بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول الشيخ حفظه الله:
والرسل حق والنبي العربي خاتمهم أعلاهم في الرتب
بعد أن ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام ووجوب الإيمان بهم على سبيل الإجمال، ذكر التعويل على شهادة أن محمداً رسول الله، وهي الشهادة الثانية من الشهادتين، وهما ركنا الاعتقاد:
فالركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله، وكل ما سبق من التفصيلات داخل في هذه الشهادة.
والركن الثاني: شهادة أن محمداً رسول الله.
وإنما بدأنا قبل الكلام في هذه الشهادة بالكلام على الرسل لدخول تصديق الرسل في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كذب رسولاً واحداً فقد كذب كل الرسل، ومن صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صدق بكل الرسل؛ لأنه خاتمهم، ومصدق لما بين يديه كما وصفه الله بذلك.
ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر تكذيب قوم لنبيهم ينسب إليهم تكذيب جميع الرسل، كما في قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:105]، كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:176] ، كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:160] .. وهكذا، فكلما ذكر نبياً كذبه قومه، يذكر أنهم كذبوا جميع المرسلين، وذلك أن مقصد الرسالة في الأصل واحد، كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[البينة:5] .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد)، وهذا تفسير قول الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13] .
لكن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضي تميزه عن غيره من الرسل، فلذلك ذكرها هنا، فالإيمان به مشروط على من سبقه ومن لحقه، فمن أتى قبله قد أخذ عليهم العهد بالإيمان به، لقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[آل عمران:81-82].
فإذاً: كل من سبق قد أخذ عليهم العهد بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، ونصرته إذا بعث، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ورقة من التوراة في يد عمر : (مه يا ابن الخطاب ! فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي)، وفي حديث آخر أخرجه أحمد في المسند، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن موسى وعيسى شهدا مبعثي لما كان لهما إلا أن يتبعاني)؛ ولذلك فإن عيسى عليه السلام إذا نزل حكماً عدلاً في آخر الزمان، سيكون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم والعاملين بالملة والشريعة.
ثم إن من لحقه لا يقبل منه الإيمان قطعاً حتى ولو آمن بجميع الرسل ما لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار).
واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي)، فكثير من الذين يسمعون الحديث من الذين يهتمون بالمجال الفكري يقولون: تقوم الحجة بمجرد أن يسمع الإنسان باسم محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته وبالدين الذي جاء به، حتى لو سمع به مشوهاً، مثل أكثر المعاصرين من أهل الكتاب والكفرة، فإنهم لم يسمعوا به إلا مثل ما سمعوا بـبوذا مثلاً.
وذهب آخرون إلى أن المقصود بالسماع السماع غير المشوه، فهو الذي تقوم به الحجة، ومعناه أن يعلموا أنه رسول، وأنه رسول آخر الزمان الذي تنسخ ملته كل ما سبق.
وهذا يؤخذ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه؛ ففي حديث جبير بن مطعم الذي ختم به مالك الموطأ: (لي خمسة أسماء، فأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، وأنا العاقب)، فهذا يقتضي أن من لم يسمع به على وصفه، ولم تبلغه دعوته كما هي لا تقوم عليه الحجة بمجرد السماع، ولكن دلالة هذا دلالة بعيدة، في مقابل التصريح بالسماع في الحديث السابق.
وعموماً يترتب على هذه المسألة كثير من الفروع:
منها: لعن من مات من الكفرة ولم تبلغه الدعوة كما هي.
ومنها: استباحة دمائهم وأموالهم في حياتهم إذا سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تبلغهم الدعوة كما هي، كالكفرة في زماننا هذا، فكثير منهم لم تبلغهم الدعوة كما هي، فهل تستباح دماؤهم وأموالهم بمجرد هذا البلاغ والسماع الذي حصل أو لا؟
وأما تكفيرهم فلا شك ولا اختلاف فيه بين الناس، فهم كفار قطعاً، حتى لو سمعوا بهذه الشريعة سماعاً مشوهاً كما ذكرنا، ومن تساهل فلم يصفهم به على اعتبار أنهم بمثابة من لم تبلغه الدعوة، فقد تساهل تساهلاً زائداً؛ لأن الذي يستدلون به ويأخذون به هو بعض المفهومات من الآيات، وكلها من مفهومات المخالفة، مثل قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا[البينة:6] ، فـ(من) هنا يزعم بعض الناس أنها تبعيضية، وأنه ليس كل أهل الكتاب ولا المشركين كفرة.
ولكن هذا الوجه أبعد ما يكون عن الصواب، فـ(من) بيانية للذين كفروا، وبيانهم أنهم ينقسمون إلى قسمين: إما أن يكونوا أهل كتاب وإما أن يكونوا مشركين.
والنبي صلى الله عليه وسلم ختم الله به رسالات الرسل، وجعله من هذا الجيل المعروف بالعرب، فلذلك وصفه بالعربي.
والعرب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
إلى عرب بائدة، أي: قد انتهت ولم يبق لها بقية، وهؤلاء منهم طسم وجديس ووبار وجرهم.
فجرهم هم الذين تعرب فيهم إسماعيل عليه السلام، ولكنهم بادوا ولم تبق لهم بقية حين جاروا في الحرم فأهلكهم الله؛ ولذلك يقول أحدهم وهو عمرو بن مضاض الجرهمي :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر
ومن ذلك طسم وجديس فقد اقتتلا حتى تفانيا، وكذلك وبار، فقد هلكت ولم تبق لها بقية.
القسم الثاني: العرب العاربة: وهم ذرية قحطان، وقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان عشر قبائل، وهي: حمير والأزد ومذجح وأنمار والأشعريين، وكندة، وهذه القبائل الست من أهل اليمن، ثم القبائل الأربع الباقية هي: لخم وجذام وعاملة وغسان، فهذه أربع قبائل تشاءمت، أي: خرجت إلى شمال الجزيرة العربية.
فهذه القبائل العشر من ذرية قحطان قطعاً، وقحطان اختلف فيه هل هو هود عليه السلام أو ابنه؟
فجمهور النسابين يعدونه ابن هود، ولذلك قال أبو الطيب المتنبي :
إلى الثمر الحلو الذي طيء له فروع وقحطان بن هود له أصل
إلى سيد لو بشر الله أمة بغير نبيٍ بشرتنا به الرسل
ويدخل في عداد القحطانيين على الراجح قبائل قضاعة كلها، وإن كانوا سكنوا في العدنانيين واستوطنوا بلادهم؛ ولذلك انتحل لهم النسابون نسباً بـعدنان لا يصح، وهو أن قضاعة من ذرية معد؛ لكن الراجح أن قضاعة هو ابن مالك بن حمير، فهم من حمير على كثرة أعدادهم، فمنهم بنو كلب بن غمرة الذين منهم زيد بن حارثة و دحية الكلبي ، وهي قبائل ذات عدد، منهم: بنو عذرة، الذين اشتهروا بالعشق قديماً في الجاهلية، وكذلك بنو طيء.
أما القسم الثالث: فهو العرب المستعربة، وهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهؤلاء هم الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى كونهم (مستعربة) أنهم لم يكونوا ناطقين بالعربية ثم تعلموها بسكناهم في العرب.
فالعرب من ذرية إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، بعث في البداية في أرض الفينيقيين بالعراق، ثم هاجر إلى الشام ولم يكن يتكلم بالعربية، وأتى بولده إسماعيل بأمر الله سبحانه وتعالى إلى مكة، وأول من جاوره بمكة العمالقة، ثم لما طغوا في الحرم أخرجهم منه مضاض الجرهمي، وساكن إسماعيل الجرهميين وصاهر فيهم، وهم أجداد أولاده، ثم أهلكهم الله وتغلب بعدهم على الحرم ذرية إسماعيل من معد بن عدنان ، ثم بعدهم تغلبت خزاعة، حتى أخرجهم قصي بن كلاب ، ومن ذلك التاريخ تغلبت قريش على مكة، وهؤلاء عداد نسبهم كله مرجعه إلى معد بن عدنان على الراجح، وقيل: كان مع معد أخ له اسم عك، وهو جد قبائل تنسب إلى عدنان ، من ذرية عك بن عدنان، وليسوا من معد بن عدنان .
وأشهر أولاد معد نزار بن معد وكان له أربعة أولاد: هم مضر وربيعة وإياد وأنمار ومن هؤلاء انتشرت قبائل عدنان.
ومن هذه القبائل قبائل مضر، ومنها: قريش، وهي أعظم قبائل مضر بالاختيار الرباني، لأنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله اختار من ذرية إبراهيم كنانة، وفي رواية: (من ذرية إسماعيل الكنانة، واختار من ذرية كنانة قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر).
وهذا الاختيار الرباني يترتب عليه عدة أحكام:
منها: أنه لا يسترق سبيهم في الجاهلية ولا في الإسلام، ومنها: أنه لا يقتل أسيرهم صبراً بعد غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل قرشي بعد اليوم صبراً).
ومنها: اختصاصهم بالإمامة العظمى، وليس ذلك تبعاً لعصبية العرب عليهم؛ بل عصبية فارس وعصبية الروم أعظم من عصبية العرب، وأولئك أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلموا فهو مرسل للبشر كلهم، فالعبرة بالاختيار والاصطفاء الرباني فقط، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فذلك الاختيار الرباني هو الذي شرفهم الله فيه للإمامة وشرفهم لما هو أعظم منها، وأن بعث منهم محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال ابن الرومي :
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبان
تسمو الرجال بآباءٍ وآونة تسمو الرجال بأبناء وتزدان
وكم أبٍ قد علا بابن ذرا شرف كما علا برسول الله عدنان
وقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم نفسه إلى عدنان ، ولم يثبت عنه ما فوق ذلك، فقد ثبت عنه أنه قال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان).
وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح عند هذا الحد، ومع ذلك جاء في عدد من الأحاديث الأخرى وعدد من الآثار التي صحت عن عدد من الصحابة كـابن عباس و حكيم بن حزام ، وغيرهم من الصحابة النسابين: أن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن نبت -أو نابت- بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر بن ناحور بن عابر بن فالغ بن أرفخشد بن متوشلخ بن سام بن نوح بن لامك بن مهلائيل بن اليارد بن أخنوخ بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم .
وقد اختلف النسابون في ضبط بعض هذه الأسماء كاليارد، فقد جاء فيه: يرد فقط، وكذلك الهميسع والهميساع، كذلك قينان وقينن، كذلك لامك ولمك، وهذه اختلافات في ضبط الأسماء لأنها من لغات مختلفة، فينطق بها أهل كل لغة على ما يوافق نطقهم اللغوي.
وهذا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه، وأما نسبه في العرب قد عرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، أكثرهن من العرب، ولم تبق قبيلة من العرب إلا وله فيها خئولة ما عدا بني تغلب وحدها.
وقد اشتهرت خئولته في الأنصار وفي بني سليم لأنه صرح بذلك، ففي الأنصار سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في سليم، فهو ابن العواتك من سليم، وعواتكه هن: أم هاشم، وأم عبد مناف بن زهرة، وأم عبد مناف بن قصي، فهن ثلاث، وهن عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال ، وعاتكة بنت مرة بن هلال، وعاتكة بنت هلال، الصغرى وعمتها وعمة عمتها أيضاً على هذا الترتيب، وهذا الذي قال فيه البدوي رحمه الله في الأنساب:
عواتك النبي أم وهب و أم هاشم وأم الندب
عبد مناف وذه الأخيره عمة عمة الاولى الصغيره
وهن بالترتيب ذا لذي الرجال الأوقص بن مرة بن هلال
وقد صح في صحيح البخاري أن وفد كندة حين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! أنت ابن آكل المرار ونحن بنوه، فقال: إنا بنو النضر بن كنانة لا ننتسب إلى غيره).
هو وإن كان من ناحية الخئولة له خئولة في كندة، لكنه لم يرد أن يتفاخر مع الناس بالأنساب الدنيوية، فمفاخر كندة إنما هي بالملك والغنى ونحو ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم اختار الله له ما هو خير من ذلك.
واختلف في اشتقاق لفظ العرب، فقيل: من أعرب الكلام إذا أبانه، لفصاحتهم.
وقيل: من تعرب إذا سكن البادية؛ لأنهم الأمة التي لم تكن لها حضارة مستقرة قديماً.
وقيل: من أعرب الشيء بمعنى حسنه، لحسن صورهم ووجوههم، فهم من أحسن الأمم خلقة.
وقد شرفهم الله بنسبة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، لكنه لم يرسل إليهم خاصة، بل أرسل إلى الناس كافة.
ومن الحكم في اختيار أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل من العرب أن لغة العرب من أطيب اللغات وأكثرها بياناً ووضوحاً؛ فلذلك اختير أن تكون لغة هذه الرسالة التي يراد عمومها وشمولها، فلو كان القرآن باللغة الإنجليزية أو باللغة الفرنسية، أو بأي لغة أخرى غير العربية فإنه سيتعداه تطورات في اللغة؛ ولذلك لو عرض شعر الشعراء الإنجليز قبل مائة سنة على الناس اليوم لوجدوا أكثر الكلمات التي فيه لم تعد مستعملة، وكثير من الكلمات التي استعملت فيه قد تغيرت دلالتها، وجاءت في معنى آخر، ولو أخذت شعر امرئ القيس الذي كان قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة سنة وعرضته على صبيان العرب لفهموا مفرداته، كقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ...
وهذا الركود يقتضي استمرار دلالات الألفاظ ووضوحها على مدى الزمان، ولا يوجد في لغة من لغات العالم مثل هذا الركود إلا اللغات المتخلفة جداً مثل لغة الصين، التي ليس لها إعراب ولا تركيب، وإنما الكلام فيها كله مفردات، فجميع كلامهم مفردات فقط؛ ولذلك حروفها أكثر من ثلاثة آلاف حرف، بينما حروف العربية تسعة وعشرون حرفاً فقط.
وليس النبي صلى الله عليه وسلم الرسول العربي الوحيد للعرب، بل كان فيهم رسل آخرون، فمن رسل العرب هود وصالح، وقد أرسلا في جزيرة العرب، أحدهما في شمالها، والآخر في جنوبها، فهود أرسل في الربع الخالي في أرض الأحقاف، وصالح أرسل في شمالها في الحجر.
وكذلك في العرب أنبياء آخرون على الراجح، وقد سمي منهم: حنظلة الذي يقال إنه رسول أصحاب الرس، ويزعم الناس أنه دفن في بير في صنعاء، وأنها عند مسجد صنعاء الكبير، وهذا المسجد إنما بني بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن مكانه معروفاً قديماً حتى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى فيروز بن باذان أن يبني لأهل صنعاء مسجداً، وأن يجعل قبلته بين نقم وعيبان، وأن يجعله بين الصخرة وبستان باذان ، ففعل ذلك فيروز ، وبنى المسجد وجعل فيه الأسطوانتين المشهورتين إحداهما تسمى بالمسمورة والأخرى تسمى بالمنقورة، وصلى فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـعلي بن أبي طالب ، وأبي موسى الأشعري ، ومعاذ بن جبل وغيرهم من كبار الصحابة، وقد شهد توسيعات بعد ذلك، كتوسيعات عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب حين ولاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن.
ويزعم الناس أن حنظلة هذا دفن في مكان معروف في هذا المسجد، لكن لا يثبت مدفن أحد من الأنبياء مع عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك منهم خالد بن سنان العبسي، فقد جاء في حديثٍ (أن ابنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم وسألها عن أبيها فذكرت بعض حكمه، فقال: ذلك نبي ضيعه قومه).
لكن إذا أطلق النبي العربي اختص ذلك بالنبي العربي صلى الله عليه وسلم لمنزلته وجلالة قدره.
قال: (والنبي العربي خاتمهم)، أي: خاتم الرسل، فختمهم الله به، وحكمة ختم الرسل أن الله سبحانه وتعالى اختار للبشرية ديناً واحداً هو دين الإسلام؛ ولكنه علم أن هذه البشرية ستمر بكثير من المراحل في أطوار حياتها، كما في دعوة نوح: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[نوح:14] ، فتمر البشرية بكثير من الأطوار: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19].
ومن هنا فلو أنزل إليها الدين وأمرت به في الأطوار والأطباق الأولى في حياتها في الأرض، لكان فيه الكثير من العناء، فلو فرضت هذه الشريعة التي لدينا اليوم على أولاد آدم لحصل كثير من العناء مثل تحريم نكاح الأخوات، والبشر إذ ذاك أسرة واحدة هي ذرية آدم فقط ..وهكذا.
فكانت الشرائع ينزل منها في كل زمن ما يصلح لذلك الزمن، وفي علم الله أنه لا يصلح للتطبيق المستمر، حتى إذا أتمت البشرية أطوار حياتها وبلغت نضجها أرسل إليها الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الذي كانت كل الأديان إعداداً له كما قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19] ، فختم الديانات بهذا الدين، وأتمه وارتضاه للبشر كلهم؛ ولذلك خاطب البشر بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3] .
ومع ذلك فما يجد من الظروف راعاه الله سبحانه وتعالى في التشريع؛ ولذلك قال بعد ختم الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[المائدة:3] ، بيَّن الحلال والحرام لكن مع ذلك بعد إكماله للدين قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ)، أي: في جوع ونحوه مما يقتضي ضيق الحال: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) غير منتهك له: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ومثل هذا قوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119] ، ومن هنا جعل القواعد العامة والأسس الواقعة كفيلة بالتطور المستمر، فلا يمكن أن يتحجر التشريع ولا أن يقف عند حدّ معين، بل سيواكب مسيرة البشرية كلها، لعموم هذه القواعد وشمولها، ولله تعالى حكمة في كل جزئية منها.
وختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم من المعلوم بالدين بالضرورة، فكل من ادعى النبوة بعده فإنه يكفر بذلك ويستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، والله سبحانه وتعالى يقول: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[الأحزاب:40] وفي قراءة أخرى: (وخاتِم النبيين) ومعناهما واحد؛ لأن الخاتَم والخاتِم معناهما: المكمل.
قال: (والنبي العربي خاتِمهم أعلاهم في الرتب)، أي: أعلاهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى، وذلك لسيادته عليهم أجمعين، فإنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وقد صلوا جميعاً خلفه ليلة الإسراء، وهو الشافع لهم أجمعين يوم القيامة، فيدخل في شفاعته الأولون والآخرون؛ ولذلك فإن عبد المطلب حين سماه محمداً، قيل له: أتسمي ولدك باسم لا يعتاد في آبائك ولا في قبيلتك فقال: رجوت أن يحمده الأولون والآخرون، فحقق الله رجاءه بالشفاعة الكبرى التي يحمده فيها الأولون والآخرون، فآدم ومن دونه يدخلون كلهم في شفاعته.
وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، وكذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم عندما قال له رجل: (يا خير خلق الله، فقال: ذلك إبراهيم)، فإن للعلماء محامل لذلك، فقد حملوا قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، على أنه لا ينبغي التفضيل المقتضي للإزراء، بل الرسل أجمعون يجب توقيرهم واحترامهم، وعدم الإزراء بأحد منهم ولا بمنزلته، فالإزراء بمنزلة أي واحد منهم كفر؛ ولهذا لا يحل أن يوصف أحدهم بوصف مستبشع ولا بما يقتضي نزول منزلته أو نقص درجته، وليس المقصود النهي عن ذكر فضله صلى الله عليه وسلم؛ لكن إذا ذكر فضل الرسل ثم ذكر فضل النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا نهي فيه.
وكذلك قوله للرجل الذي قال له: (يا خير خلق الله، فقال: ذلك إبراهيم)، فإن هذا كان قبل أن يطلعه الله على اختياره للخلة، فقد أخبره الله أنه اختار إبراهيم خليلا: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء:125] ؛ لكن إنما علمه هو باختياره صلى الله عليه وسلم للخلة بعد هذا، ودليل ذلك إخباره به، فقد أخبر أن الله أطلعه على أنه اتخذه خليلا، وقال: (لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله).
والخلّة أعلى منزلة في البشر؛ لأنها تقتضي أن لا يبقى في قلب الإنسان مكان للمحبة إلا محبة الله، فلا يكون الإنسان خليلاً لله حتى لا يبقى في قلبه أي مكان لمحبة أي شيء غير الله؛ ولذلك اختص الله بها إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم.
ولذلك قال الشيخ هنا: (أعلاهم في الرتب)، وذكر أفعال التفضيل المقتضية للاشتراك؛ لأن أفعال التفضيل لا تفاضل إلا بين مشتركين في الوصف، فكل الرسل عليهم الصلاة والسلام عالي الرتبة؛ لكن أعلاهم رتبة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أخذ الله عليهم العهد أجمعين أن يؤمنوا به.
ثم قال:
[وكلهم أوتي إذ جا بالبشر ما مثله عليه آمن البشر]
وهو هنا ينظم الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح: (ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
قال:
[وكلهم أوتي إذ جا بالبشر ما مثله عليه آمن البشر
وإنما كان الذي الأواه ... أوتيه وحياً إليه الله
أوحاه فهو أكثر الجماعه متبعا يوم تقوم الساعه
كما رجا .......]
أي: كما رجا صلى الله عليه وسلم، وهذا كله نظم لهذا الحديث، فقوله: (وكلهم أوتي إذ جا بالبشر)، أي: كل الرسل آتاه الله حين جاء (بالبشر) أي: مبشرات، والمقصود بذلك دعوته التي تشمل المبشرات والمنذرات، فكل الرسل بشير ونذير.
والبشر جمع بشرى، والمقصود بها تبشيرهم بالدين الذي أتوا به من عند الله.
(ما مثله عليه آمن البشر)، أي: أوتي من المعجزات ما لو رآه البشر لآمنوا به، فمعجزاتهم باهرة، فكل معجزة لو جمع لها البشر فرأوها لقامت عليهم الحجة، والدين الذين أتى به كل رسول منهم يصلح للوقت الذي هو فيه؛ ولهذا كانت معجزاتهم، مادية تقوم بها الحجة على عصر فقط، وهو العصر الذي رئيت فيه أو تواترت، ثم إذا انقطع التواتر زال الإعجاز منها، فمثلاً ناقة صالح، لا شك أن من رآها أو نقلت إليه تواتراً تقوم عليه الحجة بها؛ لكننا نحن اليوم لو لم ترد في القرآن لما صدقنا بها؛ لأننا ما رأيناها ولا نقلت إلينا أخبارها تواتراً.
لذلك فالمعجزات المادية إنما تكون مع الرسالات المؤقتة، وأما معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فنظراًَ لبقاء رسالته، كانت هذا القرآن الباقي الخالد، الذي تقوم به الحجة على الناس أجمعين؛ ولهذا قال: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، فمعجزته هذا الوحي، وإن كانت له معجزات كثيرة؛ لكن تلك المعجزات لا تقوم بها الحجة على كل الناس، والذي تقوم به الحجة على كل من بلغ هو هذا القرآن، وهو المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (ما مثله عليه آمن البشر)، أي: ما تقوم الحجة بمثله على الناس أجمعين، و(البشر): هذا الجنس الآدمي.
وإنما كان الذي الأواه أوتيه وحياً إليه الله
أوحاه............. ................
معناه: إنما كانت معجزته الكبرى التي آتاه الله وحياً أوحاه الله إليه، وهو هذا القرآن، والأواه معناه: كثير التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله به على إبراهيم عليه السلام: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ[التوبة:114] منيب.
والمقصود: بالوحي الموحى؛ لأن المصدر يطلق على الحدث ويطلق على ما تعلق به الحدث، فالحدث هو ظاهرة الوحي نفسها، فهو نزول الوحي إليه، وهو القرآن الموحى، فالقرآن يسمى وحياً بمعنى موحى؛ لأنه أوحي إليه.
وقوله: ... فهو أكثر الجماعة متبعاً يوم تقوم الساعة
أي: فبسبب كون معجزته هذا الوحي فهو أكثر جماعة الرسل عليهم الصلاة والسلام أتباعاً يوم تقوم الساعة.
قوله: (كما رجا)؛ هذا الذي ترجاه بقوله: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ذلك: (فإنه حين عرضت عليه الأمم، رأى النبي وحده، والنبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والثلاثة، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه القبيلة، ثم رأى سواداً قد ملأ الأفق قال: فأقول: هذه أمتي؟ فيقال: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فرأى أمته أضعاف ذلك)، وهذا التزايد علو في المنزلة؛ لأنه يزداد أجره بعدد أتباعه، فكل فرد من الأفراد آمن به، فإن كل عبادة يعبدها وكل ذكر يذكره يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجره على التتابع الذي لا ينقطع إلا بقيام الساعة.
ولذلك فإن أمته كانت مدتها أطول المدد.
ومن حكم ختم الأمم بهذه الأمة أن هذه الأمة هي شهود الله على الأمم يوم القيامة، والشهادة من شرطها العلم، لقول الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81] ، ولقوله: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86] ، وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد ضعيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع).
وعلى هذا فلا يشهد الإنسان إلا على ما علم، ومع ذلك فهذه الأمة شهود الله على الناس، فلو كانت هذه الأمة سابقة لوقتها، لما جاز لها أن تشهد على من يأتي بعدها من الأمم؛ لأن ما يأتي بعدها سيكون مجهول الخبر، فتقدمتها الأمم حتى تشهد عليها؛ ولهذا قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143].
وما من نبي إلا يخاصمه قومه يوم القيامة فيقولون: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ[المائدة:19] ، فيقال: ومن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، حتى أن نوحاً يخاصمه قومه فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال: ومن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيستشهدهم نوح فيقولون: بلى قد مكثت فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيشهدون له.
ولا عبرة بكثيرة الانتساب إلى الديانات المحرفة، فملة عيسى وأتباع عيسى انتهت تبعيتهم لعيسى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن عيسى بريء منهم بعد أن أخذ عليهم العهد إذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعوه؛ وكذلك أتباع موسى فبمجرد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى أتباعه؛ لأنه أخذ عليهم العهد أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فكل من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ليسوا من أتباع عيسى ولا من أتباع موسى؛ بل هم من أتباع الشيطان، فقد غيروا العهد الذي أخذ عليهم أجمعين.
ومن هنا فلا تغتر بكثرة الذين يزعمون أنهم نصارى اليوم، ويزعمون أن أكثر الأديان انتشاراً في العالم الدين النصراني، فهذا ليس دين عيسى الذي جاء به، بل دين عيسى الذي جاء به مقتض لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، وترك ما كان معهم بالكلية.
السؤال: لماذا كان النبي من العرب المستعربة لا من العاربة؟
الجواب: أما كون النبي صلى الله عليه وسلم من العرب المستعربة وليس من العرب العاربة، فهذا يقتضي زيادة شرف، فإن العرب المستعربة أشرف وأفضل عند الله تعالى وعند الناس، حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن قبائل عدنان كانت لها المنزلة العظمى في جزيرة العرب، فلا يفخر عليها أحد من العرب العاربة، بل كانوا يتنافسون في التقرب إليهم.
السؤال: إذا كان دين اليهود والنصارى باطلاً، فلماذا أبيحت نساؤهم وذبائحهم؟
الجواب: بالنسبة لإباحة نساء أهل الكتاب وذبائحهم وتسميتهم أهل كتاب ودينهم لا يقبل عند الله تعالى، فهذا ليس تشريفاً لهم، وإنما هو تشريف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تشريف الله للمسلمين أنه أباح لهم ذبائح أهل الكتاب ونساءهم، ووسع عليهم وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد كان أهل الكتاب يزعمون أن لهم شفوفاً على المشركين حتى أنزلت سورة البينة، فجاء فيها قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6] ، فقال أبو بكر : استوت أكتافهم ورب الكعبة، فليس لهم أي شفوف على المشركين، فهم جميعاً شر البرية عند الله، وهم جميعاً إلى النار.
لكن إنما أبيحت ذبائحهم وأحل نساؤهم تشريفاً للمسلمين، لا تشريفاً لهم، هم ما لهم أي مزية في ذلك، بالنسبة لتشريف المسلمين بإباحة هؤلاء؛ لأنه على الأقل يجمعهم وإياهم بعض الأخلاقيات، ولهم مرجع يرجعون إليه وهو مرجع الدين، فلهذا أبيح للمسلمين نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وأما المشركون الآخرون فليس لهم مرجع، بل إنهم يغيرون دينهم متى شاءوا، وحتى نساؤهم لم يكن مؤتمنات في أي شيء، لأنه لا يحبسهن أي شيء؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: [
ونحن لا ننكر بعض الميزات المختصة بأهل الكتاب من الأحكام مثل ما ذكرنا، ومثل أن الله جعل الذين آمنوا بعيسى من أهل الكتاب أقوى من جميع الكفرة، فهذه ميزة ضمنها الله لعيسى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[آل عمران:55] ، فسيبقون أقوى من اليهود وأكثر منهم أعداداً وأكثر منهم قوّة دنيوية.
ومن هنا فقوله تعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[آل عمران:55] ، يوجد خلاف للمفسرين في معنى قوله: (اتبعوك)، فمنهم من قال: المقصود بذلك الحواريون وأتباع عيسى عليه السلام الذين سلكوا ملته قبل التحريف والتغيير، وهم من جاء قبل أن يغير بطرس النصرانية، فهؤلاء ضمن الله لهم هذه المكانة، و: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ليس ضماناً لبقائهم إلى يوم القيامة، بل النهايات كلها إلى يوم القيامة.
ومنهم من قال: المقصود بذلك كل من انتسب إليه حتى لو كان الاتباع مجرد انتساب، وليس المقصود أن يتبع ملته، وعلى هذا يدخل فيه من عاصرنا ومن يأتي بعدنا من النصارى الذين يزعمون الانتساب إلى عيسى عليه السلام.
وبعض الميزات الأخرى التي اختصوا بها في الأحكام مثل ما يختص بدعوتهم، فدعوتهم ليست كدعوة أهل الشرك، بل تختلف عنها في بعض الأصول كما في قول الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46] ، وكذلك إخبارهم بإيماننا برسلهم ونحو هذا، فدعوتنا أهل الكتاب متميزة عن دعوة ما سواهم.
ومما امتازوا به أن من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه يؤتى أجره مرتين، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: العبد إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فعلمها وأدبها فأحسن تعليمها وأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي)، أي: كان على ملته قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما بلغته الدعوة آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يؤتى أجره مرتين.
فهذه ميزة لكنها بعد الإسلام، وهذه الميزة أيضاً هي نفسها المذكورة في قول الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ[المائدة:82] ، فالمقصود بهم الذين آمنوا من النصارى، وليس المقصود النصارى على كفرهم؛ ولذلك قال: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا[المائدة:83-85] فهؤلاء هم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عدد كبير من النصارى في الدين، وأخبر أن اليهود قوم بهت؛ ولذلك قال: (لو آمن بي من اليهود عشرة وفي رواية: عشرون، لآمنوا كلهم)، فلم يؤمن به من اليهود في زمانه -مع أنه عاشرهم وعاش بينهم- عشرون شخصاً، بل الصحابة الذين هم من أصل اليهود قلة جداً، ولهم مزية وفضل عظيم جداً، وأكثرهم مشهود له بالجنة مثل عبد الله بن سلام و مخيريق ؛ لأنهما خرجا من هذا الشعب المتعصب المصاب بالحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تصديقهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واتباعهم له مزية عظيمة جداً، يضاعف لهم بها الأجر.
أما النصارى فقد أسلم منهم عدد كبير ودخلوا بعد ذلك في دين الله حين فتحت بلادهم.
وقد اختلف في مزية اليهود والنصارى من العرب: هل لهم مزية على اليهود والنصارى من غير العرب، فذهب قوم إلى دخولهم في المزية؛ لأن اصطفاء الله لهذا الجنس من الناس يقتضي اختياراً لهم، وعلى هذا يترتب بعض الأحكام، منها: أن عمر رضي الله عنه لم يفرض عليهم الجزية كما فرضها على غيرهم، بل صالحهم على أن يدفعوا الزكاة كما يدفعها المسلمون، وكان ذلك سبباً لإسلام كثير منهم.
وهذه الميزة لم يجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فرض على نصارى نجران الجزية، وهي أربعة دراهم على كل حالم وأربعة آلاف حلة في السنة لكن لم يجعلها على أفرادهم إنما جعلها عليهم جميعاً، فكانت الجزية بمثابة الصلح، لأن الجزية تترتب على كل محتلم، والرسول صلى الله عليه وسلم جعل عليهم أربعة آلاف حلة ولم يحصهم عدداً، وكذلك يهود اليمن، وكذلك يهود خيبر بعد الهزيمة، فإنه أقر معهم التعامل على أن يأخذوا نصف ثمار خيبر، وأن يردوا عليهم نصفها، على أن تؤخذ منهم الجزية، ثم أخرجهم عمر .
أما الذين هم من العرب فقد أقرهم عمر ولم يخرجهم من جزيرة العرب، فقد أقر نصارى نجران، ويهود اليمن، وبني تغلب، فلم يخرجهم من جزيرة العرب مع أنهم أهل دين، وأخرج اليهود والنصارى الذين هم من غير العرب.
وعموماً هذه المسألة محل خلاف، ويترتب على هذا الخلاف أحكام فيما يتعلق بأخذ الجزية منهم ومعاملتهم معاملة مختصة.
السؤال: هل يطلق مسمى أهل الكتاب على غير اليهود والنصارى؟
الجواب: مسمى أهل الكتاب، إنما يطلق على اليهود والنصارى، وأطلق في سورة المائدة على فئة ثالثة هي فئة الصابئين، وقد اختلف في الصابئين، فذهب بعض الناس إلى أنهم صابئة أهل العراق وأهل حروراء، وهؤلاء طائفة من النصارى قد حرفوا ملتهم مثل السامرية من اليهود.
وقالت طائفة أخرى: بل هم أتباع يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ولكن الراجح أن يحيى لم يكن له أتباع يختصون به، بل كان مجدداً لملل الأنبياء من قبله ومعاصراً لعيسى عليه السلام، ومصدقاً به كما أخبر الله بذلك في وعده لزكريا عليه السلام: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ[آل عمران:39] ، فهو مصدق بعيسى بن مريم.
وذهب آخرون إلى أن الصابئين هم أتباع إبراهيم عليه السلام، وقد أثبت الله في كتابه أن إبراهيم اتبعه قومه؛ ولذلك قال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران:68] ، فقوله: (الذين اتبعوه) يقتضي جمعاً، وهو لم يؤمن به من قومه إلا لوط وسارة ، لذلك قال: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ[العنكبوت:26] ، وعلى هذا فقد اتبعه قومه، ولا ندري أين استقروا، ولكن أرجح الأقوال في تفسير الصابئين أن الذين أطلق عليهم هذا الاسم في القرآن هم من أتباع ملة إبراهيم، وقد بقي في ذريته بعض ملته، كما بقي في ذرية إسماعيل من ملته الحج وعقد النكاح وغسل الجنابة، والضيافة، وخصال الفطرة.
وعموماً فالصابئة الموجودون اليوم في العراق الراجح فيهم أنهم ليسوا أهل كتاب أصلاً وإن سموا أنفسهم صابئة؛ ولذلك فإن ملتهم أو ما يسلكونه من الطقوس يشبه إلى حد كبير ديانة البوذيين، ويزعم بعض الناس أن أحد فلاسفة المسلمين هو الذي سماهم صابئة؛ كما سيأتي.
ومذهب الجمهور أن الجزية لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى فقط، لقول الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:29] .
وذهب مالك إلى جواز أخذها من الكفرة جميعاً، وقال: إن الأصل في إباحة أخذ الجزية من الكافر أنه سيكون من رعايا الدولة الإسلامية، وأن الشعوب بكاملها إذا أذعنت لا يمكن أن تعرض على السيف، فليس لها حل إلا أن أخذ الجزية؛ ولذلك رأى أن الشعوب إذا دعيت فلم تستجب إلى الإسلام، ولكن قبلت الدخول تحت حكمه فإنها تؤخذ منها الجزية بغض النظر عن ديانتها، هذا مذهب مالك .
لكن مذهب الجمهور أن الجزية تختص بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس لحديث عبد الرحمن بن عوف : (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا محلي نسائهم)، وفي رواية: (ولا ناكحي نسائهم)، ولم يبق من سنة أهل الكتاب إلا أخذ الجزية منهم.
ويقال: إن المأمون أراد أن يعرض هؤلاء القوم وهم بالعراق على السيف أو يسلموا؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب ولم يرد أن يأخذ جزيتهم، فشكوا إلى أحد فلاسفة المسلمين، فقال: ادعوا أنكم الصابئة، فادعوا ذلك، فلما أراد المأمون محاكمتهم جاء هذا الفيلسوف فجادل عنهم، وقال: إن أهل الكتاب لا ينحصرون في اليهود والنصارى فقط، بل الصابئون كذلك بنص القرآن -وقرأ عليه الآيات الواردة في ذلك- وهؤلاء هم الصابئون فتركهم، ومن ذلك الوقت سموا أنفسهم بالصابئين.
ويترتب على الخلاف السابق قضية أخرى، هي قضية استباحة دماء الكفار دون دعوة، فمذهب الجمهور: أنه لا يحل استباحة دمائهم وأموالهم إلا بعد دعوتهم، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: يجوز أن تهاجم الكافر فتقتله ولو لم تنذره، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ[التوبة:5] ، فيقول: الذي يقعد في المرصد لن ينادي من يترصده ويقول: يا فلان أسلم أو أقتلك، لأنه إنما اختفى يريد أن يقتله.
ولعل مذهب الجمهور في هذا أولى؛ لأن سبب النزول يقيد، وبالأخص انتهاء الأشهر الأربعة التي أعطى الله تعالى مهلة للمشركين بعد منعهم من دخول المسجد الحرام بسورة براءة في العام التاسع من الهجرة.
وعلى كل ينبغي عدم التسرع في الحكم في مسألة السماع وقيام الحجة، فإنه مما لا خلاف فيه بين الأمة أن بلوغ الدعوة شرط من شروط وجوب الأحكام.
وبلوغ الدعوة لا يكون إلا عن طريق المسلمين، أما بلوغها عن طريق وسائل الإعلام المشوهة، فقد لا يتحقق به بلوغ الدعوة تماماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر