بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وألفه من ثلاثة عناصر: أشرفها الروح، التي هي نفخة غيبية من أمر الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85].
ثم العقل الذي شرف الله به هذا الإنسان على غيره من الحيوانات.
ثم البدن الذي هو من تراب.
إن هذه العناصر الثلاثة مجتمعة تشكل إنساناً، فرتب الله على هذه العناصر الثلاثة -عناصر الدين- فجعل الإيمان لمصلحة العقل، والإسلام لمصلحة البدن، والإحسان لمصلحة الروح، وجعل التكامل بين هذه العناصر مطلوباً، فلا يكون الإنسان كاملاً إلا بالموازنة والاعتدال بين هذه العناصر، ومن مال مع واحد من العناصر على حساب غيره كان مائلاً غير مستقيم، ومعوجاً غير معتدل، ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى العناية بهذه العناصر الثلاثة، وجعل من أهمها وأعظمها خطراً عنصر الإحسان، الذي لا يمكن أن يتم الإيمان والإسلام إلا به، وعنصر الإحسان إنما يتعلق بتزكية النفوس.
والتزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، ولها معنيان:
المعنى الأول: التطهير، يقال: زكيت هذا الثوب تزكية، أي: طهرته، ومنه الزكاء، أي الطهارة.
والمعنى الثاني: الزيادة، ويقال: زكا المال يزكو إذا نما وزاد، ومنه الزكاة، لأنها تنمية للمال وزيادة له.
وعلى أساس المعنى اللغوي جاء المعنى الاصطلاحي في تزكية النفوس، فتزكية النفس شاملة لأمرين:
الأمر الأول: تطهيرها من الأدران والأوساخ.
والأمر الثاني: تنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة.
أما المعنى الأول فهو تخليتها عن الأوصاف الذميمة.
والعلماء قد اختلفوا في حكمه، فذهب الغزالي رحمه الله إلى أنه فرض عين على كل مؤمن، فكل مؤمن يلزمه أن يتعلم أمراض القلوب وطريقة علاجها.
وبنى الغزالي رحمه الله تعالى رأيه هذا على أن الإنسان لا يخلو من هذه الأمراض في الأصل، فهي أصلية فيه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأرضاهم وأطهرهم، قد شق الله صدره مرتين، وأخرج منه المضغة السوداء التي هي محل هذه الأمراض في الإنسان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أن يشق صدره وأن تنزع عنه هذا المضغة، فمن سواه أولى بذلك وأحرى.
وذهب الجمهور إلى أن تعلم أمراض القلوب ليس فرض عين وإنما هو فرض كفاية، إلا في حق من تحقق أو ظن وجود مرض من الأمراض فيه، فيلزمه أن يعالج ذلك المرض وأن يعلم مظاهره وأسس علاجه.
واستدل الجمهور على هذا المذهب، بأن الأصل في الإنسان السلامة، وأن فطرته سليمة في الأصل، ولهذا قال الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[الروم:30] وبما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مولود إلا ويولد كما تخدج البهيمة بهيمة عجماء، فهل ترى فيها من جدعاء؟). أي: فهل ترى في البهائم من جدع وقت ميلادها؛ فأعضاؤها متكاملة غير مقطوعة ولا منقوصة.
وأدلة الجمهور لا شك أوجه وأقوى، ولكن يمكن الجمع بينها وبين ما استدل به الغزالي بأن الذي هو في عامة بني آدم هو القابلية لهذه الأمراض لا وجودها، وبالتالي فشق الصدر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس علاجاً لمرض موجود، وإنما هو منع للقابلية، فهو العصمة التي لا يمكن أن يحل بعدها شيء من هذه الأمراض.
وعلى هذا فالأمراض القلبية مثل الأمراض البدنية، الأصل السلامة منها، ولكنها قد تعرض بعد الولاد، أو قد يولد الإنسان متصفاً ببعضها بلية وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى كالأمراض البدنية، ومن هنا فمن ظن أو تحقق وجود مرض من هذه الأمراض وجب عليه عيناً أن يعالجه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم ينزل الله داءً من السماء إلا وأنزله له دواء، فتداووا عباد الله).
وقد حمل العلماء هذا الحديث على الوجوب في حق أمراض القلوب، وعلى الندب في حق أمراض البدن، وذلك في حق من يستطيع الصبر؛ لأن الصبر أولى، ولهذا فإن المرأة حين أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو الصرع، فقالت: (يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي، فقال: إن شئت دعوت لك وإن شئت فاصبري، قالت: إني أتكشف فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها وصبرت)، والضرير الذي أتاه فقال: (ادع الله أن يرد علي بصري، قال: أو تصبر؟ قال: ادع الله أن يرد علي بصري، فدعا الله فرد عليه بصره).
فالصبر مقدم في الأمراض البدنية، وهو أولى لمن يستطيعه، وذلك لأنه استسلام لقدر الله، ولأمره سبحانه وتعالى، ورضا بما صنع، أما العلاج فلا ينافي التوكل على الله والاستسلام لأمره، لكنه لا يغير شيئاً من القدر أيضاً، فإذا كتب الله البرء أو الشفاء من مرض من الأمراض أو سقم من الأسقام، فإنه قد يشفيه بالعلاج وقد يشفيه بالدعاء وقد يشفيه بالصدقة وقد يشفيه بغير ذلك، وإذا كتب عدم شفائه واستمراره، فسيستمر حتى لو بذل الإنسان كل جهده في العلاج، وأتى على سائر أنواعه، فإن للأمراض آجالاً مسماة محددة في علم الله تعالى لا بد أن تبلغها.
إن تزكية النفس مهمة للإنسان جداً، وتأتي أهميتها من عدة أوجه:
الوجه الأول، أن الله سبحانه وتعالى أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من أهمل ذلك، فقال: وَالشَّمْسِ[الشمس:1] هذا القسم الأول: وَضُحَاهَا[الشمس:1] هذا القسم الثاني: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا[الشمس:2] هذا القسم الثالث: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا[الشمس:3] هذا القسم الرابع: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا[الشمس:4] القسم الخامس: وَالسَّمَاءِ[الشمس:5] القسم السادس: وَمَا بَنَاهَا[الشمس:5] القسم السابع: وَالأَرْضِ[الشمس:6] القسم الثامن: وَمَا طَحَاهَا[الشمس:6] القسم التاسع: وَنَفْسٍ[الشمس:7] هذا القسم العاشر: وَمَا سَوَّاهَا[الشمس:7] هذا القسم الحادي عشر، فهذه أحد عشر قسماً متوالية من ربنا سبحانه وتعالى الذي يصدقه عباده دون قسم، ولكنه أقسم للتأكيد أحد عشر قسماً على النتيجة وهي قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[الشمس:9-10].
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[الشمس:9] الفلاح فلاح الحال في الدنيا والآخرة، (من زكاها) أي: من زكى نفسه، وهذا يدلنا على أهمية هذه التزكية.
الوجه الثاني من أوجه أهمية التزكية: أن الإنسان محب للكمال، وهو قد بدء بالضعف عند النشأة الأولى، ثم لا يزال يتدرج في الازدياد حتى يصير إلى حد الكمال فيبدأ حينئذ بالنقص والتراجع، وعلى هذا فحرص الإنسان على الكمال، مقتض منه للحرص على التربية، والتربية ثلاثة أقسام:
الأول: التربية البدنية، وتشمل الوقاية من الأمراض والحرص على النظافة وتشمل العلاج من الأمراض بعد حصولها، والحرص على إكساب البدن ما يحتاج إليه من اللياقة، وإحسان التصرف في الأمور.
الثاني: التربية العقلية، وهي زيادة المعلومات، أن تزداد معلومات الإنسان في أمور دينه أو في أمور دنياه، وأن يزداد اطلاعاً بعقله على إنتاج البشرية، وما وصلت إليه تطوراتها وحضارتها، فازدياد العقل إنما يكون بزيادة العلم، وهذه تربيته، سواء كان ذلك في المجال النظري أو في المجال التطبيقي.
أما الثالث من أقسام التربية: فهو تربية النفوس، وهو صعب للغاية، لأن النفس خفية، يؤمن بها الإنسان ويعلم وجودها وقربها، لكنه لا يراها ولا يستطيع الوصول إليها بالمباشرة، فليست مثل البدن الذي إذا أصابه مرض، أو شاكته شوكه، أو لامسه برد أو حر تألم الإنسان لذلك، وليست مثل العقل الذي يشعر فيه الإنسان بالازدياد والنهم للزيادة من العلم والحرص عليه، بل هذه النفوس أخفاها الله سبحانه وتعالى وجعل ارتفاعها وخروجها ورجوعها خفي لا يطلع عليه الناس.
ولذلك فإن من أبلغ الأدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى، أن تقول لمن ينكر وجود الله سبحانه وتعالى أو اتصافه بصفات الكمال لأنه لا يراه؛ أن تقول له: هل لك روح أم لا، فلا بد أن يستسلم وأن يقر بأن له روحاً، فاسأله: هل هي موجودة أو معدومة ؟ فلا بد أن يقر بوجودها، فقل له: هل رأيتها ؟ هل لامستها؟ هل رأيت لونها؟ هل شممت رائحتها؟ هل ذقت طعمها؟
فلا يستطيع أن يثبت شيئاً من ذلك؛ وإذا كانت روحه أقرب شيء إليه مجهولة بالنسبة إليه، فجهله بديان السماوات والأرض أعظم وأكبر، لكنه مضطر للاستسلام حينئذ، وهذه النفس تصاب بالأعراض التي تصاب به الأبدان، فهي محتاجة إلى تغذية دائمة، ومحتاجة إلى رعاية ومتابعة للازدياد من الخير، كما يزداد البدن من الطاقات والمعارف.
ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن يراقب تطورات نفسه وأن يعلم أنها وعاء إيمانه، وأحب شيء إليه هذا الإيمان فإذا سلبه فلا فائدة في حياته كلها، من هنا فهو يحتاج إلى مراقبة هذا الإيمان لأنه يخلق ويجد، ويصدأ ويصقل في النفوس، ونظراً لخفاء ذلك وصعوبة تصوره كان أمراً مهما جداً، وكانت هذه المراقبة أمراً ضرورياً لا بد منه لتربية الإنسان.
وهذا الجانب من جوانب التربية وهو التربية الروحية، وحاجة الإنسان إليه كذلك من وجه آخر: هو أن التزكية هي طريق الجنة، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[النازعات:40-41] فهي شرط إذاً لدخول الجنة.
بعد أن عرفنا أهمية العناية بتربية النفس وتزكيتها، بقي أن نعرف أن تزكية النفس تنقسم إلى قسمين: إلى تخلية وتحلية.
والتخلية هي: تطهيرها من الأوصاف الذميمة.
وهذه الأوصاف الذميمة بعضها يتعلق بالأخلاق والعادات وبعضها يتعلق بالتصورات التي ترسخ والمفاهيم التي تسبق إلى التصور، فالجانب الأول ما يتعلق بالأخلاق والعادات، تفاوت الناس فيه هو تفاوتهم في الإيمان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ومن هنا فإن الذي يتجنب الأخلاق الذميمة، ويراقب نفسه فيها ويعاقبها عقاباً شديداً إذا حصل منها خلل أو خطأ؛ هو الذي يستطيع أن يزكيها وينميها.
(خاصم أبو ذر رضي الله عنه رجلاً من إخوانه المؤمنين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه، فقال: يا ابن السوداء، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية) فندم أبو ذر ندماً شديداً حتى أتى الرجل، فوضع عنقه على الأرض وأقسم بالله ليضعن رجله على عنقه عقاباً لنفسه، على أن صدر منها مثل هذا الخلق الذميم، فاستطاع أن ينتصر على نفسه وأن يتغلب على هذا الخلق وأن يتخلص منه، لعلمه أنه من أخلاق الجاهلية، ولهذا فإن النفس، هي بمثابة طفل صغير يتعود على أنماط من العيش والحياة، وإذا عولجت تلك الأنماط تغيرت، وإذا استمر عليها صعبت عليه مفارقتها، كالرضاعة مثلاً، فإنه يتعودها من بداية نشأته، وعند تمام الحولين يشق عليه الفطام، ولكنه ما إن تمضي أيام قليلة حتى يتعود على ترك الرضاعة، ولهذا قال البوصيري رحمه الله:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فكذلك هذه الأخلاق الذميمة، مالم يطلع الإنسان عليها أولاً ويتحقق أنها موجودة لديه ويتعرف على أوصافها وأعراضها فلا يمكن أن يعالجها، لأن من لا يشعر بمرض لا يهتم بعلاجه، ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن يتابع الأوصاف الذميمة وأن يتعرف عليها وعلى مظاهرها حتى يتقيها، وإن استطاع أن يتخلص من الأوصاف الذميمة سواءً كانت في الأخلاق أو العادات فقد زكى نفسه.
فهذا هو الجانب الأول من التزكية الذي هو التخلية، لأن التخلية سابقة على التحلية.
وإذا أردنا توزيع هذه الأوصاف توزيعاً شاملاً، فإننا نقول: إن هذه الأوصاف الذميمة كلها تتعلق بالتعامل، والتعامل ثلاثة أقسام: تعامل مع الله، وتعامل مع النفس، وتعامل مع الناس.
فالتعامل مع الله سبحانه وتعالى بالأوصاف الذميمة يكون بالأوصاف التالية:
أولاً: الشرك، وهو أعظم الأمراض القلبية ضرراً وأخطرها، ولذلك كان أعظم الذنوب، فلا بد أن يتعلم الإنسان الشرك، وأن يعرف ما هو حتى يعلم هل هو متصف بهذا الوصف الذميم الذي هو أخطر الأوصاف أو ليس كذلك، فإذا عرف -ولله الحمد- أنه خالص منه، عرف أن ذلك يحتاج إلى متابعة ومراقبة، وأن نجاته من الشرك ليست من تلقاء نفسه وإنما هي نعمة أنعم الله بها عليه، فتستحق أن تقيد بالشكر، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم).
والإنسان محتاج إلى أن يتابع أنواع الشرك، وأن يعرضها على نفسه، فإذا وجد نوعاً من أنواع الشرك، تخلقت نفسه ببعض أخلاقه، أو ظهر عليها بعض مظاهره بادر للعلاج من ذلك.
ومن أعظم أنواع الشرك: الشرك في العبادة، وهو أنواع كثيرة، وله مظاهر متعددة، منها مثلاً: أن يسجد الإنسان للصنم، فهذا نوع واحد من أنواع الشرك وهو الشرك في العبادة.
ومنها: أن ينذر الإنسان لغير الله، أو أن يذبح لغير الله، أو أن يستغيث بغير الله، فكل ذلك داخل في هذا النوع من أنواع الشرك الذي هو شرك العبادة، لأن كل هذا تذلل وتضرع والتذلل والتضرع هو العبادة، ولا أحد يستحق أن يتضرع له الإنسان ويتذلل له إلا ديان السماوات والأرض وحده.
النوع الثاني من أنواع الشرك: الشرك في الدعوة، وهو التوكل والاعتماد على غير الله سبحانه وتعالى، وهذا أنواع كثيرة، فيدخل فيه -مثلاً- الاستغاثة بغير الله ودعاؤه، وكذلك يدخل فيه أن يعتمد الإنسان على الأسباب وأن يتوكل عليها، وأن يظن الإنسان أن مخلوقاً يملك له نفعاً أو ضراً، أو موتاً أو حياة أو نشوراً، ويدخل فيه الخوف من المخلوق أو الطمع فيه، ويدخل فيه الطيرة والرقى والتمائم والتولة التي هي من أمر الجاهلية.
ويدخل فيه أن يقطع الإنسان عملاً كان بدأه من أجل أنه رأى ما يكره، فهذا نوع من أنواع الطيرة ويدخل فيه كذلك خلطة الجن والكهانة، فكل هذا داخل في هذا النوع من أنواع الشرك.
والنوع الثالث من أنواع الشرك: الشرك في التشريع:
لأن ديان السماوات والأرض وحده هو عالم الغيب والشهادة، وهو الذي يشرع لعباده ما يشاء؛ لأنه هو وحده الذي يعلم مصالحهم، ومن هنا قال: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[الشورى:21] فلا يمكن أن يشرع ويحل ويحرم ويأمر بأمر وينهى عن أمر إلا ديان السماوات والأرض وحده، ومن هنا فطاعة المخلوق في معصية الخالق تشريع لما لم يأذن به الله بوضع قوانين مخالفة لشرع الله، وكذلك مخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالآراء الباطلة؛ كل هذا داخل في هذا النوع من أنواع الشرك الذي هو شرك التشريع.
النوع الرابع من أنواع الشرك: شرك المحبة:
وهو تعلق القلب بغير الله سبحانه وتعالى محبة ورضاً، والله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يستحق المحبة، لأن المحبة إنما تكون على أساس الكمال، أو على أساس الطمع، وهو وحده المتصف بصفات الكمال المنزه عن جميع النقائص، وهو كذلك وحده الذي يملك لعباده ما ينفعهم وما يضرهم، فهو الذي يستحق أن يرجى ما عنده وأن يتعلق به وحده.
وهذه الأنواع من الشرك هي الشرك الأكبر، أما ما دونها من أنواع الشرك فهو الذي يسمى بالشرك الأصغر، وهو أخفى في بني آدم من دبيب النمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرك الأصغر موجود في الناس، لكنه أخفى من دبيب النمل، ومنه:
الرياء: أن يرائي الإنسان بعمله فيريد أن يراه الناس على ذلك العمل، فيمدحوه به، أو يتقربوا إليه به، أو يكون محلاً لتقديرهم واحترامهم، فهذا النوع شرك بالله سبحانه وتعالى، وهو غير مخرج من الملة لخفائه واستبطانه، لكنه محبط للعمل ومبطل له.
ومنه التسميع: وهو أن يسمع الإنسان، فيتحدث بأنه فعل القربة الفلانية، سواء كان صادقاً أو كان كاذباً، فكل ذلك إشراك بالله في هذا الجانب، وهو من الشرك الأصغر الذي يحبط ذلك العمل، لكنه لا يقتضي كفراً، ولا خروجاً من الملة.
ومثل ذلك كل اعتداء يقتضي كفراً أصغر كقتال المسلمين، والسعي لتفريق كلمتهم والاعتداء على حقوقهم، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، لكنه كفر أصغر لا يخرج من الملة، قال صلى الله عليه وسلم (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بع).
فيجب على الإنسان أن يتعلم هذه الأحكام وأن يعرضها على نفسه، فإن وجد في نفسه جانباً من جوانب الشرك أياً كان عرف أنه قد تلبس بأخطر الأمراض وأعظمها، فهو أعظم من كل الأمراض البدنية، وعليه أن يبادر لعلاجه، وعلاجه إنما يكون بتحقيق الإيمان، والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى منه، وإحسان العمل في المستقبل، كما قال تعالى في حق الكفار: فإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ[التوبة:11] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
ثم بعد هذا يأتي المرض الثاني بعد الشرك، فيما يتعلق بالتعامل مع الله، وهو سوء الأدب مع الله:
وهو مرض خطير من أمراض النفوس، وهو أنواع متعددة:
منها سوء الأدب معه في العبادة:
ومعناه: أن لا يؤدي الإنسان العبادة كما شرع الله، أو أن يؤديها وهو منصرف عنها بقلبه غير حاضر لها، فهذا سوء أدب مع الله لأنه يناديه ويناجيه ويخاطبه وهو منصرف القلب عنه: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإن التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).
ومن سوء الأدب معه: الاعتداء في الدعاء:
بأن يسأل الإنسان ما لا يمكن أن يتحقق له، فهذا سوء أدب مع الله وقد حكى الله عن نوح عليه السلام أنه قال: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[هود:47] وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتداء في الدعاء.
كذلك من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى: الاعتراض على قدره بأي مرتبه من مراتبه، واستعظام شيء عليه في خلقه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].
فالاعتراض على الله تعالى في أي شيء من فعله، وعدم الاستسلام لحكمه وقدره أو لأي شيء من فعله؛ هو سوء أدب معه سبحانه وتعالى وعدم معرفة به، ومن هنا يجب على الإنسان أن يتتبع أنواع سوء الأدب مع الله، فإن وجد نفسه مسيئاً للأدب مع الله في أي جانب من الجوانب عرف أنه مبتلى بمرض عضال، وأن عليه أن يعالج هذا المرض قبل أن يصل به إلى سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.
كذلك في التعامل مع النفس فعلى الإنسان أن ينظر إلى أن أسس التعامل مع النفس ثلاثة هي:
أولاً: الإنصاف منها:
فإذا كان الإنسان كلما اعتدت نفسه على الآخرين، وأخذت ما ليس لها من الحقوق، أهمل محاسبتها وتركها تستطيل على الآخرين وتأخذ من حقوقهم؛ فإنه مصاب بمرض عضال في التعامل مع النفس، لأن النفس أصبحت ذات سلطان عليه ولم يملكها، وفي الدعاء المأثور: (اللهم ملكنا أنفسنا بخير ولا تسلطها علينا بشر)، والإنسان محتاج إلى أن يملك نفسه، ولا يمكن أن يملكها ما دامت النفس هي التي تقوده تبعاً للهوى، وتتفيأ به مراحل الهوى فيسير وراءها في أي اتجاه سارت، ولذلك قال أحد الصالحين لولده حين رآه مالت نفسه إلى شيء فاشتراه: (أكلما اشتهيت اشتريت ؟ إنك إذاً لعبد لنفسك).
إذا كان الإنسان كلما اشتهى اشترى، فهو عبد لنفسه لم يتغلب عليها ولم يملكها، ولهذا فعلى الإنسان أن يحرص على مراقبة نفسه فيما يتعلق بالإنصاف منها.
الثاني: ترك الانتصاف لها:
فعلى الإنسان أن لا ينتصف لنفسه إذا اعتدى عليه الآخرون؛ وعليه أن يصبر ويحتسب، وأن يعلم أن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا كان كلما اعتدى أحد على حق من حقوقه من أي وجه من الوجوه ثارت ثائرته وقامت قيامته وسعى للانتصار للنفس، فمعناه أنه مصاب بمرض عضال في التعامل مع نفسه.
كل واحد منا بالامكان أن ينظر الآن إلى تشخيص هذه الأمراض أمامه ويرى من أين داؤه: هل داؤه في التعامل مع الله أم في التعامل مع النفس، أم في التعامل مع الناس، وحينئذ يبادر لعلاج هذا المرض قبل فوات الأوان.
الثالث: اتهامها:
فهذه النفس ينبغي أن تكون دائما في قفص الاتهام، ومن لم يراقبها ولم يجعلها في قفص الاتهام، فإنها تغويه وتذله من حيث لا يشعر، ومن هنا فإن النفس بصيرة على الإنسان، فإذا أرخى لها الحبل على الغارب نادته: سأذهب بك إلى الحضيض، وإذا أخذ بزمامها استطاع أن يسير بها إلى المراتب العالية.
يقول السيوطي رحمه الله:
ومن تكون نفسه أبيه تطمح للمراتب العليه
رجا فخاف فأصاخ فأحب مأموره وما نهى عنه اجتنب
أحبه الله فكان سمعه وعقله ويده ورجله
واعتده من أوليائه وإن دعاه أجابه أو يستعن يعن
أما الذي همته دنيه فلا مبالاة له سليه
ففوق جهل الجاهلين يجهل وتحت سبل المارقين يدخل
فخذ صلاحاً بعد أو فسادا وشقوة ترديك أو إسعاداً
وقرباً أو بعداً وسخطاً أو رضاً وجنة الفردوس أو نار لظى
فالإنسان من هذا الجانب مخير من زمام نفسه، إن شاء أطلق لها الزمام فسارت به إلى أسفل سافلين إلى الحضيض الأدنى، وإن شاء طمح بها إلى المراتب العلية، فانقادت له وراء ذلك، وإذا راقبها هذه المراقبة أتت طائعة فإذا دعاها إلى عبادة وخير استسلمت وانقادت، وإن دعيت إلى شر وجدت تأبياً وتمنعاً من ذلك.
أما الذي لا يعالج نفسه هذا العلاج، ولا يجتهد في مجاهدة نفسه عما تهوى أو تحب، فإنه إذا دعاها إلى العبادة تكاسلت، وإذا رأت أنه سيحملها علي طاعة من الطاعات نفرت مثل الدابة، فالدابة إما أن تكون مطيعة وإما أن تكون شروداً حروناً، فكذلك النفس، فإذا عودها الإنسان على إزالة هذه الأخلاق الذميمية، كانت كالدابة المطيعة المنقادة التي يحمل عليها ما شاء، وتسير به حيث شاء، وإذا عودها على هذه الأوصاف الذميمة وأرخى لها الحبل على الغارب كانت حرونا شروداً إذا احتاج إليها نفرت منه ولم يستطع أن يمسك بزمامها، وإذا أحست ببردعة أو بأي حمل سيحمله عليها نفرت منه.
إذاً: لا بد من مراقبة النفس هذه المراقبة، فالذي إذا سمع الأذان (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، أخذه النعاس وبحث عن الوسادة فنفسه لم تنقد له بعد، وهي مريضة بهذا المرض العضال المخوف ومن نام على فراشه ولم يستيقظ من الليل ولم يستطع إذا تعار من الليل أن يذكر الله وأن يتوضأ وأن يصلي وأن يحل عقد الشيطان، فنفسه مريضة بهذا المرض.
والذي لا تطاوعه نفسه على صوم النذر، أو لا تطاوعه على صوم النفل أو لا تطاوعه على إنفاق المال، أو لا تطاوعه إذا أراد أي خير من الخيرات، فنفسه مبتلاة بهذا المرض العضال ولابد من معالجته قبل فوات الأوان، ولا بد أن يضعها في قفص الاتهام وأن يحاسبها محاسبة دقيقة، وليعلم أن أمامه حساباً آخر أكبر من هذا.. حساب عندما توضع الموازين القسط ليوم القيامة فتوزن فيها الأعمال بمثاقيل الذر، لذلك كان لزاماً عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب.
ثم النوع الثالث: التعامل مع الناس، وهذا أيضاً له دلائل وضوابط:
الضابط الأول في التعامل مع الناس: أداء حقوقهم لهم:
وهم متفاوتون في الحقوق تفاوتاً عجيباً، فأعظم الناس حقاً على الناس، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو السبيل إلى الهداية والمبلغ عن الله سبحانه وتعالى، وقد شرط الله على المؤمنين في الإيمان محبته، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم، فإذا وجد الإنسان جفافاً فيما يتعلق بالتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه سمع اسم إنسان من معارفه، أو من الذين يعرفهم، أو كان إذا بلغه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتأثر به وكان كأنما بلغه كلام أحد الناس، فهو مصاب بمرض عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى يقول في كتابه: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور:63] ، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * ولَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحجرات:1-5] .
فاعتبار الإنسان لتعامله مع النبي صلى الله عليه وسلم وتأثره به، يعرف به هل هو سقيم مريض النفس في هذا الجانب، أم هو صحيح معافى، إذا كنت يا أخي تسمع حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد أثراً لذلك الحديث على نفسك، أو إذا سمعته كأنما سمعت كلام الناس المعتاد فأنت مريض في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضاً عضالاً عظيماً، ولا بد من علاجه.
إذا كنت لا تستشعر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تستشعر الانتماء له وأنك تريد أن تبعث تحت لوائه يوم يدعى كل أناس بإمامهم: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا[الإسراء:71] ولا تستشعر محبتك للورود عليه والشرب من حوضه شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبدا، أو لا تستشعر تعظيمك لأصحابه وخلفائه الحاملين سنته الناشرين دعوته، أو تستشعر اشمئزازاً من أي خلق من أخلاقه أو وصف من أوصافه؛ فاعلم أنك مبتلى بداء عضال.
أخي! لاحظ السنن والهيئات والأوصاف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت في نفسك نفوراً من أية صفة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم بأنك مصاب بهذا المرض، فالذي ينفر -مثلاً- من توفير اللحية، أو من أي وصف من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي ينفر من الدعوة إلى الله التي هي وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي يشمئز من الذين يبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه إذا رأى إنساناً يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقول المعلم الأعظم: (بلغوا عني ولو آية): (ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، (ورب مبلغ أوعى من سامع)، (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)؛ فإذا كان الإنسان يشمئز من هؤلاء ولا يتحمل سماع ما يقولون؛ فهو مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يعالجه قبل أن يكتب له سوء الخاتمة.
ولهذا فإن مالكاً رحمه الله كان في طريق العقيق، فسأله رجل عن حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله عليه وسلم في الطريق؟ اجلدوه عشرين جلدة، فقيل له: يا أبا عبد الله ! إنه القاضي! -قاضي المدينة- فقال: القاضي خير من أجلد، فجلدوه عشرين سوطاً، فرحمه مالك فدعاه إلى بيته وأجلسه في مجلسه وحدثه عشرين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل سوط بحديث، فقال القاضي: وددت لو جلدني مائة فحدثني مائة حديث.
وكان مما قال مالك رحمه الله: (لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، وكان إذا ذُكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته، وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اصفر وجهه، وعلاه الغشي، حتى رحمناه وخرجنا عنه).
هذا هو التوقير الذي اشترطه الله على المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي لا يحس بهذا التقدير والتوقير في باطنه وقلبه، فهو مبتلىً بداء عضال في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقلما ينتفع بشيء مما جاء به، فقد حيل بينه وبين النور الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك في التعامل مع الوالدين اللذين هما أمن الناس على الإنسان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان أن يعاملهما معاملة حسنة كما أمر الله بذلك فقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[النساء:36] .. وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[الإسراء:23] .. وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا[العنكبوت:8].
فإذا كان الإنسان يجد في نفسه ازدراءً واحتقاراً لوالديه، أو عدم عناية بأمرهما وشأنهما، أو نقصاً في احترامهما أو عدم نصيحة لهما أو برٍ بهما، فهو مبتلى بمرض عضال في التعامل مع الوالدين، وهذا المرض هو الذي يسمى بالعقوق وصاحبه لا يدخل الجنة، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة)، أنه سيموت على الكفر فتسوء خاتمته، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة عاق لوالديه، ولا منانٌ بالخير، ولا ماشٍ بالنميمة) فهؤلاء الثلاثة لا يدخلون الجنة، بمعنى أن من استمر على ذلك إلى الموت فستسوء خاتمته؛ نسأل الله السلامة والعافية.
وكذلك في التعامل مع الآخرين لا بد من أداء حقوقهم إليهم أياً كانت هذه الحقوق، والله سبحانه وتعالى رتب بعضها بقوله: عْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:36] فكل هؤلاء لهم حقوق يجب أداؤها على ما أمر الله به، ومن قصر في شيء من هذه الحقوق أو لم يؤدها، فإن نفسه مريضة مرضاً بحسب ذلك الحق الذي قصر فيه.
ثم بعد هذا من حقوق الآخرين عليك: الزهد فيما في أيديهم:
أن تزهد فيما عندهم، لأنك كلما زهدت فيما عند الناس رغبت فيما عند الله، وهذا من تمام إيمانك بالله وتعلقك به.
ومنها عدم تغيير قلوبهم بما ليس بلازم شرعاً:
فلا تغضب الناس في غير حق، أما في الحق فإن الحق أحق أن يتبع، لكن إذا لم يكن ذلك بحق وكنت من الفضوليين الذين إذا رأوا أي إنسان حاولوا إغضابه واستفزازه بأي وجه من أوجه الاستفزاز والإغضاب، فاعلم أنك مبتلى بمرض عضال في التعامل مع الناس، لأنك تسعى لإغضابهم بغير حق شرعي.
والغالب أن من ابتلي بهذا المرض قلما يستطيع تغيير منكر أو أن يغضب لغضب الله، أو يرضى لرضاه، فمن كان يغضب الناس بغير حق فقلما يوفق لإغضابهم في الحق، لأنهم تعودوا على أنه يسعى لإغضابهم في غير حق، فإذا رآهم على منكر فلا يستطيع أن يغضب لغضب الله ولا أن يغير ذلك المنكر، لأنه تعود أن يغضبهم بأمور تافهة خارجة عن الحق، فهذا مبتلى بداء عضال في التعامل، وعليه أن يعالجه قبل أن يموت عليه.
ثم بعد معرفة حقوق الله وحقوق النفس وحقوق الآخرين في التعامل، ومعرفة الإنسان للنقص الذي لديه في أي وجه من هذه الأوجه، يجب عليه العلاج.
وبعد ذلك ينبغي له أن يبحث عن الأمراض النفسية الجامعة، ومنها الشح والبخل، والحرص على الدنيا وإيثارها على الآخرة، وحب الدنيا ولذاتها.
ومنها الغضب: فمن كان سريع الغضب لأدنى الأسباب فهو مريض مرضاً نفسياً عضالاً حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إلى تركه، وهو من عمل الشيطان.
ومنها كذلك الحسد للآخرين: فإذا رأى من هو في نعمة من نعم الله حسده على ذلك، وسيبقى دائماً في قلق وهم؛ لأن نعم الله سابغة، ولا يمكن أن ترى عبداً من عباد الله إلا وهو في نعمة عظيمة من نعم الله: إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34] ، فإذا كانت نعم الله تغضبك فستبقى غضبان أبداً؛ لأن نعم الله سابغة على الناس، والحاسد إنما يضر نفسه؛ لأنه سيبقى في قلق دائم ولا يرد شيئاً عمن حسده.
كذلك فإن من هذه الأمراض الجامعة الكبر: حيث يتكبر الإنسان على الآخرين ويغمط الحق وينكره، ويدعوه إلى ذلك تكبره هو، كحال إبليس الذي قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ[الأعراف:12] وهو أصل كثير من الأمراض القلبية.
وكذلك من هذه الأمراض التي يبتلى بها الناس: الفضولية وعدم الجد في الحياة؛ فهو مرض عضال من أمراض النفوس، فمن وجده في نفسه فليعلم أنه مبتلى بداء عضال من هذه الأمراض.
وعلاج هذه الأمراض كلها بالمبالغة في التوبة والاستغفار، والإنكار على النفس اتصافها بهذه الصفات، والحرص على إزالتها، والتعود على ما يخالفها، واللجوء إلى الله بالدعاء ليزيلها، ولذلك كان في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجبرني وعافني واهدني لأحسن الأعمال والأخلاق واصرف عني سيئها، فإنه لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا أنت) ، والإنسان محتاج إلى أن يدعو بهذا الدعاء دائماً، حتى يتحلى بالأوصاف الجميلة وينقطع عن الأوصاف القبيحة.
فإذا حصل الإنسان على هذا المستوى وهو التزكية بمعنى التطهير، فطهرت نفسه من هذه الأمراض، وتخلى عن الشرك بكل أنواعه، وتخلى عن الأمراض المتعلقة بالتعامل، وتخلى عن الأمراض الجامعة فطهرت نفسه من هذه الأمراض، أصبح مستعداً للتحلية، جاهزاً لها.
والتحلية هي الشق الثاني من التزكية، وهي الاتصاف بالصفات الحميدة.
وهذه الصفات الحميدة أعظمها تنويراً الإيمان وزيادته بأن يكون إيمان الإنسان حسناً، وأن يحسن إيمانه وإسلامه، والناس في درجات الإيمان بينهم من التفاوت ما الله به عليم.
وهو تفاوت يكون تفاوتهم في النجاة على أساسه يوم القيامة، فأهل الجنة يتراءون يوم القيامة من الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء من شدة تباعد منازلهم، وأعلى الجنان الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن للمقربين، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتته أم حارثة بعد رجوعه من بدر، قالت: (يا رسول الله! أخبرني عن ولدي أفي الجنة هو فأصبر، أم ليس فيها فسترى ما أصنع؟ فقال: أوجنة هي! إنما هي جنانٌ، وإن حارثة قد أصاب الفردوس الأعلى منها).
والله سبحانه وتعالى بين لنا في سورة الرحمن وفي سورة الواقعة التفاوت العجيب بين الجنتين وأهلهما، والتفاوت العجيب بين المقربين وأصحاب اليمين واضح، ودرجته متباينة متفاوتة، وهذا التفاوت يقتضي من الإنسان الحرص على ألا يكون فقط من أصحاب اليمين، بل أن يكون من المقربين، وأن يزداد إيماناً ويقيناً كلما تقدم به العمر، فيحاول أن يحلي نفسه بمراتب الإيمان العالية.
وهذه المراتب منها أولاً: مقام التوبة، وهو مقام رفيع، يكون الإنسان به مخلصاً في توبته، فتكون توبته توبة نصوحة: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8] .. التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ[التوبة:112] ، فالذي يتحلى بهذه التوبة يذوق حلاوة الانتقال من مرحلة التخلية إلى مرحلة التحلية.
والتوبة ثلاث مقامات:
المقام الأول: توبة الله على العبد، بمعنى: إرشاده وتوجيهه لأن يتوب إلى الله، وهذا شرط لعمل العبد، لأن العبد مالم ينعم الله عليه بنور التوبة، فيستمر في معصيته، لكن إذا شاء الله له النور، سلط عليه النور المشع العظيم -نور التوبة- فيراه ويتبعه فيتوب.
المقام الثاني: إذا تاب العبد وخرج من سيئه وندم عليه لقبحه شرعاً، وعزم ألا يعود إليه.
المقام الثالث: توبة الله على العبد، أي: قبول توبته.
إن هذه المراحل اثنتان من عند الله وواحدة من عند المخلوق، التوبة الأولى من عند الله، وهي توجيه العبد إلى أن يتوب، والتوبة الثانية التي تليها هي توبة العبد نفسه، والتوبة الثالثة هي توبة الله على العبد بقبول توبته، ولذلك قال الله تعالى: ولقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:117] وهذا العطف بثم يقتضي المغايرة، فهي توبة جديدة: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا[التوبة:118] والعطف كذلك بنية تكرير العامل والمعنى: وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[التوبة:118] تاب عليهم ليتوبوا، معناه: سلط عليهم نور التوبة، وجههم إليه فاتبعوه ثم قبل منهم التوبة بعد ذلك، وهذه التوبة الأخيرة.
وبعد مقام التوبة يترقى الإنسان إلى مقام الشكر على النعم، لأنه يشهد نعم الله التي كانت مستورة عنه بذنوبه وكانت مغطاة بسوء خلقه، وبأوصافه الذميمة التي كانت يتحلى بها، فلم يكن يستشعر نعمة الله.
عباد الله! كثير من الناس تجد أن القلق الذي يصيبهم والحزن الذي يغلق نفوسهم سببه أن الذنوب قد سترت استشعار نعمة الله عندهم فغيرت سلوكهم؛ لكن إذا تخلصوا من هذه الذنوب، اتسعت أخلاقهم واتسع بالهم وعرفوا أنهم لا ينالهم إلا ما كتب لهم، وأن الدنيا زائلة، وأنها دار الغرور، وبالتالي فكل ما فيها لا ينبغي أن يصيب المؤمن بحزن: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٍ[الحديد:23].
فمن تجاوز مظلة الذنوب وخرق جدار الصوت -فهي بمثابة جدار الصوت الذي يحيط بهذه الأرض- استطاع أن يشكر النعمة.
وشكر النعمة هو صرف جميع نعم الله في مرضاته، فالوقت نعمة من الله فيصرفه الإنسان في مرضاته، والإيمان نعمة من الله فيصرفه في مرضاته، الجوارح نعمة من الله فيصرفها في مرضاته، فيسعى حينئذ لأن تنكشف له أبواب النعم التي كانت مستورة عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، كثير من الناس حيل بينهم وبين أن يشاهدوا النعمة، فهم يعيشون فيها ولا يشاهدونها ولا يدركونها، فحينئذ لا يمكن أن يشكروها، لأنهم ما عرفوها أصلاً، بل هم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وأكثرهم كافرون.
ثم بعد مقام الشكر، يصل الإنسان إلى الخوف والرجاء فيصل إلى مستوى يعيش فيه بين خوف الله ورجائه، طيلة حياته كلها.
فأنت الآن تزعم أنك تخاف الله ولكن ذلك الخوف لا يمنعك من الوقوع في المعصية، وتزعم أنك ترجو ما عند الله، ولكن ذلك الرجاء لا يمنعك من القلق والخوف من غير الله، ومعناه أنك ما تحققت بعد من مقام الخوف والرجاء.
فمقام الخوف والرجاء إذا وصلت إليهما، عشت بينهما، فشاهدت الأمور من عند الله لا من عند الناس، وكنت، بين هذين المقامين بحيث يأتي الوعد من الله سبحانه وتعالى على أعظم درجات الكمال، ويأتي منه الوعيد على أعظم درجات النقص، فيبقى الإنسان متردداً بين الحالين، كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى[الليل:13-16] فتقول ولله الحمد: أنا لست الأشقى، ولم أكذب ولم أتول، لكن إذا جاء الوعد: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى[الليل:17-21] فتقول: أنا أيضاً لست كذلك.
فتبقى متردداً بين الخوف والرجاء، تعيش بينهما وتذوق حلاوة ذلك، وهذه الحلاوة إنما يذوقها من وصل إلى مقام التردد بين الخوف والرجاء، وهو أحلى مقامات العيش، ولذلك يعبر عنه أصحاب العشق الدنيوي بما تمثله أبو الطيب المتنبي :
وأحلى الهوى ما شك بالوصل ربه وبالهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
فكذلك في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، إذا كان الإنسان متردداً بين الخوف والرجاء دائماً ذاق حلاوة هذه المعاملة.
ثم بعد هذا مقام آخر، وهو مقام الرجاء والتوكل، الذي يقتضي من الإنسان أن يعلم علم اليقين أن الله لا يخلف الميعاد، وأن وعده هو الحق لا ريبة فيه، وأنه هو الذي في قبضته السماوات والأرض ومن فيهن، وهو الذي القلوب بين أصبعين من أصابعه، وهو الذي النفوس كلها في يده، ومن هنا فينظر إلى من خالفه في ذات الله نظرة المشفق الوجل، لعلمه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتا ولا نشوراً، فينظر إليه هذه النظرة، وهذا المقام هو الذي وقف فيه نوح عليه السلام حين قال لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ[يونس:71] وكذلك هود عندما قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[هود:56] وهذا المقام هو الذي تحلى به إبراهيم عندما رموه في النار فقال الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[الأنبياء:69] وتحلى به محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ[آل عمران:173-174] .
فأنت اليوم تهلع وتطمع وتخاف وترجو وأنت تزعم أنك مؤمن، والسبب أنك ما وصلت إلى هذا المقام، ولهذا يذكر عن أبي الحسن الشاذلي أنه حين أتى الإسكندرية استقبله علماؤها، فسألهم فقال: أتصلون؟ قالوا سبحان الله أنترك الصلاة؟ قال: أفتهلعون وتطمعون؟ قالوا: نعم، قال: إذاً أنتم لا تصلون، فالله تعالى يقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ[المعارج:19-22].
والمقصود بذلك: المصلون الذين صلاتهم هي الصلاة الحقيقة الكاملة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففيها تذوق لآيات الله، وإدراك لعجائب خلقه، ومقارنة بين ما يشاهد من الآيات المنيرة وبين ما يسمع ويتدبر من الآيات المذكورة: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف:105-106].
ثم بعد أن يصل الإنسان إلى هذه المقامات ويتحلى بها سيسعى إلى التعامل مع الناس وسيسعى إلى تحسين الخلق، بأن يصل إلى درجة يعدل فيها مع القريب والبعيد، يحسن فيها كل الإحسان حتى في حال القتل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) فهو يقاتل الكفار وهو يرحمهم، لأنه يخاف أن يموتوا على الكفر، ويجلد العصاة وهو يرحمهم، لأنه يريد بذلك رجوعهم عما حرم الله عليهم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في غاية الحرص على المأمور ليهتدي ويتوب، ولأنه يعلم أنه غير رب وغير معصوم وإنما أنجاه الله تعالى من الوقوع في هذه المعصية لطفاً ورحمة به، وابتلى بها غيره، فهو ينظر إليه على أنه مبتلى قد وقع في بلاء عظيم.
فهو من واقع حرصه عليهم يريد هدايتهم، ولا يريد التشفي فيهم، ولا التسلط عليهم ولا التجبر، وبهذا يستطيع أن يحسن التعامل مع الناس، وأن يحسن خلقه للآخرين، وحينئذ سيسعى الإنسان، للتحلي بالأعمال التي تكمل هذا الإيمان وتزيده، وهي نهاية المطاف في مجال التزكية.
وهذه الأعمال التي تقتضي من الإنسان أن ترسخ قدمه ولا تزل بعد ثبوتها، فيحتاج الإنسان فيها إلى كثير من المراقبة والمتابعة، ومن أعظم هذه الأعمال الفرائض التي افترضها الله عليه، فيحافظ عليها حفاظاً شديد جدّاً؛ لعلمه أنها هي الحد الحائل بينه وبين الكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين العبد والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) وكذلك لعلمه أنها أعظم ما يتقرب به إليه: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) فهو يتصور أنه في طريق سائر إلى الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن أبلغ ما يتقرب به إليه وأنجى ما ينجيه في هذا الطريق الفرائض.
ثم بعدها يأتي بالمكملات من السنن والمندوبات: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
وهذه النوافل آثارها متفاوته جداً فيما يتعلق بالتزكية، فمن أعظم ما يقتضي التزكية ما فيه خضوع ومذلة لله، ولهذا كان كثير من العلماء يحب الفقر ويؤثره، لأنه مقتض منه للرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، والتعلق به واللجاء إليه، وكان كثير من العلماء يعدون الفقر والحاجة عيداً لأنها تقتضي اتصالهم بالله وكثرة دعائه وكثرة التعلق به، كما قال الشاعر:
العيد قالوا غداً ما أنت لابسه فقلت خلعة كاس ثوبه خلع
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع
إلى أن يقول:
عبد يرى الفاقة الأعياد والجمعا
الفاقة هي عيده، وكذلك الجمعة هي عيده، لما فيها من اتصال بالله سبحانه وتعالى واللجأ إليه والضراعة بين يديه.
كذلك فالمقصود هنا بالفقر هو الحاجة التي تقتضي من الإنسان أن يمد يديه إلى الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[فاطر:15] وليس المقصود به الفقر الذي يؤدي بالإنسان إلى الفقر إلى الناس وتكففهم، وتعلق القلب بما في أيديهم، فهذا من المذلة المخالفة لما نحن فيه تماماً، ولذلك فإن الله وصف المهاجرين بالفقر، وهم أعلى أهل الإيمان مقاماً، فعندما قسم الفيء بين المؤمنين بلغ بالمهاجرين أعلى مستوى من مستويات الإيمان فقال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ[الحشر:8].
فهؤلاء هم أعلى الناس إيماناً ومقامهم فوق المقامات الأخرى، وقد قدمهم الله على الأنصار، وقدم المهاجرين والأنصار على من سواهم من أهل المال فقال: السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا[التوبة:100] فهم أعلى الناس مقاماً، وفقرهم إنما هو إلى الله لا إلى الناس.
وكذلك علينا أن نعلم أن الفقر ليس بانعدام العرض، فكثير من الأغنياء معتبرون من جهة الشرع فقراء، لأنهم متعلقون بما جعله الله تحت أيديهم من المال، فهم بهذا في عداد الفقراء لا في عداد الأغنياء، وكثير من الفقراء هم في عداد الأغنياء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس) فالغنى غنى النفس، وليس عن كثرة العرض وكثرة الأموال، بل إن الأموال كثيراً ما تطغي، كما قال الله تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7] وكثيراً ما يكون الإنسان معبداً لها يخدمها ويعالجها فلا يستفيد منها راحة ولا طمأنينة ولا سعادة، بل هو خادم لها طيلة حياته.
فعلى هذا إذا وصل الإنسان إلى مقام يحب فيه ما يؤدي إلى انكساره بين يدي الله سبحانه وتعالى، وتعلقه به، ورجائه والاتصال به، فهذا هو المقام المطلوب، ومما يعين عليه السهر، لأن كثرة النوم معينة للبدن على النفس، وهي مقتضية لفساد المزاج، ولأن يكون الإنسان الذي هو كثير النوم كثير السعي إلى الراحة، وكثير الأكل والغضب، فلهذا على الإنسان أن يحاول أن يتقلل من النوم ما استطاع.
كذلك الصمت إلا ذاكراً لله تعالى فهو مما يعين على الوصول إلى هذا المقام، فالإنسان الذي يكثر الكلام في غير ذكر الله، لا بد أن يقسو قلبه، وقسوة القلب منافية للتزكية التي نسعى للوصول إليها، ولذلك أخرج مالك في الموطأ، أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية) وقد أخرج مسلم في الصحيح بعض هذا الحديث من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل فإن إكثار الكلام مقتض لفساد المزاج، فالذي يكثر الكلام في غير حاجة لا بد أن يكون فضوليا، ًوالفضولي لا يمكن أن يكون جاداً، ومن لم يكن جاداً لا يمكن أن يتوجه أصلاً، ومن لم يتوجه لم يسلك، ومن لم يسلك لم يصل.
وهذه هي الدرجات، فأول ذلك الصدق في التوجه، أن يصدق الإنسان في توجهه إلى الله، ثم يتوجه، ثم يسلك الطريق بعد أن يتوجه إلى الله، ثم بعد السلوك يصبر على هذا الطريق ويستمر عليه حتى يصل، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: إن عوائق الزمن كثيرة جداً، فلذلك قل من توجه، ثم قل من صدق في توجهه، ثم قل من سلك، ثم قل من وصل، وهذا ما نظمه الشيخ محمد سالم حفظه الله في قوله:
لذاك قل القصد بدءاً ثم قل بعد السلوك ثم قل من وصل
وقد ذكر هذا خليل رحمه الله أيضاً في كتابه الجامع، فكثير من الناس ينصرفون في العقبة الأولى من الطريق، وكثير منهم في العقبة التي بعدها، وآخرون في العقبة التي وراء ذلك، ومن هنا لا يصل من السالكين إلى طريق الحق إلا قلائل، وهم الذين يصبرون على هذا الطريق ويصمدون عليه إلى نهايته، وهم عدد قليل جداً: وكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249] فالذين يصبرون على هذا الطريق هم الأقل.
عندما قص الله علينا قصة بني إسرائيل وامتحاناتهم التي امتحنهم بها في طريق الجهاد بين أنه في كل امتحان يسقط جمهور، ثم في الامتحان الذي يليه يسقط جمهور الناجحين في الامتحان السابق، حتى لم يبق إلا الفئة القليلة، ولذلك قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[البقرة:246] هنا قالوا: نقاتل في سبيل الله، وهذا أول امتحان.
قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا[البقرة:246] وهذا سقوط في الامتحان ورسوب فيه بالكلية، لأنهم لم يعودوا مجاهدين في سبيل الله وإنما أصبحوا مجاهدين في سبيل أوطانهم وأولادهم: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:246] وهذا الرسوب المطلق وما نجح إلا عدد قليل: مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[البقرة:246] .
قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا[البقرة:247] هذا امتحان آخر. قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ[البقرة:247] فرسبوا: قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة:247].
هذه دورة، وهذا الامتحان الثاني يكون للذين وصلوا إلى الدور الثاني، ثم بعد ذلك جاء امتحان آخر: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ[البقرة:248-249] هذا امتحان آخر: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمَْ[البقرة:249] الذين نجحوا في الامتحان الأول، والذين نجحوا في الدورة بعد ذلك، هنا تساقطوا ولم يبق إلا قليل من قليل، فلذلك قال: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:249].
ثم بعد هذا الامتحان الآخر، فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ[البقرة:249]، وهم قليل من قليل قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ[البقرة:249] وهذا امتحان آخر فرسبوا فيه مع الأسف: قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ[البقرة:249-251].
ولذلك بين الله سبحانه وتعالى سنته في التدافع بين الناس في الأرض: ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[البقرة:251] فهذا فضل الله على الناس يقتضي التدافع بينهم، فلو استبد أهل الباطل وحدهم ولم يجدوا من يقارعهم، أو استبد أهل الحق وحدهم، ولم يجدوا من يقف في وجههم لفسدت الأرض، لكن الدنيا دار امتحان، ولا بد أن يبقى فيها أهل الامتحان، ومن هنا لا بد أن يبقى الحق فيقف في وجهه أقوام، ويبقى الباطل كذلك فيقف في وجهه أقوام، ويبقى الصراع مستمراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه سنة الله في التدافع، فهؤلاء يردعهم هؤلاء وهكذا.
فإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى احتاج إلى التحقق بالصبر واليقين:
فالصبر بالصمود والاستمرار على ما هو عليه والخوف من أن ينتكس: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:60-61] فهؤلاء يعملون هذه الأعمال الجليلة ولكنهم يخشون أن ترد عليهم وألا تقبل منهم، فكل عمل عملوه يخافون ألا يتقبله الله منهم وأن يرده عليهم، ومن هنا فلا يصابون بالغرور، ولا يستعظمون أعمالهم أياً كانت، ويخافون من سوء الخاتمة، ومن الحور بعد الكور، وهم بهذا على وجل من عدم القبول.
أما من ركن إلى العمل، فقد وقع في جانب من جوانب الشرك وانحرف عن الجادة، وأخذ ذات الشمال عن السكة؛ لأنه ركن إلى العمل ولم يركن إلى من ألهمه هذا العمل ومن وفقه به، فيحس باتكاله على العمل ويلجأ إليه، والله تعالى يقول: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[الحجرات:17] فلذلك إذا ركن الإنسان إلى عمله وأعجب به، أو أحس بهذا العمل وأصبح يستشعره، فكثيراً ما يبتلى بالغرور، والمغرور لا يمكن أن يكون من جند الله المفلحين الذين سيبيض الله وجوههم، وستختار لهم منابر النور عن يمين الرحمن.
ثم بعد ذلك إذا استطاع الإنسان التحلي بالصبر، وحاول التحلي باليقين، بأن يكون المؤمن متنوراً بنور الله، بحيث تشرق نفسه، وتتخلى عن الأغلال بالكلية، فلا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يكرهه الله، ولا يرضى إلا ما يرضاه الله سبحانه وتعالى من عباده، فتصبح جوارحه مربوطة برضا الله سبحانه وتعالى متعلقة به، وتصبح بصيرته نافذة وتصوره صحيحاً؛ لأن الذي يجعل الإنسان يتصور تصوراً خاطئاً، أو يتوهم الأمور فلا تمشي على وفق ما يريد، أو يتخيلها على وجه فتكون على خلافه، هو الاستتار بغشاء الذنوب، والاستتار بأقذار هذه الدنيا وأوساخها، فإذا تخلص الإنسان من ذلك بالكلية أضاءت بصيرته، وأصبح نوراً على نور، فيزده الله نوراً كما قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ[النور:35].
وقد بين الله حال أولئك الذين يركنون إلى الأعمال وأنهم ظلام في ظلام، فقلوبهم مظلمة لاشتغالها عن الله سبحانه وتعالى وإعراضها عن الحق، وظواهرهم مظلمة لاشتغالها بالمعصية، فضرب لهم المثل، فقال في هذه السورة: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[النور:39-40].
نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينورنا بنوره، وأن يملكنا أنفسنا بخير، وألا يسلطها علينا بشر، اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم ارزقنا معرفة بك يا أرحم الراحمين.
اللهم اشغلنا بك عمن سواك يا أرحم الراحمين.
اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم استرنا بسترك الجميل.. اللهم استرنا بسترك الجميل.. اللهم استرنا بسترك الجميل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر