بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا أرحم الراحمين!
يقول الشيخ حفظه الله:
[والكتب التي على رسل البشر أنزل من كلامه جل فذر
قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل]
من أركان الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة، وهذا الركن في أصله داخل في الركن الأول الذي هو الإيمان بالله؛ فأركان الإيمان ستة، لكن ثلاثة منها ترجع إلى واحد.
فالإيمان بالله يشمل الإيمان بالكتب المنزلة والإيمان بالقدر؛ لأن الكتب المنزلة كلام الله، والقدر من علم الله، فهذا كله يرجع إلى الإيمان بالله.
فإذاً: تعود هذه الأقسام في حقيقتها إلى أربعة: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر.
أما الإيمان بالكتب والإيمان بالقدر فهو من الإيمان بصفات الله، وللعناية بالإيمان بالكتب جُعل الإيمان بها ركناً مستقلاً من أركان الإيمان، وللعناية بالقدر وكثرة زيغ الناس فيه جُعل الإيمان به ركناً مستقلاً.
والكتب جمع كتاب، والكتاب في اللغة فعال للآلة، من (كتب) بمعنى: خاط، فهو آلة الخياطة، ثم أطلق بعد هذا على الأوراق التي تكون حاوية للرسوم المقصودة فتخاط لتجمع، فسميت كتاباً، ثم سميت الحرفة التي هي الضرب بالحروف على الأوراق كتابة، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ[العنكبوت:48] .
ومنه قول الشاعر:
تخطه من ذوات المصر كاتبة قد طالما ضربت باللام والألف
وإطلاق الكتب على كلام الله سبحانه وتعالى المنزل إلى الرسل من البشر سببه: أن هذا الكلام الذي ينزله الله تعالى عليهم كان ينزل عليهم مكتوباً، إلا القرآن فلم ينزل مكتوباً، وإنما أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك سمي كتاباً، وتسميته كتاباً بمجاز آخر وهو: أن الرسالة التي يرسلها أحد إلى أحد تسمى كتاباً ، فتقول: أرسل إلي فلان كتاباً، وهذا القرآن هو كتاب الله إلى خلقه، فهو رسالة من عند الله إلى خلقه، وقد أنزلها على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وليست مكتوبة، ولكنها رسالة يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس، فمن أجل هذا سمي كتاباً.
والحاجة إلى كتابة الكتب السابقة: أنها لم تكن في علم الله تعالى تصلح إلا لمدة محددة لا تتجاوزها؛ فلذلك جاءت مكتوبة من عند الله سبحانه وتعالى، ولم يؤمر الناس بحفظها؛ لأن الحفظ في الصدور أبقى من مجرد الكتابة، فالعلم مع كثرة كتابته وكثرة الكتب المؤلفة فيه يقل إذا لم يكن محفوظاً بالصدور، ومن هنا فإن الكتب السابقة كلها لم يكن أهلها يحفظونها، إنما كانوا يستودعونها ويستحفظونها مكتوبة، ويتوارثها الناس نسخاً مكتوبة.
فمن الرسل من أنزلت عليه الكتب في شكل صحف، وقد جاء التصريح بذلك في إبراهيم وموسى، كما قال عز وجل: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:18-19]، وفي هذا أن صحف إبراهيم وموسى من الصحف الأولى ، وهذا يدلنا على أن الكتب المنزلة في الصحف ليست محصورة في هذه فقط، بل المنزل على نوح أيضاً كان صحفاً، وكذلك على من دونه من الرسل.
وأيضاً أطلقت القراطيس في أنبياء بني إسرائيل على الكتب؛ حيث جاء ذكر ذلك في سورة الأنعام في قول الله تعالى: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ[الأنعام:91] .
وقد كتب الله التوراة لموسى بيمينه في الألواح، فسلمه هذه الألواح، واستشهد على ذلك سبعين من قومه، شهدوا على استلام موسى للألواح من ربه، وهذه الألواح كانت أربعة عشر لوحاً، فانكسر منها اثنا عشر وبقي اثنان، ومع ذلك فقد جاء بعد موسى معززون لشريعته من أنبياء بني إسرائيل، وأنزل على كثير منهم وحي.
وأما الكتب المسماة فهي هذه الأربعة التي هي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن.
فالتوراة هي الكتاب المنزل على موسى باللغة العبرية، وهي العبرانية.
وهذه الكلمة مختلف فيها هل هي عربية أو غير عربية، والراجح: أنها من العربية، فالتوراة أصلها: التورية، أي: الكلام الذي يشير إلى أحداث ستقع، وليس فيه التصريح بذلك.
وقيل: هي غير عربية؛ لأنها لو كانت عربية لما قيل: التوراة، ولقيل: التورية.
وعلى هذا الاختلاف اختلف القراء في قراءتها في القرآن هل تقرأ بالإمالة أم لا؟
فمنهم من يقرؤها بالإمالة بين بين، كـورش ، فمثلاً: يقرأ قوله تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ[آل عمران:1-4].
ومنهم من يميلها إمالة محضة، كـأبي عمرو و الكسائي فيقرآن: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ[آل عمران:3-4] .
ومنهم من يكون له فيها وجهان، كـقالون فله وجهان: بالتقليل والفتح.
وأما الإنجيل فهذا اللفظ باللغة العبرانية معناه: الكتاب، وقد استعمل في لغة العرب بذلك، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أناجيل أمتي في صدورها).
وأما الزبور فهو الكتاب المنزل على داود، واشتقاقه من الزبر، وهو الكتابة، فزبر معناه: أخذ المزبر فكتب به، والمزبر هو القلم، وهذا من لغة العرب، ومع ذلك سمي به هذا الكتاب، ويطلق عليها قديماً المصاحف، كما جاء في الحديث: (إن داود كان يقرأ في المصحف) والمقصود بالمصحف الزبور.
والمصحف يجوز فيه ثلاثة لغات: المَصحف والمِصحف والمُصحف، ومعناه: ما يجمع الصحف، فهو مشتق من الصحيفة؛ لأنه يجمعها، فلذلك يطلق على القرآن وعلى غيره من الكتب المنزلة.
وما لم يسم من كتب الله سبحانه وتعالى يجب الإيمان به إجمالاً، ولا يجب الإيمان تفصيلاً إلا بهذه الكتب، ولا يجب الإيمان تفصيلاً من هذه الكتب بما فيه إلا بالقرآن؛ لأن الكتب الأخرى قد نسخت ورفعت، وغيرت وبدلت قبل ذلك.
والإيمان بها يقتضي التصديق بما جاء بها من الأخبار على ما أخبر الله به عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، فهذا القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب، فيجب على كل المسلمين أن يعتقدوا صدق ما أنزله الله على رسله جميعاً من الكتب، وصدق ما فيها من الأخبار.
كذلك من الإيمان بها: الإيمان بأن ما فيها من الأحكام ما نسخ منه بالقرآن لم يعد صالحاً للعمل به، ولا يجزئ بين يدي الله؛ لأن الله أخبر بذلك في كتابه في قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[آل عمران:85] .
مع ذلك فهذه الكتب المنزلة ينبغي أن نعلم أن فيها أمراً يخفى على كثير من الناس، وهو أن رسل الله ينقسمون إلى قسمين: إلى رسل قد جاءوا بشرائع جديدة، وإلى رسل قد جاءوا مكملين لشريعة سابقة، والجميع يصدق عليه قول الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة:48] .
فلا تنافي بين أن يكون الرسول مجدداً لشريعة من قبله، وبين أن يكون له شرعة ومنهاج، والشرعة والمنهاج الذي أوتيه مكمل ومتمم لشرع من قبله.
ويتفاوت فضل الرسل بذلك، فأولو العزم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، أوتوا شرائع جديدة.
ولا منافاة بين هذا وبين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته باتباع ملة إبراهيم؛ لأن الملة إنما يقصد بها في أغلب إطلاقاتها: ما يتعلق بالأخلاق والسلوك، لا ما يتعلق بالتشريعات.
ولهذا فإن خصال الفطرة من ملة إبراهيم، والضيافة من ملة إبراهيم، والغسل من الجنابة من ملة إبراهيم، وعقد النكاح من ملة إبراهيم، وكذلك الحج أصله من ملة إبراهيم.
ومن ملة إبراهيم عدم الدعاء على قومه، والحلم عنهم والصفح، وهذا أبرز شيء أخذ به الرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فكثير من الأنبياء الآخرين جاء في القرآن التصريح بدعائهم على قومهم، وبالهلاك الذي حصل لقومهم.
وقوم إبراهيم لا يدري أحد ماذا حصل لهم، ولا يستطيع أحد الآن أن يقول: إنهم أُهلكوا بالوصف الفلاني، فتجد إهلاك قوم نوح وهم قبلهم، وإهلاك قوم موسى وهم بعدهم، وأقوام غير هؤلاء من الرسل، كقوم شعيب وقوم لوط وصالح هود، لكن قوم إبراهيم لم تذكر أخبار هلاكهم، وإنما يعرف أن الله أنجى إبراهيم عليه السلام، وأن النار كانت برداً وسلاماً عليه، وأنه هاجر عنهم.
وعلى هذا تكون الكتب بعضها مجدداً كالزبور؛ فإن جمهور المفسرين يذكرون أن هذا الكتاب ليس فيه تشريعات جديدة لبني إسرائيل، وإنما فيه المواعظ والحكم وأذكار يذكرون الله بها، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك بقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء:105] ، فبعد ذكر الله الذي فيه جاء فيه أحكام، منها حكم الله النافذ وسنته الكونية التي لا تتغير: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء:105].
وأما الإنجيل فقد جاء فيه تغيير كثير لأحكام التوراة، وقد صرح بذلك عيسى عليه السلام في سورة آل عمران في قوله تعالى حكاية عنه: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:50] ، فقد صرح بأنه سيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.
وقد ذكر بعض العلماء مقارنة بين ملة موسى وملة عيسى، فجعلهما طرفين مختلفين في كثير من المسائل، وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسطاً بينهما.
ولهذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأيام فذكر أن في الأسبوع يوماً فاضلاً عند الله، وأن الله أخبر به الرسل، وأن موسى أخبر به قومه فضلوا عنه؛ فطلبوه فالتمسوه في اليوم الذي بعده، وهو يوم السبت، فجاء النصارى فطلبوه، فالتمسوه في اليوم الذي بعد ذلك، وهو يوم الأحد، وهدى الله المسلمين إليه، وهو يوم الجمعة.
فهو اليوم الفاضل، والناس في ذلك تبع لنا، فاليهود عندهم يوم السبت، والنصارى عندهم يوم الأحد.
ومن هذه الأحكام: قضية تعدد الزوجات، فإنه مباح في التوراة إلى غير حدود، حيث يجوِّز للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء، ولذلك تزوج سليمان بن داود ألف امرأة.
وأما الإنجيل ففيه تحريم تعدد الزوجات مطلقاً، حتى لو تزوج الإنسان فماتت زوجته في ليلتها الأولى لم يحل له الزواج بعد ذلك.
وجاءت هذه الشريعة وسطاً لمراعاة حقوق الزوجين معاً، فلا يستطيع الرجال ولا يحتاجون إلا إلى أربع نسوة في أقوى صورهم.
وكذلك لم يبح التعدد فيما كان أكثر من هذا، وإذا كان الرجل أيضاً لم يستطع العدل أو لم يستطع في جسمه أو ماله أو مسكنه التعدد لم يحل له مطلقاً.
وكذلك فيما يتعلق بالتعامل مع الحائض؛ فإن اليهود حُرم عليهم الجلوس مع الحائض على فراش واحد، وحرم عليهم الكلام معها ما دامت حائضاً.
والنصارى أُحل لهم وطء الحيَّض، وفي الشريعة الإسلامية جاءت الوسطية، فحل الأكل معها، والجلوس معها على فراش واحد، والكلام معها، ولكن حرم وطؤها، وهذا من مظاهر وسطية الشريعة الإسلامية.
ومظاهر هذا كثيرة في الملتين، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله أن ما بقي من الإنجيل بيد النصارى حكم واحد فقط، وهو عدم تعدد الزوجات، وأن كل الأحكام الأخرى قد غيروها وبدلوها!
فكل ما يتعلق بالأحكام من أصل الإنجيل قد غير وبدل، وما بقي منه إلا حكم واحد، وهذه الكتب تختص بالرسل من البشر، وقد ذكرنا أن الرسل يكونون من البشر ومن الملائكة، فلذلك قال:
والكتب التي على رسل البشر أنزل من كلامه جل ..
والرسْل: جمع رسول، وهو جمع تكسير، أصلها (رُسُل) وكتبت بالإسكان.
وأضيفت الرسل إلى البشر لأنهم رسل إليهم، وهذا مخرج للرسل من الملائكة، فإنهم لم تنزل عليهم كتب، وإنما يؤتمنون على توصيل الكتب إلى البشر أو توصيل الأوامر والنواهي إلى الملائكة.
والإنزال من عند الله سبحانه وتعالى هو الوحي، وهو مختلف الصور، فقد يكون بالكتابة وتسليمه، وقد يكون بالكلام مباشرة من وراء حجاب، وقد يكون بإرسال الملك، وقد يكون بتكليمه في النوم، وغير ذلك، فكل هذا يسمى إنزالاً؛ لأنه قادم من جهة العلو، وكل ما هو قادم من جهة العلو، يوصف بأنه نازل ومنزل.
وهذه الكتب كلها من كلام الله، وقد أثبتنا له عز وجل صفة الكلام من قبل، وهذا زائد على ذلك، فمجرد إثبات صفة الكلام الذي سبق معنا يشمل الكلام التشريعي والكلام القدري الكوني، ولكن تخصيص الكتب بأنها كلام الله مهم هنا، فلذلك احتجنا إلى التصريح به.
قال: (من كلامه جل)، أي: هي من كلام الله سبحانه وتعالى بأي لغة كانت، وكل رسول إنما يرسل بلغة قومه كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ[إبراهيم:4] ، فيكلمه الله تعالى بلسان قومه، وهذه الكتب من كلام الله سبحانه وتعالى، تكلم بها كما يليق بجلاله.
وهنا مسألة البحث التي كثر الكلام فيها، وقد أشرنا إليها من قبل، وهي أن المعطلة من الجهمية والمعتزلة اتفقوا على إثبات الكلام لله، وهذا يتفق عليه جميع أهل السنة على مختلف مذاهبهم، فإنهم يتفقون على إثبات صفة الكلام لله، ولكنهم اختلفوا في إثبات الكلام النفسي، والكلام النفسي معناه: الكلام المنسوب إلى النفس، وليس معناه حديث النفس، كما يفهمه بعض الناس، فبعض الناس إذا سمع (الكلام النفسي) ظن أن معناه: حديث النفس الذي هو درجة من درجات اليقين، وهذا غير صحيح، بل الكلام النفسي معناه: الكلام الذي هو غير ملفوظ به، بل القدرة على الكلام، أي: أن يكون أحد قادراً على الكلام، فهذا هو الكلام النفسي. وتسميته بهذا نسبة إلى النفس، بخلاف تكليم المخلوق فإنه ليس كلاماً للنفس.
ولذلك غلط أصحاب وحدة الوجود في هذا الباب، فجعلوا كل كلام منسوب إلى الله؛ لأنه خلقه، حتى قال ابن عربي الحاتمي :
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
وهذا غلط فادح؛ لأن كل كلام في الوجود من خلقه، إلا كلامه عز وجل الذي تكلم به فهو كلامه لا خلق من خلقه.
فهناك فرق بين كلامه وبين خلقه، كما سبق.
والكلام النفسي إذا فسرناه بأن معناه: القدرة على التكلم متى شاء بما شاء، فلا مشاحاة فيه، وينبغي ألا يكون محلاً للخلاف، لكن اختلف أهل الاصطلاح في تسميته بذلك، فذهب الأشعري و الماتريدي و ابن كلاب إلى تسميته بالكلام النفسي، وسلك هذه الطريقة جمهور العلماء من الأصوليين والمتكلمين وغيرهم.
وأنكر هذا الاصطلاح شيخ الإسلام ابن تيمية .
وأظن ذلك راجعاً إلى تصور معنى الكلام النفسي؛ لأن من أنكره كأنه تصور أن معناه: حديث النفس فقط، وإلا فلا يمكن أن يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية أن الله سبحانه وتعالى قادر على الكلام متى شاء، وأن علمه يحيط بكل شيء، لا يمكن أن يخفى هذا عليه، ولذلك حين وصل إلى هذه النقطة سماها باصطلاح آخر، فقال: كلام الله قديم النوع محدث الآحاد أو الأفراد.
والنوع مقصوده به: الكلام النفسي، لكنه سماه النوع، وهذا الاصطلاح الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية اصطلاح بعيد جداً؛ لأن النوع لا تصور له في الخارج إلا بأفراده، فمثلاً: الإنسان نوع من أنواع الحيوان، وهل يمكن أن يكون إنسان موجوداً ليس من البشر المعروفين، لا ذكراً ولا أنثى ولا خنثى؟ لا يمكن أن يقع هذا أبداً؛ لأن الإنسان إنما يتصور بفلان أو فلانة مثلاً، فلا يفصل بين مفهوم النوع وما صدقه فمفهومه تفسيره، وما صدقه أفراده.
فلا يمكن أن تكون الأفراد محدثة ويكون النوع قديماً أو العكس؛ لأن النوع إنما يتجلى في أفراده، وكذلك الجنس.
أما الكلام اللفظي -وهو الشق الثاني من شقي الكلام- فإن الأشعري رحمه الله ذكر أن الكلام اللفظي ليس صفة الله، بل قال: القرآن فيه صفة الله وصفة عدو الله، وضرب لذلك أمثلة:
فمن صفات الله في القرآن: قول الله تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[آل عمران:1-2]، وقوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ[البقرة:255] ، وقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[البروج:15-16]، وغير ذلك من الصفات.
وفيه صفة عدو الله، كقول الله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ[الجاثية:7] ، وقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا[المدثر:11-16] ، فهذه صفة عدو الله.
لكن لم يفهم كلامه هذا عدل على الصحيح، فتلقفه أصحابه من غير فهم، فظنوا أنه يقصد أن الكلام اللفظي ليس كلام الله، وهو لم ينف أن يكون كلام الله، إنما نفى أن يكون صفة الله، وشتان بين الأمرين، فظنوا أنه يقصد أن هذا الكلام اللفظي ليس من كلام الله، وأن إطلاق الكلام عليه مجاز، وأن المقصود به لازمه، فيقولون: معنى كون القرآن كلام الله: أنه دال على كلام الله، أو دال على مدلول كلام الله، فقد يكون دالاً على كلام الله مباشرة بأن يكون الكلام منسوباً إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ[النحل:51] ، أو على مدلول كلام الله، كما إذا كان الكلام محكياً، كقول الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[المائدة:17] ، وقوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181] ، وقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[المائدة:64] ، فالكلام المحكي هنا ليس من كلام الله، لكن كلام الله دل عليه، بمعنى: استوعبه.
والبحث هنا ينبغي فيه التدقيق؛ حيث نقول: إن الكلام اللفظي كلام الله تكلم الله به، وضمنه كلام من شاء من خلقه، فحكى ذلك الكلام عن خلقه، لكنه في حكايته لكلام الخلق إن كان الكلام مرضياً عنده أدرجه دون أن ينسبه لغيره، وإن كان الكلام غير مرضي عنده نسبه إلى قائله؛ ليدل بذلك على أنه ليس من كلام الله، وليس مرضياً عنده.
فإن كان مرضياً عنده أدرجه في كلامه، كقول الله تعالى في سورة مريم عندما حكى كلام الملائكة عليهم السلام: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ[مريم:59-64] ، معناه: وتقول الملائكة: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا * وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا[مريم:62-67].
وقوله: وَيَقُولُ الإِنسَانُ[مريم:66] ، حين لم يكن كلام الإنسان مرضياً صرح بنسبته إلى الإنسان، ولما كان كلام الملائكة مرضياً عند الله لم ينسبه إليهم، فلم يقل: وتقول الملائكة كما قال: وَيَقُولُ الإِنسَانُ[مريم:66] ، ونظير هذا كثير في القرآن، فكثيراً ما يأتي اللفظ المرضي عند الله تعالى دون نسبة.
وقد يوقع بعض المفسرين ذلك في اختلاف، فمثلاً: قول الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[يوسف:53] ، اختلفوا فيه هل هو من الكلام المحكي عن امرأة العزيز أو ليس كذلك؟ لأنه محفوف بكلامها من قبله ومن بعده, فقوله: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي[يوسف:53] ، هذا من كلامها (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) هذا تقرير من الله تعالى: إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[يوسف:53] ، هذا أيضاً من كلامها.
وكذلك قوله تعالى حكاية عن ملكة سبأ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ[النمل:34] ، فقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) تصديق من الله تعالى لكلامها المحكي.
فهذا الكلام كله كلام الله، وعلى هذا فهو كلامه بالحقيقة لا بالمجاز، وهذا الذي يقول فيه السيوطي رحمه الله:
كلامه القرآن ليس يخلق وهو بلا تجوز ما تنطق
ألسننا به وفي المصاحف خط ومحفوظ بصدر العارف
فالذي تنطق ألسنتنا به وهو مكتوب في مصاحفنا ومحفوظ في صدورنا هو كلام الله على الحقيقة لا على المجاز، وهو الكلام الذي تكلم الله به.
وأما المتأولة فإنهم غلطوا في ذلك فاختلفوا فيه، وهذا الخلاف هو الذي أشار إليه الشيخ هنا إشارة عابرة؛ لأنه لا يريد أن يذكر أقوال الفرق، لكن أراد الرد عليها فقط بلطف، فقال:
...................... فذر
قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل
قوله: (فذر) معناه: اترك.
وقوله: (قولهم) أي قول المتأولين من المتكلمين، (القرآن قد دل على الكلام) أي: أنهم يزعمون أن القرآن قد دل على الكلام، ويرون أن الكلام المقصود به الكلام النفسي الذي لا لحن فيه ولا إعراب ولا تقديم ولا تأخير. والقرآن على هذا يكون جميعاً بمعنىً واحد؛ لأنه لو كان دالاً على صفة واحدة من صفات الله لما اختلف؛ لأن الصفة لا تختلف، ولو كان كذلك أيضاً لكان معنى كل كلمة من القرآن هو معنى الكلمة التي بعدها، فيكون معنى قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255] هو معنى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6] ، ويكون هو معنى قوله: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[الطلاق:1] ، وهذا مستحيل، فلا يمكن أن يكون هذا الكلام الذي فيه الخبر والوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص تعبيراً عن صفة واحدة، ولا ترجمة لصفة واحدة، ولو كان كذلك أيضاً لكان القرآن والتوراة والإنجيل والزبور معناها واحد.
ولهذا فإنهم يغلطون في هذا الباب فيقولون: يعبر عنه بالعبرانية فيكون توراة، وبالسريانية فيكون إنجيلاً، وبالعربية فيكون قرآناً. وهذا خطأ بالكلية؛ فشتان بين التوراة والإنجيل من حيث التقسيم والأحكام، وشتان بينهما وبين القرآن من حيث المعاني والأحكام والإعجاز والترتيب وغير ذلك.
وهذا المعنى هو الذي نظمه أحدهم بقوله:
تلاوة له دلتنا مطابقة على معاني كلام غير أصوات
وأول الناس قولاً جاء عن سلف بأن ذلك من حذف الإضافات
عنوا بـ(دل على الكلام) دل على مدلوله فاشتروا حذفاً بإثبات
قلت ومن يشو بيت الشنفرى خرق يخط الخمائل من غض الكنايات
قوله: (تلاوة له) أي: نطقنا نحن به.
وقوله: ( دلتنا مطابقة على معاني كلام غير أصوات)، أي: أن هذا اللفظ يدل على معانٍ وراءه، وهذا لا نختلف فيه.
وقوله: (وأول الناس) يقصد المتكلمين ممن هم على مذهبه هو.
وقوله: (قولاً جاء عن سلف) أي: مذهب السلف في القرآن كلام الله.
وقوله: (بأن ذلك من حذف الإضافات)، أي: أنه من حذف المضاف، ومعناه: أن القرآن معنى كلام الله، أو مدلول كلام الله.
وقوله: (عنوا بدل على الكلام دل على مدلوله فاشتروا حذفاً بإثبات)
أي: وضعوا الحذف مكان الإثبات.
وقوله: (قلت ومن يشو بيت الشنفرى خرق يخط الخمائل من غض الكنايات)
أشوى الصيد بمعنى: أصابه على الشوى، والشوى: الطرف، والصيد إذا أصيب في شواه لم يتأثر ولم يصطد.
والشنفرى هو الشاعر المعروف، والبيت المشار إليه بقوله: (خرق) أي: الذي فيه هذه الكلمة وهو قوله:
ولا خرق هيق كأن فؤاده يظل به المكاء يعلو ويسفل
فهذا من باب الكناية؛ لأن المقصود (ولا خرق هيق كأن فؤاده) أي: قلبه.
وقوله: (يظل به المكاء يعلو ويسفل) أي: يظل يرتجف كأن طائراً يمسك بقلبه فيصعد به وينزل، وليس المقصود أن الطائر فعلاً يحمل قلبه ويصعد به وينزل، بل المقصود: أن قلبه مندهش يتقلب، فهو خائف غاية الخوف، لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأن مبناه على المبالغة في صفة المخالفة؛ لأنهم فهموا الكلام على أنه مثل كلام المخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فاضطروا لأن يأولوه، ونحن نعلم أن كلام الله يليق بجلاله، وأنه أثبته لنفسه، وأنه كلامه، فلا داعي لكل هذا التأول، ولذلك قال:
(قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل)
ومعناه: هو على الذي دل الكلام عليه.
قال: [بل الحروف والمعاني وردا والله بالصوت يكلم غدا]
وقوله: (بل بالحروف والمعاني ورد)، أي: بل القرآن نزل من عند الله بالحروف وبالمعاني، فكل ذلك كلام الله، حروفه من كلام الله ومعانيه من كلام الله.
والذي يحذرونه هو نسبة الأصوات إلى الله؛ لأنهم يظنون أن الصوت مثل صوت المخلوق، وأنه عرض يحل بالجسم، ويقولون: لا يحل الصوت إلا في جسم مجوف، وهذا إنما محله في الجسم الحادث، أما الصوت المنسوب إلى الله سبحانه وتعالى فعلى ما يليق بجلاله، ولا يشبه أصوات المخلوقين، فلهذا قال: (والله بالصوت يكلم غدا).
وصفة الصوت أيضاً ثابتة في حديث آدم: (إن الله ينادي آدم، فيناديه بصوت: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك يوم تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ[الحج:2] ).
والمقصود بالصوت هنا: كلام الله على ما يليق بجلاله، لا يشبه أصوات المخلوقين، ولا تشبهه أصوات المخلوقين.
وقوله: (يكلم غداً)، أي: يوم القيامة يكلم آدم بصوت.
ثم قال:
[ولا تقل ذا الصوت عن تموج هواء أو تخلل فيه يجي
أو حرفه كيفية تحدث له بالضغط جل الله أن نمثله]
بالنسبة للصوت يجب الإيمان به كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نعلم أنه على ما يليق بجلاله، وأنه منزه عن أن يكون مشبهاً لأصوات المخلوقين.
وإذا ثبتت الصفة لله سبحانه وتعالى فإننا نعلم أنها صفة كمال، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين التي هي صفات نقص وعجز، فإن صفات المخلوقين ناشئة عن عجز، وأصواتهم إنما أخرجوها لأنهم يحتاجون إليها، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى شيء؛ فهو الغني الحميد، ولذلك قال:
(ولا تقل ذا الصوت) أي: الصوت الذي يخاطب الله به آدم يوم القيامة.
وقوله: (عن تموج هواء) أي: لا تقل هذا؛ لأن هذا إنما هو في صوت المخلوق فقط.
وقوله: (أو تخلل فيه يجي) أي: تخلل في الهواء يجيء ذلك الصوت منه كحال أصوات المخلوقين، فإن أصوات المخلوقين إنما هي الهواء المنطلق من الرئة، فيضغط عليه في مكان معين فيخرج صوت.
وقوله: (أو حرفه كيفية تحدث له)، كذلك لا تقل: إن الحروف كيفيات تحدث له؛ فهو سبحانه وتعالى منزه عن الغِـيَر فلا يمكن أن تحل به الحوادث والآفات، فلذلك كانت الحروف التي أنزل بها القرآن والتي تشكل منها كقوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ[البقرة:1-2] ، ونحو ذلك، فهذه الحروف نسبتها إلى الله سبحانه وتعالى ليست مثل نسبتها إلى المخلوق، فالمخلوق إنما ينطق بالحروف على كيفية تحدث له بالنطق، والله سبحانه وتعالى مخالف للمخلوق، فحرفه وكلامه على حسب ما يليق بجلاله وعظمته مما هو مخالف لحال خلقه.
وقوله: (تحدث له بالضغط) أي: بالضغط على الهواء في مكان معين حتى يخرج الحرف، فهذا للمخلوق لا للخالق.
قال الشيخ حفظه الله:
[بقارئ في صوته أو حرفه كل وما لاق به من وصفه]
جل الله أن نمثله بقارئ في صوته أو حرفه، فقارئ كلام الله ليس هو المتكلم الأول بالكلام، وليس كلامه كتكلم المتكلم الأول بالكلام، بل القارئ يتكلم على حسب حاله وما يليق به، والخالق كلامه على حسب ما يليق بجلاله وعظمته، فلا يمكن تمثيله به ولا تشبيه أي شيء من صفاته بشيء من صفات المخلوقين كما هو الحال في ذاته كما سبق؛ لذلك قال:
(بقارئ في صوته أو حرفه كل وما لاق به من وصفه)
كل من الخالق والمخلوق كما لاق به من وصفه، فصوت المخلوق وحرفه من صفات المخلوقين على ما يليق بهم، وصوت الله سبحانه وتعالى وكلامه على ما يليق بجلاله وعظمته.
[فنحن حين ننشد الآن قفا نبك وقد أودى بمنشيها العفا
لسنا بمجتري هواء نفثه أو محدثين عين ما قد أحدثه]
هذا مثال يبين الأمر جداً؛ فإذا كان الاختلاف بين كلام المخلوقين بهذه المنزلة، فكيف بالاختلاف بين كلام الخالق والمخلوق! فالمخلوقون يتكلمون وكلامهم متفاوت بشكل عجيب! فأصوات الفيل لا تشبه أصوات الإنسان، بل هي متنافية معه، وأصوات بعض الناس لا تشبه أصوات بعضهم، فبعض الناس خشن الصوت وبعضهم مليح الصوت، وبعضهم مرتفع الصوت وبعضهم منخفضه، وبعضهم رخيم الصوت وبعضهم أبح، فأنواع الناس في الكلام متباينة، وأصواتهم متفاوتة، وإذا كان المخلوق لا يشبه المخلوق في الصوت، فكيف يشبه بكلام الخالق سبحانه وتعالى أو بصوته؟!
مثَّل هنا مثالاً فقال: من قرأ قصيدة قالها شاعر سابق، هل معناه أنه يأخذ الهواء الذي نفثه ذلك الشاعر، فيسكنه هو في رئته ثم يضغط عليه كما ضغط عليه الشاعر حتى يخرج الصوت كما هو؟! الجواب: لا، فنحن حين ننشد الآن قصيدة امرئ القيس التي قالها قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عام:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لا نأخذ الهواء الذي نفثه ونعيده كما فعل هو
ومعنى (أودى): أهلك، (منشيها) أي: امرئ القيس الذي أنشأها، (العفاء): وهو التغير والانعدام.
(لسنا بمجتري هواء نفثه) أي: حين ننشدها، فليس معنى أننا نحاكيه بإنشاده أن نأخذ الهواء الذي نفثه ونعيده نحن حتى نخرجه مرة أخرى كما أخرجه هو.
(أو محدثين عين ما قد أحدثه) أي: ولسنا أيضاً محدثين عين ما قد أحدثه هو بالضغط على نفس الطريقة كما ضغط هو.
[ وذاك من كيفية إن صرفه ما بين حلق ولهاة وشفه ]
(من كيفيةٍ إن صرفه) معناه: حين صرف ذلك الهواء
(ما بين حلق ولهاة وشفه): وهذه هي أصول مخارج الحروف، فإذا كان الفرق واضحاً فيما بيننا، فكيف يكون الفرق بين صفاتنا وصفات الخالق سبحانه وتعالى؟!
ونحن نعلم أن ضرب الأمثلة لله سبحانه وتعالى منهي عنه بقول الله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:74] ، ولكن ضرب المثل المنهي عنه هو: القياس المثلي.
وأما قياس الأولى: فيجوز ضربه له؛ لأنه ضربه لنفسه في عدد من الآيات كقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً[الزمر:29] ، وقال تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ[النحل:71] فهذا يقتضي جواز هذا النوع من الأقيسة وهو قياس الأولى لا قياس المماثلة، فلذلك قال: (لا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ)، فهذا ممنوع في قياس المماثلة، لكنه يجوز في قياس الأولى.
(ولا تصغوا لمن عطل أو من مثل)
(لا تصغوا) من صغى بمعنى: مال، (لمن عطل) صفات الله أو أسماءه، ومعناه: نفى معانيها وجعلها ألفاظاً لا تدل على شيء، فهؤلاء هم المعطلة، (أو من مثل) وهم المشبهة الذين شبهوه بخلقه وضربوا له مثلاً على وجه المماثلة سواء صرحوا بذلك أو نفوه؛ لأن المعطلة أيضاً مشبهة من وجه آخر، فالمعطلة يشبهونه بالمعدومات، والممثلة يشبهونه بالموجودات، وكلا الأمرين فيه تشبيه في الواقع، لكن هؤلاء تشبيههم منفي، وهؤلاء تشبيههم مثبت، والجميع منهي عنه؛ فلذلك قال: (ولا تصغوا لمن عطل) فشبهه تشبيهاً بالنفي الذي ليس فيه أي تنزيه ولا أي إثبات لصفات الكمال، (أو من مثل) حيث شبهه بخلقه تعالى الله عن ذلك، فكلاهما زالق في هذا الباب.
[كلم موسى بكلامه اتخذ خليلاً إبراهيم مَن أوَّل شذ]
يقول: إن أبلغ الأدلة على أن الكلام اللفظي كلام الله وليس دلالة على كلام الله أو دلالة على ما يدل عليه كلام الله: أنه كلم موسى بكلامه، فهذا الكلام قطعاً صفة ذاته لا خلق من خلقه؛ فلذلك قال: (كلم موسى بكلامه) وقد صرح بذلك في كتابه فقال سبحانه: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً[النساء:164] وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ[الأعراف:143] وهذا تشريف وتفضيل لموسى عليه السلام حيث اجتباه الله برسالاته وبكلامه، وهذا الاجتباء قال أهل العلم: يحصل للإنسان به من الشرف الدنيوي سعادة الدنيا؛ لأن سعادة الآخرة: هي إدراك الإنسان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسعادة الدنيا: هي منتهى اللذة بحيث تنقطع عنه كل آلامه، ويصل إلى أقصى آماله، فهذا يحصل بتكليم الله عز وجل.
لكن قالوا: إن أهل الإيمان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا قرءوا القرآن بتدبر وصلوا إلى هذه السعادة، فإنهم يعلمون أن الله يخاطبهم فيقول: (يا أيها الذين آمنوا) فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله بيديك، فيشعرون أن الله يخاطبهم وأنهم داخلون في ذلك، وإذا سمع أحدهم قول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ[الزمر:53] يقول: لبيك اللهم لبيك! ويعلم أنه داخل في هذا الخطاب وأن الله وجه إليه هذا الكلام، فينال في ذلك لذة وسعادة عجيبة تقضي على كل شيء بعلمه أن الله يخاطبه ويكلمه.
فالمزية التي يغبط عليها موسى عليه السلام: أن الله كلمه، ويحصل المؤمن على مستوى منها حين يعلم أنه داخل في خطاب الله له حين كلمه.
ثم قال: (اتخذ خليلاً إبراهيم): وهذه صفة أخرى وهي اتخاذ إبراهيم خليلاً، وقد أثبتها الله لنفسه في قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً[النساء:125].
وهذا تشريف عظيم لإبراهيم عليه السلام حيث اتخذه الله خليلاً، فخالط قلبه حب الله سبحانه وتعالى فتخلله حتى لم يبقِ فيه محلاً لشيء آخر.
ومعنى الخلة: أن تتخلل المحبة القلب حتى لا تدع فيه محلاً لأي شيء آخر، فإبراهيم قد ملأ قلبه حبُّ الله فلم يبقَ فيه محل لولد ولا أهل ولا وطن ولا أي شيء آخر، فخرج عن أقاربه جميعاً متجهاً إلى الله، وهاجر في ذات الله عز وجل، وقال: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي[العنكبوت:26] ، وترك أمته وولده بمكة في واد غير ذي زرع، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.
ولما أوحي إليه بذبح ولده قال: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ[الصافات:102] ، فلم يُبقِ في قلبه مكاناً لمحبة أي شيء غير محبة الله سبحانه وتعالى، فاستحق بذلك جائزة كبرى هي: الخلة، فاصطفاه الله من خلقه خليلاً.
وهذه الخلة أيضاً أعطاها الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد اتخذه الله خليلا، فقد ثبت عنه أنه قال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله).
وخلة الله هي أعلى منازل العبادة، ولم تثبت إلا لرجلين فقط: إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم.
قال: (مَن أوَّل شذ) أي أن هذه الصفات كلها من أوَّل شيئاً منها شذ، أي: انحاز عن الطريق المستقيم، والشذوذ معناه الانفراد عن الجادة، يقال: هذه الدابة شاذة نادة، أي تهرب عن البهائم ولا تسير معها في طريقها.
[فالله لم يسكت على ما أوهما حدوثاً أو نقصاً له بل أفهما]
يقول: إن التأويل إنما يحتاج إليه عندما تقتضي الصفة نقصاً، فإذا كانت الصفة لا تقتضي نقصاً فإنه لا يحتاج إلى هذا التأويل، أما إذا كانت الصفة بذاتها تدل على النقص فإن الله لا يتركها دون تأويل، بل لابد أن يرِدَ تأويلها بالوحي، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (عبدي مرضت فلم تعدني؟ فقال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فقال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده) ومثله بقية الحديث: (استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي) وهكذا؛ فلذلك قال:
(فالله لم يسكت على ما أوهما حدوثاً أو نقصاً له بل أفهما): فكل ما يوهم حدوثاً أو نقصاً لا يمكن أن يقر دون تأويل، بل يجب تأويله بالنص، فالله لم يسكت على ما أوهم حدوثاً أو نقصاً له، بل أفهم معناه وبين مراده بقوله: (مرضت فلم تعدني) في هذا الحديث، وكذا في (جعت) وهي رواية من روايات الحديث، والرواية المشهورة المعروفة هي: (استطعمتك فلم تطعمني) وفي رواية أخرى: (جعت فلم تطعمني)، وهي مؤولة بنفس التأويل؛ لأنه ذكر: (أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدتني عنده أو لوجدت ذلك عندي).
وبهذا نكون قد انتهينا من توحيد الصفات ووصلنا إلى الكلام في الأسماء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر