بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن من ألطاف الله تعالى ونعمته ورحمته أن جعل للناس لساناً يتفاهمون به، فإن الناس يحتاج بعضهم إلى بعضٍ، ولا يمكن أن يقوم أحدٌ منهم بحاجته دون بعض، ولا يمكن أن يستقل إنسان بقضاء أموره، ولا بأداء مهماته، إلا إذا وجد من يساعده على ذلك.
ومن هنا فيحتاج الناس إلى التفاهم فيما بينهم والتعارف، فجعل الله لهم وسائل للتعارف، ومن أعظمها الأنساب، حيث قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13] .
وجعل لهم وسائل للتفاهم، وأعظمها اللغات، ولهذا ربط الله بين الألوان واللغات، وبين خلق السماوات والأرض في قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ[الروم:22] .
البشر لا يمكن أن يتفاهموا إلا عن طريق وسائل الحس، وهي الحواس الخمس؛ لأن وسائل العلم لدى الإنسان ثلاث هي: العقل، والروح، والحس:
والعقل لا يمكن أن يتفاهم عن طريقه؛ لأنه من الأمور المعنوية غير الحسية.
والأرواح يمكن أن تتعارف، لكن لا يمكن أن تتفاهم، ولهذا حصل التعارف بينها في عالم الذر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري تعليقاً في الصحيح، وأخرجه مسلم مسنداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
لكن التفاهم إنما يتم عن طريق إحدى هذه الحواس، وهذه الحواس مدركاتها هي المسموعات والمبصرات، والملموسات، والمشمومات، والمذوقات.
وقد جعل الله تعالى أصناف الحيوان تتفاهم عن طريق هذه الوسائل، فمن الحيوانات ما يتفاهم عن طريق إفراز رائحةٍ يحصل بها التفاهم والتعارف بفطرة الله لها على ذلك، كالنحل وغيره من الحيوانات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق السمع، وما يمكن تفاهمه عن طريق البصر بالإشارات والحركات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق اللمس، لكن الذوق لا يمكن أن يحصل التفاهم عن طريقه؛ لأن الطعوم محصورة، وقد صرح العلماء بأن أنواع الطعوم خمسة هي: الحلاوة، والمرارة، والمزية، والملحية، والتفاهة، فهذه خمس هي أصل الطعوم كلها.
أما المرئيات المشاهدات، وكذلك المسموعات، فهي كثيرة جداً يمكن التفاهم عن طريقها، وبهذا تخلص لنا جارحتان للتفاهم فيما بين الإنسان فالتفاهم بين بني آدم لا يتم إلا عن طريق السمع، أو عن طريق البصر.
أما عن طريق السمع فإنهم بالإمكان أن يسمعوا الكلام، وأما عن طريق البصر، فإنهم بالإمكان أن يقرءوا الكتابة، وأن يفهموا الإشارات، وهاتان الوسيلتان يمكن أن تفي بمقصود الإنسان، لكن جعل الله بعض بني آدم عمياً وجعل بعضهم صماً، فالعميان لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق البصر مع غيرهم، والصم لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق السمع مع غيرهم، فبقي التوازن بين هاتين الحاستين، لكنه جعل الزمن أيضاً مقسوماً بين ليل ونهار، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، وبذلك ازدادت نسبة العميان في البشر بوجود الليل، فكان التفاهم عن طريق السمع أقوى وأوسع من التفاهم عن طريق البصر، ومن هنا جعل الله هذه اللغات هي أساس التفاهم بين الناس.
وقد علم الله آدم الأسماء كلها كما أخبر بذلك في كتابه: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا[البقرة:31] ، وهذا التعليم اختلف فيه الناس هل كان عن طريق الوحي والتوقيف، أو كان عن طريق الإلهام والإلقاء؟ وكل ذلك ممكن، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، لكن اتفق الناس على أن ما يتجدد من دلالات الألفاظ، وما يطرأ من المجازات، إنما هو عن طريق الإلهام، ويضع الله القبول على بعض المصطلحات، فتشيع بين الناس.
ومن هنا فكل جديد يطلق الناس عليه عدة أسماء باعتبار أذواقهم، ولكنه سيثبت له اسم واحد يضع الله له القبول بين غيره من الأسماء، فمثلاً: عندما صنع أول جهاز (كمبيوتر) في الولايات المتحدة في جامعة (بنسلفانيا) سمي في البداية النظامة، ثم سمي الرتابة، ثم سمي الحاسوب، ثم سمي بالحاسب الآلي، ثم سمي بعد ذلك بالعقل الإلكتروني، وهذه الأسماء كلها لبعض وظائف هذه الآلة، لكن بتطور الزمان وبتطور الدلالات، لابد أن يثبت اسمٌ واحدٌ لهذه الآلة يكون اسماً عالمياً مشهوراً.
وكذلك لما طرأت آلة الفاكس للإرسال الكتابي عن طريق الاتصالات الهاتفية، إما عن طريق الكيبلات، أو عن طريق الأقمار الصناعية، أو عن طريق الألياف الزجاجية، سميت في البداية بـ(الناقل)، ثم سميت بـ(الهاتف الكاتب)، ثم سميت بعد ذلك بـ ( الكاتوب )، وغيرها من المصطلحات، فبتطور الزمان سيختار اسمٌ واحدٌ يضع الله له القبول وينتشر بين الناس.
لا شك أن البشر متنوعون في الأذواق وفي البيئة، وفي أنماط الحياة، وبسبب ذلك تنوعت لغاتهم واختلفت، وقد نص العلماء على أن الله تعالى علم آدم اثنتين وسبعين لغة، وهي أصول لغات العالم، وهذه اللغات أصلها أربع فقط، ومنها تتشعب بقية اللغات كلها، حتى تصل إلى العدد الموجود اليوم.
ففي الهند وحدها أربعمائة وخمسون لغة! وهي دولة واحدة، وهذه اللغات بعضها يكون مشتقاً من بعض بالتداخل، كحال اللغة الفارسية مع اللغة البشتونية، واللغة الأوردية كذلك مع الفارسية ومع العربية، واللغة التركية كذلك مع اللغة العربية في التداخل في كثير من المفردات.
وكذلك فإن بعض اللغات يكون قابلاً للتطور بسرعة هائلة، فتتجدد دلالاته ومصطلحاته، ومن ذلك اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية إلى حد ما فإن ألفاظها تتناقل وتتجدد، ومن هنا فنسبة (10%) من اللغة الفرنسية هو من الكلمات المنقولة، إما من اللغة الإغريقية أو من اللغة الرومانية، أو غيرها من اللغات، حتى من اللغة العربية.
لكن هذه اللغات، سواء كانت توقيفية أو كانت إلهامية، فإن كل ذلك يرجع إلى الاختيار الرباني، والاصطفاء الإلهي، والقبول الذي يضعه الله للكلمات حتى تتناسب مع الأذواق، فالحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته ووصف الكمال والنقص أمرٌ عقلي، وبمعنى ترتب الثواب والعقاب عاجلاً أو آجلاً أمر شرعي، ومن هنا حصل الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يتعلق بالتحسين والتقبيح، والخلاف ينبغي أن يكون لفظياً؛ لأن الحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، لا شك أن هذا راجع إلى العقل، أما الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب، فهذا شرعيٌ قطعاً لا بد فيه من وحي، فالخلاف يمكن أن يرجع إلى خلاف لفظي ولا تترتب عليه أحكام كثيرة.
وإذا كان الأمر كذلك، وكان الأمر راجعاً إلى أن الله سبحانه وتعالى يضع القبول على بعض الكلمات، فتناسب أذواق أكبر عدد من البشر، فإن اللغة العربية قد اصطفاها الله على غيرها من اللغات، وشرفها على غيرها من اللغات، وتكلم بها سبحانه وتعالى بهذا القرآن الذي تحدى الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سورة في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات، وقد تحدى الله الثقلين الإنس والجن على مر الدهور، أن يأتوا بسورة من مثلها، وقد وجدت كثير من المحاولات، وباءت كلها بالفشل؛ بل إن تلك المحاولات إذا سمع العقلاء بعضها ضحكوا واشتد هزؤهم منها، كمحاولات مسيلمة الكذاب ، فهي غاية في السخافة، وعدم الانسجام، وذلك أنه اتجه إلى اتجاه واحد، وهو تركيب الألفاظ دون النظر إلى الإعجاز المعنوي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، وغيرها من أنواع الإعجاز التي جعلها الله في القرآن.
إذاً: اختيار هذه اللغة هو اختيار رباني بوحي من عند الله سبحانه وتعالى، واصطفاء منه، لا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولو جاء الناس فصوتوا وجاءت أغلبيتهم على رفض هذه اللغة؛ فإن ذلك لا يقلل نفوذها، ولا يقلل القبول الذي جعل الله لها؛ لأنه اصطفاء من عند الله لا يستطيع الناس رفضه ولا تجاهله، ومن هنا فإن الغربيين الذين يفخرون بلغاتهم، ويزعمونها اللغات العالمية المسايرة لتطور العالم، لا يزال فيهم من مثقفيهم وقادتهم وعلمائهم من يتخصص في دراسة اللغة العربية، ويخصص وقته لها.
وفي العصر الماضي اشتهر عدد كبير من هؤلاء، مثل بروكلمان، ومثل يوسف شخت من كبار المستشرقين الذين عنوا باللغة العربية، ونشروا كثيراً من مخطوطاتها، ودرسوها وحفظوا كثيراً من أشعار العرب، وصرح كثير منهم بأن هذه اللغة لا تعدلها أي لغة، وأذكر أننا في العام الماضي قابلنا أحد المستشرقين الكبار في جامعة في سكوتلاند في شمال بريطانيا، فذكر أنه قد خلد شهادته بأن اللغة العربية لا تعدلها لغة ولا تساويها في السمو والارتقاء، ولا في الذوق، ولا في الاتساع، وأنه كتب هذه الشهادة في جامعته وخلدها قبل ثلاثين سنة، وهذا كلام الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء.
إننا في بحثنا في أهمية أي شيء ننظر فيه من ناحية الحكم الشرعي، ثم من ناحية الفائدة والمصلحة البشرية، فلنبدأ أولاً بحكم الشرع في لغة العرب، وتعلمها فنقول:
إن الله سبحانه وتعالى قد فرض على كل من آمن به تعلم جزء من العربية، وبهذا تكون العربية فرض عين على كل إنسان بقدر ما يقيم به ألفاظ الفاتحة، وبقدر ما يتقن به التكبير والتشهد والسلام في الصلاة، فهذا القدر من العربية فرض عين على كل مسلم، ولا يسع مسلماً جهله.
وهذا القدر اختلف الناس في تحديده؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ[المزمل:20] ، والناس تتباين رؤاهم في تحديد هذا القدر الذي هو أقل ما يخاطب به الإنسان من تعلم العربية، فقال قوم: لا بد أن يصل إلى مستوى يفهم به ألفاظ الفاتحة، وألفاظ التشهد، وألفاظ الدعاء المأمور به على سبيل الوجوب، وكذلك ألفاظ الأذكار التي تجب مرة في العمر بالتهليل والاستغفار، والتسبيح والتحميد وغير ذلك، فيجب عليه أن يتعلم معانيها بالعربية، وهذا القول هو الراجح، ومن القائلين به مالك و الأوزاعي و سفيان الثوري ، وغيرهم من كبار علماء السلف، فرأوا أنه يجب على الإنسان المسلم أن يتعلم معاني هذه الكلمات؛ لأنه لو قال: لا إله إلا الله دون أن يفقه معناها، فيمكن أن تلقن هذه الكلمة لأي إنسان، ولا يلزم بمقتضياتها، ولذلك فإن شهادة أن لا إله إلا الله لها أربع مقتضيات، من لم يحقق هذه المقتضيات الأربع فليس شاهداً أن لا إله إلا الله:
فالمقتضى الأول: هو العلم بمعناها.
والمقتضى الثاني: هو مقتضى القول: أن ينطق بذلك؛ لأنها مشروطة على القادرين، فلا يدخل الإنسان الإيمان وهو قادر على النطق إلا إذا نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
المقتضى الثالث: هو أن يلتزم بحقوقها التي يقاتل عليها من تركها: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها).
المقتضى الرابع: هو الإلزام بها، وهو أن يسعى الإنسان لنشر لا إله إلا الله، وتوسيع دائرة القائلين بها، وإلزام الناس بها.
فهذه المقتضيات الأربع هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وقد توسع بعض المتأخرين من المتكلمين في هذا الباب، فقد ذكر عليش في شرحه لأم البراهين في العقائد الأشعرية للسنوسي : أن من لم يفهم ما تتناوله شهادة أن لا إله إلا الله من العقائد، وهو خمسٌ وستون عقيدة على مقتضى عد المتكلمين؛ فإنه لم يؤد مقتضياتها.
وهذا تشدد ومبالغة لا محالة، ولكنه يدلنا على أهمية فهم شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا كان بعض أهل العلم يرون أنك إذا لم تحقق مقتضياتها جميعاً وهي خمسٌ وستون عقيدة، فمعنى ذلك أنك لم تفهمها؛ فهذا يدلنا على أهمية تعلم اللغة التي يفهم بها معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وإن الذي يدعو وهو لا يفهم ما يدعو به، أو يثني على الله وهو لا يفهم معنى ما يثني به، لا يمكن أن ينال أجر ما يقول؛ لأن الصلاة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليصلي الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها...) ، حتى انتهى إلى العشر؛ لأنه لا يكتب له منها إلا ما عقل ووعى، ومن هنا فإن على الإنسان أن يتفهم ويتدبر ما يقول، ولهذا قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29] ، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24] ، وهذا الخطاب ليس للعرب وحدهم، بل لجميع من آمن بهذا القرآن.
ونحن مع القول الأول المسهل الذي يقتضي أقل نسبة، وهي ما يكون الإنسان به فاهماً لمقتضى ما يقول من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومحباً لما سوى ذلك، وعالماً أنه كلام الله، ومصدقاً به على سبيل الإجمال، لا على سبيل التفصيل.
فهذا القول لاشك أنه أسهل وأيسر، وهو الراجح من ناحية الاستدلال، لكن مع هذا لا نهمل الأقوال الأخرى، ولا نعتدي على أقوال أهل العلم، فلهذا لا بد أن يعلم كل إنسان أن من واجباته العينية أن يتعلم جزءاً من العربية، يفهم به معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ويقيم به حروف الفاتحة ويفهم معاني ألفاظها، ويقيم به حروف ألفاظ التعبدات في الصلاة، وغيرها من الواجبات العينية، فهذا القدر لا خلاف في وجوبه.
المرتبة الثانية: هي ما يتعلق بفروض الكفايات من العربية، فقد افترض الله على المسلمين تعلم علوم العربية على سبيل الكفاية، فإذا قام به من تحصل به إقامة الحجة على الناس كفى ذلك، وهذا داخل في عموم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ[النساء:135] .
فلا يمكن أن يكون الإنسان شاهداً لله إذا لم يكن فاهماً لما يشهد به؛ لأن العلم شرط في الشهادة؛ لقول الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81] ، ولقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86] .
وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد فيه ضعف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أترى الشمس إذا طلعت؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهد أو دع).
ومن هنا فلا يمكن أن يشهد الشاهد بما لا يعلمه ولا يفهمه، ولا بد أن يكون الإنسان فاهماً لما يشهد به حتى تقبل شهادته على ذلك، والله تعالى جعل هذه الأمة شاهدة على الناس، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143] .
ولا يمكن أن تتم الشهادة على الناس إذا كنت لا تفهم ما تشهد به، وليس هناك وسيلة للاطلاع من خلالها على أحوال الناس، وما كذبوا به أنبياءهم إلا القرآن، والقرآن بلسان عربي مبين، فإذا لم تفهم هذا فلا يمكن أن تكون شاهداً على الناس، فإذا جاء نوح يوم القيامة يخاصمه قومه، فقالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقال: بلى، قد مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فإذا كنت لا تفهم الآيات التي جاءت في قصة نوح، فلا يمكن أن تكون من الشهداء على هذا؛ لأن الشهادة من شرطها العلم.
وفروض الكفاية في اللغة العربية هي بتعلم علومها الأساسية، وعلومها الأساسية هي أربعة عشر علماً، وهي كلها داخلة في فروض الكفاية، وإذا لم يكن في الأمة من يعلمها حصل الإثم على أفرادها جميعاً، وإذا كان فيها في كل بلدٍ من يعلم هذه العلوم بقدر رد الشبهات، وإجابة الأسئلة المتعلقة بالقرآن والسنة، سقط الإثم عن الجميع.
وفرض الكفاية قد اختلف العلماء: هل هو أفضل أم فرض العين؟ ولذلك قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:
فرض الكفاية مهم يقصد ونظر عن فاعل يجرد
وذهب الأستاذ والجويني ونجله يفضلُ فرض العين
وهو على كل رأى الجمهور والقول بالبعض هو المنصور
فقيل مبهم وقيل عُيِّنَ وقيل من قام به ........
فعلى هذا: هذه العلوم الأربعة عشر لابد أن يكون في كل حاضرة من حواضر المسلمين من يعرف منها ما يرد به الشبهات، ويجيب به الاختلافات التي يوردها الناس على الكتاب والسنة.
وهذه العلوم هي:
علم النحو: وهو أقدمها وأشرفها، ومرجعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو واضعه حيث كتب لـأبي الأسود الدؤلي رحمه الله كتابه، وكان منطلق هذا العلم.
وهذا العلم به إقامة الكلم ومعرفة التركيب، كما قال ابن مالك رحمه الله في كافيته:
وبعد فالنحو صلاح الألسنه والنفس إن تعدم سناه في سنه
فمن لم يعرفه لا يمكن أن يفهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] ، ولا أن يفهم (لا إله إلا الله)، ولذلك من لا يعرف جزئياته ولا يستطيع إجابة مسائله؛ لا يمكن أن يفتي الناس في كثير من مسائلهم الفقهية.
ولذلك حصلت مسألة عجيبة في تاريخ هذه الأمة عرضت على عدد من كبار أهل العلم، فأحجم عنها معظمهم، حتى جاء أهل اللغة، وهم الذين استطاعوا أن يحلوا إشكالها، وذلك في قول الشاعر:
فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ ومن يخرق أعق وألأم
أو: وأشأم
فهذا البيت يمكن أن يقرأ على أوجه متعددة:
فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ...
أو:
فأنت طلاق والطلاق عزيمةٌ ثلاثاً...
ويختلف المعنى والحكم الفقهي باختلاف الشكل، فإذا قال:
فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةٌ ثلاثاً...
فإنه لا يلزم إلا طلقة واحدة، وإذا قال:
فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةً ثلاث...
فإن ذلك ملزم لثلاث طلقات. ومثل هذا كثير.
وقد حصل للقرافي رحمه الله في قول الشاعر:
ما يقول الفقيه أيده اللـ ـه ولا زال شأنه يزدان
في فتىً علق الطلاق بشهر قبل ما قبل قبله رمضان
أو: بعدما بعد بعده رمضان.
فقال: في هذين البيتين مائتان وخمسون مسألة علمية! وكل ذلك راجع ٌ إلى شكل هذين البيتين، وما يتعلق بهما وما يؤخذ منهما من دلالات الألفاظ.
وقد حصل للشاطبي رحمه الله قصة أخرى مع شيخه ابن الفخار أثبتها في كتابه "الإفادات الإنشادات" فيقول: إن الشيخ ابن الفخار اجتمع عليه أهل الحديث ذات ليلة فحدثهم، ثم أراد أن يحمض لهم، والإحماض لدى أهل الحديث: أن يشهدهم قصة أو أدباً أو شعراً يزيل عنهم الملل، فسألهم عن معنى قول الشاعر:
رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين
كلانا ناظرٌ قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني
فلم يستطع أحد منهم أن يحل هذا الإشكال، ومنهم أبو إسحاق الشاطبي ، فسألوا الإمام ابن الفخار أن يشرح لهم البيت، فشرحه، وبين لهم أن القمر قمران: قمرٌ حقيقي وقمرٌ مجازي، فالقمر الحقيقي هو قمر السماء، والقمر المجازي هو الوجه، وهو المذكور هنا، وأن النظر كذلك إما أن يكون نظراً حقيقياً، أو يكون نظراً مجازياً، فعين البصيرة وعين البصر: وأن الرجل أراد ادعاءً أن يجعل الحقيقة مجازاً وأن يجعل المجاز حقيقة، فقال:
رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين
كلانا ناظرٌ قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني
فعينها عين الحقيقة، وقد انقلبت إلي فكنت أنا ناظراً بعين الحقيقة وهي التي تنظر بعين المجاز.
فمن لم يكن عارفاً بما يفهم به مثل هذا من اللغة العربية، سيقع في إشكالات لا نهاية لها.
وكذلك فإن لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في كتابه: "الإحاطة في أخبار غرناطة" ذكر الإشكالات التي يقع فيها الموثِّقُون والقضاة عندما يكتبون الأحكام ويوثقونها، فكثيراً ما يكتبون ألفاظاً لا تفهم أو لا تؤدي المعنى، أو تكون أوسع مما قاله القائل، وبذلك يقولون على القائل ما لم يقله، ويكتبون عليه ما لم يشهد به، فيقعون في شهادة الزور من حيث لا يشعرون، وذلك لنقص فهمهم للعربية.
ومثل هذا في رواية الحديث، فإن كثيراً من أهل الحديث يروون الحديث بالمعنى، وهي مسألة خلافيةٌ الخلاف فيها مشهور قديم، لكن المشكلة أن بعضهم يلحن في روايته، وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن اللاحن في الحديث أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يقل عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)، وهو لا يلحن قطعاً، فمن قال عليه باللحن فقد قال عليه ما لم يقل، وبهذا يكون أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يُعلم خطر التكلم في العلم إذا لم يكن الإنسان صاحب لسان يمكن أن يعبر به أو أن يروي به.
ومثل هذا في القراءة، فإن إقامة قراءة القرآن إنما تكون بما وافق وجها نحوياً، ولذلك قال ابن الجزري رحمه الله:
وكل ما وافق وجه النحو وكان للرسم احتمالاً يحوي
وصح إسناداً هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان
ولذلك فالذين يلحنون في القراءة أو في الحديث كان ذلك جرحاً فيهم لدى كثير ممن سواهم؛ بل اقتضى نبذ روايتهم لدى أكثر أهل العلم، ومن هنا فعدد من الذين تكلم فيهم ما دفعوا عن ثقة ولا عن ضبط، وإنما تكلم فيهم من جهة اللحن؛ كـأبي عبد الله بن عدي الحافظ صاحب الكامل، فقد كان يلحن، فتكلم كثير من أهل العلم في روايته بسبب اللحن، مع أنه إمام ضابط حافظ عدل ثقة، لكن تُكلم فيه من جهة اللحن فقط.
ومثل هذا ما حصل لليث بن أبي سليم ، مع أنه عدل، لكنه كان يلحن، ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:
ينادي ربه باللحن ليثٌ لذلك إن دعاه لا يجيب
فتكلم فيه بعض الناس من قبل اللحن الذي يقع فيه فقالوا: لا يوثق بروايته للحنه فيها.
واللحن يقلب المعنى كثيراً، ولذلك فإن أبا الأسود حين كلمته ابنته فقالت: ما أشدُّ الحر؟ قال: أيام ناجر. قالت: أنا متعجبةٌ لا مستفهمة. قال: ما هكذا تقول العرب، هي أرادت: ما أشدَّ الحرَّ! فقالت: ما أشدُّ الحر.
ومثل هذا ما حصل للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين عندما أتاه أعرابي فسأله فقال: ما شانك؟ فقال: فدعٌ في رصفي وعورٌ في عيني، فقال له عمر بن عبد العزيز : الأمير يريد ما شأنُك؟ فقال: جئت ممتاراً لأهلي. فسأله عمن معه ولحن في ذلك، ثم سأله حين أخبره أن معه ختنه فقال: ومن خَتَنَك؟ يقصد: ومن ختْنُك؟ فقال: حجام كان معنا في البادية. فقال له عمر بن عبد العزيز : الأمير يريد: ومن ختْنُك؟ ومثل هذا في اللحن كثير.
ويقال: إن عمر بن عبد العزيز حين كان بالمسجد والوليد يخطب فقال الوليد : (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ)، بالرفع، فقال عمر : وددتها والله. ود لو مات عندما قرأها هكذا!
ولذلك فإن سبب قراءة سيبويه للنحو: أنه في البداية اشتغل برواية الحديث، ولكنه قرأ: (ما من أصحابي إلا من شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء )، فقرأها هو: ليس أبو الدرداء ، فلحنه أصحابه وهزءوا به، فعدل عن قراءة الحديث وذهب حتى تمرس باللغة، وألف الكتاب، ثم بعد ذلك روى الحديث.
ولذلك فإن مالكاً رحمه الله قد درس النحو على الخليل بن أحمد ، فجلس عنده أسبوعاً يلازمه حتى أتقن النحو فيه.
والشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة هذيل، وحتى حفظ عشرين ألفاً من أشعارهم، ونحو هذا كثيرٌ جداً في حال سلفنا، فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم، ولا أن يُفتي في كثير من المسائل.
ثم بعد النحو علم مفردات اللغة:
وهو العلم الثاني في الأهمية، فهذه اللغة العربية ليست مثل غيرها من اللغات، بل لها كثير من المفردات المتداخلة، بعضها يجمعها جذر واحد، وبعضها تختلف في الجذر، وبعضها يعرف في بعض المناطق دون بعض، والقرآن الكريم قد اختير من خير هذه الكلمات والمفردات، واختار الله له أفضل التعبيرات، ولذلك يأتي التعبير تارة بلغة حمير لغة أهل اليمن، وتارة بلغة أهل نجد، وتارة بلغة أهل الحجاز، فيختار من كل لغة أفصحها وأدقها معنىً وأحسنها ذوقاً، حتى يتكامل ذلك ويكون جميعاً من اللغة العربية المختارة.
والذين يزعمون أن القرآن جاء بلغة قبيلة واحدة من العرب يغلطون في هذا، ويرد عليهم الاعتراض، وقد جاء أحد النحويين من أهل اليمن فكان في مجلس الخليفة هارون الرشيد ، فأخبره أن القرآن نزل بلغتهم، وبدأ يسرد بعض الكلمات التي لا تعرفها قريش وهي في القرآن من لغة أهل اليمن، ويذكر شواهدها، فلما أطال كان بحضرته أحد القرشيين، فقال: أسمعت ما يقول هذا اليماني؟! قال: لا أدري ما يقول، غير أن الله تعالى يقول في كتابه: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ[نوح:7] ، ولم يقل: جعلوا شناترهم في صناراتهم! وهذه لغة أهل اليمن، الشناتر: الأصابع، والصنارات: الآذان.
فالله تعالى يختار من الكلمات ألطفها وأقربها للذوق الصحيح السليم، سواء كانت من لغة أهل اليمن، أو من لغة أهل الحجاز، أو من لغة أهل نجدٍ أو غيرهم.
ومن لم يعرف مفردات اللغة لم يحل له الكلام في التفسير ولا التفهم فيه ولا التدبر في كثير من الكلمات، بل إن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتورعون من الكلام في بعض الكلمات التي جاءت في القرآن إذا لم تكن من لغتهم ولم يعرفوا دلالاتها ومدلولاتها، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في القرآن ما لا أعلم!).
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في مجلسه فأتته امرأة من أهل اليمن تستعديه على زوجها، فقالت: يا أمير المؤمنين! إن بعلي عبد حقي، وترك الوصيد رهواً، ولي عليه مهيمنٌ، فهل لي عليه من مسيطر؟ فقال: لم أفهم ما تقولين. فقال ابن عباس : كلمات كلهن في كتاب الله، إن بعلي، أي: زوجي قال تعالى: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا[هود:72] ، عبد حقي، أي: تركه وضيعه، قال تعالى: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ[الزخرف:81] أي: التاركين لعبادة ذلك الولد، وترك الوصيد رهواً، الوصيد: الباب، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ[الكهف:18] ، رهواً، أي: مفتوحاً، قال تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ[الدخان:24] ، ولي عليه مهيمنٌ، أي: شاهدٌ قال تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ[المائدة:48] ، فهل لي عليه من مسيطر؟ أي: حاكم، قال تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ[الغاشية:22] .
فاستشهد ابن عباس على أن الكلمات التي أطلقتها هذه المرأة كلها في القرآن، ففهم عمر دلالاتها وأعداها على زوجها.
ونظيرُ هذا ما حصل لـابن عباس رضي الله عنهما مع نافع بن الأزرق أمير الأزارقة من الخوارج، فإنه أتاه من العراق يسأله عن تفسير كلمات من مفردات اللغة العربية في القرآن، فأطال عليه وأكثر، واشتهرت هذه المسائل فيما بعد بمسائل ابن الأزرق ، وهي تزيد على مائتي مسألة من المفردات القرآنية، منها مثلاً قوله: (عطاء غير ممنون) قال: ما معنى غير ممنون؟ قال: غير مقطوع، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري :
فترى خلفها من الرجع والـ ـوقع منيناً كأنه إهباءُ
وسأله عن عدة كلمات من هذا القبيل، وهو يذكر له شواهدها في اللغة، فبينما هو كذلك إذ ضجر به، فجاء عمر بن أبي ربيعة المخزومي ، فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر فأنشده قصيدته التي مطلعها:
أمن آل نعم أنت غادٍ فمُبكرُ غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّرُ
بحاجة نفسٍ لم تقل في جوابها فتبلغ عذراً والمقالة تُعذرُ
حتى أتى على آخر القصيدة وهي ثمانون بيتاً، فحفظها ابن عباس بهذه المرة الواحدة، فقال نافع : لله أنت يا ابن عباس ! نضرب إليك أكباد الإبل في طلب العلم فتعرض عنا! ويأتيك شابٌ حدثٌ من قريش ينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: ما سمعت سفهاً، فقال: بلى، أما سمعت قوله:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخسرُ
فقال: ما هكذا قال، وإنما قال:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصَرُ
ثم سأله عن قول الله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119] فقال: ما معنى قوله: وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:119] قال: تضحى: تبرز للشمس. قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: أما سمعت قول المخزومي بالأمس:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصَرُ
ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى بديوان العرب وحفظه، وكان يتعهد أشعار العرب، ويستمع إليها، ولهذا فإن حسان بن ثابت كان ينشد بعض أشعاره في المسجد، فكان عمر إذا أنشد حسان شيئاً من شعره في هجاء المشركين أو في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذن له، فإذا ذكر شيئاً من أشعاره في الخمر وأمور الجاهلية خرج عمر ، فمر به مرة وهو ينشد شعراً من أشعاره في أولاد جفنة من قصيدته اللامية التي يقول فيها:
أبناء جفنة حول قبر أبيهمُ قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبلِ
يسقون من ورد البريص عليهمُ بردى يصفق بالرحيق السلسلِ
بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأولِ
حتى أتى على آخر القصيدة، فغضب عمر من إنشادها، وكان جبلة بن الأيهم إذ ذاك قد تنصر وهرب إلى الروم، وأرسل بهديةٍ إلى حسان ، فامتدحه حسان بأبياتٍ يقول فيها:
إن ابن جفنة من بقية معشرٍ لم يغذهم آباؤهم باللومِ
لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا متنصراً بالرومِ
يعطي الجزيل ولا يجده عنده إلا كبعض عطية المذمومِ
وأتيته يوماً فقرب مجلسي وسقى فروّاني من الخرطومِ
فغضب عمر حين امتدح هذا الكافر، فقال له حسان : مه يا ابن الخطاب ! فقد كنت أنشده وفيه من هو أفضل منك، فما تعداها عمر .
وكذلك فإن عمر كان يسأل الشعراء ويقيم بينهم المفاضلة، فأتاه رجل من ذرية هرم بن سنان ، فسأله وقال: ما نحل جدك هرم زهير بن أبي سلمى؟ فقال: أعطاه أثواباً خلقت وأموالاً نفدت، قال: لكن ما كسا زهير أباك لا ينفد، فأنشده بعض مدحه فيه بقوله:
يطلب شأو امرأين قدما حسناً نالا الملوك وبذا هذه السوقا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ فمثل ما قدما من صالح سبقا
إلى أن يقول فيها:
بل اذكرن خير قيسٍ كلها حسباً وخيرها نائلاً وخيرها خلقا
القائد الخيل منكوباً دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا
غزت سماناً فآبت ضُمّراً خُدُجاً من بعد ما جنبوها بُدَّناً عُققا
فطرب عمر لهذه الأبيات، وأخبر أن ما كساه زهير ٌ هذا الرجل لا يخلق ولا يبلى.
وكذلك سأل عمر أحد الشعراء عن أشعر الناس، فجرى على عادة العرب أن يفضلوا من كان بينه وبينهم قرابةٌ ليفخروا بشعره، فقال: لا، بل أشعر العرب صاحب من ومن، يقصد به زهير بن أبي سلمى في حكمه التي قالها في آخر معلقته الميمية.
ومن لم يعرف مفردات هذه اللغة فكثيراً ما يلتبس عليه الكلام ولا يفهمه، وبالأخص في زماننا هذا الذي تداخلت فيه اللغات والحضارات.
ولا أزال أعجب من بعض المثقفين الذين يحاولون ترجمة القرآن إلى لغات أخرى، وهم لا يتقنون مفردات اللغة العربية فيقعون في أخطاء عجيبة! ترجم أحدهم القرآن بالفرنسية، وهو من المتبجحين بالمهارة في اللغات، لكنه في قول الله تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ[الزمر:75] ، فسر (حافَّين) بحافِينَ! وأن معناها: بلا نعال!
وكذلك حاول آخر ترجمة القرآن إلى الإنجليزية، فترجم قول الله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ[الإسراء:29] قال ما معناه: لا تجعل يدك مربوطةً إلى عنقك، ولا تبسطها بسطاً شديداً حتى تنخلع! فلم يفهم هذه المفردات، ومن هنا وقع في هذا الغلط البالغ، ونظيرُ هذا كثير جداً.
فكثيراً ما يقع الإنسان في إشكال وهو يتدبرُ آيةً من القرآن، أو يتفهم حديثاً، فيخطئ في فهمه خطأً بالغاً، ولهذا فإن الأولين لم يكن لديهم النقاط التي تميز الحروف، وإنما كانوا يميزونها بفطرتهم وذوقهم، فإذا قرأ الإنسان قرأ على السليقة فلم يخطئ، ولذلك يقال: إن الشافعي رحمه الله عندما أراد أن يحفظ القرآن وقد سمعه مرة واحدة، فأراد أن يراجعه فأخطأ في كلماتٍ في نقاط الحروف فقط، فقرأ قول الله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:37] قرأها: يعنيه. وهذا مناسب للذوق، وهو نفس المعنى، لكنه غير موافق للرواية، فكان ذلك خطأً.
ونحن اليوم قد فسدت أذواقنا اللغوية، فلم يعد أحد منا يستطيع أن يتكل على أشكال الحروف دون النقاط؛ بل منذ وضع الحجاج نقاط الحروف، واستعان في ذلك بـأبي الأسود الدؤلي ؛ اجتهد الناس في ضبط هذه النقاط والاعتماد عليها في التفريق بين الحروف، ولذلك اشتهر في المحدثين بعض المصحفين، واشتهرت رواياتهم بالتصحيف، حتى إن رجلاً قرأ حديثاً فيه: حدثنا فلان قال أخبرنا فلان.. إلى أن بلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عن رجل! فقال له أحد الحاضرين: ويلك! من الرجل الذي يحدث عنه ربنا عز وجل؟! فإذا هو صحف (عن الله عز وجل) فقرأها: عن رجل!
وقد قال القاضي عياض رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم عند حديث طلحة بن عبيد الله : (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل حين أدبر: أفلح وأبيه إن صدق) قال القاضي عياض : هذه الرواية وإن ثبتت في الصحيح فهي مصحفة، فأصل الكلام: (أفلح والله إن صدق)، ولكن طالت الألف وقصرت اللام، ولم يكن هناك نقاط، فصارت وأبيه بدل والله. وهذا تأويل القاضي عياض رحمه الله تعالى في هذا الأمر، وإن كان كثير من المحدثين لا يوافقونه فيه.
كذلك فإن الذين يريدون تفهم المسائل والقضايا كالوصايا والأوقاف ونحوها، كثيراً ما يخطئون بتصحيفه إذا لم يكونوا من المتقنين لمفردات اللغة العربية؛ بل كثير منهم يأخذ حديثاً فيقرؤه على وجه فاسد، ويحاول تطبيقه كذلك، فقد قرأ أحدهم حديث: (الحبة السوداء شفاء من كل داء)، فقرأ: الحية السوداء شفاء من كل داء؛ فأخذ حيةً ذات سُمٍ وظنها شفاء!
فهذا العلم لابد من معرفته، ولذلك اعتنى به أسلافنا، وبلغت العناية به أن كثيراً منهم كان يستطيع عد مفردات اللغة، كـالخليل بن أحمد الذي ألف كتاب العين، وقد أراد بذلك أن يعد الإنسان مفردات اللغة في يديه، قال: من حفظ كتابي هذا استطاع أن يعد مفردات اللغة في أصابعه.
العلم الثالث: علم التصريف:
وتعرف به أوجه الاشتقاق في الكلمات، وهو علمٌ لا غنى عنه في تفسير القرآن والسنة، ولا يمكن أن يكون الإنسان صاحب تدبر وتفهم إلا إذا كان متقناً لهذا العلم، ومن هنا فكثير من خلافات الفقهاء في الاستنباط أصلها الخلاف في مسائل صرفية، فمثلاً: قال ابن الأنباري رحمه الله: إن الخلاف بين المالكية والشافعية وغيرهم في العدة هل هي بالحيض أو بالأطهار، خلاف أصله راجع إلى التصريف، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228] ، فقال: القرء الذي يجمع على قروءٍ هو الطهر، والقرء الذي يجمع على أقراءٍ هو الحيض، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث فاطمة بنت أبي حبيش : (دعي الصلاة في أيام أقرائك)، فقال: الأقراء هي الحيضُ، والقروء هي الأطهار.
واستدل على ذلك بقول الأعشى :
أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالاً وفي الحي رفعةً لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والذي يضيع هو الأطهار لا الحيض.
واستدل كذلك بقول الراجز:
يا رب مولى حاسد مباغض علي ذي ضغن وضب فارض
له قروء كقروء الحائض
فالقروء هنا للحيض لا للأطهار.
ونظير هذا كثير جداً في الكلمات القرآنية أو كلمات السنة التي يكون الاختلاف في فهم دلالتها سبباً للاختلاف في مسائل فقهية، ويكون ذلك راجعاً إلى أحد علوم اللغة المذكورة.
العلم الرابع من هذه العلوم: علم المعاني:
وهو الذي يتم به التعبير على الوجه الصحيح، من التقديم والتأخير والحذف والإثبات، وغير ذلك مما يحتاج إليه المعبر في كلامه، ولا يمكن أن يفهم الإنسان سرد الكلام ولا تفصيل الجمل إلا إذا كان عارفاً بعلم المعاني.
العلم الخامس: علم البيان، الذي يقصد به التعبير بأساليب متنوعةٍ عن معنى واحد، كالحقيقة والمجاز، والكناية، والتصريح، وأنواع التشبيه، فهذا العلم من لم يتقنه لا يمكن أن يفهم كثيراً من دلالات الألفاظ من الكتاب والسنة.
العلم السادس: علم البديع: الذي يُدرك به الإعجاز في القرآن، فإن كثيراً من الناس يؤمنون بسبب إعجاز القرآن اللفظي، حتى إن أعرابياً قرأ عليه قارئٌ قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ[النور:43] ، فلما وصل إلى قوله: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ[النور:43] خر ساجداً لإعجاز هذه الألفاظ في ترتيبها ودقتها في وصف المطر، وتهيئته، وإنزال الغيث منه، وكذلك فإن كثيراً من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية عهده إنما كان لإعجابهم بإعجاز القرآن بالألفاظ نفسها والسياق، ولذلك قال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت سجع الكهان، وشعر الشعراء، وخطب البلغاء، فما سمعت شيئاً كهذا القرآن.
وقد بين الله سبحانه وتعالى هذا النوع من الإعجاز فيه، وأرشد إليه في عدد كبير من الآيات.
العلم الثامن: علم الاشتقاق: وهو الذي تفهم به العلاقة بين ألفاظ اللغة، وتجعل به اللغة سلالات متقاربة.
وهذا العلم معينٌ على أوجه التدبر المختلفة، ومعينٌ على الاستنباط لكثير من الأحكام من الآيات ومن الأحاديث.
العلم التاسع: علم آداب العرب وأشعارها:
ولا يمكن أن يستدل لأي معنىً من معاني القرآن أو السنة إلا من خلال هذا العلم، فإن الاستدلال بدلالات الألفاظ إنما يكون على هذا الوجه، ومن أشعار العرب تؤخذ وتعرف، ولذلك أوصى عمر بحفظ ديوان العرب.
ومن العلوم اللغوية المهمة: علم التاريخ:
وهو الذي يعرف به طريقة التاريخ لأية حادثة، فتاريخ العرب يبدأ بالليالي لسبقها على الأيام، ويعبر عنه بعبارة مناسبة، سواء كان في أول الشهر أو في آخره، ومن لم يتقن ذلك لم يستطع الاستدلال بالتاريخ.
والتاريخ ضرب من ضروب الاستدلال في القرآن، ولهذا رد الله تعالى على اليهود والنصارى حين زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، فقال الله تعالى: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ[آل عمران:65] .
فبداية اليهودية نزول التوراة، وبداية النصرانية نزول الإنجيل، وإبراهيم ما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فهذه الدعوى باطلة.
ومثل هذا ما استدل به الخطيب البغدادي حين جاء اليهود بوثيقةٍ يزعمون فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الجزية، وهي وثيقة قد كتبوها في عصور سابقة، ووضعوا عليها الزيت، ووضعوها في الشمس أو سخنوها على النار حتى أصبحت قديمة، وأخرجوها في أيام أحد خلفاء بني العباس، فلما عرضت هذه الوثيقة على الخطيب البغدادي بصق عليها، وقال: هذه مزورة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقيل: من أين لك ذلك؟
فقال: ذكر من شهودها سعد بن معاذ و معاوية بن أبي سفيان ، وما جمعهما الإسلام، فقد أسلم معاوية عام الفتح، ومات سعد أيام غزوة بني قريظة، وقد جرح بالأحزاب، وغزوة بني قريظة كانت في نهاية العام الخامس من الهجرة، والفتح كان في العام الثامن من الهجرة، فما جمعهما الإسلام، فكيف يستشهدان على شهادة واحدة؟!
ومثل هذا ما حصل للحاكم أبي عبد الله أحمد بن البيع حين سمع شيخاً بنيسابور يحدث عن هشام بن عمار ، فسأله فقال: متى دخلت مصر؟ قال: سنة ثمانين. فقال: إن هذا الشيخ يحدث عن هشام بعد موته! لقد لقي هشام بعد موته بإحدى عشرة سنة! فهذا مما يحتاج الناس إليه في إثبات العلم، ولا يمكن الاستغناء عنه.
ومن علوم العربية المفيدة: علم العروض وعلم القوافي:
إذ بهما إقامة الشعرِ، والشعرُ أهميته واضحةٌ سواء كانت في التاريخ الماضي، ولذلك علقت المعلقات على الكعبة، أو كانت في صدر الإسلام، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم حسان أن يهجو قريشاً، وأخبره أن هجاءه أشد عليهم من وقع النبل، وأمر أبا بكر أن يعينه على ذلك، ولهذا حين وصل إليهم قول حسان رضي الله عنه:
وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
قالت قريش: هذا والله شعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة ، فإنه استله منهم كما تستل الشعرة من العجين:
وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم
عبد الله و أبو طالب ، وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية ، فهذا لا يعرفه إلا من كان من أهل الأنساب، فلذلك قالوا: شعر والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة.
والعروض والقوافي بهما إقامة أوزان الشعر، ومعرفة قوافيه، والشعر من أوجه الإتقان في هذه اللغة والتميز فيها، فهو أمر يحتاج إليه، ولذلك نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الأهزاج المخالفة لأوزان الخليل بن أحمد بدعة، لا يحل الاشتغال بها، وهذا يقال في الشعر الحُر، فما كان منه غير جارٍ على التفعيلات المعروفة، أو كان خارقاً لها، فهو تغييرٌ وابتداعٌ يؤدي إلى نقض المألوف والمشهور بين الناس، ولذلك يعتبر منهياً عنه من هذا الوجه.
هذه بعض علوم اللغة العربية التي هي فروض كفايات، وبهذا تعرف مزية هذه اللغة من ناحية الحكم، أما من ناحية المصلحة، فإن أعظم ما تحتاج إليه الشعوب والأمم هو ما يميزها حتى لا تذوب فيما سواها، وكل أمةٍ لها حضارة، ولها ميزات تميزها عن غيرها، وإذا زالت هذه الميزات وذابت في غيرها ذابت تلك الأمة في غيرها من الأمم، ومن هنا فإن الميزة التي تميز هذه الأمة عن غيرها من الأمم هي اللسان العربي.
وإذا تخلصت هذه الأمة من لسانها أصبحت ذنباً في ذيل غيرها من الأمم، وكانت تابعةً لغيرها، ولم يعد لها تاريخٌ، ولا ذكرٌ بين الأمم، ونظير هذا كثير جداً مما يقتضي منا المحافظة على مثل هذه القيم، وهذا التراث العريق الذي نحن بحاجة إليه، والأمة بحاجة إلى من يقوم بحفظه والعناية به.
إن الحفاظ على هذه اللغة العربية بالإضافة إلى أنه مما يتعبد الله به ويبتغى به وجهه، هو من التسنن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وأصحابه المهديين، والتابعين وأتباعهم، وهو كذلك مما يرفع الله به الدرجات، ويزيد به المنازل، والناس محتاجون إليه، ولا يمكن أن يستغنى عنه، ولهذا يجب على الآباء أن يعلموا أولادهم هذه اللغة، وأن يعلموهم محبتها، ويجب على أساتذة اللغة العربية أن لا يكونوا من الفتانين، وأن يحببوا هذه اللغة إلى من يدرسها، وأن يحدثوا لديهم ذوقاً لغوياً يقتضي منهم محبةً لهذه اللغة وعناية بها وتركيزاً عليها، وكذلك على الأمهات أن يشاركن في تعليم الأولاد، وتحبيب هذه اللغة إليهم، وعلى الكبار كذلك أن يدرسوها، وأن يتدبروها، وأن يعلموا أنهم لا يمكن أن يفهموا القرآن ولا السنة إلا إذا كان لديهم رصيدٌ من هذه اللغة، وأن يفهموا أن قيمهم وتاريخهم ومجدهم مرتبط بهذه اللغة.
إن الحفاظ على هذه اللغة لا يمكن أن يكون من واجبات نظام أو دولة فقط، بل لابد أن يكون من واجبات الأفراد والأمة بكاملها، وأن تعتني بذلك، وأن يقع التعاون عليه، وأن لا يبقى أحدٌ يستطيع المشاركة إلا قدم مشاركته.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يزيدنا علماً، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، وخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا.
السؤال: ما هي التوبة النصوح ؟
الجواب: لقد أوجب الله على عباده التوبة النصوح في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، وقد نص العلماء على أن التوبة النصوح هي الصادقة التي تمحو كل ما سبقها، ويكون الإنسان بها نادماً على ما فرط في جنب الله، وساعياً لإصلاح حاله في المستقبل، فإذا كان الإنسان قد ندم على ذنبه، وندم على ما فرط في جنب الله، وأراد إصلاح حاله في المستقبل، والعدول عن كل ما وقع فيه، ورد التبعات إلى ذويها ومستحقيها، فهو الذي تاب توبةً نصوحاً.
أما الذي يستغفر بلسانه، وقلبه مصر على العود والرجوع، أو لا ينوي الرجوع، لكنه حال بينه وبينه عجزٌ أو كبرٌ أو نحو ذلك، فهذا ليست توبته توبةً نصوحاً.
السؤال: هل تجوز إعادة شهادة للمشاركة بها في مسابقة ما؟
الجواب: لعل مقصود السائل: المشاركة في امتحانٍ لنيل شهادة معينة؛ ليشارك بها في ملف يشترط فيه أن تكون الشهادة ذات عهد حديث، والجواب: أن هذا من الأمور الجائزة ولا حرج فيه شرعاً؛ لأن الشهادات المقصود بها ما كان على أساس امتحانٍ نجح فيه الإنسان، ويحدد مستواه وصلاحيته للتخصص الذي يدرسه، ومن هنا فلا حرج في إعادة الامتحان، حتى لو كان الإنسان كبيراً، فإذا وجدت له فرصة في أي امتحان، فبإمكانه أن يشارك.
السؤال: ما هو موقف المسلمين من القوانين الوضعية التي تتحكم في رقابهم؟
الجواب: القانون دينٌ، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[يوسف:76] .
فالقانون الوضعي دينٌ غير دين الله، ومن هنا تجب البراءة منه، والكفر به، والعدول عنه، ولا يحل للإنسان التحاكم إليه، وهو من الطاغوت الذي نهينا عن التحاكم إليه، والله تعالى يقول في كتابه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65] .
السؤال: هل يحرم بيع الصور المجسمة؟
الجواب: تلك الصور إذا كانت كاملة الخلقة، ذات ظل، فيحرم بيعها والاتجار بها، بل يجب كسرها وتغييرها؛ وذلك لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وبين أن اليهود حين حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأكلوا ثمنها فاستحقوا اللعنة بذلك.
السؤال: رجل يجد آلاماً في رأسه، هل يكفيه تخليل رأسه بالغسل دون صب الماء على رأسه، أو ماذا يصنع؟
الجواب: من كان مريضاً فإنه لا يجب عليه أن يفعل إلا ما يطيقه وما لا يضر به، فإن جرب أن غسل رأسه وصب الماء عليه مضرٌ به، أو أخبره طبيب بذلك، فليس له أن يفعل ذلك، وإن جرب أنه لا يضر به، ولا يؤخر شفاء مرضه، أو أخبره الطبيب بأن غسل رأسه لا يضره، فلا يحل له تركه، فالعبرة هنا بالتجربة وإخبار الطبيب الناصح.
السؤال: إنسان أتى عليه رمضان وهو يشك في وجوب صيامه عليه، ثم إنه لم يصم ذلك الشهر، فهل عليه قضاء هذا الشهر، وهل عليه كفارته؟
الجواب: أن عليه القضاء، وليس عليه الكفارة على الراجح، هذا إذا كان مريضاً وأعمل وسائل التحقق، أما إذا كان شكه غير مبني على حجةٍ بأن كان صاحب مرض خفيف، فظن أن مجرد وجود الحرقة في معدته أو في مريئه يبيح له ترك الصيام، فهذا مفرط، وتجب عليه الكفارة فيما فرط فيه، ويجب عليه القضاء مع ذلك.
السؤال: علو الهمة أمرٌ مهمٌ يجب على الشباب التحلي به، وكذلك الشيوخ، ما هي أهميته في فهم النصوص الشرعية؟
الجواب: هذا هو ما تعرض له الشيخ محمد يحيى في قصيدته في علو الهمة آنفاً، وعموماً فإن من لم يهتم بشيء لا يناله، والذي يريد فهم النصوص، ويريد أن يكون من أهل القرآن، ومن أهل السنة لابد أن يهتم بذلك، وأن يبذل في سبيله.
السؤال: ما المراد باستشراف المستقبل، وهل معناه معنى التكهن؟
الجواب: أن التكهن مشتق من الكهانة، وهي خلطة الجن للاطلاع على الغيوب، وهي محرمة شرعاً، ومن الشرك بالله سبحانه وتعالى لقول الله تعالى: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ[الأنعام:128] ، ولكن التكهن مصطلح لدى أهل علم الإدارة يطلقونه على استشراف المستقبل بمعنى: عد الاحتمالات الواردة التي تعترض مشروعاً أو تساعده، ليتم على ذلك التنبؤ والتحكم، والتحكم هو إيجاد الحلول لما أدت إليه نتيجة التنبؤ، فيسمى هذا تنبؤاً وتكهناً اصطلاحاً فقط.
لكن ليس هو نبوةٌ ولا كهانة، وإنما هو مجرد استشراف للأحوال المستقبلية من قراءة السنن الإلهية وما أجرى الله عادته به، فالاحتمالات التي يمكن أن ترد أمام المشروع، أو أمام القرار الذي يريد الإنسان اتخاذه تُعد، ثم كل احتمال يمكن أن توضع له عدة حلول، وهذه الحلول هي التي يسمونها بالتحكم، واستشراف المستقبل هو الذي يسمونه بالتنبؤ، وهذه مصطلحات إدارية، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن على أهل علم الإدارة إذا نقلوها إلى العربية أن ينقلوها بألفاظ موافقة للشرع، فإنها لا تضرهم ولا تغير شيئاً، وهي مطلوبة ومما يرفع الإلباس والإشكال.
السؤال: هل تدرك الركعة بإدراك الركوع، وما الدليل على ذلك؟
الجواب: الراجح أن الركعة تدرك بالركوع، وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، وقد ثبت عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أفتوا بأن الركعة تدرك بالركوع، وهم زيد بن ثابت و أبو هريرة و عبد الله بن عمر ، فكل هؤلاء قالوا: إذا فاتتك الركعة، فقد فاتتك السجدة، وإذا أدركت الركعة فقد أدركت السجدة.
وقالت طائفة من أهل العلم: لا تدرك الركعة بالركوع، ولكن هذا المذهب أهله أقل من السابقين، فبالمذهب الأول أخذ فقهاء المذاهب الأربعة، فقد اتفقوا على أن الركعة تدرك بالركوع، والذين ذهبوا إلى أن الركعة لا تدرك بالركوع استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج). ولكن يجاب عن هذا بأن الركعة ليست صلاةً كاملة، فإذا لم تقرأ الفاتحة في هذه الركعة فبالإمكان أن تقرأها بالركعة التي تليها، وبذلك لا تكون صلاتك خداجاً؛ لأنك قرأت فيها الفاتحة، وهذا الجواب واضحٌ جداً، فهو قاضٍ على الاستدلال بهذا الحديث في هذه المسألة.
السؤال: ما صفة التيمم؟ وهل من لم يراعِ ما غار من لحييه، وجانبي أنفه وما بدا من شفتيه وعنفقته تيممه صحيح؟
الجواب: أن التيمم في اللغة: القصد، يقال: يممه تيمماً إذا قصده، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ[البقرة:267] ، أي: لا تقصدوا الخبيث من أموالكم تنفقونه وتقصدون به المضاعفة عند الله.
والتيمم في الاصطلاح هو: الطهارة الترابية، التي هي مسحتان وضربتان، ضربة يمسح بها الوجه من منابت الشعر إلى الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضاً على الراجح، وقيل: ما بين العذارين، ويمسح بها ظاهره فقط، ولا يطلب تتبع غضونه، ولا تتبع تكاميش الجبهة، ولا تتبع ما حول الأنف وما حول العينين، ولا ما بدا من الشفتين، ولا تتبع الجرح الغائر، إذا برأ، ولا يلزم فيها تتبع الوترة التي بين المنخرين، ولا تتبع تجاعيد الأرنبة، أي طرف الأنف، فهذه الأمور لا يطلب تتبعها في مسحة التيمم، وإنما هي مسحة خفيفة، ثم مسحةٌ كذلك بيديه إلى الكوعين، وهذا وهو القدر الواجب.
وإذا مسح إلى مرفقيه، فهذا سنة وتكملة، ولكنه يكفيه أن يمسح وجهه مسحة واحدة، ويديه إلى الكوعين، مسحة أخرى، والضربة الثانية كذلك سنة على الراجح وليست بواجبة، فلو ضرب الإنسان ضربةً واحدةً، أي: وضع يديه مرةً واحدةً على الأرض، كان مجزئاً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صورة التيمم، فوضع كفيه على الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه إلى الكوعين وقال: (إنما كان يكفيك هكذا) كما في حديث عمار بن ياسر ، وكذلك مسح الحائط بعصاه حتى ثار غباره فوضع يديه عليه فمسح بهما وجهه وكفيه لرد السلام، وهذان التيممان الواردان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه أنه تيمم للصلاة.
واختلف فيما يحصل به التيمم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه[النساء:43] .
ذهب الشافعي إلى أن الصعيد الطيب هو المنبت لقول الله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ[الأعراف:58] .
فما ليس منبتاً لا يتيمم به، فلا يتيمم على الحجر، ولا على السبخة التي لا تنبت عند الشافعي ، وبهذا أخذ أحمد بن حنبل، واستدلا أيضاً بأن الله قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه[النساء:43] .
و(من) هنا جعلاها تبعيضية، أي: ببعضه، والبعض الذي يمكن أن يمسح بالوجه والكفين منه إنما هو الغبار الذي يثور، واستدلا أيضاً بمسح النبي صلى الله عليه وسلم بعصاه الحائط وحكه حتى ثار غباره.
وذهب مالك و أبو حنيفة إلى أن الطيب في الآية هو ما صعد على وجه الأرض من أجزائها، وأن المقصود بطيبه طهارته، فالطيب هنا بمعنى الطاهر، وقد جاء في القرآن إطلاق الطيب على الطاهر، وجاء ذلك في الحديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا).
فالمقصود بذلك الطاهر الحلال، وعلى هذا فكل ما صعد على الأرض من أجزائها يحل التيمم به كالصخر والسبخة وغير ذلك، واختلفوا في الحجارة المنقولة كالرحا إذا لم تنكسر هل يحل التيمم عليها أم لا؟ فمذهب أبي حنيفة جواز التيمم على كل ذلك، ومذهب مالك جاء فيه الخلاف في التيمم على الرحا ونحوها إذا لم تنكسر، أما إذا انكسرت فقد عادت حجرا ًكما كانت فيتيمم عليها عنده، وإذا كانت غير منكسرة فهي آلة، فالراجح من المذهب أن لا يتيمم عليها، ومثل ذلك الملح إذا جمد والخضخاض إذا خالطته التربة، وقيل: الخضخاض إذا نشفت اليدان فيه حتى بقي فيهما غبار جاز التيمم به.
ومسائل التيمم كثيرة ولعل في هذا بعض الإشارة إليها، والدليل على الضربة الثانية ما ثبت من فعل عدد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب و عائشة و ابن عباس، وهذا أمر توقيفي لا يمكن أن يفعلوه إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أراهم إياه.
السؤال: ما علاقة الجمود والحرفية في الفهم بجهل اللغة العربية ؟
الجواب: أن الحرفية والتقيد بدلالة اللفظ دون معرفة جوانبه الأخرى وما يدل عليه، إنما هو من الجهل باللغة العربية، وفهم صيغها المختلفة، ولذلك فإن الأصوليين قالوا: إن اللفظ يدل شرعاً أربع دلالات، فيدل بمنطوقه، ويدل بمفهومه، ويدل بضرورته واقتضائه، ويدل بمعقوله، وهو القياس عليه، وهذه يسميها الحنفية: دلالة العبارة ودلالة الإشارة، ودلالة المقتضى، ودلالة المعقول، وهي القياس عليه، ومن هنا يكون اللفظ الواحد نافعاً من أربعة أوجه ويمكن أن تؤخذ منه الأحكام من أربعة أوجه.
والذي يتحجر ويقف عند النص ولا يتعداه جهل مقصد اللغة، وجهل معناها، وكذلك عطل الحكم الشرعية التي من أجلها جاءت النصوص، فالذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسلَ فيه من الجنابة، أو: ثم يغتسلُ فيه من الجنابة، أو: ثم يغتسلْ فيه من الجنابة).
ثلاث رواياتٍ من لم يكن عارفاً باللغة العربية ولم يفهم دلالاتها، ولم يعرف الفرق بين قوله: (ثم يغتسلُ)، وبين قوله: (ثم يغتسلَ)، وبين قوله: (ثم يغتسلْ)، لم يفهم هذا وتحجر وتقيد، فأباح أن يبول الإنسان في إناء وأن يصبه في الماء الراكد، وهذا بسبب عدم التفريق بين الروايات.
فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يغتسلُ فيه) بيان لعلة النهي، أي: إنه سيغتسل فيه، فلذلك لا يحل له أن يصب فيه البول أو أن يبول فيه مطلقاً، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يجلدن أحدكم امرأته ثم يضاجعُها) بالرفع، معناه: ثم هو يضاجعها، وفي رواية: (لا يجلد أحدكم امرأته كما يجلد العبد، ثم يُضاجعُها) أي ثم: هو يضاجعها، فيكون هذا تعليلاً.
وأما رواية النصب فالمقصود بها النهي عن الجمع بينهما، (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسلَ فيه)، معناه: أن النهي منصبٌ على الجمع بين الأمرين.
وأما رواية الجزم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسلْ فيه) فهي نهي عن الأمرين كل واحد منهما وحده، فهي نهي عن الاغتسال في الماء الدائم مطلقاً، سواء بول فيه أو لم يبل فيه، ونهي كذلك عن البول فيه مطلقاً، سواء اغتسل منه أو لم يغتسل، وهذه الرواية هي أرجح الروايات؛ لأنه جاء التصريح بالنهي فيها في رواية أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يغتسل فيه من الجنابة)، فهذا تصريح بالنهي عن الاغتسال وحده، وعن البول وحده.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا.
اللهم استعملنا في طاعتك واجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم لا تدع لنا في ساعتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا دينناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين وادحر كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم علمنا أجمعين ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، اللهم اجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر