بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد:
فقد سبق أن قلنا: إن علم التوحيد هو من أفضل العلوم ولم نقل هو أفضل العلوم، مع أن كثيراً من الذين ألفوا فيه يقولون: هو أفضل العلوم كما قال المقري:
وأفضل العلوم بالإطلاق علـم به معرفة الخـلاق
لكن يجاب عن هذا: بأن هذا العلم ليس وحده هو الذي به معرفة الخلاق، بل علم التفسير كذلك، وعلم القراءات كذلك، وعلم الحديث كذلك، فمعرفة الخلاق لا تكون إلا بهذه العلوم مجتمعة، كما ذكرنا سابقاً في قضية القرآن وتناوله لكل هذه العلوم، فلذلك لا نجزم بأنه أفضل العلوم على الإطلاق؛ لأن هذه العلوم تكليفياً في مرتبة واحدة، ما يجب منها عيناً يجب في الجميع وما يجب كفاية يجب في الجميع، ويصعب علينا أن نضع مسطرة لها بحسب التفاوت في الفضل، بل نقول: هو من أفضل العلوم، ويكفينا هذا، حتى لا نجازف ونقول على الله بغير علم، فمعرفة الله ليست فقط بهذا العلم، بل تدخل في التفسير، وفي القراءات، وفي الحديث، وفي شرح الحديث، وفي كثير من العلوم الأخرى التي سنذكرها.
بالنسبة لتاريخ هذا العلم ونشأته وتطوره، أقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم جاءهم هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، فأخذوا ذلك بتربيتهم؛ لأن المقصود بالعلم -كما ذكرنا- هو التوصيل إلى حصول الإيمان وخشية الله، وهم حصلوا على ذلك بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
فكثير منهم لم يكن من العلماء الكبار، ولم يستوعب كثيراً من المسائل العلمية، لكن مقصود العلم حصل لهم، وهو تحصيل خشية الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] ، وقد حصل أقل الصحابة مستوى في العلم على مستوىً من الخشية أكبر من مستوى من وراءهم من العلماء بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم له.
فإذاً حصلوا على فائدة العلم، وتجاوزوا كثيراً من المراحل، وقطعوا كثيراً من المسافات في فترة وجيزة، فقد مكث عتاب بن أسيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً فقط، وهو في الرابعة عشرة من عمره.
كم مكث معه ابن عباس ؟ كم مكث معه أسامة بن زيد ؟ كم مكثت معه عائشة ؟ سنوات محصورة يقطعون فيها مراحل عجيبة لا تقطع إلا في الأعمار الطويلة جداً.
مالك بن الحويرث كم مكث معه هو وأصحابه؟ فترة وجيزة جداً قطعوا خلالها مراحل عجيبة.
وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، يقول أحد العلماء في معجزاته:
نور به عن تهج صحبه غني وغير أصحابه مما وحى وهجا
(نور به عن تهج صحبه غني): أصحابه استغنوا عن التهجي والقراءة والكتابة، (وغير أصحابه مما وحى وهجا) أي: مما كتب وقرأ، فنحن اشتغلنا بالقراءة والكتابة لأننا محتاجون إلى ذلك، ولكن النور الذي كان فيه هو أغناهم عن هذا.
ومن هنا فإن أتباع الصحابة أيضاً لم تكن حاجتهم إلى تفصيل هذه العلوم مثل حاجة أتباع التابعين، وبدأت الحاجة من عصر أتباع التابعين، فهو وليد الحاجة، ولا يقال: إن هذا العلم لم يكن موجوداً في عصر الصحابة ولم يهتموا به، بل كان موجوداً، لكن كان في ثنايا القرآن وفي ثنايا السنة مثل غيره من العلوم الأخرى، كذلك الفقه وكذلك الأصول وكذلك الحديث دراية وكذلك التفسير، كلها كانت مجتمعة مع الكتاب والسنة، وقد بينا من قبل أن الوحي يبحث فيه من جهتين: جهة الورود وجهة الدلالة.
وكل العلوم الشرعية راجعة إلى هذين البحثين: بحث الوحي من جهة الرواية وبحث الوحي من جهة الدراية، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً.
أما جهة الرواية فلسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، فهو الصادق المصدوق، ولسماع بعضهم من بعض وهم جميعاً عدول؛ لأن الله تعالى عدلهم في كتابه فقال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[التوبة:96] ، وقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100] ، وقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ[الفتح:18] ، فأثبت لهم الرضا، وإذا ثبت لهم الرضا انتفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين.
وإذا انتفى عنهم الفسق ثبت لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، فإما أن يكونوا عدولاً وإما أن يكونوا فساقاً، ولا يمكن أن يثبت لهم العدالة والفسق في وقت واحد، ولا يمكن أن يرتفعا عنهم في وقت واحد، إذا ارتفع عنهم الفسق وجبت لهم العدالة، فلما ثبت لهم الرضا، الذي لا يكون عن القوم الفاسقين ثبتت كذلك لهم العدالة، فإذاً هم عدول، فهذا المجال مجال الرواية.
أما مجال الدراية فلم يحتاجوا إلى البحث فيه كثيراً؛ لأن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، وإزالة الشبهة وطرد الشيطان بمجرد وجوده كافٍ لتجاوزهم كل العقبات، فقد يشك الإنسان كثيراً من الشكوك، وتأتيه كثير من الوساوس والأوهام، وبمجرد أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب عنه الشيطان فيزول عنه كل ذلك.
فنحن اليوم مشكلتنا هذا الصراع الشديد المستعصي مع الشيطان، فيأتينا بالشبهات ويأتينا بالشهوات ونغرق في هذه الأمور، لكن هم بطرد الرسول صلى الله عليه وسلم للشيطان تنتفي عنهم هذه الأمور كلها وتزول، بعلاجه بكلمة واحدة أو بنظرة واحدة.
كذلك فإنهم عاشوا في البيئة التي نزل فيها الوحي، فحضروا نزول الآيات، وحضروا ورود الأحاديث، وفهموا لغة العرب على وجه السليقة، لأنها كانت لغتهم، ولم تختلط الحضارات بعد، ولم تتغير الدلالات، فلم يحتاجوا إلى البحث في مجال الدراية.
جاء بعدهم أتباعهم وهم التابعون فلم يحتاجوا كذلك حاجة ماسة إلى البحث في الجهتين:
أما جهة الرواية فلسماعهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله، وأما جهة الدراية؛ فلأن الأوضاع لم تختلف ولم تتغير كذلك، فاللغة لم تتغير دلالات مفرداتها، وأوضاع الناس لم تختلف، والحضارات لم تختلف، وبقي فقط نقص هذه الأمة بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أفضل جيل يمكن أن يوجد بعده هم الجيل الذين رباهم، فاستفادوا من هذا الجيل، وحتى ارتسم ذلك فيهم وتشكل، كما ذكرنا أن ابن مسعود رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحكي هديه ودله، وربى ابن مسعود علقمة فكان يحكي هديه ودله، وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان يحكي هديه ودله، وربى إبراهيم منصور بن المعتمر فكان يحكي هديه ودله، وربى منصور سفيان الثوري فكان يحكي هديه ودله، وربى سفيان وكيعاً فكان يحكي هديه ودله، وربى وكيع أحمد بن حنبل فكان يحكي هديه ودله، وربى أحمد بن حنبل أبا داود فكان يحكي هديه ودله، كل واحد ينقل صورة مما رأى فيكون مثالاً للآخر تماماً.
ويقول الشيخ محمد سالم حفظه الله في ذلك:
ربى ابن مسعود مقيم الملـة فكان يحكي هديه ودلـه
وكان علقمـة لابـن أم عبد كهذا للنبي الأمـي
وكان إبراهيم يحكي علقمة واه له من نسب ما أكرمه
وكان منصـور لإبراهيم كذاك يحكي هديه القويم
وكان سفيان بلا قصـور مشبهاً بشيخـه منصور
وهكذا أيضاً وكيع كـان مشبهاً بشيخـه سفيان
وكان أحمد لدى الجميـع مشبهاً بشيخـه وكيـع
كذا أبو داود عند ..... مشبه بـأحمد بن حنبل
فهذه التربية الموروثة التي تتسلسل، فيكون الإنسان إذا أدركته كأنما رأيت صحابياً بالتسلسل، لذلك يقول أحد العلماء عندنا في مرثية الشيخ رحمه الله:
يمثل من هدي الصحابة صـورة ويا حبذا هدي الصحــابة مغنمـا
كما تعكس المرآة وجهاً أمامهـا ويحكي الصدى الصوت الفخيم المرخما
إذاً الحاجة إنما جاءت في عصر أتباع التابعين، فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، جهة الرواية وجهة الدراية، ومن هنا بدأ نخل العلوم وتفصيلها على ما ذكرنا.
بالنسبة لهذه الأسماء التي ذكرناها لهذا العلم كلها اصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح، والمهم من الاسم ما يميز المسمى ويعرف به، سواءً كانت تسمية له باسم يدل عليه أو تسمية له باسم لا معنى له؛ لأن الأعلام مسلوبة الدلالة، فلذلك لا اعتراض عليها في الجملة، وبما أنه لم يرد له اسم في الوحي، فإننا نبحث عن الأكمل في التسمية فقط.
أما تسميته بالإيمان فلم يرد أن أحداً سماه بالإيمان، والذين ألفوا كتباً في الإيمان إنما ذكروا فيها الأعمال الداخلة في مسمى الإيمان الذي هو الدين، ولم يخصصوا ذلك بهذا العلم.
بالنسبة للاستدلال بخبر الآحاد في هذا العلم:
فقد ذكرنا أن مستمده من الكتاب والسنة مطلقاً، والكتاب ليس فيه أخبار آحاد إلا شواذ الآيات، ولا يعرف في الشاذ من القراءات في القرآن ما يفيد بعض صفات الله، أو ما يفيد شيئاً من تفصيلات هذا العلم، إنما فيها ما يفيد في مجال الأحكام.
وأما في الحديث فإن الراجح أن أخبار الآحاد إذا صحت يستدل بها في هذا العلم، لكن لا يستدل بها في القطعيات إلا إذا وصلت إلى درجة القطع، وقد ذكرنا أن هذا العلم منه قطعيات ومنه ظنيات، فإذا كانت أخبار الآحاد ظنية فإنها يستدل بها في ظنيات هذا العلم، وما كان قطعياً منها مثل ما احتف بالقرائن فإنه يستدل به في القطعيات، فأخبار الآحاد الراجح أنها إذا احتفت بالقرائن أفادت العلم القطعي، هذا الذي نص عليه أحمد بن حنبل وذكره من دونه.
وبعض المحدثين يرى أن أخبار الآحاد إذا صحت صناعة أفادت العلم القطعي، وهذا يقوله كثير من المحدثين لكن لا معنى له، حتى إن العراقي رحمه الله ذكر الرد على هذا في ألفيته في الحديث حيث قال:
وبالصحيح والضعيف قصـدوا في ظاهر لا القطع والمعتمد
إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصـح مطلقـاً وقـد
خاض به قـوم ... إلى آخر ما قال.
كذلك من المتكلمين من رأى أن أخبار الآحاد لا تفيد القطع مطلقاً، وعلى هذا رد الاستدلال بها في القطعيات مطلقاً، لكن هذا القول فيه شطط وغلو، ولهذا فإن معنى القطع: القناعة التي تجدها أنت في نفسك، ولاشك أن أهل السنة إذا بلغهم الحديث من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر وصلوا إلى قناعة عقلية به، وهذه القناعة هي المطلوبة.
فلذلك ما اختف بالقرائن يقتضي القطع، فإذا كان الحديث متفقاً عليه أخرجه البخاري في الصحيح ومسلم في الصحيح، فأهل السنة الذين ليسوا غالين فيها ولا جافين عنها فيكفيهم هذا، بحيث يصلون إلى قناعة عقلية بأن هذا صحيح، وهذا هو المطلوب وإن كانت القناعة متفاوتة.
ونحن نعرف أن أهل الغلو يمكن أن يقولوا: هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح لكنه غير صحيح، أو أخرجه مسلم في الصحيح لكنه غير صحيح، لكن هذا غلو في السنة.
عامة المسلمين وعامة أهل السنة إذا كان الشيء في الصحيحين، وجدوا أنفسهم مسلمين به، وكذلك في الإسناد، مثلما قال العراقي : (وبالصحيح والضعيف قصدوا في ظاهر) فظاهره الصحة، أو ظاهره الضعف؟ ... لا القطع والمعتمد.
إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقـاً وقـد
خاض به قـوم فقيـل مالك عن نافع بمـا رواه الناسك
مولاه واختر حيـث عنه يسند الشافعي قلت وعنه أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم.
يقول الشيخ حفظه الله:
[بالبدء باسم الله في التقديم والوصف بالرحمن والرحيم]
ابتدأ البسملة فذكرها كاملة في هذا البيت، وذكر متعلق الباء في باسم الله وهو (البدء) ومعناه: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم، ومتعلق الباء محذوف أصلاً؛ لأن بسم الله الرحمن الرحيم جار ومجرور، والجار والمجرور لا يمثل جملة وإنما يتعلق بشيء محذوف، وهذا المحذوف إما أن يكون اسماً وإما أن يكون فعلاً، فيمكن أن تقول: ابتدائي بسم الله الرحمن الرحيم، فتكون الجملة اسمية، ويمكن أن تقول: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم فتكون الجملة فعلية، والفرق بينهما فرق بلاغي؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار، والجملة الفعلية تفيد التجدد والحدوث، ومقام الإنسان هو الذي يحدد ذلك.
(بالبدء باسم الله في التقديم) معناه: في بداية هذا النظم وفي مقدمته، (والوصف بالرحمن والرحيم) معناه: الوصف لاسم الله بالرحمن والرحيم، وهذا تمام البسملة.
و(قال) هي التي نصب بها قوله: بالبدء؛ لأن (بالبدء) هو محكي قوله، قال: (بالبدء باسم الله) أي: قال بادئاً باسم الله.
[قال محمد بسالم شفع نجل محمد بعال قد تبع
الهاشمي والمنتمي بالأس إلى المبارك الذي للخمس]
( محمد بسالم شفع) هذا اسمه هو، وهو اسم مركب، فاسمه الحقيقي محمد وشفع بسالم معناه: أضيف إليه سالم وركب معه، (شفع) معناه: أضيف إليه ذلك فكان به شفعاً بعد أن كان وتراً.
(نجل) معناه: ابن، (محمد بعال قد تبع) اسم أبيه أيضاً مركب وهو محمد عال، هكذا ينطق: عال! ولكن أصل التسمية: محمد علي، فـ(عال) وصف من علا يعلو فهو عال، وهذا الشيخ اسمه محمد عال، هكذا ينطقه العوام، فهو نطقه كما يعرف به ويشتهر، وهذا اللفظ صحيح في العربية، فالعالي معناه: المرتفع، وهو من الأسماء المنقوصة حذفت منها الياء إلى عالٍ بالتنوين مثل قاضٍ وداعٍ.
(قد تبع) أي: بذلك.
الهاشمي: هذا نسبه، وهو إلى بني هاشم، وهو من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب .
(والمنتمي بالأس إلى المبارك).
المنتمي معناها: المنتسب، بالأس معناها: بالنسب والأصل إلى المبارك وهو جده الأعلى وهو أبو قبيلته واسمه المبارك، قال:
[ثم إلى يعقوب منها ينتمي بالله ربي أعتزي وأحتمي]
(الذي للخمس ثم إلى يعقوب منها ينتمي) (الذي ينتمي) معناه: ينتسب بالحلف والمعاشرة والخئولة (للخمس) أي: إلى القبائل الخمس، وهي خمس قبائل كونت تحالفاً على نصرة دين الله، وحاولت إقامة دولة إسلامية ولكنها فشلت بعد حرب طويلة الأمد، فاشتهرت تلك الحرب التي أريد بها إقامة دين الله وإقامة دولة الإسلام وإقامة الجهاد في سبيل الله، وحاربها البرتغاليون والأسبانيون والفرنسيون، وأدى ذلك إلى اسقاط هذه الدولة بعد اثني عشر أميراً مبايعاً فيها، واشتهرت هذه القبائل باسم الخمس، وإحدى هذه القبائل هي بنو يعقوب، وهم من ذرية جعفر بن أبي طالب .
(إلى يعقوب منها ينتمي) معناه: ينتسب.
(بالله ربي أعتزي وأحتمي) يقول: إن هذا الانتساب لمجرد التعريف وليس للاعتزاء بعزاء الجاهلية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).
فليس للفخر بالنسب ولا لعبية الجاهلية وإنما هو لمجرد التعريف، ولذلك قال: (بالله ربي أعتزي وأحتمي) أي: فلا أتعزز ولا أحتمي إلا بالله عز وجل وحده، فلا عبرة بنسب ولا حسب إنما المعيار هو تقوى الله عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13] .
قال: [أحمده جل كما ابتداني بنعم ما لي بها يدان]
أثنى على الله سبحانه وتعالى وحمده وبين أن هذا الحمد ينقسم إلى قسمين: حمد لكونه يستحق الحمد وهذا قوله: أحمده جل، وحمد ثان في مقابل نعمته.
والحمد كله ينقسم إلى هذين القسمين: حمد مستحق لأن الله يستحق الحمد في ذاته، وحمد في جزاء نعمته؛ ففي مقابل النعمة يستحق حمداً آخر، فلذلك قال: (كما ابتداني)، معناه: قبل أن أسأله وقبل أن أدعوه أنعم علي بنعم (ما لي بها يدان) معناه: لا أستطيع أن أصل إليها بعملي ولا بغيره، فالنعم لا يمكن أن يقابلها الإنسان بشكر ولا بعمل؛ لأن شكره وعمله نعمة أخرى، فلذلك لا يمكن أن يقابل الإنسان نعمة الله تعالى بأي شيء، فكلمة واحدة من ذكر الله نعمة عظيمة لا يزنها شيء وهكذا.
(كما ابتداني) معناه: ابتدأه بالنعم قبل أن يسأله، فالله عز وجل يعطي قبل المسألة ويعطي إذا سئل، فما أعطاه قبل المسألة ابتدأ الإنسان به من معروفه، وهذا اللفظ قاله ابن أبي زيد في مقدمة الرسالة فقال: (وابتدأهم بنعمته) والشيخ أراد بذلك أن يجعل الإنسان الذي يدرس كتاباً من كتب العلم يرتبط ذهنه بالكتب الأخرى، كل كتاب يجد منه كلمة أو مصطلحاً فيتذكر ذلك.
(ما لي بها يدان) أي: ليس لي بها طاقة، ويقال: ما لفلان يدان بكذا وما له يد بكذا معناه: ليس له قدرة عليه.
[ثم أصلي وأسلم على محمد وآله ومن تلا]
(ثم) أي: بعد حمد الله تعالى، وذكر (ثم) التي هي للعطف بانفصال؛ لأنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا ما شاء الله وفلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان)، وعندما قال الخطيب: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، أنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بئس خطيب القوم أنت)، فبين له أنه لابد من الفصل، فلهذا قال: ثم بعد حمدي لله وثنائي عليه بما هو أهله أصلي وأسلم، أي: أسأل الله أن يصلي وأن يسلم.
وصلاة المخلوق إنما هي مسألة الله أن يصلي؛ لأن الصلاة هي رحمة الله المقرونة بالتبجيل، وهذه لا تستطيع أنت أن تنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تستطيع أن تسأل الله أن ينزلها عليه، فالله قد استجاب ذلك.
والصلاة هي الدعاء المجزوم بإجابته، ومعنى ما يذكره العلماء من أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عمل متقبل قطعاً، المقصود بذلك أنه دعاء مستجاب قطعاً؛ لأن الله أخبر عن نفسه بأنه يصلي عليه، قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب:56] .
(وأسلم على محمد) وسماه بهذا الاسم الذي سماه به عبد المطلب فقيل له في ذلك فقال: رجوت أن يحمده الأولون والآخرون، فحقق الله رجاءه.
وهذا الاسم فيه كثير من المزايا العظيمة فهو دليل على كثرة حمده على كل لسان فإنه يحمده الأولون والآخرون في المحشر في مقام الشفاعة الكبرى، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يكيد له، فإن قريشاً حين أرادوا أن يذموه ذموا مذمماً، وهو محمد وليس مذمماً.
(وآله) معناه: الذين يئولون إليه ويرجعون إليه، وهم في الدعاء أتباعه مطلقاً ويدخل في ذلك المتقدم والمتأخر، فهم جميعاً من آله، فكل أتباعه من آله في مقام الدعاء، ولهذا قال عبد المطلب :
فانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك
معناه: المضافون إليك وليس الذين يعبدونك، (آل الصليب) معناه: أتباع الصليب، وآل النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إطلاقها بحسب المقام، فإذا قصد بها تحريم الصدقة والأحكام المختصة بالآل فهم المؤمنون من بني هاشم وقال الشافعي و أحمد : والمؤمنون من بني المطلب أيضاً ومواليهم يدخلون معهم.
وإذا قصد بها الثناء المخصوص فهم أهل العباءة الذين أنزل الله فيهم: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا[الأحزاب:33] ، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن و الحسين رضي الله عنهم.
(ومن تلا) معناه: ومن تبعهم إلى يوم الدين، ولم يصرح بلفظ الصحابة؛ لأنه لم يرد في الأحاديث التي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الصلاة ذكر الصحابة، إنما جاء فيها التصريح بآله فقط، وذكر الناس لأصحابه بعد ذلك إنما هو زيادة وإلا فإن آله يدخل فيهم أصحابه، فيدخلون في ذلك في مقام الدعاء.
أما ذكر أصحابه في الصلاة عليه فلم يكن معروفاً في الصدر الأول وإنما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة الصلاة الإبراهيمية وفيها ذكر آله ولم يرد فيها ذكر أصحابه.
قال: [وبعد فالعبد الفقير نظما نظماً بفقه مالك يجلو الظما]
(وبعد فالعبد الفقير نظما) كلمة: (بعد) أصل وضعها: (أما بعد) وهي التي تسمى فصل الخطاب، ويقصد بها التخلص من المقدمات إلى ما يريد الإنسان بيانه، وتوضع في الخطب وفي الكتب وفي مقدماتها، وهي من العناية بالكلام، فمن ذكرها فهذا عناية بكلامه وتنسيق له وترتيب، فلذلك يقول الشاعر:
لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت أما بعد أني خطيبها
فهي تدل على العناية بالكلام، واختصرها الناس فصاروا يقولون: وبعد، اختصاراً معناه: وبعد ما ذكر.
(فالعبد الفقير): ويقصد نفسه بذلك.
والعبد: تطلق على أربعة أمور: تطلق على عبد الخلق، ومعناه: المخلوق لله سبحانه وتعالى، فكل الناس عباد لله لأنه خلقهم أجمعين، ولهذا قال: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95] ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا[مريم:93] ، معناه: خلقهم كذلك.
والثاني: عبد الملك، فالمملوك أياً كان يسمى عبداً لأنه رقيق لسيده ومالكه.
والثالث: عبد النعمة، معناه: المنعم عليه فهو عبد للنعمة التي في عنقه.
الرابع: عبد المحبة، وهذا الأخير فيه يقول الشاعر:
يا عمرو ناد عبد زهراء يعلمه السامع والرائـي
لا تدعني إلا بيا عبدهـا فإنه أشرف أسمــائي
ويقصد بذلك المحبة، وهذه الأقسام الأربعة كل إنسان مسلم ينبغي أن تكون متحققة في تعامله مع الله، فهو عبده بالخلق؛ لأنه خلقه، وهو عبده بالملك؛ لأنه يملكه، وهو عبده بالنعمة؛ لأنه أنعم عليه بنعمة الإيمان وما دونها من النعم، وهو عبده بالمحبة، فينبغي أن يحبه حباً لا يحب به شيئاً آخر: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ[البقرة:165] ، فتتحقق العبودية بهذه الأمور الأربعة.
(الفقير) أصل الفقير الذي بدت فقرات ظهره، ووزنها: فعيل، ولما كان من لا يملك مالاً لا يحسن التغذية فتضعف أعضاؤه وتظهر فقراته سمي من لا يملك -حتى لو كان سميناً- فقيراً، والمقصود بذلك الفقر إلى الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[فاطر:15] .
(نظما) معناه: جمع.
(نظماً) معناه: كلاماً موزوناً.
(بفقه مالك يجلو الظما): أراد فيه أن يزيل العطش في فقه مالك ، ولا يريد فيه التوسع أكثر من ذلك، فهذا تواضع وإلا فقد جمع فيه مائة ألف وعشرين ألف مسألة في فقه مالك .
رام به: رام بهذا النظم وطلب به (نعش ذماء المحتضر).
نعش إنعاشاً وتقوية، ذماء: بقية الروح، والمحتضر: الذي قد أشرف على الموت.
قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر) معناه: مما جمع خليل في مختصره في الفقه المالكي، وهذا المختصر جمع فيه خليل فأوعى، ولذلك قال ابن القيم : لم تزل ألطاف الله بالمالكية حتى أخرج لهم غلاماً جمع لهم مذهبهم في كراريس يتأبطها الرجل ويخرج، يقصد بذلك خليلاً، أي: جمع المذهب كله في أوراق يتأبطها الرجل ويخرج.
فهذا معنى قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر) وهو هنا يبين أن ما ذكر في المختصر أصبح محتضراً لقلة العناية به؛ ولأن الناس قد ابتعدوا عما كانوا عليه من قبل من العناية بهذا المختصر وحفظه وتداركه، فقد وضع عليه القبول وشرح ثلاثمائة وثمانين شرحاً، وطبع منها عدد كبير، وأصبح المرجع في الفتوى في مذهب مالك ، وحتى في غيره فإنه مرجع نابليون في القانون الذي وضعه، وهو القانون الفرنسي، عندما قامت الثورة الفرنسية فقد صرح في مقدمة قانون نابليون أن من مراجعه مختصر خليل في الفقه المالكي.
قال: [وليدع بالتسهيل والتكميل لفقه متن سيدي خليل]
(وليدع) معناه: هذا الكتاب وهذا النظم بـ(التسهيل والتكميل).
(بالتسهيل): هذا اسمه، والتسهيل معناه: التليين، والتكميل معناه: الإضافات.
(لفقه متن سيدي خليل ) فـخليل شهرته سيدي خليل ، واسمه خليل بن إسحاق بن موسى الجندي المصري الذي توفي سنة سبعمائة وثمانية وعشرين للهجرة، وقد كان من الأئمة في زمانه في مختلف العلوم، وله في الفقه اليد الطولى، وكذلك في الحديث وفي الأصول، وله مؤلفات كثيرة غير المختصر، لكن أشهر مؤلفاته هذا المختصر الذي وضع الله له القبول.
وسماه التسهيل: لأنه سهله وشرح كثيراً من مسائله ورد كثيراً من إشكالاته.
والتكميل: لأنه أضاف عليه كثيراً من المسائل التي ليست فيه.
ومتن خليل هو هذا المختصر، وهذه التسمية مأخوذة من كتاب ابن مالك الذي سماه: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، فالتسهيل في النحو من أهم كتب النحو عموماً، ولذلك قال فيه أبو حيان :
ألا إن تسهيل الفوائد في النحو كتاب جليل كل فائدة يحوي
فما الكتب إلا أنجم هو شمسها سناهن يمحى عنده أيما محـو
ابن مالك سماه: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، والشيخ أخذ الفقرتين: تسهيل وتكميل فسمى بهما هذا الكتاب.
قال: [وأسأل الله تعالى النفعا لكل من فيه سعى والرفعا]
من المناسب في خطبة أي كتاب وفي آخر أية خطبة الدعاء، فالخطب ينبغي أن تكون فيها رقة، والرقة لا تكون إلا بالضراعة إلى الله والتوجه إليه، ومن ذلك الدعاء فهو من أبلغ أحوال العبد عندما يبدي الضراعة والهوان بين يدي خالقه العزيز الجبار المتكبر، فهنا تتضح حاجة المخلوق إلى خالقه وفقره إليه وتواضعه بين يديه، وتذللـه إليه، فلذلك يبدي الضراعة بالسؤال، والمسألة مذلة، فهو يتذلل إلى الله بالمسألة.
(وأسأل الله تعالى النفع لكل من فيه سعى) معناه: أن ينفع كل من سعى فيه سواء كان ذلك بدراسة أو علم أو تعلم، أو شرح أو نشر أو طبع أو غير ذلك.
(والرفع): معناه أن يرفعه الله بعد أن ينفعه بهذا الكتاب، لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11] ، وهذا الرفع بين الله أنه للمؤمنين ولأولي العلم، والشيخ أراد بذلك أن يبين أن من درسه وأحاط بمسائله فإنه عرف الإيمان ومسائله، ويكون بذلك من أهل العلم فيرفع الله منزلته في الدنيا والآخرة؛ لأنه قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11] ، ولهذا قال: (والرفع).
قال: [والحفظ والتوفيق في القصود وقبل أن أشرع في المقصود
أذكر جملة من العقائد على طريق السلف الأماجد]
قوله: (والحفظ والتوفيق في القصود): يسأل الله له الحفظ أيضاً، ومعناه: أن يحفظه من غوائل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والعداء من الآخرين مطلقاً.
(والتوفيق في القصود) معناه: أن يوفقه الله في القصود، وهي جمع قصد، ومعناه: في أي شيء يقصده.
والتوفيق معناه: أن يهيئ له أسباب ما يرضيه سبحانه وتعالى، وما يوافق ما أراده من عبده، وهذا التوفيق أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما طلب منه شرعاً، فإذا كان الإنسان لا يرغب فيما حرم الله عليه ويرغب فيما أوجب عليه فهو موفق.
(وقبل أن أشرع في المقصود): معناه قبل أن يبدأ في الفقه وهو المقصود الكبير من هذا النظم الطويل.
(أذكر جملة) معناه مسائل، ولا يقصد بذلك التوسع، ولا استقصاء المسائل العقدية، وإنما يذكر مسائل، ولذلك سماها جملة.
والعقائد: جمع عقيدة وهي ما يعقد الإنسان قلبه عليه فيدين الله تعالى به ويجزم بصحته.
وقوله: (على طريق السلف الأماجد) أي: على مذهب السلف، والمقصود بهم أتباع التابعين، فإذا أطلق السلف إنما يقصد به رجال العقيدة أتباع التابعين، ولا يقصد به الصحابة ولا التابعين كما يتوهمه كثير من الناس.
فكثير من الناس يقول: مذهب السلف معناه مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وهذا غلط؛ لأن هؤلاء ما تكلموا في أكثر هذه المسائل التي سنعرض لها هنا، إنما تكلم فيها أتباع التابعين، فهم المقصودون بإطلاق السلف.
والأماجد جمع ماجد، وهذا ثناء عليهم وهم يستحقون الثناء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في الذين جاءوا من بعدهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10] ، وقد قال مالك رحمه الله: إن من يلعن السلف أو يتكلم فيهم ليس من أهل الفيء ولا يستحق شيئاً منه.
قال: [ولست ذاكراً سوى المتفق عليه من قبل نشوء الفرق]
أي: أنه لن يتعرض لأقوال الفرق والمذاهب المختلفة، وإنما سيقتصر على المذهب الحق الصواب الذي دليله واضح، ولن يتكلم على المذاهب الأخرى، وحتى الردود عليها لا يشتغل بها في هذا النظم.
ولذلك قال:
ولست ذاكراً سوى المتفق عليه من قبل نشوء الفرق
لأن هذه الأمور التي فيها نصوص قرآنية ونصوص من الحديث متفق عليها قبل أن تنشأ الفرق، فالفرق نشأت بعد ذلك، فهذه العقائد كانت موجودة لأنها نصوص قرآنية ونصوص من الوحي والسنة، وفهم الصحابة لها هو على حسب ما كان معروفاً في زمانهم، ومن هنا فإنه حفظه الله يقول فيما يتعلق بظاهر النصوص:
[الظاهر الذي عليه نطقي موهم تشبيه لرب الخلق
هو الذي أهل اللسان فهموا إذ نزل الوحي به عليهم
فلا أبو بكر لخير الرسل يقول أشكل عليّ اشرحه لي
ولا أبو جهل يقول اختلفا أثبت ما من التماثل نفى]
فالذي فهمه أولئك الذين نزل عليهم الوحي سواء من كان منهم مسلماً أو من كان كافراً هو ظاهر النص الذي يترك عليه، وما لم يفهموه منه وجاء بالفلسفة واللزومات فهذا ليس ظاهر النص.
قال: [مما إليه الأشعري قد رجع متبعاً أحمد نعم المتبع]
هذه المسائل التي يذكرها هنا ذكرها أبو الحسن الأشعري وقد رجع إليها، وهو إمام من أئمة أهل السنة المشاهير، وبالأخص أن جمهور الأمة من بعد ظهوره إلى زمانه هذا ينتسبون إليه، فينتسب إليه الملايين في مختلف بلدان العالم منذ اشتهر في القرن الرابع الهجري إلى هذا الزمان، فهذه عشرة قرون ينتسب إليه فيها جمهور أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد، ويقصدون بذلك مخالفتهم للمعتزلة؛ لأنه هو عدو المعتزلة الأول، وهو أول من استطاع أن يرد مسائلهم.
(مما إليه الأشعري قد رجع): والأشعري قد رجع عن مذهب المعتزلة ورجع عن المذهب الأشعري الذي تحول إليه إلى مذهب أحمد وقد صرح بذلك، فصرح بأن طريقته في النصوص طريقة أحمد بن حنبل .
(متبعاً أحمد ) هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الربعي ، من بني ربيعة من بني شيبان من بني بكر بن وائل بن ربيعة، وهو إمام أهل السنة في زمانه وأحد الأئمة الأربعة المتبوعين.
(نعم المتبع): أثنى على أحمد بأنه نعم المتبع، وقد وفق الأشعري حين اتبعه بذلك، لأنه مرضي عنه، فلا يختلف اثنان من أهل السنة في ذلك.
قال:
[لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى زعماً ولم يسر على ما رسما]
يقول: إن ما ذكره هنا موافق لما كان عليه أحمد بن حنبل وما رجع إليه الأشعري متبعاً أحمد في ذلك، (لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى) أي: أنه لا يأتي بما يقوله المنتسبون إلى الأشعرية أو المنتسبون إلى أحمد ممن لم يسر على طريقتهما، فكثير من أتباع الأشعرية أحدثوا كثيراً من المسائل التي لم يقل بها الأشعري، وكثير من أتباع أحمد أحدثوا كثيراً من المسائل التي لم يقل بها أحمد ، فهو تجنب أقوال المحدثين من الطائفتين وأتى بلب المسألة.
لذلك قال: (لا من يقول من لذا) ويقصد به الأشعرية.
(أو ذا): ويقصد به أتباع أحمد بن حنبل .
(انتمى): معناها: انتسب.
(زعماً): أي: في زعمه.
(ولم يسر على ما رسما)؛ لأنه خالفهما فأتى بأشياء لم يقولا بها.
ثم بدأ في العقيدة بعد هذه المقدمة.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر