بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، تبرأت من حولي وقوتي واعتصمت بحول الله وقوته.
موضوع هذا الدرس: الصبر في الابتلاء والمحن.
إن الله سبحانه وتعالى سلط على المؤمنين بعض البلايا والمحن، وآتاهم معها جنداً عظيماً من جنوده، هو الصبر، وقواهم به عليها، وهذا الصبر مزية عظيمة ومنزلة رفيعة، فلذلك بين الله سبحانه وتعالى درجة أهله في كتابه فقال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146] .. وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10] .
وقد جعله الله بوتقة لكل الصفات المرضية والقيم الرفيعة، فبعدما ذكر صفات المؤمنين من عباد الرحمن الذين يستحقون رضوانه، قال: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا[الفرقان:75] ، وكذلك في مجادلة أهل النار قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ[المؤمنون:109-111]، فجعل كل ما قاموا به داخلاً في بوتقة الصبر.
والصبر ذو منزلة عظيمة بين صفات المؤمنين، ولذلك يعده أهل السلوك مقاماً من مقامات اليقين، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، لأن اليقين به يقضى على الشبهات، والصبر به يقضى على الشهوات، ودليل هذا من القرآن قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24]، حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.
وقد رتب الله عليه الأجر العظيم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي به عند المصائب، فقد أرسلت إليه ابنته تدعوه لشهود ولدها، وهو يقعقع -أي: نفسه تقعقع في حال الموت- فأرسل إليها قال: فلتصبر ولتحتسب، فعزمت عليه أن يحضر فأتى صلى الله عليه وسلم ووضع الصبي في حجره حتى فاضت نفسه.
فالصبر الذي يثاب عليه صاحبه هذا الثواب العظيم هو ما كان عند الصدمة الأولى، أي: عند أول إحساس الإنسان بالابتلاء، أما إذا انهار في البداية وجزع ثم عاوده الصبر بعد ذلك، فما من مصيبة تحل بالإنسان إلا سيسلوها وينساها مهما كان ذلك؛ ولهذا فعلى الإنسان أن يعلم أن الدنيا كلها زائلة، وأن كل ما فيها سيذهب، وإذا أعجب الإنسان أي شيء فيها فليعلم أنه بعد مدة يسيرة سيجده في القمامات، فكل ما يتنافس فيه الناس من متاع هذه الدنيا الفاني فلن تمضي فترة يسيرة إلا وتراه مرمياً في القمامة.
فعلى هذا على الإنسان إذا أصيب بشيء من أحوالها أن يعلم أنها زائلة، وأن كل ما فيها عرض سيال، وحال سريع الزوال، وبقاء الحال من المحال.
على الإنسان أن يعلم أن الجزع قبيح ووصف ذميم، وهو من الخور والضعف، ولا يرد شيئاً من قدر الله سبحانه وتعالى، وإنما يزيد الشامتين شماتة، ويزيد الأعداء تمكناً من الإنسان، ولن يحقق له أي هدف من أهدافه، ولن يوصله إلى أي مستوى من المستويات التي يطلبها؛ ولهذا كان أهل الجاهلية يتجلدون لأعدائهم، حتى قال أحدهم:
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع
فالجزع لا خير فيه؛ لأنه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في قدره وملكه، وكل ما في هذه الدنيا يتصرف فيه الباري سبحانه وتعالى تصرف المالك في ملكه، فإذا أخذ شيئاً منه فهو الذي منحه من قبل، وهو الذي أخذه بعد ذلك، ولهذا قال: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:156-157].
فقوله: (قالوا إنا لله)، أي: نحن مملوكون له فتصرفه فينا تصرف المالك في ملكه، وهو نافذ ماض لا اعتراض لنا عليه.
(وإنا إليه راجعون) أي: نحن أيضاً سنعود إليه سبحانه وتعالى، وسيجازينا بحسب أعمالنا، ومن هنا كان الصبر مما يرجى ثوابه عند الله سبحانه وتعالى، وقد أعد لمن صبر وقال ذلك عند المصيبة هذا الجزاء العظيم الذي قال فيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعم العلاوة ونعم الرفدان) فالعلاوة هي قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:157]، والرفدان أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ[البقرة:157]؛ فعليهم صلوات وبركات ورحمة منه سبحانه وتعالى، وهم المهتدون بشهادة الله تعالى لهم بذلك.
وأيضاً فإن الجزع مدعاة لسخط الله سبحانه وتعالى ومقته، إذ هو اعتراض عليه في ملكه، وقد روي أن الإمام سليمان بن مهران الأعمش كانت له زوجة هو بها معجب، فماتت فجأة، فحزن عليها حزناً شديداً، واحتجب عن الناس ولم يخرج لتدريس من يدرسون العلم، فبينما هو على ذلك جاءت امرأة فاستأذنت عليه، فلم يأذن لها، فقالت: إنها لن تبرح الباب حتى يخاطبها، وإنها في ضرورة وأمر ماس لا بد من إجابة الشيخ فيه.
فلما رأى إلحاحها وإصرارها دنا من الباب، فسلم فخاطبته فقالت: إن لي أختاً كانت أعارتني علقاً ثميناً وتمتعت به مدة من الزمن، ثم بعد هذا أرادت أن أعيده إليها، وأنا لا أصبر عنه ولا أقبل ذلك، فقال: أنت ظالمة! كيف تحسن إليك هذه المدة الطويلة بهذا العلق الثمين، وتنتفعين به هذه المدة، ثم بعد ذلك تطلبه وهي مالكته فتمتنعين من إرجاعه إليها؟ فقالت: أيها الشيخ! إن الله سبحانه وتعالى كان قد أسدى إليك أهلك وهي ملك له وليست ملكاً لك، ثم أخذها واستردها فما هي إلا وديعة، فكأن الشيخ سري عنه ما به، فدعا لها وانصرفت.
وهذا المعنى أخذته من قول لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه:
وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وكذلك فإن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما لما توفي العباس حزن عليه فأتاه الناس للعزاء، وكان منهم رجل من الأعراب فخاطبه بهذين البيتين البليغين فقال:
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس
فكان ذلك سبب صبره وثباته.
وكذلك فقد كتب أحد العلماء إلى نظير له في العلم ابتلي بمصيبة، فأراد تثبيته فيها فكتب إليه:
إنا معزوك لا أنّا على ثقة من البقاء ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
فكان ذلك بليغاً في الرثاء والعزاء.
وكذلك فإن مما يحمل الإنسان على التجمل: تذكره أنه هو أيضاً سائر في هذا الطريق، فمدة بقائه في الدنيا محدودة ولم يأتها لينال فيها كل مبتغاه، فإنما ذلك في الجنة، فهذه الدنيا لا يمكن أن تأتي على وفق المراد المطلوب.
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
فليس شيء من النعيم المقيم الدائم الخالد إلا في الجنة.
والصبر ثلاثة أقسام هي:
أولاً: الصبر عن معصية الله:
بأن يصبر الإنسان نفسه عن المعصية، فيلجمها بلجام التقوى، ويمنعها أن تقع في المعصية أو أن تحبها، أو أن تتعلق بها من أي وجه، وذلك مقتضٍ منه لكراهيته لكل ما كرهه الله له، وهذا النوع من الصبر ثلاثة أقسام:
الأول: يصبر القلب بأن لا يحبها وأن لا يتعلق بها، وأن لا يجلس في مجالسها، وأن لا يجالس أهلها وأن لا يأنس بهم، فذلك كله يرجع إلى القلب والعاطفة.
الثاني الصبر عما يتعلق بمباشرتها وممارستها، فلا يقربها ويقوي وازعه الديني الذي يمنعه من مزاولتها ومواقعتها.
الثالث من الصبر عن المعصية: سرعة الإقلاع إذا استزله الشيطان إليها، والرجوع والتوبة: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:201-202].
والإنسان مطالب بتقوية الوزاع الديني الذي يمنعه من الوقوع في المعصية، بأن يعظ نفسه ويذكرها ويحاسبها، وقد روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أن رجلاً أتاه فقال له: إن نفسي لا تطاوعني في ترك المعصية فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاذهب إلى مكان لا يراك فيه فاعصه، قال: كيف أختفي منه وهو يعلم السر وأخفى، لا تحجب عنه سماء سماءً ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره.فقال: كيف تبارزه بالمعصية وهو يراك وأنت تعلم قدرته عليك؟ فقال: زدني رحمك الله. فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من كل نعمة أنعم بها عليك وردها عليه ثم اعصه. قال: كيف أرد عليه نعمته وأنا من نعمته: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ[النحل:53] ؟ قال: كيف تأكل خيره وتستعين به على معصيته، إنه اللؤم؟
قال: زدني يرحمك الله. قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه وسمائه واعصه. قال: إلى أين أخرج من أرضه وسمائه؟ قال: كيف تعصيه في بيته وتحت سلطانه وإمرته وأنت ضيف عنده، إن ذلك غاية ما يمكن من اللؤم؟
فلهذا لا بد أن يعظ الإنسان نفسه ويزجرها حتى يقوي وازعه الذي هو برهان الله في قلبه، فيمنعه من الوقوع في المعصية.
القسم الثاني من أقسام الصبر: هو الصبر على طاعة الله:
وهو يقتضي من الإنسان الصدق إذا قرأ: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ[الأنعام:162-163] فلا بد أن يجتهد الإنسان في أن يصبر نفسه على طاعة الله، فقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف:28] .
والصبر على طاعة الله ثلاثة أقسام:
الأول: الصبر على طاعة الله قبلها بالاستعداد لها والعزيمة عليها.
الثاني: الصبر عليها في أثنائها بالحضور فيها والخشوع، وأدائها كما شرعها الله.
الثالث: الصبر عليها بعدها بعدم إبطالها باللواحق المبطلة كالمن والأذى والرياء والسمعة، وغير ذلك مما يبطل العمل، نسأل الله السلامة والعافية.
القسم الثالث من أقسام الصبر: الصبر على قضاء الله وقدره، وهو الصبر عند الابتلاء.
ويتحقق هذا الصبر بوسائل كثيرة نعد منها ما يلي:
أولاً: تقوية الإيمان بالقدر، بأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف بما هو كائن، وليتذكر أنه وهو جنين في بطن أمه كتب معه رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وكل ما يصيبه قد كتب ولا تغيير في ذلك.
ومن قوي إيمانه ثبته الله سبحانه وتعالى عند الابتلاء والمحن، لقول الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، وتقوية الإيمان سبب للثبات والأمن كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام:82]، ولا شك أن من كان أقوى إيماناً كان أثبت عند المحن والبلاء.
ولننظر إلى سحرة فرعون الذين كانوا قبل إيمانهم أشد الناس عداوة لله ولرسله، وأبعدهم عن مقامات أهل الإيمان، ولكنهم أخلصوا لله في تلك اللحظة، فتعرضوا لمحنة فنجحوا وثبتوا وصبروا، فقذف الله في قلوبهم من الإيمان والعلم الشيء الكثير جداً، ولذلك حين ضغط عليهم فرعون وهددهم بأنه سيقتلهم ويصلبهم في جذوع النخل، وسيهينهم بأنواع الإهانة: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا[طه:72]، فعرفوا أن الله هو الذي فطرهم فآمنوا به، وحققوا ذلك وأقسموا به تأكيداً.
فانظر إلى الحال الذي وصلوا إليه من الإيمان الآن، بعد أن كانوا يقولون قريباً: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ[الشعراء:44]، فقد كانوا يقسمون قبل ثوان بعزة فرعون، وهم الآن يقولون: وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[طه:72]، فعرفوا أن ملك فرعون وما يهدد به كله من أمور هذه الدنيا الفانية الزائلة التي لا تدوم، ومن هنا فهم راغبون فيما في الآخرة من الأمور الدائمة الخالدة التي لا انقطاع فيها، لهذا قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ[طه:72-73].
فقد عرفوا الله بصفاته فعرفوا أنه هو الذي يغفر الذنب ويقبل التوب عن عباده: لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[طه:73]، ووصفوه بصفات الكمال والجلال: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى[طه:74-75] وهاتان الجملتان هما خلاصة علم الأولين والآخرين، فعلم الأولين والآخرين يدور على هاتين النقطتين: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى[طه:74-76].
فغاية ما يصل إليه المخلوق من العلم أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى وبشرعه وثوابه لمن أحسن وعقوبته لمن أساء، وأن يؤمن بالمصير إليه وبجنته وناره، فذلك خلاصة علم الأولين والآخرين: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى[طه:74-75] قذف الله كل هذا العلم في قلوبهم في هذه اللحظات عندما ثبتوا وآمنوا، وهذا ما لا يتوصل إليه الدارسون والباحثون في السنوات العديدة.
ثانياً: التقوى:
فاتقاء الله سبحانه وتعالى سبب للثبات والصبر، فقد قال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ[يوسف:90] في قصة يوسف، فبين أن التقوى والصبر من المتلازمات.
وقال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ[البقرة:282]، فدل ذلك على أن من اتقى سيعلمه الله ما يحتاج إليه، ومن ذلك ما يحتاج إليه من الحجج المثبتة، وما يحتاج إليه من الصبر أيضاً.
ثالثاً: الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى:
فهو من أبلغ ما يثبت الله به قلوب المؤمنين، ومن أبلغ ما يزيد في الصبر، فالدعاء يرد القدر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يرد القدر إلا الدعاء وهو يصطرع في السماء مع البلاء).
وأيضاً فإن الدعاء هو مخ العبادة أو هو العبادة، واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى لا يرد صاحبه، وبالأخص في حال الاضطرار والمحنة والبلاء، فالله يقول في كتابه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ[النمل:62] .
رابعاً: البراءة من الحول والقوة إلى الله والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده:
فلا بد لمن أصيب بالبلاء أن يبرأ من حوله وقوته إلى الله سبحانه وتعالى وأن يعلم أنه لا يثبت إلا بتثبيت الله له، ولا يصبر إلا بتثبيت الله له، وأنه لا حول له على دفع ما نزل به من قدر الله، ولا قوة به على مغالبة أقدار الله، فلا بد أن يستسلم إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يعرف أن الأمر كله إليه ومن عنده، ومن هنا فعليه أن يحسن التوكل على الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا ما حصل في أنبياء الله.
فهذا نوح عليه السلام عندما تمالأ عليه أهل الأرض جميعاً قال لهم: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ[يونس:71] .
وهذا هود عليه السلام عندما اجتمع رأي قومه على التخلص منه قال لهم : إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[هود:56] .
وهذا إبراهيم عندما رماه قومه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، وقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[الأنبياء:69] .
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ[آل عمران:173-174].
خامساً: المعرفة بالابتلاء والاستعداد له:
فمما يعين على الصبر عند البلاء والثبات فيه أن يعرف الإنسان سنة الله بالابتلاء، فهي سنة ماضية وحكمة بالغة، فالله تعالى يقول في كتابه: آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3].
وقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[آل عمران:186] ، وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة:214].
والاستعداد للبلاء بأن يعلم الإنسان أنه يسلك طريق المكاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وفي رواية: (حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات).
فالسائر في هذا الطريق يعلم أنه سيمتحن بكثير من المحن والبلايا، فلا بد أن يستعد لها بتهيئة نفسه لذلك، وقد قال أحد الحكماء:
يمثل ذو اللب في لبـه مصائبه قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتة لم ترعـ ـه لما كان في نفسه مثلا
وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا
فإن دهمته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا
فلا فائدة من العويل، بل لا بد من الاستعداد للابتلاء، وأن يعلم الإنسان تقلب أحوال الدنيا وعدم استقرارها، ويستعد لذلك، وبالأخص إذا علم حكمة الله في الابتلاء، وأن من حكمة الله أن يرفع به أقواماً درجات إذا صبروا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كانت تكفيراً من ذنبه حتى الشوكة يشاكها)، وقال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل الأمثل)،وبين أنه لا يزال البلاء بالعبد حتى يفد على الله وليس معه ذنب.
سادساً: تذكر سنن المرسلين وأتباعهم:
فإذا تذكر الإنسان أن أنبياء الله وهم أكرم الخلق على الله، وأعلاهم قدراً ومكانة، قد ابتلوا بأنواع البلايا والمحن فصبروا وصمدوا؛ تذكر أنه ما هو إلا حلقة صغيرة من سلسلة طويلة فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن على آثارهم من المتقين والمخلصين في كل زمان ومكان، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها، ومن هنا فهو يرحب بتلك النكبات لأنها أصابت من هو خير منه، وهي نكبات مباركة، فيلتمس فيها البركة لأنها قد أصابت أنبياء الله المباركين، وقراءة الإنسان لسيرهم وقصصهم الواردة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبلغ ما يعين على الثبات.
وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حكايات الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده. ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120]، وذلك في خواتم سورة هود بعد أن قص الله فيها قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة إبراهيم وقصة لوط وقصة شعيب وقصة موسى وهارون، فكل ما أصابهم من قبل يثبت فؤاد المؤمن، لعلمه بأنهم أكرم على الله منه وخير منه، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن لا يصيبهم ذلك البلاء، ولو كان عدم إصابة البلاء خيراً لاختار الله ذلك لأنبيائه، ولكنه علم أن البلاء خير لهم فاختاره لهم، ومن هنا فإذا أصابك شيء مما أصاب الأنبياء فاستقبله بما استقبله الأنبياء.
وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم (أنه كان يقسم غنيمة يوماً فدخل عليه رجل أشعث أغبر، ثائر الرأس مشمر الثياب غائر العينين فقال: اعدل يا رسول الله، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله، ثم ابتسم وقال: رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فتذكر أذى بني إسرائيل لموسى وهم يعلمون أنه رسول الله، وقد قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ[الصف:5].
وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله أخي يوسف! لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته)، فيوسف عليه السلام مكث في السجن ما مكث، ثم أتاه الداعي من الملك يدعوه للخروج إليه فقال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ[يوسف:50]، ولم يستعجل في الخروج من السجن حتى تظهر براءته، وحتى تقر النسوة بما سمعن من امرأة العزيز، فكان ذلك من الثبات وعدم الاستعجال، وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم في قوله هنا: (رحم الله أخي يوسف لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته).
وكذلك تذكر حال أتباع المرسلين في كل زمان، وما ثبتهم الله به من الصبر في المحن والبلايا، وبالأخص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين حققوا أروع الأمثلة، فهذا خبيب رضي الله عنه عندما صلبته قريش وهو حي على الخشب قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
وهكذا أتباعهم من بعدهم والقرون الفاضلة من هذه الأمة، وقد برز فيها من النماذج من الصابرين الشيء الكثير، ومن هذه النماذج الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد صبر على المحنة والبلاء ثماني عشرة سنة وهو صامد ثابت تحت السياط وفي الأغلال والحديد يعذب ليقول كلمة واحدة فلم يقلها، وصبر على مبدئه وثبت عليه حتى فرج الله تلك الغمة وأزالها عن الأمة، وقد ذكر أنه مما أعانه على الثبات في فتنة محنة خلق القرآن أن شيخاً كبيراً من أهل العراق أتاه وهو في الحديد يساق إلى السياط فقال له: يا أحمد أنت اليوم رأس في أهل الإسلام فاتق الله فيهم؛ فإنك إن أجبت أجاب من وراءك، فكان ذلك من وسائل ثباته، وتذكر الإنسان لمسئوليته عمن يأتي بعده معين له على هذا الثبات.
ولذلك فإن المودودي رحمه الله عندما أطلق الرصاص وهو قائم يخطب فقال له الناس: اجلس؛ قال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟
إذاً: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتذكرها الإنسان في حال البلاء: أن يتذكر: إذا جلست أنا فمن يقوم؟
سابعاً: التماس المنحة في المحنة:
فإن لله سبحانه وتعالى حكماً بليغة، وكثيراً ما تتحول المحنة إلى منحة، وذلك من لطف الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول أحد العلماء:
لا تكره المكروه عند حلوله إن الحوادث لم تزل متباينه
كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنه
فكثيراً هي المحن والبلايا التي تئول إلى منحة، ولولاها لما تحقق للإنسان مراده، فهذا يوسف عليه السلام أراد الله أن يجعله ملكاً على مصر، ولو جاء بجيش عرمرم إلى مصر لقاتله ملوكها ولم يستطع أن يتملك على أهلها، ولكن أتى به عبداً وسلط عليه أقرب الأقربين ليرموه في الجب، وقديماً يقول الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
ومع ذلك فيؤتى به في صورة عبد ويباع بثمن بخس دراهم معدودة، ويسجن بعد ذلك مدة طويلة ليكون بهذا ملكاً، ولهذا عرف العلامة المختار بن بونه رحمه الله اللطف بقوله:
واللطف إبراز الأمور جاء في صور أضداد كما ليوسف
صيره رقاً لكي ينالا ملكاً وعزاً ربه تعالى
وكثيراً ما تأتي تلك المنح الربانية لملتمسها في داخل المحنة، فحصار الشعب الذي فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أصحابه وبني هاشم وبني المطلب بمكة ودام ثلاث سنين ظاهره محنة ولكن باطنه منحة، فقد اختار الله لهم محضناً تربوياً يتربون فيه على قيم الإيمان ويعتزلهم فيه أهل الجاهلية، ويجدون به هجرة داخل بلادهم، وانقطاعاً عن كل مظاهر الجاهلية وفسادها حتى يحققوا قيم الإيمان من الإيثار والإخاء، والتعاون على البر والتقوى، والنصيحة لله ورسوله، والصبر والجلد في الحق، ولم يكونوا لينالوا هذه المدرسة لولا أن فرض عليهم هذا الحصار الجائر، فذلك من منحة الله سبحانه وتعالى.
وكل من أصيب ببلاء وهو من المؤمنين فهو عرضة لرحمة الله، فالله سبحانه وتعالى قد وسعت رحمته كل شيء.
وأحق الناس بالرحمة الضعفاء، ولذلك قال عيسى بن مريم فيما أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)، فأهل البلاء يستحقون الرحمة، ومن هنا من ابتلي فصبر فقد تعرض لنفحات الله سبحانه وتعالى ومنحه.
ثامناً: تذكر قرب الفرج:
فالفرج إنما يأتي مع الشدة، والنصر إنما يكون مع الصبر كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،والله تعالى يقول في كتابه: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح:5-6]، وقال تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[الأعراف:56] ، وقال: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة:214].
فليتذكر الإنسان قرب الفرج، وأن الهم والمحنة إنما هي بأمر الله، وتقريبها وتصريفها وتغييرها بيده إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]
ما بين طرفة عين وانتباهتهـا يقلب الأمر من حال إلى حال
ولذلك فإن أبا عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، وأحد النحويين المشهورين كان من القراء الذين اختارهم الحجاج، في العراق عند تنقيطه للمصحف وضبطه له وتحزيبه وتعشيره، فكان يقرأ على الحجاج فقرأ في سورة البقرة قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ[البقرة:249]، والحجاج يقرأ بقراءة أهل الحجاز وهي (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ) فأنكر عليه الحجاج فقال: هكذا سمعت، وحدثه أن روايته هكذا، وقال: لتأتين بشاهد من العربية على أن (فعلة) تأتي بمعنى المرة خلال شهر أو لأجعلنك نكالاً، فخرج أبو عمرو في الأعراب في الصحراء يتلمس الشاهد على ذلك حتى لم يبق من الشهر إلا يوم واحد خرج مهموماً مغموماً، فإذا راكب يتغنى وينشد أبياتاً سمعها أبو عمرو فإذا فيها الشاهد، وإذا هو يقول:
قد يموت الجبان في آخر الصـ ـف وينجو مقارع الأبطال
ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال
وهذا الشاهد في قوله:
ربما تكره النفوس من الأمـر له فرجة كحل العقال
فالفُرجة والفَرجة معناهما واحد وهما للمرة كالغُرفة والغَرفة، ففرح بذلك أبو عمرو فرحاً شديداً، فلما استقبله الراكب قال: ما وراءك من الخبر. قال: مات الحجاج فإذا هو فرح آخر. فقال: ما أدري بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بوجود الشاهد! فالفرج قريب جداً.
تاسعاً: أن يتذكر الإنسان أن الناس لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتاً ولا نشوراً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[الحج:73]، وأنهم إنما تسلطوا عليه بتسليط الله تعالى لهم، ولولا تسليط الله لما استطاعوا الوصول إلى شيء من ذلك، وأن النمل إذا سلطه الله كان كالأسود، وإذا لم تسلط الأسود فلا ضرر يخشى منها:
ما للورى بدفاع جندك طاقة نمل مسلطة ضراغم عثَّرَ
فإذا تذكر الإنسان هذا الحال هان عليه ما يلقاه من المخلوقين، ولم يغتر بأي وعد منهم، ولم يحزن لأي وعيد، فهو يعلم أن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن، وأن أرواحهم في قبضة يده متى ما شاء أخذها، وأنهم لا يمكن أن يصلوا إليه بشيء إلا بشيء قد كتب عليه من قبل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
فليتذكر الإنسان أن الذين يخاف من بطشهم ونكالهم هم عرضة للموت في كل حين، وعرضة لزوال الأمر، وعرضة لتغير القلوب والآراء، وليتذكر أن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن متى شاء غير آراءهم وغير اتجاهاتهم، وكل ذلك قريب جداً، ومن هنا فلن يغتر بوعدهم، ولن يحزن لوعيدهم.
عاشراً: تذكر أن الثبات والصبر من المروءة:
فليتذكر الإنسان أن الثبات والصبر من أعظم خصال المروءة، وأن عليه أن يتحلى بهما لتمام مروءته، ولهذا فإن معاوية رضي الله عنه قال: (والله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا أبيات لـعمر بن الإطنابة، وهي قوله:
أبت لي عفتي وأبى إبائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشئت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صريح ).
فإذا كان الإنسان يعلم أن ثباته وصبره هو من المروءة ومن الخصال الحميدة، فذلك مدعاة لأن يصبر ويصمد ويثبت، وهنا أذكر أبيات جعفر بن علبة الكلابي فإنه يقول:
هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق
عجبت لمسراها وأنى تخلصت إليّ وباب السجن دوني مغلق
ألمت فحيت ثم قامت فودعت فلما تولت كادت النفس تزهق
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم لشيء ولا أني من الموت أفرق
ولا أن نفسي يزدهيها وعيدهم ولا أنني بالمشي بالقيد أخرق
ولكن اعترتني من هواك صبابة كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق
الحادي عشر من أسباب الثبات والصبر: تذكر العاقبة الحسنة:
فإن الذين صبروا وثبتوا سيكونون أبطالاً، وسيخلدهم التاريخ ويدخلون من بابه الواسع، ويُعجب بهم أعداؤهم قبل أصدقائهم، وبذلك سيحققون أكبر المكاسب وأغلاها لدى الناس، ومن المعروف أن كل إنسان لا يزال يتذكر للصابرين الثابتين مقامهم، وهو يرى أنهم من أمثال الجبال الصامدة أو هم أعظم من الجبال، فذلك الإعجاب لا يمكن أن يقع إلا على أساس اتصاف الإنسان بصفة عظيمة تستحق الإشادة والتقدير، وهذه الصفة هي صبره وثباته مع كل ما يصيبه من أنواع الضغوط التي يتعرض لها.
ومثل هذا: الصبر أمام الإغراءات المختلفة، فما نذكره من الصبر أمام البلاء والمحن مثله الصبر أمام الإغراءات المختلفة في أمور الدنيا، فوسائله هي هذه الوسائل أيضاً، وأن يتذكر الإنسان أنه يعجب كثيراً بأولئك الذين يصمدون ويصبرون أمام الإغراءات ولا ينجذبون وراءها، وأنهم هم الأبطال الذين يثني الناس عليهم ويخلدهم التاريخ، فذلك مقتضى منه أن يقتدي بهم ويسير في ركابهم.
وهذا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان حين أراد غزو العراق لقتال مصعب بن الزبير رضي الله عنهما بكت أم أولاده، وحزنت لذلك وأرادت أن يؤمر رجلاً على الجيش وأن يبقى هو في الشام في مأمن من هذه الغزوة فقال: قاتل الله كثير بن عبد الرحمن لكأنه ينظر إلينا الآن حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه حصان عليها نوم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما شجاها قطينها
وكذلك عندما كان في حرب ابن الأشعث أهدى إليه أحد امرأته جارية فكلمها، فأعجب بثقافتها وذكائها وبشكلها وأدبها فباتت عنده فكف نفسه عنها وقال: والله ما يمنعني إلا أبيات لأحد العرب، فلو اقتربت منك لكنت ألأم العرب، والأبيات هي قول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار
فقال: فلو اقتربت منك لكنت ألأم العرب، وهو يتذكر هذه الأبيات.
ولا شك أن الصمود أمام المغريات هو مثل الصبر في الابتلاء والمحن، لأن الابتلاء يكون بالخير وبالشر، كما قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].
فيحتاج الإنسان إلى تذكر هذه الوسائل ومعرفة عاقبة الصبر ليقتضي ذلك منه الاستمرار على منهج الحق وما يعي، وأن يعلم أنه إذا انهار فلن يتحقق له شيء، وإنما يهدم كل شيء كان قد أحرزه من قبل، وجزعه مذلة له وخنوع أمام الآخرين، والموت في حال العزة خير من الجزع والحياة الذميمة، ولهذا قال أبو تمام في مرثيته لـمحمد بن حميد
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم ترق ماءها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السَفَرُ السفْرُ
وما كان إلا زاد من قل ماله وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر
فهذا البيت عجيب جداً:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر
فأغرز في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر
فعلى الإنسان أن يعلم العاقبة والنتيجة المترتبة على الصبر في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا جميل حميد، وصبره لن ينقص شيئاً من أجله ولا من عمله ولا من مكانته ولا من رزقه، ومقامه في الآخرة سيرتفع ويزداد عند الناس كذلك بذكره وإعلاء منزلته، وقديماً قال الشاعر:
أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
فلا بد أن يتذكر الإنسان نفاذ القدر واستمراره، وأن يعلم أن علياً رضي الله عنه حين سئل عن الشجاعة ماهي؟ قال: صبر ساعة.
فإذا كان الإنسان يستطيع الصبر ساعة على البلاء فعاقبة ذلك محمودة جداً، ومكانه رفيع، والإنسان لن ينال ذلك المقام الرفيع حتى يجتاز قنطرة الصبر على المحن والبلايا، ولهذا قال الله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[آل عمران:139-148].
ويكفي من ذلك محبة الله سبحانه وتعالى للصابرين، وعلى الإنسان أن يعلم أن الموتة التي كتب الله عليه واحدة، وستناله مهما كانت حاله: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78] .
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
وقديماً قال الشاعر:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا على دينه وأن يلزمنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة، وأن ينصرنا على أعدائه وأعدائنا، وأن يجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يغنينا بأجر الشكر على النعمة عن أجر الصبر على النقمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[البقرة:32] تبرأت من حولي وقوتي واعتصمت بحول الله وقوته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر