قال شيخنا حفظه الله:
[ يقال نفسه كما قال كتب ربكم الآية أما من نسب
ذاتاً له فقد عنى التي له ملته شرعته سبيله
والأصل أن تضاف للإله لا للضمير أو للفظ لله
كمثل ما قال خبيب إذ صلب وقال نابغة ذبيان الذرب
لأنها تأنيث ذي الملتزمِ فيه الإضافة لغير العلمِ
لظاهر قال ابن مالك وقد ذكر ما يلزم (ذو) في ذا الصدد
ذو ذات أنثاه ذوات الجمع وجريان الأصل مثل الفرع
نعم أتت مضافةً لله في كذبات القانت الأواه
وهو شذوذ ونظيره ذو بكة مما وجهه الشذوذ]
هذه الأبيات كلها في مبحث واحد، وهو مبحث إطلاق الذات على الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى له صفات ويقابلها هو (الذات) فالذي يطلق عليه لفظ الله سبحانه وتعالى هو هذا الاسم، فيدل على الله وعلى صفاته، فهو بفهم العقل لا يمكن أن يفصل عن الصفات أصلاً في الوجود الخارجي؛ لكن في الوجود الذهني يمكن أن يتخيل الفصل، فأنت إذا أردت أن تثبت ماهيةً دون أن تخوض في صفاتها فهذا بالنسبة للماهيات المخلوقة الأمر فيه سهل؛ لكن بالنسبة لله تعالى فإن صفاته لا تفارق ذاته، فلا يمكن أن تثبت الذات دون الصفات، لكن مقابل الصفة ماذا يسمى؟ سماه الله نفساً في قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54] وفي قوله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ[المائدة:116] فإطلاق النفس عليه لا إشكال فيه قطعاً؛ لأنه ثابت في النصوص فتكون نفس الله وصفات الله، لكن لم يُستعمل في صفات الله هذا الاستعمال، وإنما استعملوا له (ذات) على مقابل الصفة. فالشيخ قال: (يقال نفسه كما قال: (كَتَبَ رَبُّكُمْ.. الآية) فلا إشكال في هذا.
(أما من نسب ذاتاً له) أي: وقال: ذات الله، ومعناه: أضاف الذات إلى الله، والمقصود إذا كان ذلك في النص أو في كلام السلف مثل: سبيل الله، أو ملة الله، أو شريعة الله، لذلك قال:
[ ..................... ....... أما من نسب
ذاتاً له فقد عنى التي له ملته شرعته سبيله ]
أي: اعلموا أن ثم مضافاً إلى الله، أي: مملوكاً لله مثل ملته، أو شرعته، أو سبيله.
والملة والشريعة والشرعة معناها متقارب، لكن الملة: تطلق على ما يشمل الاعتقاد والعمل، والشريعة: تطلق على العمل، والشرعة: تطلق على العمل والأخلاق، فالملة تشمل الاعتقاد والعمل والأخلاق، والشريعة تشمل الأعمال فقط، يعني: أعمال التشريع فقط. والشرعة: تشمل الأعمال والأخلاق دون الاعتقادات، ولهذا قال الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً[المائدة:48] فشرعة الأنبياء مختلفة، ولكن عقيدتهم واحدة لقوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الشورى:13] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ[آل عمران:95] فملته ما يشمل الجميع في الأصل إلا ما استثني من ذلك.
وليس معناه أن كل تشريع نزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان موجوداً في ملة إبراهيم، بل هذه الشريعة أكمل من ملة إبراهيم بالكلية، إذ لا يمكن للبشرية أن ترجع إلى الوراء فتأخذ بتشريع قد أخذت به قديماً قبل نضجها، والبشرية لم تتكامل في زمان إبراهيم، بل خاضت بعد ذلك كثيراً من التجارب؛ ولهذا شرع لها كثير من الأديان بعد ذلك على مقتضى المراحل التي تمر بها، وإنما كملت البشرية في وقت النضج الحقيقي حين أرسل الله إليها محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الشريعة.
فمن هنا تشترك هذه الشريعة مع ملة إبراهيم في بعض الأمور، سواءً كان ذلك في التشريعات أو في الأخلاق، ففي باب الأخلاق: أخلاق إبراهيم مشروعة لهذه الأمة كالضيافة، وخصال الفطرة، وعدم العجلة والتأني، وعدم الدعاء على قومه والحلم عنهم، فهذه أخلاق إبراهيم وهي مشروعة لهذه الأمة، وقد أخذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ بدعاء نوح على قومه، ولا بدعاء هود، ولا بدعاء صالح، ولا بدعاء موسى.
وكذلك لم تكن هذه الأمة مطالبة بكثير من الإيغال في الروحانيات مثل ما طولب بذلك أصحاب عيسى، فكثير مما ورد عن عيسى عليه السلام من الأوصاف غير مطلوب من كل الناس في هذه الأمة، من مثل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ونحو ذلك، فليس هذا مطلوباً من هذه الأمة، بل عندنا الميزان الوارد في سورة الشورى في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[الشورى:39-43] فهذا ميزان بين أن تصبر وتغفر أو أن تأخذ بحقك، وذلك أن كل واحدة منهما لها مقام، فمن المقامات ما ينبغي فيه الحلم وعدم المؤاخذة بالحق، ومن المقامات ما ينبغي فيه المؤاخذة بالحق وعدم التحلُّم كما قال الحكيم:
وبعض الحلم عند الجهـ ـل للذلة إذعان
أي: ذلة وليس حلماً حقيقاً.
وكذلك يقول أبو الطيب المتنبي :
إذا قيل مهلاً قال للسلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل
ولولا تولي نفسه حمل حلمه على الأرض لانهدت وناء بها الحمل
ويقول أيضاً:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
(أما من نسب ذاتاً له فقد عنى التي له): يقصد بذلك القدماء ولا يقصد به المتأخرين، فالمتأخرون يطلقون الذات ولا يقصدون هذا المعنى الذي ذكره، بل القدماء سواء كانوا من أهل الجاهلية أو من صدر الإسلام إذا أطلقوا ذات الله أو ذات الإله فإنما يقصدون بها ملته أو شرعته أو سبيله.
(والأصل أن تضاف للإله لا للضمير أو للفظ الله)
والأصل في الذات في اللغة أن تضاف للإله، ولا ينبغي أن تضاف إلى الله؛ لأن (ذا) هو من الأسماء الخمسة الملازمة للإضافة، لكنه لا يضاف إلى الضمير ولا إلى العلم، والله علم، ومن أجل هذا قال: (والأصل) أي: الأصل في اللغة (أن تضاف للإله)؛ لأن الإله ليس ضميراً ولا علماً بل هو اسم محلىً بأل، (لا للضمير أو للفظ الله) أي: الذي هو علم، مثال ذلك:
(كمثل ما قال خبيب إذ صلب) أي: خبيب بن عدي أخو بني جحجبى وهو رجل من الأنصار رضي الله عنه، خرج في بعث الرجيع الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليأتي بأخبار مكة، وأمر عليه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، وكانوا ثمانية فغدر بهم بنو لحيان وبنو عصية، فقتل عاصم بن ثابت فحماه الله بالدبر، أي: بالنحل، وذلك أن امرأة من قريش قتل عاصم ثلاثة من أولادها يوم أحد، وهي زوجة أبي طلحة بن عثمان بن عبد الدار، فنذرت أن تشرب الخمر في رأسه، وجعلت لمن أتاها برأسه مائة ناقة، فأراد بنو لحيان أن يأتوها برأس عاصم فحماه الله بالدبر، فجاء النحل فحال بينهم وبينه حتى جاء الليل، فجاء سيل فحمل جثته، وقتلوا عدداً منهم وأخذوا رجلين وهما: زيد بن الدثنة و خبيب بن عدي فباعوهما بمكة، فاشترتهما قريش وكان ذلك في الشهر الحرام، فأمسكوهما حتى خرجت الأشهر الحرم، فأخرجوهما خارج الحرم وقتلوهما.
وقصة قتل خبيب : أنهم حين أرادوا أن يصلبوه سأله أبو سفيان : هل تحب أن تكون الآن بين أهلك وذويك وأن محمداً مكانك نقتله؟ فغضب خبيب وقال: ( والله ما أحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه يشاك بشوكة، وأنني نجوت من بين أيديكم )، وقد شاهدوا منه أشياء عجيبة كانت سبباً لإسلام بعضهم فيما بعد، فقد كان سجيناً عندهم وكانت تأتيه أرزاق ليست في مكة، فقد أتوه ذات يوم فوجدوا بين يديه طبقاً من العنب وليس ذلك في وقت وجود العنب أصلاً، ورأوا منه أخلاقاً كريمة، فقد خرجت أم خالد بنت الحارث تطلب ولداً لها فوجدته قد أجلسه في حجره وبيده سكين فخشيت أن يذبح الولد، فقال: معاذ الله أن أفعل هذا وأنا في حرم الله، وهذا ابن صغير ما له ذنب أقتله به، فرأوا أخلاقاً عالية فأسلم عدد منهم بعد ذلك، وكانوا يحدثون بهذا ويقولون: ما رأينا أكرم من خبيب بن عدي ، وحين صلبوه أنشد أبياته المشهورة التي يقول فيها:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
فقوله هنا: (وذلك في ذات الإله) هو محل الاستشهاد من قصة خبيب ، حيث قال: (في ذات الإله) ولم يقل: في ذات الله، فنسب لفظة ذات إلى الإله؛ لأنه ليس ضميراً ولا علماً.
وقوله: (وقال نابغة ذبيان الذرب)
معناه: ومثل ما قال نابغة ذبيان وهو النابغة الذبياني من بني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد، والنابغة أحد شعراء الجاهلية المشاهير، وكان هو حكم أهل الجاهلية في سوق ذي المجاز وفي سوق عكاظ يتحاكمون إليه في شعرهم، وهو أحد الذين علقت قصائدهم على الكعبة، وأحد الشعراء الستة الجاهليين الذين هم أشهر أهل الجاهلية شعراً، مع أن معلقة النابغة اختلف فيها ما هي؟ فقال طائفة من أهل العلم: هي قوله:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت فطال عليها سالف الأبد
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وقالت طائفة أخرى هي قوله:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ماذا تحيون من نؤي وأحجار
والنابغة هذا كان حكيماً في الجاهلية معروفاً، وقد عاش حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يسلم، ويمكن أن لا تكون قد بلغته الدعوة، وكان ناقداً بليغاً في النقد، فحين أنشده حسان بن ثابت أبياته التي يفخر فيها ويقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً
بين له أنه في هذا البيت وحده أخطأ عدة أخطاء، فقال:
قال: جفنات، ولم يقل: جفان، مع أن جفنات جمع قلة.
وقال: الغر، ولم يقل: البيض، والغر بياض الوجه فقط.
وقال: يلمعن، ولم يقل: يضئن.
وقال: بالضحى، ولم يقل: بالدجى؛ لأن الضحى لا فائدة من الضوء فيه.
وقال: وأسيافنا، ولم يقل: سيوفنا، والأسياف جمع قلة.
وقال: يقطرن، ولم يقل: يجرين، وهي أبلغ منها وأشهر.
والنابغة يقول في قصيدته التي يمدح بها الحارث بن أبي شمر الغساني التي مطلعها:
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيب
يقول فيها في مدح بني جفنة:
حلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
لئن كان للقبرين قبر بجلق وقبر بصيداء الذي عند حازب
وللحارث الجفني سيد قومه ليلتمسن بالجيش دار المحارب
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائب
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم من الضاريات بالدماء الدوارب
لهن عليهم عادة قد عرفنها إذا عرض الخطي فوق الكواثب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
تورثن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجارب
تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
محلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب
وهذا البيت هو محل الاستشهاد، وفيه روايتان: إحداهما:
مجلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب
والأخرى:
محلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب
ومعنى مجلتهم، أي: مكان إجلالهم وتعظميهم الذي يجلونه ويعظمونه هو ذات الإله، ومعناه: ملة الله وشريعة الله، والرواية الأخرى: محلتهم ذات الإله: أي: أن الذي يعدلون به ويرجعون إليه في أمورهم هو شرعة الله، ولا يرجعون إلى هواهم ولهذا قال: (فما يرجون غير العواقب) أي: أمور الآخرة، فهنا قال: (ذات الإله) ولم يقل: ذات الله، فأضاف لفظة (ذات) إلى الإله؛ لأنه ليس علماً ولا ضميراً، فهذا هو السياق اللغوي.
والذرب معناه: الذي تعود على أن لا يغلب في الكلام ولا في غيره، والذرابة: هي طلاقة اللسان، وقد تكون محمودة وقد تكون مذمومة، فإذا كانت في الحق كانت محمودة، وإذا كانت في غيره كانت مذمومة، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أهل النار بأنهم: (كل عتل جواض متفيهق مستكبر) متفيهق معناه: الذي يكثر الكلام ويتشدق به، وذكر في وصف المنافقين أنهم يتخللون بألستنهم كما تتخلل البقر بألسنتها، فهذا النوع من التفيهق والتقعر في الكلام والتكلف فيه مناف للشرع؛ ولذلك لا يكون مدحاً.
ولا يخفى أن كثيراً من الناس تعرفهم في لحن القول يتفيهقون في الكلام، ويتفاصحون فيه ويتقعرون فيه، وهذا الوصف نلومه، بل قد يقتضي نفوراً، كما حصل لرجل كان في الوفاة فدخل عليه رجل يريد أن يلقنه الشهادة فقال: قل: لا إله إلا الله، ولك أن تقول: لا إلهٌ إلا الله! ولك أن تقول: لا إلهاً إلا الله! فقال: أخرجوه عني. لأنه تقعر له في الكلام، والله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86] فهذا التكلف مذموم شرعاً، فمن أجل هذا فإن الذرابة في وصف النابغة يمكن أن تكون من باب الذم؛ لأنه جاهلي وقد جاء في شعره كثير من معاني الجاهلية، ويمكن أن تكون أيضاً بمعنى الفصاحة والبلاغة فقد اشتهر بكثير من الإبداع العجيب، وبالأخص فيما يتعلق بالاعتذار، فهو أشعر الناس في مجال الاعتذار، وذلك في اعتذاره للنعمان بن المنذر .
قوله: (لأنها تأنيث ذي الملتزم فيه الإضافة لغير العلم)
هذا تعليل قوله: (والأصل أن تضاف للإله) وإنما كان هذا هو الأصل في اللغة؛ لأن (ذات)
هي تأنيث (ذو) الذي هو من الأسماء الخمسة. (الملتزم فيه الإضافة) والذي هو بمعنى صاحب، لكنه لا يضاف لعلم ولا إلى ضمير، ولهذا قال: (لغير العلم من ظاهر) ومعناه: من الأسماء الظاهرة فلا يضاف للعلم ولا إلى الضمير.
(.... قال ابن مالك وقد ذكر ما يلزم ذو في ذا الصدد)
قال ابن مالك : وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الجياني منشأً، الأندلسي إقليماً، الدمشقي داراً وبها توفي سنة (772هـ)، الطائي نسباً، الشافعي مذهباً بعد أن كان مالكياً، وهو محدث فقيه لغوي، وهو الذي استطاع أن يفك للناس الإشكالات اللغوية في صحيح البخاري بعد أن أحجم عنها كثير من الناس، فكثير من الألفاظ جاءت في الصحيحين تتباين فيها النسخ والروايات، ويختلف الناس فيها من ناحية اللغة، وإلى الآن ما زال بعضها مشكلاً في صحيح مسلم ؛ لأن صحيح مسلم لم يعمل عليه أحد، بينما عمل ابن مالك على صحيح البخاري .
مثال ذلك: (لقد بلغ هذا الكلام قاعوس البحر)، أو (قاموس البحر)، أو (ناعوس البحر) كلها روايات في صحيح مسلم . ونحن إلى الآن لا نعرف أيها صحيح من الناحية اللغوية، وهي مشكلة تردد فيها شراح صحيح مسلم كلهم: أبو العباس القرطبي في المفهم، والمازري في المعلم، والقاضي عياض وهو من أشد الناس عناية باختلاف النسخ في صحيح مسلم ، ونقل كلام القاضي عياض النووي ولم يزد عليه شيئاً في هذا الباب، وكذلك الأبي ، وكذلك السنوسي وكل شراح مسلم تحيروا في هذه الكلمة.
وأما صحيح البخاري فأكثر الكلمات التي فيها غرابة لغوية أو إشكال جمعها ابن مالك حين كان اليونيني يريد تحقيق صحيح البخاري ، وهو أول عملية تحقيق في هذه الأمة، هذا التحقيق الذي يفخر به المستشرقون إنما نشأ في بداية القرن الثامن الهجري حينما ابتدأه اليونيني رحمه الله، فجمع ستة عشر عالماً في دمشق، وأعطاهم أموالاً طائلة، وجمع إليهم نسخ صحيح البخاري المروية في دمشق، فقابلها وكتب الفروق بينها بكل دقة، وجعل الكلام الساقط من بعض النسخ بين قوسين، وأشار عليه بحروف تدل على النسخ، وكانت نسخة اليونيني أصح نسخ صحيح البخاري وأجمعها للروايات؛ لأنه جمع الاختلاف الوارد في رواية ابن عساكر ، وفي رواية كريمة، وفي رواية الكشميهني ، وفي راوية أبي ذر الهروي ، وفي رواية المستملي، وفي رواية الأصيلي ، وفي رواية المؤيد، فجمع كل الاختلافات الواردة في روايات صحيح البخاري وأبان الفروق بينها، فإذا أشكلت عليهم أية مسألة لغوية فـابن مالك موجود بين ظهرانيهم أحالوها عليه، فكتبها وكتب الجواب عنها، وجمع ذلك في كتاب سماه: التوضيح والتصحيح لحل مشكلات الجامع الصحيح، وهو كتاب مطبوع الآن، لذلك فـابن مالك هو مرجع سواء كان في مجال الوحي والنصوص، أو في مجال اللغة.
والشيخ هنا استشهد بكلامه في كافيته، والكافية هي النظم الذي نظمه لأحد أولاده وأراد به أن يقوي ملكته في النحو، فنظم له الكافية الشافية وهي ألفان وسبعمائة وثمانون بيتاً، كما قال هو فيها:
ومنتهى أبياتها ألفان مع مئين سبع وثمانين تبع
وهو أول كتاب من كتب النحو يكثر فيه من الاستشهاد بالحديث، وكل من سبقه من النحويين يندر لديهم الاستشهاد بالحديث، فلو رجعت إلى كتاب سيبويه وشروحه، لا تجد عناية بالاستشهاد بالحديث، وكتاب سيبويه فيه ثلاثمائة وثمانون آية من القرآن؛ لكن الأحاديث فيه معدودة على الأصابع والظاهر أنها أربعة أحاديث، وأول من أكثر من الاستشهاد بالحديث هو ابن مالك في شرحه الكافية المسمى: شرح الكافية الشافية وقد طبع في خمس مجلدات.
وهذا البيت من الشافية يقول فيه:
وذات أنثاه ذوات الجمع وجريان الأصل مثل الفرع
ونظم القاعدة في قوله:
وقل أن تضاف ذو إلى العلم
إضافة لفظ (ذو) إلى علم نادرة جداً، وقد ذكر ما ورد منه وهو:
( ذو تبوك وذو مكة ) ذو تبوك. أي: أميرها وقائدها، وتبوك: اسم محلة دون الشام أو من الشام، وكانت عيناً في الجاهلية ولم يكن عليها سكنى، وإنما عسكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصل إليها أمر من سبقه إلى العين ألا يأخذ شيئاً من مائها، فسبقه رجلان فانصرفا للماء فدعاهما ووبخهما على ذلك توبيخاً شديداً، كما في الصحيح ثم قال لـمعاذ : (يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً) فكان ذلك بعد أن مضت سنوات قليلة حتى كانت تبوك جناناً، وملئت بالحياة والزراعة والنخل، وما زالت كذلك إلى اليوم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فتوضأ فيه وأمر أن يصب ذلك في عينها، فلم تغر من ذلك الوقت ببركة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ذو بكة: جاء هذا في حجر وجده ابن الزبير داخل الكعبة حين هدمها لإعادة بنائها، فوجد فيها حجراً كتب عليه: أنا الله ذو بكة، حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض (ذو بكة) معناه: مالك مكة وبكة هي مكة كما جاء ذلك في القرآن في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ[آل عمران:96] فبكة من البك وهو الإهلاك؛ لأنها تبك الظالمين، فإنها لم يعتد فيها ظالم من قبل إلا أهلكه الله، كما قالت القرشية لابنها:
أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير
أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور
ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحبير
يمشي إليها حافياً بفنائها ألفا بعير
والله آمن طيرهاوالعصم تأمن في ثبير
وقد كان أهل الجاهلية يشاهدون هذا، ولكن عندما جاء الإسلام رفع ذلك، كما قال ذلك ابن عباس : قد كان ذلك في الجاهلية حيث لا حاكم يردع عنها، فكان الذئب يطرد الأرنب فتدخل في الحرم فيرجع عنها، وكان الإنسان يعصي الله من الليل في مكة فيفضحه الله من النهار، وتسلط عليه بائقة من البوائق: إما أن تنزل عليه صاعقة، أو أن تأتيه حية بين الناس فتأخذه، أو نحو ذلك، فلما جاء الإسلام رفع الله بالسلطان والقرآن ما كان يردعه مباشرة، وأصبح الناس يذنبون في الحرم فلا تعجل لهم العقوبة، لكن ذلك سيزيد عليهم؛ لأن الذنب يعظم بحسب الزمان والمكان.
وقول ابن مالك : (وذات أنثاه ذوات الجمع) أي: ذات هي التي تطلق على مؤنث ذو.
(ذوات الجمع) أي: ذوات هي جمع ذات، (وجريان الأصل مثل الفرع) جريان الأصل وهو ذو تجري فروعه كلها فذات، وذوات، وذوو كلها لا تضاف إلى العلم ولا تضاف إلى الضمير إلا نادراً، فمن إضافتها إلى العلم قوله: ذو بكة، وقوله: ذو تبوك، ومن إضافتها إلى الضمير قول الشاعر:
صبحنا الخزرجية مرهفات أباد ذوي أرومتها ذووها
ذوو عروبتها ذووها: ذووها أضيفت إلى الضمير هنا، وهذا نادر جداً لم يسمع منه غير هذا البيت.
(نعم أتت مضافة لله في كذبات القانت الأواه)
نعم: استدراك على ما سبق، وذلك أنه جاء في صحيح البخاري : (ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله) وفي رواية: (أن اثنتين منهن في ذات الله) يعني: إبراهيم ما كذب إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله، فأضيفت هنا (ذات) إلى (الله) فيكون هذا من الشاذ في اللغة؛ لأنه أضيف فيه لفظ (ذات) إلى العلم وهذا نادر، وكذبات إبراهيم هي قوله: إِنِّي سَقِيمٌ[الصافات:89] كذب في ذات الله ليتركوه فيخلو بأصنامهم ويحطمها، والثانية قوله: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا[الأنبياء:63] يقصد الأصنام، والثالثة: قوله في زوجته: هي أختي ويقصد بذلك أخوة الدين، هذه ثلاث كذبات كلهن في ذات الله، أو اثنتان منهن في ذات الله، والمقصود بذات الله: سبيل الله، أي: قصد بذلك إعلاء كلمة الله، ومن هنا أجاز العلماء الكذب في العمل لنصرة دين الله، وإذا خيف على العمل له فيكون الصدق فيه محرماً والكذب واجباً؛ لأن الصدق يؤدي فيه إلى ضرر، وما حرم الكذب إلا من أجل الضرر الذي يؤدي إليه، وما أوجب الصدق إلا من أجل النفع الذي يحصل به، فإذا ترتب على الصدق ضرر وعلى الكذب نفع انعكس الأمر وانتقض الحكم.
وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للحجاج بن علاط السلمي رضي الله عنه أن يكذب على قريش حتى يستخلص منهم أمواله، وقد كذب كذباً لو كذبه أحد لم يؤذن له به لكان كفراً؛ لأنه زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد هزم وأنهم أخذوه أسيراً، وأنهم قالوا لن نقتله حتى نبيعه بمكة، فمن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هزم فقد كفر؛ لأن هذا استخفاف بمقامه صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وهو شذوذ).
يقصد الشذوذ اللغوي ولا يقصد الشذوذ الحديثي، فليس الحديث شاذاً من ناحية الرواية الحديثية.
والشاذ لدى المحدثين هو: رواية المنفرد إذا خالفه من هو أوثق منه أو أكثر، فالحديث الذي رواه عدد لا يكون شاذاً، بل لا بد فيه من الانفراد. والأمر الثاني: لا بد أن يكون ثقة، فإن كان غير ثقة كان حديثاً منكراً، وإذا انفرد به غير الثقة لا يسمى شاذاً وإنما هو منكر. القيد الثالث: أن يكون خالفه، والمقصود بالمخالفة: المخالفة بالإثبات أو النفي أو بإضافة حكم، لا مجرد الزيادة، فزيادة الثقة لا تعتبر شذوذاً، وكذلك الزيادة في الإسناد وهي المسماة عند المحدثين: المزيد في متصل الأسانيد، فلا تسمى شذوذاً أيضاً.
أما الشاذ في اللغة: فهو ما انفرد عن القاعدة وهو المقصود هنا؛ لأن القاعدة هي المعبر عنها بالأصل، وقد ذكرنا من قبل أن الأصل يطلق على القاعدة، فالأصل أن تضاف (ذو) إلى الاسم الظاهر غير العلم، وهنا أضيفت إلى العلم فهو شاذ، أي: منفرد عن القاعدة.
( ونظيره ذو بكة ): كما في الأثر الذي ذكرناه عن ابن الزبير فيما كتب على الحجر.
( مما وجهه الشذوذ ): أي: وجهه اللغوي شذوذ.
وبهذا نعلم أن لفظ ذات إنما جاء إطلاقه على مقابل الصفة في العصور المتأخرة، وإن كان بعض أئمتنا يطلقه لكنه إنما يقصد بذلك المجاراة، وأصبحت كلمة دارجة في عرف الناس، والناس يقولون: خطأ مشهور خير من صواب مهجور، وهذه الخيرية نسبية؛ لأنها إذا كانت تقتضي إثباتاً أو نفياً في مجال الاعتقاد فليست كذلك، لكن المقصود به الإفهام والمجاراة، فإذا كان الناس لا يعرفون مقابل الصفة إلا بالذات فإننا نقيس عليه هذه الكلمة، وإن كانت ليست في لغة العرب أصلاً، فليس في لغة العرب لفظ (ذات) تطلق على مقابل الصفة، وإنما هي من ألفاظ المتكلمين التي اندرجت بالعربية فأصبحت دارجة فيها، فهي من الكلام الدارج.
السؤال: هل يقال هزيمة أُحُد مثلاً .. أو نحو ذلك؟
الجواب: إذا قصد بذلك هزيمة المؤمنين أو الجيش الإسلامي فلا حرج، ولكن إذا قصد به التنقص من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه هو في نفسه هزم، فإنه غير صحيح وهو باطل من ناحية الاعتقاد، فالرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد لم يهزم هو وأحد عشر رجلاً معه وامرأة واحدة، أما البقية من المسلمين فقد هزموا فعلاً، هزم الجيش الإسلامي وكان عداده أكثر من سبعمائة رجل، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد عشر رجلاً وامرأة واحدة هي نسيبة رضي الله عنها، والبقية كلهم هزموا:
وثبت مع النبي اثنا عشر بين مهاجر وبين من نصر
وثبتت نسيبة المبايعة قبل وعن خير الورى مدافعة
فجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً انهزموا ذاك اليوم، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، لكن هو نفسه لم يهزم والذين بقوا معه لم يهزموا، ونفس الأمر حدث يوم حنين حيث هزم الناس ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مائة، وهزم عنه حتى كثير من أصحابه المقربين إليه، ولم يبق معه إلا مائة منهم امرأتان هما: أم سليم بنت ملحان و عائشة أم المؤمنين، وصاح العباس في الناس: يا أهل الشجرة! يا أصحاب البيعة!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر