إسلام ويب

سلسلة الأسماء والصفات [5]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لله تعالى صفات مذكورة في الكتاب والسنة، وقد خالف في إثباتها المشبهة والمعطلة، وقد ذكر أهل السنة قواعد ترد على الفرقتين، وتبين الطريقة السليمة في إثبات صفات الله الذاتية والفعلية من غير انحراف.

    1.   

    الكلام على قاعدة (القول في صفات الله كالقول في ذاته ونفسه)

    يقول الشيخ حفظه الله:

    [وما نقول في صفات قدسه فرع الذي نقوله في نفسه]

    الرد بالقاعدة على المشبهة والمعطلة

    هذا شروع في وضع قواعد لتوحيد الأسماء والصفات، وهذه القواعد أهمها قاعدتان:

    أولاهما: أن القول في الصفات كالقول في الذات، وهذه القاعدة هي التي نظمها في هذا البيت بقوله:

    (وما نقول في صفات قدسه فرع الذي نقوله في نفسه)

    أي: إن الكلام في صفاته مثل الكلام في ذاته، وهذه مزيلة لكل إشكال، سواء كان من جهة المعطلة أو من جهة المشبهة:

    أما من جهة المعطلة: فإنهم يثبتون له نفساً هي الذات عندهم، وهم يعرفون أن للمخلوق ذاتاً ومع ذلك لا يقتضي إثبات أن له ذاتاً وأن للمخلوق ذاتاً التشبيه قطعاً عندهم! فما الفرق بينها وبين الوجه واليدين والعين والقدم والساق؟! لا فرق، وهم إنما نفوا الصفات فراراً من التشبيه، فلماذا لم ينفوا الذات كذلك فراراً من التشبيه؟ وأما من ناحية التشبيه: فإن المشبهة سبب غلطهم هو فهمهم لهذه الصفات على مقتضى مشابهتها للمخلوق، ومع ذلك فهم يثبتون لله ذاتاً ولا يشبهونها بذوات المخلوق فما الفرق؟ أي: إذا كانوا يؤمنون بأن له ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، ولا ينبغي لها أن تشبه أي شيء، فلماذا يشبهون صفاته بصفات الخلق؟ فالقول في الصفات كالقول في الذات، فهذه القاعدة من أهم القواعد في هذا الباب؛ لأنها قاضية على الاتجاهين معاً، وهي أبلغ شيء في رد هذه الانحرافات التي تنشأ في هذا الباب.

    قوله: (فما نقول في صفات قدسه) أي: في صفاته المقدسة، والقدس بمعنى الطهارة والنزاهة، يقال تقدس بمعنى تطهر، ويطلق ذلك على الله سبحانه وتعالى للدلالة على تنزهه عن كل نقص، فهو المنزه عن كل نقص.

    وأضاف الصفات إلى القدس لتعظيمها؛ لأن هذه الصفات مقتضية لإثبات الكمال ولنفي النقص؛ فلذلك كانت صفات قدس.

    قوله: (فرع الذي نقوله في نفسه) أي: مرتب عليه فهو فرع عنه؛ لأننا إذا أثبتنا أن له نفساً مخالفة لأنفس المخلوقين، فكذلك نثبت له ما أثبته لنفسه من الصفات التي تخالف صفات المخلوقين، ولا تشبهها بوجه من الوجوه.

    ورتب على هذه القاعدة قوله:

    [فإن يقل جهميهم كيف استوى كيف يجيء فقل له كيف هو]

    أي: إذا قال المعطل وهو الذي يسمى بالجهمي نسبة إلى الجهم بن صفوان: كيف استوى؟ معناه: سأل عن الكيف في صفات الذات: كيف الوجه، أو اليدين، أو العين؟ أو سأل عن الكيف في الصفات الفعلية كالمجيء والاستواء والنزول ونحو ذلك؟ فجوابه أن يقال له: كيف هو؟ أي: لماذا لا تطلب الكيف في ذاته وتطلب الكيف في صفاته؟

    فهو لا يمكن أن يوجه إلينا سؤالاً عن كيفية ذاته؛ لأنه مؤمن بها مسبقاً، وإنما أشكل عليه إثبات هذه الصفات التي جنسها في الاسم ثابت للمخلوق؛ فلذلك إذا أعيد عليه السؤال فسئل عن كيفية ذاته فإنه يقول: أنا أؤمن بأن له ذاتاً لكني جاهل بكيفيتها، فيقال: كذلك آمنت بأن له هذه الصفات وأنت جاهل بكيفياتها.

    وكلام السلف في نفي الكيف المقصود به: نفي استيعابه وإدراكه، وإلا فالكيف من المقولات اللازمة لكل صفة.

    صفات المخلوقين تقتضي السؤال عن عشر مقولات والخالق بخلاف ذلك

    والصفات أياً كانت فإنها في إثباتها تقتضي عشر مقولات، هذه المقولات هي التي تسمى:

    مقولة الملك، ومقولة التملك، ومقولة الفعل، ومقولة الانفعال، ومقولة الكيف، ومقولة الكم، ومقولة الأين، ومقولة المتى، ومقولة الإضافة، ومقولة التصور، فهذه عشر مقولات وهي التي نظمها أحد المناطقة في قوله:

    زيد الطويل الأزرق ابن ملك في بيته بالأمس كان متكي

    في يده غصن لواه فالتوى فهذه عشر مقولات سوا

    فالكيف معناه: السؤال عن الهيئة.

    والكم معناه: السؤال عن القدر.

    والمتى معناه: السؤال عن الوقت.

    والأين: السؤال عن المكان.

    والتصور: السؤال عن الحقيقة.

    ومقولة الملك معناها: السؤال عن الحيازة.

    ومقولة الفعل معناها: السؤال عن التصرف.

    ومقولة الانفعال معناها: السؤال عن التأثر.

    ومقولة الإضافة معناها: السؤال عن نسبة غيره إليه.

    وهذه المقولات لا يمكن إدراك أي تصور إدراكاً كاملاً إلا بها، ولكن فيما لا يمكن أن يحاط به في التصور لا يمكن أن يؤتى بجواب هذه المقولات؛ فلذلك لا توجه إليه سبحانه وتعالى فإنه لا يسأل عن كيفه، ولا عن كمه، ولا عن متاه، ولا عن أينه، وإذا سئل عن الأين فالمقصود بذلك إثبات صفة العلو فقط، دون أن يزعم أن له جهة تحده وتحيط به فالإحاطة في حقه ممنوعة؛ لأنه هو الذي خلق الجهات، وكذلك الكم لا يسأل عنه فهو الكبير المتعال ولا يمكن أن يتصور المخلوق كمه؛ لكن لا يقتضي هذا أن ننفي هذه المقولات أصلاً، فلا يقال: لا كيف له، أو لا كم له، أو لا أين له، أو لا متى له، لكن يقال: لا يحيط به شيء من هذه المقولات ولا نعلمها نحن.

    لكن لو كشف الحجاب عنا فرأينا وجهه سبحانه وتعالى كما نرى القمر ليلة البدر لا نضام في رؤيته، فإن الكيف سيفهم بعضه، ولا يمكن أن تحيط به الرؤية لكن تعرف بعض الكيف؛ ولهذا فإن ما قاله الإمام أحمد فيما يتعلق بالكيف قال: (أمروها وأقروها ولا كيف ولا معنى)، فمقصوده بلا كيف: لا تسألوا عن الكيف، ومقصوده بلا معنى: لا تخوضوا في معناها، وإلا فلها معنىً ولها كيف، ولذلك قال مالك رحمه الله للذي سأله عن الاستواء: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا صاحب سوء، فأخرجوه عني) فأثبت الكيف ونفى العلم به، فالكيف موجود لكن المعنى نجهله.

    ( فإن يقل جهميهم ) أي: جهمي المعطلة المعترض منهم أياً كان ( كيف استوى؟ كيف يجيء؟) أو يسأل عن كيف أي صفة من الصفات، (فقل له: كيف هو؟) أي: اسأله عن كيف ذاته فإنه سيبهت بذلك.

    1.   

    الكلام على قاعدة (القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر)

    ثم ذكر القاعدة الثانية وهي: أنه لا فرق بين بعض الصفات وبعض، أي أن الكلام في بعض الصفات كالكلام في بعض، والقول في بعض الصفات كالقول في بعض، هذه القاعدة الثانية مهمة قال فيها:

    [لا فرق بين ما سميه يعد وصفا لنا كعلم أو جزءاً كيد]

    ( لا فرق بين ما سميه ) أي: المشترك معه في الاسم من الصفات، فمن الصفات ما لا يشترك معه صفة للمخلوق في اسمه، ومنها ما يشترك معه بعض صفات المخلوق في الاسم، فصفة الوجه تضاف إلى المخلوق وتضاف إلى الخالق، لكن الوجه في المخلوق معروف، والوجه في الخالق نؤمن به ولا نبحث عن كيفه، وكذلك في العلم والإرادة والقدرة، كل له علم وإرادة وقدرة بحسبه.

    فالقول في بعض الصفات كالقول في بعضها، فلذلك قال:

    (لا فرق بين ما سميه يعد وصفاً لنا كعلم أو جزءاً كيد)

    فالباب في الجميع واحد، فبعض الصفات يشترك معه بعض صفات المخلوق في الاسم كالعلم والإرادة والقدرة، وبعضه يشترك معه بعض أبعاض المخلوق في الاسم كالوجه والعين واليد والقدم والساق ونحو ذلك؛ لكن لا فرق فيما يتعلق بإثباته لله سبحانه وتعالى؛ لأن الجميع في حقه صفة.

    معنى كون الوجه واليد ونحوها صفات لله عز وجل

    وهذه المسألة ذكرها كثير من الذين ساروا على طريقة السلف من المتأخرين، وورد الكلام فيها عن عدد من السابقين كـابن خزيمة و الدارقطني وأهل تلك الطبقة، لكن اختلف اللاحقون في معنى كون هذه صفات لله سبحانه وتعالى، فورد عنهم فيها وجهان:

    الوجه الأول: ما ذكره ابن القيم من أن هذه -أعني الوجه- والعين واليدين والقدم والساق والأصابع إما أن تكون أبعاضاً، وإما أن تكون صفات، قال: والأبعاض تدل على التجزئة، وهي نقص فهي محالة على الله، فلم يبق إلا أنها صفة، هذه طريقة ابن القيم .

    الوجه الثاني: هو ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1] أنها صفة الرحمن، قال: المقصود بكون الوجه واليدين والعين صفة لله تعالى إثبات كينونتها، أي: كونه ذا يدين صفة من صفاته، وكونه ذا وجه صفة من صفاته، وكونه ذا عين صفة من صفاته، وكونه ذا قدم صفة من صفاته، وكونه ذا ساق صفة من صفاته، وكونه ذا أصابع صفة من صفاته، فإثباتها وصف له، أي: إنك إذا أثبت له وجهاً فقد وصفته بأنه ذو وجه، وإذا أثبت له اليدين فقد وصفته بأنه ذو يدين وهكذا، وهذه الطريقة التي سلكها الحافظ ابن حجر أقرب وأسهل من التي سلكها ابن القيم .

    (لا فرق بين ما سميه) أي: المشترك معه في الاسم، وهو الذي أطلق عليه هذا الاسم فقط (يعد وصفاً لنا كالعلم) والإرادة، والقدرة، والحياة.

    (أو جزءاً): وهو ما يشترك معه بالاسم ويعتبر جزءاً في المخلوق، لكن نسبته للخالق أنه صفة، فلا فرق بين الصنفين، وهذا لا يقتضي تشبيهاً لمجرد الاشتراك في الاسم، ألا ترى أن الجنة: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى[محمد:15] وهذه سميها في الدنيا معروف، ولكنه لا يشترك معها إلا في الاسم فقط، كما قال ابن عباس : (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) والاشتراك في الاسم لا يقتضي شبهاً، وإذا كان هذا التباين الكامل وانقطاع الشبه بين المخلوقات مع الاشتراك في الاسم، فكيف تكون المقارنة لو كان هذا بين الخالق والمخلوق؟

    إثبات صفة الوجه واليدين ونحوها هو من باب التسليم والإيمان بالغيب

    ومن هنا نعلم أن هذه الصفات إنما أخبرنا بها على وجه امتحان إيماننا بالغيب؛ لأن أصل إخبارنا بما لا يصل العقل إلى كيفه؛ إنما هو امتحان بالتفريق بين من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن به، فالمزية ليست في الإيمان بالشهادة، إنما هي في الإيمان بالغيبيات التي تقصر دون تصورها العقول.

    فإذا انطلق الإنسان من منطلق التسليم المطلق لكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه يتصف بهذه الصفة الحميدة التي هي الإيمان بالغيب؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى -كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم- يأتي أهل الجنة في صورة يوم القيامة فيقول: أنا ربكم فيقولون: لا لست بربنا، فيقول: وما الأمارة بينكم وبين ربكم؟ فيخبرونه أنه يكشف عن ساق، فيتجلى لهم في صورة أخرى، فيكشف عن ساق فيخرون له سجداً، ويقولون: أنت ربنا، وفي ذلك الوقت كل من لم يكن يسجد لله في الدنيا يجعل الله ظهره من نحاس فلا يستطيع السجود، وبهذا فسر قول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ[القلم:42] وقد جاء في تفسير الآية غير هذا، كما صح عن ابن عباس : أن هذا مما تطلقه العرب على الشدة، فيقولون: (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) أي: يشمر للأمر، وهذا يقتضي الشدة.

    ولا مشاحة في الأمر؛ لأن الحديث ثابت في صحيح البخاري، والآية معناها محتمل له، فيمكن أن تفسر الآية على مقتضى الحديث، ويمكن أن تفسر على التفسير الذي فسره ابن عباس ، فلا يتعين أن يكون هذا هو المقصود بالآية؛ لأن الحديث لم يقل: وهذا معنى قول الله تعالى، ولذلك يغلط بعض الناس في الكلام في هذه الآية، فالذي يعدها من آيات الصفات جزماً غلط؛ لأنه جاء في تفسيرها عن ابن عباس غير ذلك؛ ولذلك من ينكر على من فسرها بغير هذا، أو يجعله مؤولاً أو نحو ذلك غلط؛ لأن تفسيرها بهذا ثابت عن ابن عباس وغيره، لكن لا يقتضي ذلك نفي صفة الساق فإنها ثابتة في الحديث الذي ذكرناه.

    [فالباب في الجميع واحد] أي: في صفات الله سبحانه وتعالى [واحد].

    (فما لنا فيها إلا الخبر) أي: فلا نستطيع أن نصل إلى كنهها، وما عرفنا أنه حي إلا بخبره، وما عرفنا أن له وجهاً إلا بخبره، فما الفرق بين اتصافه بالحياة وبين اتصافه بكونه ذا وجه؟! فالباب في الجميع واحد، وهو باب التسليم المطلق.

    [فلا تكن معطلاً] أي: فلا تكن معطلاً لهذه الصفات نافياً لدلالتها، كمن يرى أن هذه الآيات التي جاءت فيها هذه الصفات أو أن الأحاديث التي ورد فيها ذلك هي من المتشابه الذي نؤمن بلفظه ونكف عن معناه، فهذا من تعطيلها عن دلالتها.

    [ولا ممثلاً]: أي لا تكن مشبهاً أيضاً، فتظن أن اشتراك هذه الصفات مع صفات المخلوق أو أجزائه بالاسم يقتضي شبهاً، فليس الأمر كذلك.

    1.   

    من أمثلة الصفات الواردة في النصوص

    ثم بدأ في عد بعض الصفات التي جاءت بها النصوص فقال:

    [يأتي يجي يكشف عن ساق يضع قدمه على جهنم يسع

    بفضله الخلق يداه بالعطا مبسوطتان كيف شاء بسطا

    كلتاهما في يمنها يمين فهو بذا من خلقه يبين]

    هذه الصفات بعضها صفات فعلية، وبعضها صفات ذات، والصفات الفعلية بعضها اختيارية بمعنى: متكررة، وبعضها ثبتت مرة واحدة.

    من الصفات الفعلية: المجيء والإتيان

    فمن صفات الأفعال قوله: (يأتي):

    وهذه الصفة ثابتة بكتاب الله لقول الله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ[الأنعام:158] (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) هذا إثبات لهذه الصفة، وقد جاء تفسير ذلك: أن الباري سبحانه وتعالى عندما يحشر الناس إليه وينادى فيهم: هلموا إلى ربكم! فيخرجون: مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ[يس:51] يجمعون بالساهرة، وهي أرض بيضاء كالكرسفة، فيرى الشخص الواحد كل من كان على هذه الأرض منذ آدم إلى نهاية الدنيا، يحيط بهم البصر، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، وتحيط بالناس من كل جانب، ويصف الملائكة صفاً بأجناسهم، ويتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17] فيظل بظل عرشه من شاء من عباده، ويمنع من شاء من ذلك، ففي هذا جاء قول الله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي[الفجر:22-24].

    فمن هنا كان ذكرنا لهذه الصفات إنما يقتضي العمل على لازمها، وألا نقرأها صفات مجردة كما يحصل لدى كثير من الناس، فكثير من الناس يقرأ هذه الصفات على أنها مجرد معان يفهمها، أو ألفاظ يلوكها بلسانه ولا تؤثر في عمله، ولا في شعوره، ولا في محبته لله، ولا في إخلاصه له، ومن هنا تصبح هذه المادة مقتضية للقسوة والغلظة، بعد أن كان المقصود منها الترقيق والمحبة والعاطفة في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه بقلب سليم.

    وفي قوله: (يجي) إثبات لهذا الفعل وهو فعل المجيء، والمجيء هو والإتيان واحد؛ لكن لأن الله سبحانه وتعالى أثبت الفعلين في كتابه، فإن الله سبحانه وتعالى قال: ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ) وقال: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ[البقرة:210] نعم: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ[هود:105] .

    صفة الساق

    وقوله: (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ):

    هذا فعل آخر وهو فعل الكشف، والمقصود به: ليس الكشف عن ذاته، وإنما هو الكشف عنا نحن، فنحن المحجوبون لا هو، فالله عز وجل لا يمكن أن يحيط به حجاب، ولهذا قال الله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15].

    فالحجاب يتعلق بالمخلوق ولا يمكن أن يتعلق بالخالق، ولهذا فالحجاب الذي (لو كشف لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض ومن فيهن) هذا الحجاب هو على السماوات والأرض لا على وجهه سبحانه وتعالى.

    فإثبات صفة الكشف هنا مهم؛ لأنه يتعلق بالكشف عن الساق، وكشف الحجاب عن ساق فيه إثبات لصفة الساق لله سبحانه وتعالى، وقد صح ذلك في الحديث الذي ذكرناه في صحيح البخاري ، وأيضاً على تفسير آية نون.

    صفة الوضع وصفة القَدَم

    وقوله: (يضع قدمه على جهنم):

    هذه الجملة مثبتة لصفتين: صفة فعلية وصفة ذاتية مثل سابقتها، فالفعل يثبت صفة فعلية، والاسم يثبت صفة ذاتية، فقوله: (يضع) هذا إثبات لصفة الوضع، فهو (يضع قدمه على النار فينزوي بعضها على بعض وتقول: قط قط، أو قطني قطني).

    وقوله: (يضع قدمه على جهنم)، هذا إثبات لصفة القدم لله سبحانه وتعالى.

    ( على جهنم ): وهو اسم من أسماء النار، واختلف فيه هل هو عربي أو أعجمي؟

    فقيل: هو عربي، والنون التي فيه زائدة وأصله من التجهم وهو تغير الوجه، والمقصود بذلك أن من رآها استاء لها.

    وقيل: هذا اللفظ عجمي وليس من ألفاظ العربية، وهذا الذي تميل إليه النفس.

    والله سبحانه وتعالى قد تعهد للنار بملئها، وجاء في الحديث أنها: (إذا أمر ببعث النار يخرج إليها من كل ألف تسع مائه وتسعة وتسعون) وإذا أعلن ذلك وأعلنت تلك النتائج: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ[يس:59] فهذا الوقت هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذلك يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ[الحج:2] لأن كثيراً من الناس في ذلك الوقت كما قال تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] نسأل الله السلامة والعافية.

    فإذا أعلنت هذه النتائج يحال بين الناس بحيلولة عجيبة: يضرب بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[الحديد:13] ومن أعظم ذلك الظلام الشديد الذي يأتي، فلا يستطيع أهل الكفر التقدم، ويستطيع أهل الإيمان ذلك بالنور الذي جعل الله في وجوههم وأبصارهم، فيتقدم أهل الإيمان ويبقى أهل الكفر في الحافرة، فإذا بقي أهل الكفر رأوا نور أهل الإيمان فقالوا: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ[الحديد:13] أي: انتظرونا حتى نستضئ بنوركم، وفي هذا الوقت يحال بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[الحديد:13].

    فإذا وردوا النار فإنه سيتفاوت دخولهم فيها بحسب الحساب، وبحسب مرورهم على الصراط، فالصراط إذا نصب على متن جهنم (فهو أحد من السيف، وأرق من الشعر, وعليه كلاليب كشوك السعدان، والناس يتفاوتون عليه بحسب أعمالهم: فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم).

    والمخدوش إنما يخدش من جسمه الجزء الذي يستحق النار كأن يكون نبت شيء من لحمه من حرام فالنار أولى به، فهذا لا يقع في النار ولكن يؤخذ اللحم الذي نبت من النار، تمسكه كلاليب الصراط فيسقط في النار، وهذا معنى المخدوش الذي أمسك فقطع شيء من لحمه أو أعضائه نسأل الله السلامة والعافية.

    وفي هذا التفاوت يوجد جماعات كلما رمي فيها بجماعة استقبلهم من سبقهم: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً[الأعراف:38] بدأ الحوار بينهم: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ[الأعراف:38] وحينئذٍ لا تزال النار تقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)، هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. تريد زيادة، وذلك لإرعاب أهلها واتساعها نسأل الله السلامة والعافية، مع أن الله يضخم كل من وقع فيها، فيضخم جثته؛ لأنه ضمن للنار ملئها، فمقعد الكافر فيها كما بين مكة والمدينة، وضرس الكافر فيها كجبل أحد، ومع ذلك تقول: ( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) وهذا لإرعاب من يأتي، ولهذا قال الله تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً[الفرقان:12-14] نسأل الله السلامة والعافية.

    فإذا كمل أهل النار ولم تكتف وهي تقول: ( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) فإن الباري سبحانه وتعالى يضع عليها قدمه، فتئط وينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قطني قطني أو قط قط؛ معناه: يكفيني يكفيني، وهذا فيه إثبات لصفتين: صفة الوضع وهي من صفات الأفعال، وصفة القدم وهي من صفات الذات.

    صفة الوسع

    (يسع بفضله الخلق): وهذا إثبات أيضاً للصفة الفعلية في قوله: (يسع الله سبحانه وتعالى)، وقد وصف نفسه بأنه هو الواسع، وقد جاء ذلك في حديث أبي هريرة من الأسماء التسعة والتسعين، والمقصود به أن عطاءه يتسع لحوائج الناس، فيعطي قبل المسألة، ويعطي بعدها ولا ينقص ذلك شيء من عطائه وفضله، ففضله هو الواسع المحيط بكل من يحتاج، والفضل هنا المقصود به الكرم والبذل، وذلك أن جميع نعم الله سبحانه وتعالى هي من التفضل الذي يتفضل به على عباده.

    وليس شيء من نعم الله مستحقاً على الله، فقد ذكرنا أن من القواعد المهمة لدى أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء.

    وهذا مخالف لمذهب المعتزلة كما سبقت الإشارة إليه، وسنذكر هنا مزيد إيضاح له، فإنهم يرون وجوب الصلاح والأصلح على الله سبحانه وتعالى، ولما كان سبحانه وتعالى يتفضل على الناس بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقتضى ذلك أن نعلم أن الجنة لا يمكن أن تنال بالأعمال، ولا يمكن أن يدخل أحد الجنة بعمله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) والآيات الكثيرة التي فيها: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[السجدة:17] ، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[الزخرف:72] ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة:24] فالباء التي فيها ليست للعوض، وإنما هي للسببية.

    والباء ترد لأربعة عشر معنىً قد أشرنا لها من قبل، فمن معانيها السببية، فهذا العمل سبب لدخول الجنة، وهو الكسب الذي كان يكسبه بعمله، فيكون سبباً لدخول الجنة، وذلك مثل أعمالنا اليوم فإنها ليست عوضاً لرزقنا، وإنما الرزق بفضل الله سبحانه وتعالى والأعمال هي سبب في الرزق فقط.

    فالأعمال لا تضمن الرزق للإنسان، بل نشاهد كثيراً من الناس يعملون، ولا يتركون مجالاً من مجالات الارتزاق إلا تعبوا فيه، ومع ذلك لا ينالون شيئاً، ونجد أن آخرين يرزقون من دون أن يبذلوا أي سبب، كم رأينا من الناس ممن أتعب عمره وأفناه في طلب الرزق فما حصل على فائدة، وكم رأينا من الناس ممن جاءته نفحة من نفحات الله وهو غير متسبب في أي شيء، وكم شاهدنا من أنواع الحيوانات التي لا تقدر على أي اكتساب ومع ذلك يأتيها رزقها في مكانها: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ[العنكبوت:60].

    فإذا كان الأمر كذلك؛ فإننا نعلم أن الأسباب التي نتسبب بها كحراثة الأرض، وكالبناء، والأعمال إنما هي أسباب فقط، لكنها لا تضمن مسبباتها.

    وكذلك الأعمال الصالحة الأخروية فهي بمثابة الأعمال الدنيوية في أنها سبب للنجاة يوم القيامة، وسبب لدخول الجنة لكنها لا تضمنها، فمن يضمن لك قبول عملك، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتقبل ما يشاء ويرد ما يشاء: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ[الرعد:41] ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23] ولو عاش الإنسان عمراً في طاعة الله، لم يجب على الله أن يتقبل شيئاً من عمله؛ لأن العبرة بالخواتيم فقد يكون غير مخلص، وقد يبتلى بسوء الخاتمة، ويكون ذلك سابقته التي علم الله في الأزل، ومن هنا علم أن الباء في الآيات كلها للسبب، وأن الباء في الحديث للعوض: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) أي عوض عمله.

    (يسع بفضله الخلق): والخلق المقصود به المخلوقات، فهو مصدر في الأصل لكنه يطلق على اسم المفعول، والمقصود به: كل ما خلق الله، فكل ما خلق الله يسعه بفضله، حتى الكفار فإن الله تعالى لديه من أنواع العذاب الأليم وتعجيله ما صرف عنهم، فقد أخر عنهم العذاب في الدنيا وأملى لهم: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ[الأعراف:183] فنالوا حظهم بفضله، حيث تفضل عليهم بخلقه، وبالعافية، وبالمال والأولاد وغير ذلك، لكن عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ومنهم إبليس فقد عجلت له طيباته في الحياة الدنيا، وسلط على من سلط عليه من أهل الدنيا؛ لكنه لا حظ له يوم القيامة.

    صفة البسط وصفة اليدين

    قوله: (يداه بالعطا مبسوطتان كيف شاء بسطا):

    كذلك هذه الجملة مثبتة لصفتين: صفة ذاتية، وصفة فعلية:

    فالصفة الذاتية هي قوله: (يداه)، وهذا إثبات لصفة اليدين لله سبحانه وتعالى، وقد أثبت الله ذلك في كتابه في قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ص:75] ويداه كلتاهما يمين كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث سيشير إليها المؤلف.

    وقوله: (بالعطا مبسوطتان) هذه صفة فعلية وهي بسط اليدين بالعطاء، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ[المائدة:64] فقوله: (يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) تفسير لقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) فالمقصود بالبسط العطاء، ولا يقصد به ما يتبادر إلى الذهن من مجرد البسط فقط، بل المقصود ببسط اليدين: بسط الفضل وعمومه، وهو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فلذلك هما مبسوطتان بالعطاء سحاء الليل والنهار لا تغيضان.

    والبسط بسطان: فالبسط الأول: بسط عطاء، والبسط الثاني: بسط قبول التوبة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) هذا بسط للقبول بالتوبة، وذلك أن التوبة لا تتم إلا في ثلاث مراحل:

    المرحلة الأولى: أن يتوب الله على عبده، بمعنى أن يوجه قلبه للتوبة ويوفقه لها، وهذه من فضل الله السابق على عمل المكلف.

    ثم المرحلة الثانية: هي توبة العبد إلى الله، وهي ندمه على ما فرط في جنب الله وخروجه منه ونيته ألا يعود إليه، وهذه من المكلف.

    ثم المرحلة الثالثة: هي توبة الله الأخيرة، وهي قبوله لتوبة العبد، ولذلك قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:117] توبتان من عند الله ثم قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا[التوبة:118] أي تاب على الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، هذه التوبة الأولى، ثم قال: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ[التوبة:118] هذه توبتهم هم: وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118] فهذه التوبة من عند الله سبحانه وتعالى، يتوب على الإنسان ليتوب، ثم يتوب عليه بعد ذلك ليقبل منه.

    والعطاء: اسم مصدر لإعطاء، فالإعطاء هو المصدر أعطى إعطاءً، والعطاء هو اسم المصدر، ويطلق على المناولة لأي شيء، ويطلق على ما ينفع بالخصوص، ولذلك اصطلح في صدر الإسلام على تسمية الراتب الذي يوزع على المسلمين من بيت مالهم بالعطاء، وهو مهموز لكنه هنا في البيت حذفت همزته للضرورة وهذا كثير في الشعر، وفيه قول ابن مالك رحمه الله:

    وقصر ذي المد اضطراراً مجمع عليه والعكس بخلف يقع

    فقصر الممدود في الشعر متفق عليه.

    صفة المشيئة في العطاء

    قوله: (كيف شاء بسطا):

    هذا إثبات لصفة أخرى لله سبحانه وتعالى، وهي صفة المشيئة في العطاء: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[الإسراء:20] فالله سبحانه وتعالى يهب، وبسطه مربوط بمشيئته، فيهب ما شاء لمن شاء كما قال تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50] وفي قوله تعالى: كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[الإسراء:20].

    والكيف هنا راجع إلى العطاء، فالعطاء يمكن أن يعرف كيفه؛ لأنه يمكن أن يكون ذكوراً ويمكن أن يكون إناثاً، يمكن أن يكون مالاً كثيراً ويمكن أن يكون قليلاً، يمكن أن يكون عافية وصحة.. إلى آخره، فكل ذلك متعلق بكيفيات العطاء لذلك قال: (كيف شاء بسطا).

    كلتا يدي الرحمن يمين مباركة

    قوله: (كلتاهما في يمنها يمين فهو بذا من خلقه يبين):

    (كلتاهما) أي: كلتا يديه، (في يمنها) معناه: في بركتها، (يمين) وهذا إشارة إلى ما جاء في الحديث أن آدم قال: (وكلتا يدي ربي يمين مباركة) فقوله: (كلتا يدي ربي يمين)، أتبعها بقوله: (مباركة)؛ ليبين ذلك معنى اليمين؛ لأن اليمين مشتقة من اليمن واليمن هو البركة، فكلتاهما توصف باليمن الذي هو البركة.

    فما جاء في صحيح مسلم من صفة الشمال محمول على الشذوذ؛ لأنه يخالف هذه النصوص الكثيرة المثبتة لليمين، ولم يصح إثبات الشمال لله في هذا الحديث، فقد انفرد به رجل واحد، وهذا يعارضه رواية من هو أكثر منه وأوثق. فرواية: (ويمسك الأرضين بشماله) من حديث الزهري ، وقد انفرد به الزهري وهو ثقة لكن خالفه من هو أكثر منه عدداً، فكان الحديث شاذاً من هذا الوجه، وقد ثبت ذلك في كثير من الأحاديث منها: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) وغير ذلك من الأحاديث.

    وإثبات صفة اليمين لله سبحانه وتعالى جاء في كثير من الأحاديث الأخرى مثل قوله: (إن الله كتب التوراة لموسى بيمينه) (خلق آدم بيمينه) وغير ذلك من الأحاديث التي فيها تفسير لليد التي في القرآن، كقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ص:75] وفي الحديث: (بيمينه) وهي شاملة لهما معاً فكلتاهما يمين، فالله خلق آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.

    (فهو بذا من خلقه يبين) أي: فهذا من مظاهر مخالفته لخلقه، فالمخلوق مثل البشر له يدان؛ لكن إحداهما يمين والأخرى شمال، والله سبحانه وتعالى كلتا يديه يمين ولذلك قال: (فهو بذا من خلقه يبين) أي: يخالف خلقه من هذا الوجه.

    وهنا بحث في (يبين) والمقصود به المخالفة، وأما ما كثر إطلاقه في عرف السابقين كقولهم: بائن من خلقه، فإن هذا اللفظ لم يرد في النصوص الشرعية، وإنما ورد في التوسع عند الرد على الذين يزعمون أن شيئاً من العالم في ذات الله؛ فلذلك قال كثير من الناس في إثبات صفة الفوقية: إن الله فوق عرشه بائن من خلقه، ولكن لم يرد ذلك في النصوص، فالأفضل الاقتصار على ما جاء في النص، وعدم الجراءة على إطلاق لفظ لم يرد.

    صفة الرؤية وعدم إمكان وقوعها في الدنيا

    قال: [يرى ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت مثلما جاء الخبر]

    فهنا صفتان: إحداهما من الإيجاب، والأخرى من السلب، وقد ذكرنا من قبل أن الصفات منها سلب ومنها إيجاب، وأن الإيجاب مفصل، وأن السلب مجمل، فبدأ بالصفة الإيجابية وهي قوله: (يرى) وفيه إثبات صفة الرؤية لله سبحانه وتعالى، فإن الله يرى كل شيء، ولا يخفى عليه أي شيء: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7] فلذلك لا تخفي عنه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، فكل ذلك يراه.

    ولكن رؤيته تنقسم إلى قسمين: الأول: رؤية علم وإحاطة وبصر ونظر، والثاني: رؤية تقدير وحفظ، فرؤية التقدير والحفظ هي التي يعبر عنها بالنظر، ولذلك قال الله تعالى: لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ[آل عمران:77] أي: لا ينظر إليهم بعين رحمته وحفظه؛ لكن مع ذلك لا يخفون عليه بل هو يراهم، وكذلك قوله عز وجل لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[طه:46] فهذه الرؤية المخصوصة المقصود بها مع إثبات النظر والإبصار: الحفظ والإحاطة أيضاً، فهو حافظ لهما، عاصم لهما من فرعون وجنوده.

    ثم الصفة السلبية هي قوله:

    (ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت): وهذه الصفة السلبية متضمنة لإثبات أيضاً؛ لأنها مغياة بغاية، فنفي الرؤية عن المخلوق ليس نفياً مطلقاً، بل هو في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فقد أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن المؤمنين (سيرون ربهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته) وجاء في كثير من الآيات ما يدل على ذلك، مثل قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[القيامة:22-23] فهذه الرؤية الأخروية ثابتة بالنصوص ويجب الإيمان بها، وقد أنكرها المعتزلة فكثر الرد عليهم، ومن الذين ألفوا في الرد عليهم: الإمام الدارقطني فألف كتابه في إثبات الرؤية، وقد كان كثير من السلف يمتحن بها توبة ورجوع الجهمية عن جهميتهم، فمن أثبت منهم الرؤية وأقر بها فهذا دليل على توبته.

    أما الرؤية الدنيوية فإنه لا يمكن أن تدركه الأبصار لقول الله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ[الأنعام:103] ولذلك فإن موسى سأله رؤية دنيوية حين كلمه بكلامه: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي[الأعراف:143] ولن هنا للنفي؛ لكنها لا تقتضي التأبيد خلافاً لبعض المعتزلة، فإنه رأى أن (لن) للنفي على وجه التأبيد، ومعناه: لن تراني مطلقاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا منفي؛ ولذلك قال أهل البلاغة: إن لن لا تدل على التأبيد، كما قال السيوطي رحمه الله في عقود الجمان:

    وقيل للتأبيد لكن ترك ورده لابن خطيب زملكا

    رده ابن خطيب زملكا.

    وينسب للزمخشري أنه قال: إن (لن) للنفي على سبيل التأبيد أي: لتأكيد النفي وتأبيده، ولكن لم يرد هذا في الكشاف حسب علمي، ولا في المفصل، وإن كان في الأنموذج، ولم أر من نص على أنه فيه، وهذه كتب الزمخشري المتعلقة باللغة، ولكن عموماً هو يقر أنه معتزلي ويعتز بذلك، وهذا مذهبه.

    رؤية الله في المنام والكلام على رؤية النبي لربه في الدنيا

    كذلك اختلف في رؤية الله في النوم، فقالت طائفة من السلف: لا يمنع نص من رؤيته في النوم؛ لأن الرؤية في النوم إنما هي بالأرواح لا بالأشباح فليست راجعة للبصر، والنفي إنما جاء معلقاً بالأبصار بقوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103] وعلى هذا فالرؤيا غير الرؤية، فيمكن أن يرى من الرؤيا لا من الرؤية في الدنيا.

    وروي عن الإمام أحمد أنه رآه في النوم مرات كثيرة، وأنه سأله عن أقرب ما يتقرب به المتقربون إليه؟ فقال: قراءة القرآن، فقال: أي ربي بفهم وبغير فهم؟ فقال: بفهم وبغير فهم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: (رأيت ربي في أحسن صورة).

    لكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا فالخلاف فيها مستقل، فقال بعض الصحابة بثبوت رؤيته بعين البصر، وقال آخرون: إنما هي رؤية بالروح والبصيرة لا بالبصر.

    ومن الذين أثبتوا رؤيته بالبصر عبد الله بن عباس ، ومن الذين نفوا ذلك: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، قالت عائشة : (لقد قف شعري مما قلت)، وقالت: (من أخبرك أن محمداً رأى ربه ليلة المعراج فقد أعظم على الله الفرية)، وقالت: (ثلاث من حدثك بهن فقد أعظم على الله الفرية) وذكرت فيهن: (ومن أخبرك أن محمداً رأى ربه بعين بصره).

    وعموماً فالآيات التي فيها ذكر الرؤية لا يقصد بها رؤيته لله سبحانه وتعالى، وإنما يقصد بها رؤيته لجبريل عليه السلام كقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى[النجم:13-14] فالمقصود بذلك رؤيته لجبريل فقط: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى[النجم:11-14] فجبريل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين:

    المرة الأولى: على جبال مكة قد غطاها وسترها؛ فصعق منه حين رآه.

    والمرة الثانية: في ليلة الإسراء عندما بلغ سدرة المنتهى وفارقه عاد إليه فرآه على صورته، له ستمائه جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب.

    وقد اختلف العلماء في معنى التصور وأن جبريل يتصور بصورة بشر كما في حديث عمر ، و حديث عائشة ، وحديث جابر ، وحديث ابن عمر وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي فيها أنه يتشكل في صورة بشر:

    فقالت طائفة من أهل العلم: يعدم الله تعالى ما عدا تلك الصورة من جسده، ثم يعيدها إليه من جديد، أي: يخلقها من جديد.

    وقالت طائفة أخرى: بل جاء جبريل على صورته؛ ولكن الله حجبه بحجابه فلم ير الناس منه إلا تلك الصورة وهي صورة دحية الكلبي.

    وقالت طائفة أخرى: بل هذه الصورة وهمية غير حقيقية، وإنما هي تمثل كما مثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عرض الجدار الجنة والنار.

    فإذاً مباحث الرؤية هنا ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: الرؤية الأخروية، وهذه ذكرنا أنه لا خلاف بين أهل السنة في إثباتها.

    القسم الثاني: الرؤية في النوم، وهذه ذكرنا الخلاف فيها لأهل السنة.

    المسألة الثالثة: رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وهذه ذكرنا الخلاف فيها لأهل السنة.

    فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول متفق عليه، والاثنان الآخران مختلف فيهما، ولهذا يقول السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:

    والخلف في الجواز في الدنيا وفي نوم وفي الوقوع للهادي اقتفي

    والجواز الذي في الدنيا يقصد به جواز العقل المحض، وليس الجواز بمعنى الوقوع في الدنيا، (وفي نوم) أي: كرؤيته في النوم، (وفي الوقوع للهادي) وهو النبي صلى الله عليه وسلم (اقتفي) أي اتبع.

    (ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت) أي: لا يراه منا أحد ذو بصر أي: ببصره لا ببصيرته، وهنا الشيخ يشير إلى رؤيا النوم في قوله: (ذو بصر حتى يموت) وهذه غاية للنفي فهي مقتضية لإثبات رؤية الآخرة؛ لذلك قال: (حتى يموت مثل ما جا في الخبر) أي: مثل ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    والخبر يطلق على المأثور سواء كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو موقوفاً على أحد من أصحابه، أو مقطوعاً عن أحد من التابعين.

    وقالت طائفة من أهل العلم: هو مرادف للأثر، لكن جرى الاصطلاح عند المحدثين: أن يطلقوا الأثر على الموقوف والمقطوع، وأن يطلقوا الخبر على المرفوع، فالخبر أكثر إطلاقه على المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأثر أكثر إطلاقه على الموقوفات والمقطوعات،

    والخبر: مشتق من الخبر الذي هو أحد قسمي الكلام؛ لأن الكلام إما إنشاء وإما خبر، فالإنشاء هو: التعبير عن معنىً بلفظ يقارنه في الوجود، والخبر هو: التحدث عن أمر قد مضى، ولا يقصد بالحديث أن يكون دائماً خبراً ولكن بعد نقله أصبح خبراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدث به في الماضي، فأنت تخبر الآن عن النبي صلى الله عليه وسلم به فأصبح خبراً، ولذلك يشتق منه فعل (أخبرنا)، والمحدثون يطلقون هذا الفعل (أخبرنا) على ما تلقاه الشخص عن طريق القراءة أو ما دونها من الإجازة أو نحوها، أما ما تلقاه الإنسان بالسماع فيطلقون عليه: سمعت أو حدثنا، وهذا عند جمهورهم، كـمسلم بن الحجاج ومن دونه، أما البخاري فلا يميز بين حدثنا وأخبرنا بل يطلق على الجميع حدثنا وأخبرنا وحدثني وأخبرني.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين كلام ابن القيم وابن حجر في صفة القدم والوجه

    السؤال: ما الفرق الجوهري بين قول الإمام ابن القيم : الساق والقدم وغيرها صفات لله، وبين قول الحافظ ابن حجر فيها؟

    الجواب: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه هذه المذكورات، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يبحث فيها الصحابة، لا من جهة كونها صفات أو غير ذلك، ولم يرد عنهم كلام فيها، ولا التابعون ولا أتباعهم، وإنما بدأ البحث فيها بعد هذا، فوجدنا عدداً من الذين جاءوا في هذه الطبقة يطلقون عليها صفات، فهل هذا من باب التأويل؟ هذا هو محل البحث.

    نقول: ليس هذا تأويلاً، لكن ما معناه؟ ابن القيم يرى أن معناه أنهم: عملوا بالسبر والتقسيم فوجدوا أن هذه إما أن تكون صفات، وإما أن تكون أبعاضاً، فكونها أبعاضاً مقتض للنقص فهو ممنوع، فلم يبق احتمال إلا أن تكون صفات، وهذا بالسبر والتقسيم فقط.

    أما ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر فهو واضح من جهة أنهم أثبتوا كونها صفات ولا يقتضي ذلك تأويلاً لها، بل يقتضي أن إثبات كون الله ذا يد أو ذا عين وصف قطعاً؛ لأنه يوصف بذلك، فالكينونة أي: المصدر الصناعي، وهو كونه ذا وجه، وكونه ذا يدين، هذا هو الوصف.

    فعلى رأي ابن القيم : فالوجه صفة، واليدان صفة، والعين صفة إلى آخره.

    وعلى رأي ابن حجر : الوجه ليس صفة ولكن كون الله ذا يد صفة، والعين ليست صفةً لكن كون الله ذا عين صفة، مثل العلم والإرادة؛ فالإرادة نفسها ليست صفة، والعلم ليس صفة، لكن كون الله ذا علم -أي: اتصاف الله بالعلم- هو الصفة، أما العلم بمعنى المعلوم فليس صفة لله، لكن اتصاف الله بالعلم هو صفته.

    الصفات الاختيارية هي التي تتعلق بالمشيئة

    السؤال: لم سميت هذه الصفات صفات اختيارية؟

    الجواب: صفات اختيارية معناه: الصفات التي يفعلها متى شاء، فالصفات المتعلقة بالمشيئة دائماً تسمى صفات اختيارية؛ مثل النزول والكلام والخلق والرزق والإماتة والإحياء، فهي صفات فعل علقت بالمشيئة، فهو يهب لمن يشاء، يتكلم متى شاء وهكذا.

    فهذه صفات معلقة بالمشيئة فلذلك سميت اختيارية؛ لأن الله سبحانه وتعالى: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، وليجزم أحدكم المسألة فإنه لا مكره له).

    كيف يتحاور أهل النار فيما بينهم في النار مع شدة العذاب عليهم

    السؤال: بعض العوام يستغرب ما يكون في النار من كلام أهلها والحوار بينهم، مع العذاب الشديد؟

    الجواب عن ذلك: أن هذا من عذابهم، وأن الله يعذبهم بإقامة الحجة عليهم، حتى يستطيع بعضهم أن يكلم بعضاً، مع أن حرارة هذه النار لا تتصورونها: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ[النساء:56] ومع ذلك فهذه الشمس ستكون عقيرة في النار، وحرارتها المتوقعة أكثر من أربعة عشر مليون درجة حرارية، يعني: أن نسبة معينه من الاقتراب منها تعدم الأشياء إعداماً مطلقاً، فضلاً عن أن يلتصق بها الشيء أو أن يكون قريباً منها، ولذلك فأشعتها التي تنطلق منها هي انفجارات نووية هائلة، ففي الثانية الواحدة يقع عدد كبير جداً من الانفجارات النووية على سطح الشمس!

    ومع ذلك فهذه الشمس لا تساوي شيئاً من حرارة جهنم ولا أي نسبه مئوية! والله تعالى مع ذلك يخلق لأهل النار هذه القدرة على الكلام، وتقع بينهم محاورة؛ ليكون هذا أشد نكاية بهم، وأشد تعذيباً لهم، وذلك مثلما فهم أصحاب القليب وأسمعهم الله كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم موتى، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ[النمل:80] ، وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ[الأنبياء:45] ، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ[فاطر:22-23] ومع ذلك أسمعهم الله كلامه ليكون أبلغ في تعذيبهم، فإذاً هذا لا يخرج عن عذاب أهل النار، نسأل الله السلامة والعافية.

    ومن أمثلة حوار أهل النار مع غيرهم: الرجل الذي يرمى به في النار فيقع فيها، فتندلق أقتابه أو أمعائه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيتأذى به أهل النار فيقولون: يا فلان! أو لم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت أمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه، فهذا حوار بينه وبين أهل النار، مع أن أمعائه قد اندلقت في النار، وهو يدور بها كما يدور الحمار برحاه!

    ومع هذا فإن عذاب أهل النار ليس درجةً واحدة: فمنه ما يكون بالزمهرير وهو البرد الشديد، ومنه ما يكون بهذا الحر المحرق: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا[النساء:59] ومنه ما يكون بالحيات والتنانين والعقارب، ومنه ما يكون بأن يعذب الإنسان بمثل ما قتل به نفسه، وكما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أنه ذهب به الملكان ومرا به على المعذبين، فرأى أنواعاً من أنواع العذاب على الزناة، وعلى القتلة، وعلى أكلة الربا وغير ذلك، وهذا كله لا يمنع من كلامهم فيها.

    خلق الله آدم بيمينه يقتضي أن كلتا يديه يمين

    السؤال: ثبوت أن الله خلق آدم بيمينه على سبيل الإفراد، هل يقتضي أن له شمالاًَ؟

    الجواب: لا، بل يقتضي إثبات اليمين لله سبحانه وتعالى، وأن كلتا يديه يمين؛ لأنه قال: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ص:75] فقد خلقه بيديه، ومع ذلك أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أنه خلقه بيمينه، فهذا يقتضي أن كلتا يديه يمين.

    الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية

    السؤال: نريد توضيح الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية؟

    الجواب: الصفات الذاتية هي التي لا تعلق لها بالمخلوق، وإنما هي متعلقة بالذات، وأما الصفات الفعلية فهي التي لها طرفان: طرف هو الفعل، وطرف هو الانفعال، فالطرف الذي هو الفعل راجع إلى الله، والطرف الذي هو الانفعال راجع إلى المخلوق كالإحياء والإماتة والخلق ونحو ذلك، فالخلق طرف الفعل منه إلى الله، وطرف الانفعال منه إلى المخلوق وهكذا، فهذه تسمى صفات الفعل.

    وأما الصفات التي لها وجهان: ذاتية من وجه وفعلية من وجه مثل الإرادة ونحوها، فإنها ذاتية من وجه وفعلية من وجه؛ لأن الإرادة متكررة؛ ولهذا يقع التزاحم بين الإرادتين، مثل ما صح في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه) فتتزاحم الإرادتان، وهذا دليل على أن الإرادة من هذا الوجه صفة فعلية؛ لكن مع ذلك هي صفة ذاتية في الأصل، فيجتمع فيها الأمران.

    هل الكفار يمرون على الصراط؟

    السؤال: ذكرت في أهوال يوم القيامة السور الذي يضرب بين المؤمنين والكافرين، ويرى البعض أن أهل الكفر -أهل الظلمة- يذهب بهم إلى النار ولا مرور لهم على الصراط، وأن قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا[مريم:71] خاص بالمؤمنين، فهم الذين يمرون على الصراط بحسب أعمالهم، نريد أن نسمع الترتيب في ذلك والسابق منها واللاحق، والحوض والميزان والظلمة وغير ذلك؟

    الجواب: بالنسبة للعبور على الصراط ظاهر الأحاديث أنه يشمل الجميع، فعندما يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل المحشر، فإنه يؤذن لهم جميعاً إلى الصراط، لكن يؤمر آدم بإخراج بعث النار، وهؤلاء قطعاً سيقعون عن الصراط في النار، لكن يبدو أن الصراط يمر به الجميع، وأن أبواب جهنم تحت الصراط: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ[الحجر:44] .

    لكن لو قيل بأن بعثاً يمكن أن يدخل النار دون المرور بالصراط فلا مانع، مثل ما ورد أن بعض أهل الجنة يدخلون الجنة دون حساب، ولا يمرون بشيء من العقبات، ولا يحسون بالأهوال، وحينئذ يكون عبور أهل الجنة من باب رحمة الله ولطفه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ[الأنبياء:101-102] ويكون تعجيل أهل النار إليها قبل الصراط أو دون أن يمروا عليه، أو أن يكون مرورهم عليه صورياً، يكون ذلك من باب عدل الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يستحقونه.

    أما الترتيب بين هذه المشاهد أو الأهوال:

    فأولها الحشر كما ذكرنا من قبل، ثم إذا أُذن للناس وشفع الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، فإن أول ما يمرون به وأول منزلة بعد الحشر: حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراجح؛ لأنه جاء في وصفه أنه لا يظمأ من شرب منه أبداً، ولو كان بعد الصراط لما احتاج الناس إليه؛ لأنهم سيدخلون الجنة، لكن يذاد عنه الذين غيروا وبدلوا، ويذاد عنه أيضاً الذين أعانوا الظلمة، وقد جاء في حديثين ذكر أنواع من يذاد عنه:

    الحديث الأول: (ألا لا ألفين أقواماً أعرفهم فيذادون دوني كما تذاد غرائب الإبل، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، وفي لفظ: أمتي أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا منذ فارقتهم مرتدين على أعقابهم فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً) هؤلاء قد غيروا وبدلوا.

    والحديث الآخر: عند عبد الرزاق في المصنف وإسناده صحيح، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنه سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض) فهؤلاء أيضاً يذادون عن الحوض ويطردون عنه.

    وكذلك الميزان فإنه سابق على الصراط، فبعد مشهد الحوض، يأتي وزن أعمال العباد، والمقاصة بينهم حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، وفي ذلك الوقت أيضاً يأتي العرض على الله سبحانه وتعالى وبسط كنفه على عباده المؤمنين، ثم يأتي الحساب بعد الميزان محاكمة على الأعمال، ثم بعد ذلك تأتي هذه الظلمة وكذلك النور الذي ينور الله به المؤمنين، وهو إعلان النتيجة؛ لأنه سيعطى أهل هذا النور كتبهم بأيمانهم، ويعطى أهل الظلمة كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم، نسأل الله السلامة والعافية.

    ابن حجر يسير على منهج أهل التأويل في كثير من أحاديث الصفات

    السؤال: هل التأويل المنسوب لـابن حجر هو ما ذكره في الوجه واليد، أم في مسائل أخرى؟

    الجواب: ما ذكره ابن حجر هنا لا يعد تأويلاً، لكنه في كثير من أحاديث الصفات يسير على منهج التأويل في بيانها.

    هل قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) من آيات الصفات؟

    السؤال: ما توجيه قولكم بغلط من فسر الآية: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ[القلم:42] بأنها من آيات الصفات، وما هو تفسير ابن عباس لها؟

    الجواب: أنا ما ذكرت أن أحداً ممن فسرها غلط، إنما ذكرت أن بعض من فسرها جزم بأنها من آيات الصفات، ولم يدع مجالاً للخلاف فيها، وجعل من لم يفسرها بهذا من المعطلة، والواقع أن في الآية تفسيرين، أحدهما يجعلها من آيات الصفات فيكون معناها موافقاً لمعنى الحديث، والآخر لا يجعلها من آيات الصفات ويجعل معناها الشدة، فيكون هذا من أهوال يوم القيامة؛ لكن لا يقتضي إثبات صفة الساق لله، وإنما ثبتت الصفة في الحديث فقط. ولا يمكن الجزم به، وتفسير ابن عباس أن قوله: يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ[القلم:42] بمعنى الشدة أي أن: هذه الكلمة تطلقها العرب على الشدة في الأمر، والشدة وصف لحال الناس يوم القيامة، وكل أهوال يوم القيامة شدة.

    الإنفاق والعطاء من الله تعالى هو لحكمة بالغة

    السؤال: هذا السؤال عن قول الله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ[المائدة:64] هل حصر بسط اليد بالإنفاق فقط؟

    الجواب: الآية فيها أنه سبحانه وتعالى: (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أي: مبسوطتان بالعطاء؛ لأن هذا رد على اليهود الذين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ[المائدة:64] وقالوا: لا يعطي الناس ما يكفيهم، وهذا بناءً على قولهم بفقره نسأل الله السلامة والعافية: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181] ولذلك فشبهة اليهود هي التي أخذ بها المشركون والمنافقون؛ لأن اليهود يقولون: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ)؛ ولذلك أمر عباده بالإنفاق، ويقولون: لا يعطي عباده ما يكفيهم؛ ولذلك أمر بالإنفاق عليهم والصدقة! والله سبحانه وتعالى رد عليهم فقال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ).

    وهذه الشبهة هي التي أخذ بها المشركون فيما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة يس: وإِذَا قِيْلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ[يس:47] وهي الشبهة التي أخذ بها المنافقون فقالوا: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا[المنافقون:7].

    فالله سبحانه وتعالى رد هذا، وأخبر أنه ينفق فيعطي ما شاء بحكمة بالغة: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى:27] وقد ضل بهذه بعض القدرية، فيقول أحدهم:

    كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

    هذا الذي جعل الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا

    والجواب: أنهم لم يؤمنوا بالقدر ولم يسلموا له؛ ولذلك دخلت عليهم الزندقة.

    الرؤيا المنامية لا تؤخذ منها الأحكام

    السؤال: ما حكم الرواية عن أحمد في رؤيته لله سبحانه وتعالى للعمل بمقتضاها؟

    الجواب: أن هذه رؤيا نوم، والمرائي لا تؤخذ منها الأحكام، ولكنها تسر ولا تغر، وهي من المبشرات كما قال تعالى: لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ[يونس:64] ولا ينالها إلا الشخص المعذب، وسبحان الله! الذين ذكروا أنهم رأوا الله تعالى في المنام، إنما يذكرون هذا في حال تعذيبهم في ذات الله، لا أعلم أحداً ذكر أنه رأى الله في المنام إلا إذا كان قد عذب في ذات الله عذاباً شديداً، فالإمام أحمد إنما رآه وهو يقاد إلى الخليفة ليضرب عنقه.

    نفي رؤية الله في الدنيا صفة سلبية تقابل الرؤية المثبتة له في الآخرة

    السؤال: عن قوله: (يرى ولا يراه منا ذو بصر) قلت: إن فيه صفتين إيجابية وهي النظر، وسلبية، فما هي الصفة السلبية؟

    الجواب: السلبية في قوله: (لا يراه منا ذو بصر) أنه: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103] ، صفة، وكونه يرى في الآخرة صفة إيجابية، وكونه: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) في الدنيا صفة سلبية.

    معنى قوله تعالى: (وأتوا به متشابها)

    السؤال: كيف نجمع بين مقولة ابن عباس في نعيم الجنة، وقوله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً[البقرة:25] ؟

    الجواب: (وَأُتُوا بِهِ) أي: بنعيم الجنة (مُتَشَابِهاً) أي: فيما بينه، وليس معناه أنه يشبه ما في الدنيا، بل ما يعرض عليهم من نعيم الجنة هو ما يأتيهم الآن، وما يأتيهم غداً، وما يأتيهم بعد غد، يظنونه نفس الشيء لا يتغير، فيشبه بعضه بعضاً، وهذا من تمام النعيم.

    التبعيض نقص في حق الله تعالى

    السؤال: كيف يعد التبعيض نقصاً في حق الله سبحانه وتعالى؟

    الجواب: لأن التبعيض يقتضي الإحاطة، فإذا أثبت أحد جزءاً فمعناه أن ذلك الجزء يمكن النظر إليه وحده، أو الإحاطة به وحده، وهو أيضاً يقتضي العجز؛ لأن المخلوق هو الذي يحتاج إلى هذه الأجزاء في تصرفه، أما الخالق فلا يحتاج إلى الأبعاض.

    ما اختلف فيه الصحابة لا يدخل في مسائل العقيدة

    السؤال: هل هناك ترجيح في قولي الرؤية المختلف فيها؟

    الجواب: أن المسائل إذا اختلف فيها الصحابة رضوان الله عليهم، واختلف فيها من دونهم، لم تعد من الأمور التي يجب اعتقادها، وإنما ندرس القولين فيها، ولا يمكن أن نخطئ ابن عباس ولا أن نخطئ عائشة ، وقد جاء في حديث أبي ذر في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نور أنّى أراه)، وهذا الحديث محتمل للمذهبين معاً، وكذلك جاء في بعض طرقه: (رأيت نوراً) وهذا يقتضي أنه رأى نور الله سبحانه وتعالى، ويقتضي أنه لم ير رؤية إحاطة؛ لأنها أصلاً مستحيلة.

    وقد ذكرنا من قبل أنه ليس للسلف مذهب واحد في مثل هذه الأمور، وإنما لهم فيها خلاف، والجميع لا يخرج عن مذهبهم، لكن لا يسمى عقيدة، وإلا لوجب على كل مكلف أن يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج أو أنه لم يره، وهذه من الأمور التي لا تجب، ولم يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نمتحن الناس بها ونجعلها عقيدة لازمة، وقد بينا من قبل أن العقيدة اللازمة هي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ على سبيل الإجمال وعلى سبيل التفصيل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952315