به، أما الشباب والمستضعفون فليست لهم مصالح واقعية يحافظون عليها، فلذلك يرغبون في الاستجابة للدعوة، وإذا رأوا الحق واضحاً لم يحل بينهم وبين اتباعه والاستجابة له بعض المكاسب أو الآمال الدنيوية.
عندما جاء ابن ياسين إلى بلاد موريتانيا هذه ووقف في وجهه الملأ استجاب له الشباب، فاختار منهم مجموعة قليلة رأى أنها أهل الجلد والصبر، وذكر أن هؤلاء الفئة القليلة يصدق عليهم قول الله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249] .
وقد أسكن أولئك الشباب في جزيرة شمال نواكشوط، وهي جزيرة (تيدرا)، و(تيدرا) بالعجمية البربرية معناها (المقبرة)، وذلك أنه يدفنها الماء في بعض فصول السنة فتختفي، وفي بعض الفصول يخف دونها الماء، فأسكنهم في هذه الجزيرة وفصلهم عن المجتمع المنحرف ورباهم تربية عميقة، فكان يجلد من تأخر عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تأخر عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تأخر عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تأخر عن الرباعية كلها أربعين سوطاً، حتى كونهم رجالاً أهل صلابة وقوة.
وهذا الجلد قد ظنه بعض الناس تطرفاً وتشدداً وتحجراً، ولكن الواقع خلاف ذلك، كما قالت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عندما كانت تضرب حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في صغره فكان عمه يتهمها فيقول: ما ضربته إلا لبغضك إياه. فقالت:
من خالني أبغضه فقد كذب
وإنما أضربه لكي يلب
ويهزم الجيش ويأتي بالسلب
ولذلك رأى أحد حكماء هذه البلاد وأمرائها وهو الأمير العادل محمد الحبيب بن أعمر بن مختار رحمهم الله أجمعين، رأى أحد أولاده يبكي والناس يسترضونه فغضب، فقال: دعوه حتى يشبع من البكاء، فمن لا يبكي لا يُنكي.
إنها كلمة حكيمة قالها هذا الرجل الحكيم، فبقيت أثراً خالداً في تربيته لأولاده، فكانوا في السكينة والقوة والصبر على المكان المعروف لهم.
كذلك فإن ابن ياسين رحمه الله أخذ هؤلاء جميعاً بتعلم العلم، فجعل النهار كله للعلم والليل كله للعبادة والدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان أولئك الذين صحبوه مُثُلاً عالية لهذا الشعب.
ولما رأى منهم ما يسره من الإقبال على الله سبحانه وتعالى وإحسان عبادته والمستوى العلمي الذي وصلوا إليه. قال: الآن امتثلنا أمر ربنا في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[الأنفال:60].
ثم جعلهم بينه وبين القبلة، فمد يديه إلى الله عز وجل قائلاً: يا رب! هذه عدتي أعددتها للجهاد في سبيلك. وخرج بهم يزجيهم إلى الجهاد في سبيل الله.
فجاهد لإقامة دولة الإسلام وجاهد الكفار والمنافقين فلم تقف أمامه أي دولة، ولم يهزم له لواء، واستمر الفتح في البلاد الإفريقية، وكان هو لفضله وحكمته لا يحب الرئاسة ولا الشهرة ولا الذكر بين الناس، فأمر على أولئك المرابطين المجاهدين خيرهم، وهو يحيى بن عمر اللمتوني، وكان خيرهم علماً وورعاً وشجاعة وعبادة وتضحية فكان قرة عين له، ومع ذلك عندما قاتلوا في إحدى الوقائع فتقدم يحيى حتى اخترق صفوف المشركين غضب عبد الله بن ياسين، فأمر بالأمير بعد انتهاء المعركة فجلد عشرين سوطاً، فقيل: علام تجلد الأمير وقد رجع ظافراً منتصراً على أعداء الله؟! فقال: لأنه خاطر، ما ينبغي للأمير أن يدخل المخاطرة إلا عندما يكون الجيش في خطر!
ومن هنا تدرك ذكاء ابن ياسين وملكته القتالية الجهادية بالإضافة إلى ملكاته العلمية العبادية.
في ذلك الوقت ظهر رجل في جنوب المغرب ادعى النبوة، فخرج إليه ابن ياسين لجهاده فقتله وصلبه وقتل أصحابه، لكن اغتالته هو قبيلة (برقواطة) وهي قبيلة من البربر، فكانت كارثة بالنسبة للدعوة في هذا البلد فقد فقدت مربيها الأول وعالمها وقائدها ومرشدها، فاحتاج الناس إلى خلف يخلفه فأتوا بالإمام الحضرمي، وكان من كبار طلاب أبي الحجاج الضرير، وهو من أئمة المالكية المحدثين والفقهاء، فاستوفدوه إلى هذه البلاد قاضياً ومرشداً ومعلماً، فقام بالأمر بعد ابن ياسين خير قيام.
ولم يتحفنا التاريخ بكثير من قصصه إلا أنه رحمه الله ترك كتاباً يدل على نبل وعلو منزلة، وهو كتاب (الإشارة في تدبير الإمارة)، وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، وهو يدل أيضاً على مكانة الرجل وذكائه ومهاراته وخبرته وتضحيته في إعلاء كلمة الله.
وقد رزقه الله الشهادة في سبيله -نحسبه كذلك- في (أثوقي) قرب مدينة (أطار)، ودفن في ذلك المكان وما زال قبره فيه معروفاً إلى اليوم.
وعندما قتل كانت الكارثة الثانية على المرابطين أيضاً، فبحثوا عن بديل، فأتوا بـإبراهيم الأموي من الأندلس، وكان من العلماء الزهاد العباد، وهو من ذرية عمر بن عبد العزيز ، وكان في بقايا بني أمية الذين كانوا يحكمون الأندلس، فأخرجوه من الأندلس وحاكموه إلى قاض فحكم لصالحهم، فترك كتبه وماله وجاء بأهله حتى نزل بمجلس يحيى بن عمر اللمتوني فكان قاضي المجلس، وهو الذي اشتهرت ذريته بقبيلة المجلس، أي: مجلس العلم أو مجلس القضاء. لأنه كان قاضي ذلك المجلس وعالمه.
وقد عاش فيه زماناً حتى قتل يحيى وخلفه أخوه أبو بكر الذي يشتهر لدى العامة بـأبي بكر بن عامر، وهو أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان أبو بكر كذلك يجمع بين العلم والقيادة والصلاح، فقد بذل كذلك جهوداً كثيرة في الجهاد في سبيل الله حتى قتل رحمه الله تعالى، وقبره معروف إلى اليوم.
ثم بعد ذلك العصر اشتهر عدد من المضحين الباذلين في عصور متفاوتة، ومن أولئك الذين صحبوا يوسف بن تاشفين إلى المغرب ثم إلى الأندلس وشهدوا معه موقعة الزلاقة، وكان فيهم ثلاثون ألفاً من الملثمين، أي: من سكان هذه البلاد، وفيهم يقول الداني الأندلسي:
قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا
وبقي أولاد المرابطين محافظين على هذا النهج، حتى إن كثيراً من كتب التاريخ تذكر أن مدينة (تنيقي) -وكانت تسكنها قبيلة تجاكانك- كانت قبل إحدى المعارك المعروفة فيها تخرج ثلاثمائة طفل في التاسعة أو العاشرة يحفظون الموطأ والمدونة.
ذكر المختار بن حامد رحمه الله أن قبيلة المجلس كان فيهم إذ ذاك في أيام مرابط المجلس المشهور عدد كبير من الفتيات اللواتي يحفظن المدونة.
وهكذا حافظ أحفاد المرابطين على هذا العلم زماناً طويلاً، فلما كان في أواسط القرن السادس الهجري جاء الحجاج الثلاثة المشهورون فنزلوا مدينة (شنقيط) وبنوها، فكان أحد هؤلاء الثلاثة كفيلاً بالهندسة المعمارية، وكان الآخر كفيلاً بالتجارة، وكان الثالث كفيلاً بالعلم والإمامة والقضاء، واشتهرت ذريتهم بذوي الحاج، أي: بذرية هؤلاء الحُجاج الثلاثة، وكان لهم أثر بالغ في تجديد العلم بعد دولة المرابطين، وقد نشروه فاشتهرت مدينة شنقيط من ذلك العهد بالعلم، فكان الناس يفدون إليها من مشارق الأرض ومغاربها ليتعلموا فيها، واشتهر من الذين يفدون إليها كثير من الأفارقة الذين اشتهروا بالعلم والصلاح في البلدان الأفريقية.
ولم يستقر أولئك الحجاج الثلاثة في مدينة شنقيط حتى جاء الشريف مولاي عبد المؤمن فبنى مدينة (تشيد)، وجاء يحمل مكتبة ضخمة عظيمة ما زالت آثارها إلى الآن خالدة من المخطوطات التي لا يعرف أحد اليوم أسماءها ولا فنونها فيما أعلم.
وهي إلى الآن ما زالت موجودة قائمة في مكتبة الشريف مولاي عبد المؤمن في (تشيد) يسرق منها النصارى وينهبون، ومع ذلك بقيت آثارها إلى وقتنا هذا.
كذلك عندما قامت قبيلة (بدوكل) فأعلنوا الجهاد في سبيل الله من جديد وجددوا دعوة المرابطين وفد إليهم الشيخ سيدي محمد الكنتي من (توات) من جنوب الجزائر، وهو من ذرية عقبة بن نافع الفاتح لهذه البلاد رضي الله عنه، فجاء بعلم جم وسكن في بدوكل، ورباهم على العلم وحببه إليهم، فكان الناس يفدون إليه في طلب العلم.
وخرج من ذريته الشيخ سيدي أحمد البكاي الذي اتجه إلى الحج فنزل بمدينة (ولاته) فرافعه أهلها فقالوا: يجب عليك المقام بين أظهرنا حتى تعلمنا ما معك من العلم. ورافعوه عند القاضي فحكم لهم القاضي، وكان أهل (ولاته) من ذلك العهد إلى زماننا هذا محبين للعلم يجتمع عليه سوادهم الأعظم.
فلم تكن مدينة من مدن هذه البلاد يجتمع سوادها الأعظم من العامة والتجار وغيرهم في حلقات العلم مثلما كان موجوداً في (ولاته)، ولذلك استمر الحال فيهم إلى هذا الزمان، فهم يختمون صحيح البخاري في شهر شوال بعد أن يقرءوا غالبه في شهر رمضان، ويختمون كتاب الشفا للقاضي عياض كذلك في شهر ربيع الأول، ويجتمع على قراءة هذين الكتابين جماهيرهم وعوامهم إلى وقتنا هذا.
اشتهر في القرن السابع والثامن عدد من الذين وفدوا إلى هذه البلاد من خارجها، ومنهم الخمسة المشاهير الذين كونوا تحالف قبائل (تشمشة)، وهم: يعقوب ........ جد قبيلة (بني يعقوب) وهو من ذرية جعفر بن أبي طالب ، وقد كان من العلماء العاملين، وكذلك منهم ..... ضمغر جد قبيلة (أولاد ديمان)، ومنهم كذلك دبيال يعقوب، وهو جد قبيلة (إدات شغا)، وكذلك يدال، وهو جد قبيلة (اليداليين)، ويدمسه، وهو جد قبيلة (دقبهني)، وقد وفد هؤلاء إلى هذه البلاد فتحالفوا فيها على تجديد الدين، وانطلقوا من قول الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[الفرقان:63] .
وأرادوا إقامة دولة الإسلام، فوجدوا إذ ذاك هذه المنطقة يسيطر عليها قبائل (أولاد رزق) فلم يجدوا لديهم تحمساً لإقامة دولة الإسلام، فلما جاء المغافرة قدم عليهم أحمد بن دامان، وكان أصغر أخوته لكنه كان سيداً مطاعاً، فأعجبه هديهم ودلهم وسمتهم وأعجب بهم غاية الإعجاب، فلما جاء من الشمال من أراد مقاتلتهم منعه أحمد بن دامان ذلك وقاتل دونهم، فجعلهم قضاة هذه البلاد وعهد إليهم بالتدريس فيها، وقد نصبوا قاضياً مشهوراً فيها.
ثم بعد ذلك اشتهرت كذلك بعض المحاضر العلمية، وهي من أولى المحاضر التي قامت بعد القرن السابع والثامن، فقد بدأت تقريباً في نهايات القرن التاسع وبدايات العاشر محضرة (بارتيل) التي تخرج منها عدد من الأعلام المشاهير فيما بعد، وكان لهم أثر بالغ كذلك في مشارق الأرض ومغاربها.
فمنهم أبو بكر البرتلي الذي أقام بـ(ولاته)، وهو مؤلف كتاب (فتح الشكور في تراجم علماء تكرور)، وقد طبع الكتاب مراراً، ومنهم عدد من الجهابذة الذين اشتهروا في بلاد الحوضين، وكذلك في منطقة الساحل.
كذلك اشتهر في الجنوب في نهايات القرن التاسع وبدايات القرن العاشر عدد من الأعلام من الأفارقة الذين حملوا هذا العلم وكان لهم الأثر البارز في نشره ونصره، ومن محضرة أولئك تخرج الساموري الذي نشر الإسلام في (السنغال) و(جامبي)، وقاتل البرتغاليين الذين هم أول المستعمرين وفوداً إلى أفريقيا.
ومنهم كذلك عدد من الأعلام الذين اشتهروا بمحاولتهم لإقامة دولة الإسلام فيما بعد، ومنهم .........، وهو من (الفلان)، وكان في (فوتا)، وقد اشتهر بالعلم واستجابة الدعاء.
ومنهم كذلك قي من التكارير الذي كان يسكن في المكان المعروف اليوم (بكي هيدي)، وكان أيضاً من العباد الزهاد وكان مستجاب الدعاء، ويقال: إن أصل كلمة (كي هيدي) (قي هيجا) بلغة التكارير ومعناها: يا رب! قي جاع، يشكو إلى الله جوعه، فأرسل الله الأرزاق في ذلك البلد، ونحن ندرك أنه في العقدين الماضيين من الزمن لم يكن أهل نواكشوط يستعملون من اللحوم إلا ما جاء من (كي هيدي)، فكان ذلك استجابة من الله سبحانه وتعالى لدعاء هذا العبد الصالح.
كذلك اشتهر عدد من كبار العلماء في القرن العاشر الهجري، ومنهم أبو بكر اللمتوني الذي كتب إلى السيوطي يكاتبه في القدوم على هذه البلاد، وقد انتقل السيوطي من مصر حتى قدم (ولاته)، وتحدث عن ذلك في كتابه (الحاوي للفتاوي)، وسمى (ولاته) إذ ذاك بولاتم، ولعله اسم دريس من البربرية يطلق على هذه المدينة.
ومن المعلوم أن السيوطي توفي سنة تسعمائة وإحدى عشرة من الهجرة، وإنما وصل إلى هذه البلاد في أخريات عمره، وقد رجع بعد أن ترك بها علماً جماً كما قال هو، فقد روى الناس عنه الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وكان يعقد مجالس للإملاء بإملاء الحديث من حفظه دون الرجوع إلى الكتب، وقد لامه على ذلك بعض معاصريه من العلماء فرد عليهم بقوله:
لام إملائي الحديث رجال قد سعوا في الظلال سعياً حثيثاً
إنما ينكر الأمالي قوم لا يكادون يفقهون حديثاً
كذلك جاء بعده الشيخ سيدي أحمد المغيلي قادماً من الجزائر بعد أن أفتى فتواه المشهورة في وجوب تحطيم كنائس اليهود والنصارى التي بنوها في الجزائر وهي دار إسلام لا يحل بناء كنيسة فيها، وهذه الفتوى موافقة للإجماع، فمن المعلوم أن دار الإسلام لا يحل إحداث أي كنيسة فيها ولا معبد لأي ديانة أخرى، والذين يتذرعون فيقولون: نتركهم يقيمون الكنائس هنا في بلادنا ليتركوا المسلمين يقيمون المساجد في بلادهم تذرعوا بأمر باطل لا حجة لهم فيه شرعاً، فلا يحل إقرار الكنائس في بلاد المسلمين ولا إقامتها.
وعندما أفتى الشيخ بهذه الفتوى في الجزائر وقد هاجر إليها تجار اليهود من الأندلس بعد سقوطها فإن الأسبانيين عندما غلبوا عليها أقاموا محاكم التفتيش للمسلمين واليهود، فساووا بينهم فقتلوا اليهود كما يقتلون المسلمين.
فخرج اليهود هرباً ولم يجدوا من يؤويهم في بلاد أوروبا، فدخلوا بلاد المغرب فآواهم الناس، وكانوا يقدمون الجزية إلى المسلمين، لكنهم غلبوا على المال فاشتهروا بالتجارة في (تلمسان) و(وهران) وغيرهما من بلاد الجزائر، فبنوا بعض الكنائس، فلما وصلت كنائسهم إلى الصحراء في جنوب الجزائر وبنو كنيسة في (بسكرة) وكنيسة أخرى في (المنيعة) قام عليهم الشيخ سيدي أحمد المغيلي فأفتى بتحطيم كنائسهم وباشر ذلك هو بطلابه، فحطم كنائس اليهود وأخرجهم من تلك البلاد، فوجد بعض المضايقة من بعض أمراء الزمان فخرج مهاجراً بدينه إلى هذه البلاد، فجاء بعلم جم وجاء معه عدد من الطلبة من الجزائريين فاشتهروا في هذه البلاد، وقد أخذ عنه عدد كبير من العلماء المشاهير.
ثم في القرن الحادي عشر اشتهرت دعوة الإمام ناصر الدين لإقامة دولة الإسلام، وقد اتفق عليها في بدايتها سكان هذه البلد جميعاً، فقد كانت قبائل بني حسان وقبائل الزوايا يداً واحدة متفقين على إقامة دولة الإسلام، وجاهدوا تحت لواء واحد، وقتلت أعداد هائلة منهم في الجهاد في سبيل الله وفي نشر الإسلام في أفريقيا، لكن المستعمرين أحسوا بالخطر فنقلوا هذه الحرب بعد أن كانت جهاداً في سبيل الله لتصبح حرباً داخلية بما ألبوا به بعض الناس على الخليفة الذي نصبه المسلمون في هذه البلاد جميعاً واتفقوا عليه، فاغتالوه فكان ذلك سبباً لحرب ضروس دامت خمساً وثلاثين سنة.
كذلك في هذا القرن -وهو القرن الحادي عشر- خرج عدد من كبار العلماء من هذه البلاد فقطعوا المسافات الشاسعة على أرجلهم بحثاً عن العلم وتلمساً له بعد النكبة التي حصلت في تلك الحرب، ومن هؤلاء شيخ الشيوخ ابن بوالفاضلي الحسني الذي خرج من منطقة (العقل) من هذه البلاد على رجليه حتى وصل مصر فدرس فيها أربع سنوات، ثم ذهب إلى الحج، ثم ذهب إلى العراق والشام، ثم رجع إلى مصر واستقر فيها زماناً.
ثم رجع إلى هذه البلاد حاملاً لعلم جم، وأسس مدرسة عظيمة اشتهرت فيما بعد، وهذه المدرسة هي التي بقيت أسانيدها في هذه البلاد، فعنه أخذت الأسانيد جميعاً، فقد أخذ هو عن علي الأجهوري وتلامذته مثل عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ومثل العلامة القرشي و الشبرخيتي وغيرهم.
وقد قدم إلى هذه البلاد بكتب الحديث بأسانيده هو بعد أن رواها عن علي الأجهوري الذي يروي أكثر مروياته العلمية عن البرهان العلقمي عن جلال الدين السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني بثبت ابن حجر المشهور في كل الكتب.
وقد اشتهرت محضرة شيخ الشيوخ الحسني وتوافد الناس إليها من شرق هذه البلاد وغربها، وكان من الوافدين إليها الذين أخذوا أسانيد الشيخ ونشروا علمه القاضي ابن اعلممو السباعي من قبيلة (أولاد السباع)، ولزم الشيخ عشرين سنة انقطع فيها عن أهله بالكلية، ولازم الشيخ وقال: لن أتركك حتى تخرج إلي المكنون من علمك. فلزمه حتى أخذ كل ما عنده، ثم خرج واستقر في منطقة (أدرار) فنشر العلم بها.
وكان من طلابه الفقيه الخطاط المشهور الذي أصبح مرجعاً لهذه البلاد لشرقها وغربها جميعاً، وقد بذل الفقيه الخطاط جهوداً مضنية في طلب العلم، فقد كان فقيراً لا يملك إلا ناقة جرباء، فركبها حتى بلغته حضرة الشيخ القاضي ابن اعلممو السباعي، فلما بلغ حضرة القاضي باع ناقته فأراد أن يشتري بها كتاباً، ثم احتاج إلى الملابس فاشترى ملابس يلبسها بثمن ناقته، وجلس زماناً طويلاً في طلب العلم، وكان بعد ذلك إذا رأى من يجد في طلب العلم من طلابه يتذكر هو الحالة التي وصل بها إلى القاضي ابن اعلممو السباعي .
وقد حدثني بعض الثقات بالإسناد المتصل إلى المختار بن عبد الله الحاج بن المبارك -وقد كان من طلاب الفقيه الخطاط والملازمين له- أنه كان في عام شديد الجدب ولم يكن لهم أي غذاء في المحضرة، فكان هو يخرج في الصباح الباكر بعد أن يدرس درسه لمراجعته وحفظه فيذهب إلى كهف في جبل يجلس فيه طيلة اليوم، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، فبينما هو على ذلك الحال يوماً من الأيام إذ رأى نبتة من نبات الأرض تعرف لدى أهل هذه البلاد بـ(أبيلة)، وهي نبات من الكمأة يشبه الموز النحيف الرقيق، فيقول: صنتها عن نفسي، فكنت آخذ منها كل يوم أصبعاً واحداً. فكان بعد ذلك يصف حاله والدروس التي درسها وتغذيته بهذه النبتة.
وقد ذكر الفقيه الخطاط رحمه الله في معرض ثنائه على طلابه أن أولئك الذين كانوا معه في وقت الشدة يوزن أحدهم بمائة من الطلاب الآخرين، فكان يقدمهم عليهم في وقت التدريس، ومنهم حامد بن عمر الذي هو شيخ العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي، ومنهم كذلك أحمد محمود بن الفقيه الخطاط، وكان ابن والده في الجد والتشمير وحفظ المتون والعلم.
ومن هؤلاء الذين خرجوا لالتماس العلم في القرن الحادي عشر العلامة سيدي عبد الله المشهور بـابن رازقة، وقد درس العلم في بلاده، وقد كان جده الأعلى الذي اشتهر بالقاضي من مشاهير العلماء في هذه المنطقة، فدرس هو العلم الموجود هنا ثم رحل إلى المغرب فدرس على كبار علمائه حتى شهدوا له بالتقدم عليهم، وكان إذا ناظر علماء المغاربة يقولون: أنت تغلبنا في الليل لأنك تحفظ المتون ولا نحفظها، ونغلبك في النهار لأن لدينا الكتب وليست لديك.
وهذا يمثل طريقة العالم الشنقيطي، فإنه يستطيع أن يتمثل بقول الشافعي رحمه الله:
علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معـي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
أو بقول ابن حزم رحمه الله:
فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري
كذلك من هؤلاء الذين خرجوا لطلب العلم في القرن الحادي عشر فاشتهروا بالتضحية والبذل فيه العلامة مسك بن بارك الله بن بارك الله فيه ، وقد اشتهر بجلده وصبره، وقد كان من مشاهير الناس في الصبر والحلم، وقد كان يضرب به المثل في الحلم.
بل قد حصلت له قصة غريبة، فعندما ذكر له أن قوماً توعدوه أن يضربوه وأنهم سيقدمون على ذلك -وهو يعلم أنهم لن يصلوا إليه في منعة قومه- خرج مسافراً إليهم، وكتم سفره عن قومه ولم يصحبه إلا غلام صغير، فلما وصل إلى المنطقة التي فيها أولئك القوم أرسل الغلام إليهم فقال: اذهب إلى ذلك الفريق فقل لهم: مسك بن بارك الله يريد ماءً لطهارته ووضوئه. وهو لا يقصد الماء لكنه يريد أن يعلمهم بنفسه حتى يحققوا ما أرادوا، فلما أتاه رجالهم الذين كانوا يتوعدونه بالضرب ابتسم في وجوههم فهابوه واسترضوه، فخرج مسافراً راجعاً قافلاً إلى بلاده وقال لغلامه: قد تحقق مرادنا. والغلام ما سمع إلا كلاماً من أعدائه فتعجب كيف تحقق مرادنا وما سمعنا خيراً؟! فلما وصل إلى أهله جاء أولئك القوم يريدون استرضاءه فأنكر أن يكونوا قد وصلوا إليه بشر، وهذا من رجاحة عقله ووفور حلمه.
وكان مسك رحمه الله قد لازم محمد بن ناصر الدرعي في جنوب المغرب زماناً طويلاً حتى أخذ عنه كل ما عنده من العلم، حتى كتب الإجازة المشهورة، وهي من أقدم الإجازات المعروفة في بلادنا، وما زالت إلى الآن موجودة بخط العلامة محمد بن ناصر الدرعي .
وكذلك من الذين سافروا لطلب العلم في القرن الحادي عشر فبذلوا جهوداً مضنية فيه العلامة محمد اليدالي الذي خرج لبلدان شتى في طلب هذا العلم وكان فقيراً، وكانت أمه امرأة صالحة، فسألت الله سبحانه وتعالى أن يغنيه عن كسب المال؛ لأنه إذا اشتغل بالتجارة وكسب المال فسينقص ذلك جهده في طلب العلم، فاستجاب الله دعاءها فرزقه إبلاً جاءت فلزمت بيتهم وليس عليها أية علامة ولا يعرف لها متملك، فأخذها فانتفع بها وكانت رأس غناه، واشتهرت فيما بعد، وكان هذا العلامة رحمه الله بعد أن تخرج وأصبح ممن يشار إليه بالعلم مرجع أهل بلاده في التأليف والتدريس وغير ذلك.
وقد ألف في تفسير كتاب الله العزيز كتاباً كبيراً حافلاً، وكذلك شرح صحيح مسلم ، وله كتب كثيرة غير ذلك.
وكذلك من الذين اشتهروا في القرن الثاني عشر الهجري العلامة الشيخ سيدي مختار الكنتي الذي توفي أبوه وهو طفل صغير فتركه يتيماً فقيراً، فقام عليه أخوه وكان من الرشداء، فرأى فيه نبلاً وذكاءً فمنعه من الاشتغال بالتجارة ونصحه بالذهاب إلى (تمبكتو) لدراسة العلم، فلزم المكتبات والعلماء حتى أصبح المشار إليه بالبنان في تلك المنطقة.
ويقول عن نفسه: لم تزل أفضال الله عليّ وافرة، فمن أفضال الله عليّ التي أعدها أن توفى الله أبي فتركني يتيماً فقيراً، فمن الله عليّ بهذا العلم فكان خيراً من الدنيا وما فيها.
وقد اشتهر عندما استقر ببلده، فكان الناس يفدون عليه فكان موئلاً للعلماء يجتمعون عليه، فما لم يكن لديه هو من العلم يجد من يدرسه من الوافدين إليه من مختلف البلدان.
وفي محضرته درس العلامة عثمان فودي الذي أقام سلطنة (سوكوتو) في نيجيريا، وهو الذي أقام سلطنة (آل فودي) التي اشتهرت فيما بعد وأقامت الجهاد وطبقت الحدود وإلى الآن ما زالت آثارها قائمة، والشيخ عثمان فودي رحمه الله اشتهر كذلك بدعوته السلفية، وبمنهجه المعتدل، وباهتمامه بالمقاصد في أصول الفقه، واشتهر ولده كذلك محمد بيلو بعلمه فيما تختلف به الأحكام، وقد ألف في ذلك عدداً من الكتب، فذكر أن الأحكام تختلف بخمسة أمور هي: باختلاف الأشخاص، والأحوال، والمقاصد، والأزمنة، والأمكنة. وألف في ذلك عدداً كبيراً من الكتب.
ومن المشتهرين كذلك بالعلم والاشتغال به والتضحية في سبيله العلامة المختار بن الفقيه موسى اليعقوبي الذي كان مثالاً في ذلك العصر للتضحية والبذل في سبيل هذا العلم وسافر الأسفار البعيدة في جمع الكتب، وكان ابنه محمد من المشاهير كذلك فيه، وقد قال لأولاده: لن تدركوا العلم حتى تفقدوا أظافركم في طلبه. فلم يدركوا معنى ذلك حتى جاء الفقيه الأمين العتروسي ، فنزل عليهم فكانوا يحملونه على أتان له ويقودونها به فتطأ أرجلهم فأسقطت أظافرهم وصبروا على ذلك في طلب العلم، فكان هذا مصداقاً لما أخبرهم به والدهم من أن طلب العلم لا يمكن أن يتم إلا بعد جهد وعناء.
ومنهم كذلك بعد هذا العلامة محمد بن الفاضل بن الفقيه موسى الذي اشتهر بـالمجيدري، وقد خرج من هذه البلاد بعد أن استوعب علمها إلى المغرب وعمره خمس عشرة سنة، واستقر بالمغرب فلم يجد كفؤاً له ولا مناظراً فيه، وكان السلطان يجلسه بين يديه ويجمع له العلماء ليستخرجوا مكنون علمه، وكان في بداية شبابه صموتاً لا يتكلم إلا إذا سئل، وكان السلطان لا يعرف من العلم ما يستطيع به استخراج ما لدى هذا الشيخ الشاب، فكان يأتي بالعلماء فيقول: مالكم مهمة إلا سؤاله في كل علم من العلوم حتى تستخرجوا الكنوز التي لديه.
وقد أقام بالمغرب زماناً ثم خرج إلى المشرق حاجاً فمر بمصر، وعندما أراد الخروج من المغرب أرسل رسالته المشهورة إلى أمه وأعطاها تاجر كتب، فأعطاه سلهاماً وعبداً وتسعين درهماً وزربيةً -وهي البساط المعروف-، وكتب له ورقة صغيرة كتب فيها: سلام بزيادة لامِ ماءٍ إلى لامِه، وإحدى خبر كأن في قوله: ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين.
فقرأ التاجر الورقة فلم يفهم شيئاً مما فيها، فناولها العجوز فقالت: هات الزربية والسلهام والعبد والتسعين. فقال: من أين أخذتِ هذا؟ فقالت: لامُ ماءٍ هاءٌ؛ لأنه يجمع على (أمواه) ويصغر على (مويه)، وإذا أضيفت الهاء إلى لام سلام كانت سلهاماً.
وأما قوله: وإحدى خبر كأن في قوله: ترديت إلى آخر كلامه فتقول: راجعت ما أحفظ من الشعر فلم أجد بيتاً بدئ بقوله: (ترديت) وفيه كأن إلا قول غيلان :
ترديت من أعلام نور كأنها زرابي وانهلت عليك الرواعد
وواحدة الزرابي زربية.
وأما إياك نعبد وإياك نستعين فتقول: لم أفهمها، فعرفت أنها مصحفة، فانتزعت نقاطها فقرأتها فإذا هي: أتاك بعبد وأتاك بتسعين.
وقد اشتهر أنه حين وفد على مصر جمع له محمد علي باشا عشرة من كبار علمائها، فلما أرادوا مناظرته سألهم التعريف، فعرفه كل واحد بنفسه وعد لنفسه عشرة آباء، وعد هو عشرة آباء لنفسه، فلما كان من الغد واجتمعوا لديه سلم على كل واحد منهم باسمه ونسبه إلى حيث انتهى، ولم يتذكروا هم اسمه هو، لكن كان مما يعينه على ذلك صعوبة النطق باسمه، أما هو فقد حفظ أسماءهم وأعادها عليهم.
فلذلك قال لهم الملك: هذا الذي حفظ أسماءكم وتذكر كل ما قلتموه وأنتم لم تتذكروا اسمه لا يمكن أن تناظروه. فاستسلموا له، فسأله عن جائزته فقال: أن تخرج عني كل الزوار والقراء في دار الكتب المصرية لمدة أسبوع كامل. فأخرج عنه القراء لمدة أسبوع كامل فحفظ ما لم يكن يحفظه من مخطوطات دار الكتب المصرية خلال أسبوع.
وقد امتحنوه في ذلك فكانوا يأخذون أسفل كتاب من الرف -وكانت الرفوف إذ ذاك غير منظمة- فيمسكونه عليه فيقرؤه عليهم من حفظه.
وعندما خرج إلى الحج بدأ بالمدينة المشرفة فلقي فيها عدداً كبيراً من طلبة العلم، ومن الذين لقيهم في المدينة محمد بن عبد الوهاب بن سليمان النجدي ، وقد صحبه في المدينة، وتأثر محمد بن عبد الوهاب بدعوة المجيدري، فكان يعد محمد بن عبد الوهاب من تلامذة المجيدري ، ثم رجع المجيدري إلى هذه البلاد ومر بالقيروان فدرس في الزيتونة ورجع إلى بلاده ودعا بدعوته السلفية المشهورة، وقد وجد أمامه شيخه العلامة المختار بن بونة الجكني، وكان المختار بن بونة شيخاً لكثير من أهل هذه البلاد إذ ذاك، فهو عالم هذه البلاد قبل مجيء المجيدري .
وقد حصلت بينهما نفرة؛ لأن العلامة المختار رحمه الله كان يرى مذهب الأشاعرة في بعض الأمر، وكان العلامة المجيدري سلفياً، وقد تشدد في النكير على المختار في بداية مجيئه.
وتتلمذ على المجيدري عدد كبير من العلماء المشاهير، منهم العلامة المأمون بن محمد الصوفي بن عبد الله المجاور اليعقوبي ، وكان أبرز تلامذته، وحدثني الثقات عن بعض كبار العلماء أن المأمون كان يحفظ الكتب الستة كما يحفظ القرآن، ولذلك يرثيه الشيخ محمد المامي رحمه الله بقوله:
ريع تقاصر دونه لبنان ويهون دون ترابه المرجان
يا ريع لو نبت الحديث ببلـدة نبت الحديث عليك والقرآن
فقد جعله بمثابة بذور القرآن والسنة، فلما دفن في هذا المكان كأنما بذر فيه الكتاب والسنة.
يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن
وكذلك من تلامذة هذه المحضرة ومشاهير النابغين فيها العلامة البخاري بن الفلالي بن مسك بن بارك الله بن بارك الله فيه .
ومنهم كذلك العلامة مولود بن أحمد الجواد اليعقوبي ، وقد كان هؤلاء في بداية الدعوة السلفية في حياة المجيدري يجدون بعض المضايقة من بعض الناس، فكانوا يسمونهم بالبدعية، لكن المجيدري رحمه الله قال:
لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب
وتجد أن تضحية هذا الرجل وسفره الطويل في طلب العلم لم يأخذ كثيراً من وقته، فقد توفي وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.
وكذلك من المتأثرين بهذه المحضرة العلامة محمد بن محمد الأمين المشهور بـمحمد بن الطربة اليعقوبي ، وقد تربى في هذه المحضرة فتعلم فيها، وقد اشتهر لدى الناس بعلوم العربية، لكنه كان مبرزاً أيضاً في علوم الشريعة، وكان من المشتهرين بالعناية بأصول الفقه والقواعد الفقهية في هذه البلاد، مع أن العلامة سيدي سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في العصور اللاحقة يذكر أن أصول الفقه في هذه البلاد قد قل أهله وندر الاشتغال به.
كذلك من الذين اشتهروا بتضحياتهم في العلم العلامة ابن الأعمش العلوي، وقد كان رحمه الله صاحب جد وتشمير، ولم يكن صاحب ذكاء، لكن الله عوض له الذكاء بالهمة العالية، ولذلك خرج ليأخذ الملح من السباخ في منطقة الغرب ليبيعه في بلاد (مالي) -وقد كانت تجارة رائدة إذ ذاك- فجاءه رجل وهو يعمل في قطع الملح في السباخ فقال: أريد أن أقرأ. فقال: مشي. بمعنى: اقرأ، فظن الشاب أنه يعتذر له في ذلك الوقت، فمكث وقتاً ثم قال له أريد أن أقرأ فقال: مشي. فشرح له الدرس على أبلغ ما يكون وأحسنه وأجوده وهو مشتغل بعمله لم يقطعه، فبهر الطالب بذلك فقال له: بأي شيء نلت هذا العلم يا شيخ؟ قال: وهو في انشغاله ألف غبابٍ ومائة تكريرة. معناه أنه كان يقرأ الدرس ألف مرة، وكان يراجع الشرح مائة مرة.
ولا تنكر مثل هذا، فهذا ابن قيقكو لم يكن أيضاً صاحب ذكاء لكنه كان صاحب همة عجيبة، وقد دعته أمه إلى حفظ كتاب الله ورغبته فيه فكان يكتب كلمة واحدة في اليوم، ولا يزال يكررها حتى تغرب الشمس، ثم يكتب كلمة أخرى، ومكث بهذا سنة أو أكثر، ولكنه بذلك استطاع أن يكون ملكة الحفظ لديه، فكان بعد هذا لا يسمع شيئاً إلا حفظه، بعد أن صبر سنة على ثلاثمائة وستين كلمة فقط من القرآن كان بعد هذا لا يسمع شيئاً إلا حفظه، لكنه الجد والتشمير.
وكذلك من العناء الذي لقيه المختار بن بونة رحمه الله في فهم النحو أيضاً مثال من أمثلة التضحية في سبيل العلم.
فإن المختار رحمه الله درس الآجرومية فلم يفهمها، ثم درسها فلم يفهمها، فخرج مغموماً مهموماً فجلس تحت ظل شجرة، فرأى نملة تصعد تريد قطعة شحم صغيرة على رأس قضيب فإذا توسطت في القضيب سقطت، ثم عادت من جديد تصعد فإذا توسطت في القضيب سقطت، حتى أعادت سبعاً فوصلت النملة، فقال المختار : لن تكون هذه النملة أقوى مني همة. فرجع فقرأ الكتاب سبع مرات ففتح له في النحو وكان إماماً فيه.
ولكنه مع ذلك عود طلابه وأصحابه أيضاً على التضحية في سبيل العلم، وقد كانوا يشكون من عناء أسفاره، وكان رجلاً مولعاً بالسفر لا يستقر يومين متواليين في مكان إلا أراد الانتقال منه والسفر.
ولذلك يقول أحد طلابه:
لك الله من شيخ إذا تيممت تلاميذه مأوى لنصب المدارس
يفزع نون البحر طوراً وتارة يدهده جحر الضب في رأس مادس
فتارة يذهب إلى (تيرس) وتارة يقطع نهر السنغال إلى أفريقيا، وكثير من هؤلاء قد لقوا عناءً كبيراً في هذه الأسفار، فكان المختار رحمه الله دائماً في سفر والطلاب يصحبونه في سفره، ولذلك يصف نفسه وطلابه بقوله:
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة فيها نبين دين الله تبيانا
والعيس هي الإبل.
وكذلك فإن العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله سافر أيضاً إلى بلاد السودان، ولم يكن يحسن السباحة، فكان مع قوم يحسنونها، فدخلوا في النهر وكان عليه أن يغامر كما غامروا فخاض البحر ليصل إلى منتهاه لقوة همته، ولم يكن له أية خلفية في السباحة قبل ذلك.
وكذلك من المضحين التضحيات الجسام في طلب هذا العلم ونشره العلامة زياد، وكان قد لزم العلامة محمد بن محمد سالم وأولاده زماناً طويلاً، فلم يستفد حفظاً للعلم ولا فهماً له، فدله بعض الناصحين على أن يلتمس دعوة الشيخ، وكان الشيخ مجاب الدعوات في كثير من الأحيان، فقال: لن ألتمس منه هذه الدعوة حتى يكون هو الذي يدعو لي من تلقاء نفسه. فبحث عما يرضي الشيخ من الخدمة فكان يمارسه، حتى إن الشيخ في عام مجدب جربت إبله واشتهر فيها الجرب، فوضعوا طلاء في قدر لهم لطلاء الإبل، وكانوا في (تيرس) فاشتد عليهم الجدب، فارتحلوا إلى (أقان) -وهذه مسافة طويلة جداً- فأخذا زياد القدر الذي فيه طلاء الإبل الشديد الرائحة المنتن وحمله على رأسه من (تيرس) إلى نهاية (أقان)، فكان محمد بن محمد سالم كلما راح وكلما أصبح يدعو لـزياد بالفتح والعلم النافع، فما وصلوا (أقان) حتى أصبح أذكى الطلاب وأنبههم.
ويذكر مثل هذا عن خليل بن إسحاق رحمه الله عندما دعا له المنوفي رحمه الله فاستجاب الله دعاءه، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه أن يستجيب دعوات عباده، ومن أخلص لله سبحانه وكان صادقاً في التعامل معه يستجيب دعاءه، وقد كان من هذه الأمة عدد من الذين لا ترد لهم دعوة.
وقد كان محمد بن محمد سالم رحمه الله من المعروفين باستجابة الدعوة، ولهذا تحدثني امرأة أدركتها وقد عاشت مائة سنة، وهي ابنة الشيخ حبيب الله بن البيتور القناني، تحدث عن والدها حبيب الله بن البيتور وكان من طلاب محمد بن محمد سالم المجلسي .
فحدثتني أن والدها أخبرها أن محمد بن محمد سالم في آخر عمره كان يصوم أغلب الأيام، فكان يذهب بعد صلاة الفجر إلى الخلاء فلا يزال يقرأ كتاب الله ويتدبر العلم ويكتب في صحف عنده مؤلفاته، فإذا حان وقت الإفطار كان بعيداً جداً عن الحي، فيأتيه حبيب الله بن البيتور هذا يحمل له ماءً يفطر عليه، فأتاه ذات يوم وقد اشتد به العطش فأتاه بماء أفطر عليه فقال له: عمرك الله طائعاً. فلما انصرف دعاه فقال: أنا قد دعوت لك، فاستجاب الله هذه الدعوة، وعاش حبيب الله مائة سنة وابنته التي حدثتني أيضاً عاشت مائة سنة، أو أكثر.
وعرف عن حبيب الله هذا أنه ما صلى قط بغير وضوء، فلم يحتج إلى التيمم قط، ولم يفطر قط في السفر ولا في الحضر، أي: في رمضان لم يحتج إلى الإفطار في سفر ولا في حضر.
كذلك من هؤلاء المضحين في جمع هذا العلم العلامة الحاج عمر طال الذي خرج من بلاده وكان من رعاة البقر، فخرج لطلب العلم فنزل على عثمان فودي ، فرأى إقبال الناس على العلم فأعجب بذلك، فجلس يطلب العلم ويدرسه حتى أصبح من أنبه طلاب العلم، ثم خرج إلى مصر فدرس منها ثم حج ورجع، فلما مر بـعثمان فودي رأى الجهاد على قوته، فخرج هو وأراد أن يقيم الجهاد في السنغال وزانبي وجنوب موريتانيا.
وكذلك من هؤلاء المضحين في جمع هذا العلم العلامة عبد الوهاب بن الرشيد الناصري من أولاد الناصر، وقد كان رحمه الله مثالاً للجد في طلب العلم، فقد كان في سفر مع عدد من بني عمه، وكانوا يحملون السلاح في وقت الفتن والمعارك الداخلية بين القبائل، فرأى شيخاً في بادية له صاحب علم تأتيه الأطراف المتنازعة تتنافس على محبته وخدمته، فسأل فقال: لماذا يخدم أولاد الناصر فلاناً هذا؟ هل له عليهم دالة؟ هل قدم لهم خدمة؟ فقيل: لا. إلا أنه صاحب علم وتقوى. فقال: إذاً هذا الذي نال به ما نال، فلم ينله بالسلاح ولا بالقوة. فخرج هو مما كان فيه من السلاح وذهب لطلب العلم حتى برز فيه، وقد بذل في سبيله كثيراً من العناء، ويكفي من ذلك العناء الاجتماعي، فمن كان من حملة السلاح ونشأ فيه يشق عليه الخروج منه والذهاب إلى طلب العلم في المحاضر.
وكذلك من المضحين في طلب هذا العلم الذين بذلوا فيه الشيء الكثير العلامة محمد العاقل الديواني ، وقد كان رحل في طلب العلم فخاض البلاد شرقاً وغرباً حتى جمعه وسافر على رجليه إلى (تمبكتو) ورجع واشتهر بتنوع المعلومات، حتى إن النابغة الغلاوي رحمه الله حين جاء إلى هذه المنطقة يطلب العلم -وقد كان شيخاً إذ ذاك- قال: لا أدرس على شيخ حتى امتحنه. وكان لديه امتحان واحد، وهو أنه إذا جلس بين يدي الشيخ يقول له: سأدرس. فإن قال له: (مشي). قبل منه، وإن قال له: أي كتاب تدرس تركه، فهذا هو الامتحان الذي يمتحن به الناس.
فيقول: مر بعدد من الناس كلما أتى شيخاً قال له: سأدرس. فيقول له: وماذا تدرس؟ فيقول: لست صاحبي. ويتركه، حتى جاء إلى أحمد بن العاقل -وهو ابن هذا الرجل الذي ذكرنا- فقال له: أريد أن أدرس. فقال: مشي. فقال: أنت صاحبي. فلزمه فترة، وقد درس عند أحمد بن العاقل عدد من كبار العلماء منهم أخته خديجة ابنة العاقل التي هي شيخة المختار بن بونة الجكني .
منهم كذلك العلامة ابن عبيد الديواني الذي اشتهر كذلك بالجد والتشمير في طلب العلم، وقد كان صاحب ذكاء مفرط ندر مثله في هذه البلاد، وقد كان فيما بعد يقسم وقته قسمة عجيبة، فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود عن العلامة يحظيه بن عبد الودود عن العلامة المختار بن ألما الديواني : أنه كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم يخرج فيقوم على رعاية بقر عنده حتى تحلب ويخرجها من مراحها إلى مرعاها ويخرج أولادها، ثم يجلس للتدريس حتى يقترب من وقت الزوال، ثم ينام قليلاً ثم يستيقظ فيصلي الظهر، ثم يبدأ في وقت التأليف، ثم بعد العصر يراجع بعض ما لديه من المؤلفات وبعض ما أملاه على الناس، ثم ينصرف للعناية بالمواشي والبهائم، وربما اعتنى كذلك بالبئر، فقد كان القيم على شأن الحي كله، ثم بعد صلاة المغرب يراجع للطلاب ويصححون عليه المتون، وكان عمره مشغولاً هكذا طيلة الوقت كله، فليس له وقت فراغ.
وقد أخذ عنه هذا الهدي العلامة المختار بن ألما ، ثم أخذ عن العلامة المختار بن ألما عدد من تلامذته هذا الهدي، ومنهم ابنه العلامة محمد سالم بن ألما فلم يكن له وقت فراغ قط ولا رئي فارغاً قط، إما أن يشتغل بعلم وإما أن يشتغل بكسب دنيوي وإما أن يشتغل بعبادة.
كذلك من هؤلاء المضحين العلامة يحظيه بن عبد الودود رحمه الله، وقد بذل الكثير في سبيل هذا العلم، فقد كان خرج إلى آل محمد سالم للدراسة، وكان آل محمد سالم إذ ذاك يأتيهم الطلاب والغرباء فيعلمونهم ويدفعون إليهم زكاة أموالهم، فيخرج الطالب من محضرتهم غنياً عالماً، فكان يحظيه من الذين أتوا للدراسة من الفقراء، فرأوا فيه الجد والتشمير، قال: وكان في مجلس محمد وجوه الناس وأبناء الأسر الكريمة يتنافسون في السبق في التدريس، وكان ذات يوم وهم في (تجريت)، فأراد الشيخ السفر وقد سافر أهله في آخر الليل وانتقلوا من مكانهم إلى مكان ناء، فتنافس الناس في السبق في الدراسة تنافساً عظيماً، قال: فأتيت الشيخ فقلت له: إذا بدأت اليوم بالتدريس آخذ عنك طلاب النحو جميعاً، فقال: (أبين ها الله)، وهي كلمة عامية معناها: وددت ذلك. قال: فبدأ بي ولم يدرس أحداً قبلي. فكان هذا مزية إذ ذاك عظيمة، مثلما يقول الأقدمون: كان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك. فكذلك كان البدء بالتدريس في أيام محمد بن محمد سالم مزية عظيمة.
فلما درسه دَرْسَهُ من الفقه انتقل إليه طلاب النحو، فجعل يدرسهم حتى أكمل الدرس في وقت الظهيرة وليس معه ماء، فخرج يشتد عدواً في أثر الذين ركبوا في الصباح الإبل، وجاءت الرياح على آثارهم فطمست الأثر، ولم يزل يشتد في عدوه حتى لقي بعد العصر إبلاً تساق لـ(بني دليم)، فظن أنها من إبل المشايخ، فخرج فيها فتعب تعباً شديداً، فلما كان من الليل أناخوا، فاضطجع في جانب هذه الإبل وقد دميت أظفاره وتفطرت رجلاه من المشي في الحجارة وليس له نعلان، ومن الجوع والعطش.
فيقول عن نفسه: فنظرت فإذا أنا بتلك الحال، فقلت بالعامية قولاً معناه أن كل ما كان من المصائب في سبيل الحصول على هذا العلم لن يصرفه ولن يصده عن وجهته، وهكذا شأن كل صبور جلد إذا جاءت المصائب والنكبات تذكر ما وراءها فصمد وصبر.
فاستمر في طريقه أياماً وليالي صبر فيها على الجوع والعطش والألم والسهر حتى وصل إلى الشيخ، قال: فلقيت الشيخ يشرح الدرس، فلما سمعت صوته من بعيد وهو يشرح ذهب عني كل ما كان بي من العناء.
وهكذا شأن الطلاب الأوفياء، فإن أحدهم إذا سمع شرح الشيخ من بعيد زال عنه كل عناء وتعب، فهذا الحسن بن زين القناني رحمه الله كان من طلاب العلامة عبد الودود بن عبد الله الألفغي، وكان عبد الودود شديداً جداً على طلابه؛ لأنه يريد تكوين الرجال، كما كان هو يقول: أنا أريد تعليم الرجال ولا أريد تعليم الدجاج.
ولذلك يقول:
لقد مزقت قلبي بضعف جفونها كما مزقت ..... عمداً كتابيا
وذلك من تشدده على طلابه، وكان الحسن بن زين صاحب ذكاء وجد، فكان عبد الودود يحبه ويقدمه على غيره من الطلاب، قال الحسن رحمه الله: سافر عبد الودود في سفر له فخرجت أنا إلى شيخه بُلاّ الشقروي، فأتيته من الليل فإذا صوته من بعيد -وهو يشرح قول ابن مالك رحمه الله-:
وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وحذفها حتمٌ نصب
قال فسمعته يقول:
وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وحذفها حتم نصب
وهذا هو النطق الفصيح بالفاء، وكان الناس ينسبونه لـ(بني حسن)، وهو نطق الفاء الفصيح، قال: فسمعته يقول هذا البيت فزال عني كل ما كان معي من النصب والتعب، فتركت بقرتي لم أربط ولدها. وليس له إذ ذاك مذاق ولا غذاء إلا من لبن بقرته، فلم ينتبه لها عندما سمع صوت الشيخ وأقبل على طلب العلم وجلس بمجلس الشيخ للطلب.
وكذلك من الذين بذلوا كثيراً وضحوا في سبيل جمع هذا العلم من أهل ذلك العصر العلامة الشيخ أحمد بن سليمان الديواني، وقد رحل إلى الشيخ سديه في طلب العلم، ومكث عنده زماناً حتى توفي الشيخ سديه فتركه مكانه للتدريس.
حدثت أنه كان يختم على أولاده القرآن، يقرأ على كل عضو منهم ختمة يريد بذلك شغلهم بكتاب الله وتحبيبه إليهم، وكذلك كان أولاده من بعده، فهذا الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد يصف حال المحضرة الموريتانية ومنافسة الناس في طلب العلم فيها فيقول:
فمن لي بأصحاب كرام أعزة يكونون أصحابي وأصحبهم دهرا
يخوضون في كل العلوم بفهمهم فهذا بذا أدرى وذاك بذا أدرى
فمن منشد بانت سعاد ومنشد خليلي غضا أو تذكرت والذكرى
ومن منشد بان الخليط ومنشد ألا عم صباحاً أو قفا نبك من ذكرى
إلى آخر القصيدة التي يقول في آخرها:
ومن جائبٍ عيشاً كبيراً لقومه ومن جائب لحماً ومن جائب تمرا
وهذا أيضاً من ثقافة المحضرة، فقد كان بينهم من التعاون في الغذاء ما كان بينهم من التعاون في العلم أيضاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثنى على الأشعريين أنهم كانوا إذا أرملوا جمعوا أزوادهم في ثوب فاقتسموها بإناء، قال: فهم مني وأنا منهم. وقد كان طلاب المحضرة يتحلون بذلك.
ولهذا فإن الشيخ محمد بن الأمين بن الددو رحمه الله كان ذات يوم في طلاب العلامة يحظيه بن عبد الودود ، فكان وقت الظهيرة وهم يبنون عريشاً لهم في أوج الحر والصيف، فقال:
كسا الله يا أهل العريش عريشكم بشرب لدى وقت الظهيرة سلسل
وعيش يرى وسط الإدام كأنه كبير وناس في بجاد مزمل
فرآهم يحظيه يضحكون فسأل عن السبب، فأنشدوه الأبيات فأمر لهم بذلك.
هذا الحال قد اشتهر في كثير من طلاب المحضرة، فقد كانوا يتعودون على الجوع والنصب ويسهرون الليالي ذوات العدد، ولذلك يصف العلامة أممو زكني طلاب العلامة يحظيه بن عبد الودود رحمهم الله أجمعين بقوله:
من بكر وضاح لهم مثابرة لفني دهمان العشاء الآخرة
أي أنهم من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء وهم يثابرون في الدرس لا يقطعونه إلا للفريضة، وهذا ما أخذوه عن يحظيه بنفسه، فقد كان في أيام الطلب عند محمد بن محمد سالم يقول: مكثت تلك الفترة لا أكمل التسبيح بعد الصلاة انشغالاً بالعلم، فكان يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) من الفريضة فيقول لزميله عبد اللطيف ............ -وكان عبد اللطيف زميله في الدرس- فيقول له: هذا درس من مختصر خليل .
وكذلك فقد خرج يحظيه ذات ليلة حين أرسله الحسن بن زين للإتيان بعدة يسقي غنمه، فقال: حان وقت صلاة المغرب فجلست لأصلي المغرب عند نار قد أوقدت في شجرة، فلما صليت المغرب أعجبني ضوء النار، ففتحت كتابي -وقد كان إذ ذاك يدرس باب الإضافة من الألفية- فما زلت أقلبها وأراجعها حتى انتشر ضوء الفجر، ولم أشعر بصلاة العشاء ولا بخروج وقتها ولا بأي انشغال آخر استغراقاً في الدرس وقد وصف العلامة محمد علي بن عبد الودود رحمه الله طلاب العلامة يحظيه إذ ذاك بقوله:
لي جيرة كنجوم الصحو غران شم طهارا ثياباً أينما كانوا
من كل قطر تؤاخي بينهم كرماً هماتهم وغروم القوم شذان
يزدان بالعلم أهل العلم كلهم والعلم من جيرة يسم ويزدان
لا أستلذ مقاماً بينهم فرقاً من الفراق ولا آسى إذا بانوا
وقد وصف الشيخ محمد علي أيضاً طلاب المحضرة بقوله:
فهذا وقير آمن في ثغائه وقار بأمن من حزمِّ كلال
وأقصاص طلاب العلوم أمامهم موقرة من هيبة وجلال
وأكثر طلاب المدارس همه بيان حرام أو بيان حلال
وعمارها من كل ضنأ كريمة كريم كلال من كريم خلال
أغرك مصباح الظلام بل إنه كمثل كلال العارض المتلالي
يظلون لا يألون حتى كأنهم وليس بهم داع مراض سلال
يقيمون فرض الخمس عند ندائها نداءً للأعمى أو نداء بلال
كذلك من الذين اشتهروا بهذه التضحية من النماذج المشهورة العلامة الشيخ سديه ، فقد خرج من أهله وهو في الحادية والأربعين من عمره، وخرج لطلب علم الحديث والقرآن، فخرج على رجليه إلى (تشيد)، وأقام فيها فترة طويلة ولم يرجع إلى هذه البلاد إلا بعد أن جاوز الستين من عمره، وجاء بعلم جم، وبدأ التعليم والتدريس، وكان يقول لطلابه:
ما ابيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوده شحوب المطلب
وكان كثيراً ما يتمثل بأبيات سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي إذ يقول:
تصدر للتدريس كل مهوس بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس
كذلك فإن حال المحضرة استمر إلى هذا الوقت حتى أدركنا الناس وهم هكذا يصنعون، وأدركت كذلك كثيراً من كبار السن الذين فنيت أعمارهم في المحاضر يطلبون العلم فيها، ومنهم الشيخ الراجل بن عبدولي رحمه الله فقد عاش فوق التسعين، وما عرفت أنه عاش إلا في محضرة، ولم يستحل مقاماً قط إلا في محضرة، فكل وقته كان في طلب العلم حتى لقي الله.
وقد كان يدرس معي وأنا صغير جداً وهو فوق الثمانين من عمره، كان زميلاً لي في الدراسة، وهكذا عدد كبير من كبار السن الذين ضحوا وبذلوا في سبيل بقاء هذا العلم وانتشاره، أما اليوم فقد بدأ التراجع وبدأ الحال على ما نرى، فقد أتيت مرة من المرات مدينة (قرو) -وقد كانت معقلاً من معاقل العلم- فاجتمع عليَّ كبار السن فيها فسألتهم: أيها الشيوخ! قبل ثلاث سنوات كم كان هنا في هذه المدينة من العلماء؟
قالوا: عدد كبير. وبدؤوا يحصونهم.
فقلت: لكن كم تعدون الليلة فيها من العلماء؟ فبكوا ولم يتذكروا ممن يشيرون إليه إلا شخصاً واحداً أو شخصين.
هذا الحال ليس مختصاً بتلك المدينة بل هو في كل المدن، بل أعرف بعض الولايات التي كان الناس يضربون إليها آباط الإبل في طلب العلم وقد انتقل منها هذا العلم بالكلية، ولم يبق فيها من يدرس الآن.
إن هذا يقتضي منا أن نعيد إلى المحضرة دورها في حياتنا، وأن نخرج من أبنائنا وأجيالنا الصاعدة قوماً يضحون مثل تلك التضحية ليعيدوا لنا هذا العلم الضائع المسلوب المنهوب، وليعيدوا إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم مكانتها، وإني لأرى وجوهاً حبست أنفسها في الحر وفي العرق وهي تطلع على هذا الكلام الذي كثيراً ما يعرف هو وأمثاله؛ أرى فيها إن شاء الله تعالى من سيهتمون بهذا الأمر وينافسون فيه ولا يدعون مكانهم لغيرهم.
وأرى في الوجوه المتوقدة التي تنظر إلى هذا الكلام بعناية أقواماً سيكونون ممن يشار إليهم -إن شاء الله تعالى- بالبنان في العلم والعمل، وأرى أن من يطلعون على كلامي يعلمون أن هذا العلم كنز لا ينفد، وأنه خير من التنافس فيما يتنافس فيه الناس من حطام هذه الدنيا الفانية، وأن من عرف سيبلغ من وراءه، وأن النساء كذلك سيسعين لتربية الأولاد العلماء العاملين الذين يعيدون لهذه الأمة مجدها ويستردون لها تراثها، ولا شك أن فيهن أيضاً من تسعى لأن تكون عالمة ولأن تكون مدرسة قائمة بهذا الأمر كما كان عدد من الشيخات في هذه البلاد وغيرها.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا قرة عين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وأن يجعلنا أجمعين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر