الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن من الخطوات التي تدخل في إطار العولمة ما يتعلق بالقيم الأخلاقية والالتزام العادي؛ فإن الملابس مما تتميز به الشعوب، وكل شعب له ملابس تميزه، وهذه الملابس لها ضوابط شرعية، فلباس الرجل تعتريه أحكام الشرع كما قال محمد مولود رحمه الله:
ثم لباس الشرع تعتريه الـ أحكام حتمٌ منه ما يقيه
إلى أن يقول:
لباس موسرٍ لباس معسرٍ شُحٌ وضده ثوب السري
على الدني خيلا والضـد مهانةٌ والمستجاد القصد
والعلما يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي
وحسنه يندب للمصلي وللمؤذن وذات البعل
فإذا جاءت الخطوة اللاحقة من العولمة فسيفرض لباس الغربيين على الناس، وقد سبقت تجربة هنا في هذا البلد، حيث فرضت الملابس الغربية فيما يتعلق بالعمل المكتبي كله، وقد فرضت من قديم هذه الملابس على الجيوش في العالم كله، فالجيوش والشرط وغيرهم فرض عليهم اللباس الغربي من زمان، وسيأتي هذا تباعاً، حتى أن النساء سيفرض عليهن الزي الغربي من الملابس، وسيكون ذلك متدرجاً، فسيأتي في البداية بالدعاية في برامج مصورة وأشرطة للفيديو، ثم يؤتى بجس النبضِ بالمباشرة في الحفلات الخليعة الماجنة، ثم بعد ذلك فرضاً، وتكون هذه القيم مما يعاقب عليه، وقديماً كنا ندرس في القانون أن من خصائص القاعدة القانونية أنها مُلزمة؛ وأن قواعد القانون الدولي العام غير ملزمة، وبهذا فليست قواعد قانونيةً في الواقع لأنها غير ملزمة.
لكنه بعد حرب الخليج الثانية، أصبحت قواعد القانون الدولي ملزمة، لأن أية دولة خالفت هذه القواعد سيفرض عليها الحصار، أو تضرب كالحال الآن في ليبيا وفي السودان وفي العراق وبعض الدول الإسلامية الأخرى، فباكستان الآن تهدد بهذا الحصار، وبذلك ستفرض القيم بالقوة، وهذا الأمر إذا لم تحس به الأمة ولم تستعد له، فسيأتي بالتدريج:
كالموت مستعجلاً يأتي على مهلِ
يأتي بالتدريج والتقسيط حتى يترسخ، وحينئذٍ من وقف في وجهه كان كمن يضرب في حديد بارد.
أما إذا انتشر الوعي بين الناس فعرفوا أن الهجوم الذي يشن على اللغة العربية ليس على وسيلة للتفاهم، أو على لغة من لغات العالم فقط، وإنما هو هجوم على الإسلام في قيمه وعقيدته ووحيه المنزل، وأخلاقه، وكل ما فيه، وأن الهجوم الذي يشن على التعليم ليس هجوماً على المؤسسات التعليمية أو تغييراً أو رُقياً في هذا المجال فقط، بل هو هجومٌ شرسٌ على الإسلام لاقتلاعه من جذوره، وأن الهجوم الذي يشن في الإعلام إنما يقصد به الوصول إلى من لا تصل إليه مؤسسات التعليم من الناس حتى يشارك في بناء عقليته وتصوره، ومن هنا فإن الإعلام لا يخرج فيه من الأخبار غالباً والتحاليل إلا ما كان مضللاً مبنياً على كذب ومجازفة متعمدة.
ولذلك فالتشويه الحاصل اليوم للمسلمين في كل مكان مبناه على أن وسائل الإعلام المؤثرة إنما يمتلكها أعداء الدين وأعداء الحق، وهم يخرجون فيها ما شاءوا، ومن هنا فلا يتوقع من هؤلاء أن يخرجوا دعايةً للإسلام ولا إنصافاً له، بل هم أعداؤه ويريدون القضاء عليه، ويودون ذلك، والقرآن صريح في هذا: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ[الممتحنة:2] .
فهم لا يرضون منكم إلا الكفر وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[البقرة:120] ، ومن هنا لا يرضون أبداً عن أي إنسان إلا إذا تبع ملتهم، لكنهم يرضون منه بالتدريج خطوة خطوة، وهذه سياستهم.
كذلك الهجوم على ما يتعلق بالقيم، فنحن نشاهد في كثير من البلدان الإسلامية اليوم قوانين تفرض على النساء إذا درسن في المؤسسات التعليمية أن يمتنعن من ارتداء الحجاب أو ستر رءوسهن، وهذا موجود في البلدان الإسلامية المجاورة، وهو مفروض بقوة النظام ولكنه خطوة واحدة من خطوات هذا الغزو في مجال القيم.
ومثل هذا في المجال الاقتصادي ومثله في المجال السياسي في فرض الديمقراطية وفرض الكلام في حقوق الإنسان وغيرها، فهذه إنما هي على مكيال الغرب، فالديمقراطية إذا أدّت إلى وصول الفاسدين المرضين للغرب فهي ديمقراطية صحيحة شفافة مقبولة، وإذا أدّت إلى خلاف ذلك فهي منبوذة، ومعناها أن الشعب لم يصل إلى الوعي الكافي، ولابد من انقلاب عسكري يغير ذلك.
وكذلك في حقوق الإنسان في فلسطين، فإن المقصود بالإنسان فيها هو اليهودي فقط.
وحقوق الإنسان في كل بلد من البلدان التي فيها أقليات غير مسلمة، المقصود بها الإنسان غير المسلم فقط، فحقوق الإنسان في مصر يقصد بها حقوق الأقباط فقط، حقوق الإنسان في السودان يقصد بها حقوق الجنوبيين فقط، وهكذا.. فهذه الدعايات البراقة الخلابة التي يخدع بها الناس لها مفاهيم عند الغربيين، وإن الشعوب غير واعيةٍ لهذه الدلالات، وغير واعيةٍ لهذه المصطلحات المقصودة، ومن هنا ينخدعون بهذه الدعايات وتؤثر فيهم.
إن المؤتمرات التي تقام لترسيخ (الفرانكفونية) والإنفاق الكبير الذي يبذل فيها، لم يأت من فضاء، ولم يقصد به مجرد التقاءٍ أو تحاورٍ بين الشمال والجنوب كما يسمون ذلك الحوار، وإنما يقصد بها التحاور بين الجانب القوي والجانب الضعيف، وهذا الحوار بين جانبين أحدهما قويٌ (100%) والآخر ضعيف (100%)، ولن يكون فيه عدل أبداً بل سيكون الجانب الضعيف هو المهضوم وهو المهزوم، وهو الذي تفرض عليه قيم الجانب الآخر، ومن هنا فإذا لم يعم الوعي في الشعوب الإسلامية، فستأتي هذه الخطوات متسارعة.
وقد شاهدنا في السنوات الأخيرة تسارعها، فعندما أصبح القطب العالمي واحداً، وأصبح النظام العالمي الجديد ليس له من يقف في وجهه، أصبحت هذه الخطوات سريعةً جداً، فيأتيك قرار بفرض الديمقراطية من غير مطالبة، ثم يأتيك قرار آخر بتغيير التعليم، ثم يأتيك قرار آخر بتغيير القيم، ثم يأتيك قرار آخر بترسيخ الربا، ثم يأتيك قرار آخر قاضٍ على الصناعات والإنتاج كمنظمة (الجات) وغيرها، وهكذا تتسارع الخطوات في ظل غياب الوعي في الشعوب.
أما إذا حصل الوعي فبالإمكان أن تمتنع هذه الشعوب عن الانجراف والمسارعة والهرولة إلى اليهود والنصارى، فالذين يسارعون إلى اليهود والتطبيع معهم يظنون أنهم بذلك سيكسبون شهرةً عالميةً وأموالاً طائلة، أو على الأقل ستجدول ديونهم، ويقضى عليها، ولكن الواقع خلاف ذلك، فاليهود أنفسهم كل ميزانيتهم مستوردة من الخارج، ودولتهم دولة فقيرة مازالت تُدعم إلى اليوم من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن غيرها من البلدان الأوروبية، وهم يسعون كذلك للتعويض من البلدان الغربية في كل سنة، فيفتعلون قضايا ويرفعونها عند المحاكم لينالوا مالاً، ففي العام الماضي أخذوا تعويضاً كبيراً من الألمان عن المحرقة اليهودية، وهذا العام أخذوا تعويضاً كبيرا من الهولنديين، والعام القادم سيأخذونه من دولة أخرى وهكذا.
فإذا كانوا أصحاب هلع وطمع، ولم يكن لديهم ما يكفيهم لتوسعهم في مشروعهم الحضاري وكانوا دولةً تعيشُ على حساب الدول، فكيف يطمع فيها من أغناه الله عنها، وبالأخص إذا عرف أنهم أهل المكر والدهاء من قديم العهد، فقد شهد الله عليهم بذلك في كتابه، وشهد عليهم بالكذب وأكل السحت وأكل الربا، وأنواع الفجور، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبالأخص أن عداوتهم لهذه الأمة هي أعظم العداوات: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا[المائدة:82] ، فعداوتهم لهذه الأمة هي أشد العداوات، حتى حاولوا التخلص من شخص النبي صلى الله عليه وسلم برمي الحجر عليه، عندما أمروا عمرو بن جحاش أن يصعد فوق الدار، وأن يرمي الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الظل، وحاولوا وضع السم له في غزوة خيبر، وحاولوا كذلك التخلص من القرآن، وسحر النبي صلى الله عليه وسلم على يد لبيد بن الأعصم وبناته.
هذه مؤامراتهم على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ثم مؤامراتهم بعد ذلك على الأمة لا حصر لها ولا نهاية، ومن هنا فلا يرجى منهم خير، ولا يمكن أن يطمع طامعٌ في خيرٍ يأتيه من قبل اليهود الذين شهد الله عليهم بهذه الشهادات المخزية، التي أخزاهم بها وبين بها حقيقتهم، وبين بها عوارهم وما هم فيه من أنواع المذلة والمهانة ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ[آل عمران:112] .
فماكان هكذا فكيف يريد الإنسان التعزز به؟!
إن المؤمن ينبغي أن يتذكر قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[المنافقون:8] ، ولا يمكن أن يطلب العزة لدى اليهود الأذلاء الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، وكذلك النصارى الضالين الذين لا علم لهم، كيف يطلب منهم العلم وقد شهد الله عليهم بذلك في كتابه، بل إن من ضل من علماءنا كان كاليهود، وجهالنا من ضل منهم كان كالنصارى، فاليهود هم المغضوب عليهم، والنصارى هم الضالون، فاليهود أضلهم الله على علمٍ، والنصارى ضلوا عن جهل، إن قوماً شهد الله عليهم بالجهل لا يمكن أن يطلب منهم العلم.
والذي يقول نحن نصلح التعليم لنحتذي بالنصارى ونريد منهم العلم، أول ردٍ عليه أن يقال: النصارى ليس لديهم علم، وقد حكم الله عليهم بذلك، وشهد عليهم به في كتابه، فكيف تطلب العلم من غير موضعه؟
إن هذا انتكاس في المفاهيم، وعدم وعي وإدراك للواقع، وهو من كيد هؤلاء الكائدين الماكرين، فيجب على الأمة أن تنتبه له، وأن لا تقبله بحال من الأحوال، ويجب على المسلمين أن يتعلموا لغة القرآن، وأن يهتموا بها وأن يعلموا أولادهم هذه اللغة، وأن يحافظوا عليها، وأن يعلموا أن المدارس النظامية التي هي من وضع الغربيين، لا يمكن أن تخرج العلماء، مادامت من وضع الغربيين.
هل رأيتم عالماً قط خريج جامعة لم يدرس في غيرها؟! لا يمكن أن يتم هذا، فلذلك لابد أن يعتني الناس بتعليم اللغة العربية، وأن يدرسوا أولادهم هذه اللغة، وقد أدركنا أسلافنا قبل سنوات، في بداية هذا الجفاف والناس ما زالوا يدرسون أولادهم ديوان الستة الجاهليين، والمعلقات السبع، وكان كل ناشئٍ بلغ عشرين سنة وهو لا يحفظ ألفية ابن مالك يعتبر ذلك سُبةً عليه، ومهانةً ومذلة بين الناس، واليوم شُغل الناس عن ذلك فأصبحت ترى الذين يراد منهم أن يكونوا قادة الأمة في المستقبل وحراس الدين، وهم لا يهتمون بشيء من هذا، ولا تعلق لهم بهذه اللغة ولا يعرفون شيئاً عنها، وهم بهذا يخادعون أنفسهم ويهملون ما فُرض عليهم، ونحن نعلم أن المكانة العالية التي تبوأها علماؤنا وقادتنا وخلفاؤنا عبر التاريخ إنما كانت في الأساس بهذا العلم.
لاحظوا كلام الخلفاء الراشدين وقارنوه بكلام من دونهم، فستجدون مستواهم اللغوي وعنايتهم بهذه اللغة:
كتب علي رضي الله عنه إلى أحد عماله:
غرك عزك فصار قصار ذلك ذُلّك، فاخش فاحش فعلك فعلّك تهدا بهذا
كل كلمة تشبه الأخرى التي قبلها في الخط، وليس لديهم نقاط إذ ذاك، فقوله: (غرك عزك) تتشابهان في كتابتهما (فصار قصار) متشابهتان أيضاً (ذلك ذُلّك) كذلك، (فاخش فاحش) (فعلك فعلّك) (تهدا بهذا) كل كلمتين تشبه إحداهما الأخرى، وكذلك قال لكاتبه:
ألصق روانفك بالجبوب، وخذ المزبر بأباخسك، واجعل جحمتيك إلى قيهلي، حتى لا أنبس نبسةً إلا أوعيتها في حماطة جلجلانك!
وقد سئل مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي عن تفسير هذا الكلام فقال: ألصق معناها: ألزق، وروانفك: عضرتك، والجبوب: الصلة، وخذ المسطر: خذ المزبر، بأباخسك: بشناترك، واجعل جحمتيك: اجعل حندورتيك، إلى قيهلي: إلى أثعباني، حتى لا أنبس نبسةً: حتى لا أنغي نغية، إلا أودعتها: إلا أوعيتها، في حماطة جلجلانك: في لمظة رباطك.
ففسرها بما يشبهها من كلام العرب، ونحن نعلم أن كثيراً من الناس اليوم تتعلق نفوسهم بأن يكونوا كأسلافهم الصالحين، وأن يدركوا بعض ما أدركوه، فكثير من الذين اشتهروا في بلادنا هذه بالعلم، إنما كان تبريزهم فيه على أساس فهمهم في الكتاب والسنة لإحاطتهم باللغة، ولهذا فإن هذه البلاد يجب أن تبقى قلعةً للغة العربية، وأن يحافظ أهلها على ذلك، ولهذا فمن المعروف في العالم كله، بأن أهل هذه البلاد هم أهل العربية على وجه السليقة، وإذا زال ذلك وانمحى فليس لهم شيء يذكرون به غير هذا، فالشيخ محمد المامي رحمه الله يقول:
فكانت في جزيرتها حجازاً ونحن لها معداً آخرينا
لا بد أن تبقوا معداً آخرين وأن تبقى هذه البلاد حجازاً كما كانت.
ومن المشاهير المبرزين من أهل هذه البلاد المجيدري المشهور وهو محمد بن حبيب الله بن الفاضل اليعقوبي، وحين أتى المغرب وهو في الخامسة عشرة من عمره لم يجد من يستطيع مناظرته في العلم، وذلك لتبريزه في اللغة وإحاطته بمفرداتها، فلا يمكن أن يأتوا بنصٍ إلا وله فيه فهمٌ وله عليه شواهد، وبذلك استطاع أن يخطف الأضواء ولم يجد من يستطيع مناظرته، وقد وجد تاجر كتبٍ في طريقه إلى هذه البلاد فأرسل معه رسالةً إلى أمه، هي عبارة عن سلهام وزربية وعبد وتسعين درهماً، وكتب له كتاباً فيه:
(سلامٌ بزيادة لام ماءٍ إلى لامه وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين).
فأخذ صاحب الكتب هذا الكتاب فقرأه فلم يجد فيه ذكراً للرسالة التي معه، فأراد أن يأخذ الرسالة، وأن يأتي بالكتاب إلى المرأة، فأتى العجوز بالكتاب فقالت: هات الزربية والسلهام، والعبد والتسعين، فقال: من أين أخذتها؟
فقالت: لام ماءٍ هاءٌ لأنه يجمع على (أمواه) ويصغر على (مويه)، والهاء إذا أضيفت إلى لام سلامٍ كان سلهاماً.
وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، تقول: راجعت ذهني في أبيات الشعر المبدوءة بترديت فوجدت قول غيلان :
ترديت من أعلام نورٍكأنها زرابي وانهلت عليك الرواعدُ
فإذاً: (كأن) خبرها هنا (زرابيُ) واحدتها (زربية).
وأما (إياك نعبد وإياك نستعين) فلم أفهمها، فعرفت أنها مصحفة، فقرأتها بدون نقاط فإذا هي: أتاك بعبدٍ وأتاك بتسعين! ففهمت الكلام كما هو.
ونظير هذا جرى لعدد كثير منهم، فـالحسن بن زين القنامي رحمه الله الذي ألف توشيح اللامية، وسبب تأليفه لهذا الكتاب أنه خرج في رفقةٍ إلى بلاد بوتة، وكان أهلها يعتنون بعلم اللغة إذ ذاك وكانوا من المبرزين فيها من عهد قيام دولة (السوكوتو) أو قبلها، فلما أتى هو ورفقته هذه البلدة، سألوهم هل هم من طلاب العلم؟ فقالوا: نعم. فقالوا: فماذا تقرءون؟ قالوا: نقرأ الألفية، فسألوهم: ما وزن أرعوا؟ فلم يعرفوا وزنها، فقطع الحسن طريقه ورجع لدراسة الصرف، والتمكن فيه، حتى أضاف إلى اللامية قوله عند قول ابن مالك رحمه الله:
وافعل لذا ألفٍ في الحشو رابعةٍ أو عارياً وكذاك بيخ اعتدل
قال:
................. والعيب واللون معناه به انعزل
وعن مداه ارعوا كاحووا وخارجةٌ وارقدّ وازور عن معناته انفصل
ومن ذلك ما حصل للعلامة البدوي رحمه الله عندما أتى قوم وهو في رفقتهم فسألوه عن أم آمنة بنت وهب فلم يعرفها، فقطع طريقه ورجع لطلب العلم، حتى نظم عمود النسب، وسماها فيه برة بنت عبد العزى ، ولذلك فالحفاظ على اللغة العربية كان مسئوليةً مشتركة في أهل هذه البلاد، فكثير مما حصل من المناظرات والهجاء في هذه البلاد كان انتصاراً للغة العربية، ألا ترون أن التهاجي الذي حصل بين عدد كبير من الشعراء في هذه البلاد كان بسبب الانتصار للغة العربية فقط؟ ليس على أي أساس آخر، ومن ذلك ما حصل بين الشيخين المبرزين في اللغة الشيخ سيدي محمد بن شيخ سدية والشيخ محمد بن أم حمدي رحمهما الله فقد كان بسبب الانتصار للغة العربية.
وكذلك ما حصل بين الشيخين المبرزين في اللغة العربية أبي مدين بن الشيخ أحمد دو والشيخ محمد بن أحمدي فقد كان أيضاً بسبب الانتصار للعربية، وكثير من التنافر الذي يحصل بين العلماء كان بسبب الانتصار لهذه اللغة.
وكان للنساء كذلك المشاركة الواضحة في هذا الباب، فعندما قال محمد مولود بن أحمد رحمه الله:
حنانك ذا الحنان لمن يروم شفاء حيث تطلع النجوم
إلى أن يقول فيها:
إذا ابتسمت بعيد النوم وهنا وقد خلفت مباسم من ينوم
يلوح البرق ثم يبوح مسكٌ فحسبك ما تشم وما تشيم
فقال: (ينوم)، قال له أحد العلماء المعاصرين له، وهو العلامة عبد الودود بن عبد الله إن (نام) مضارعها (ينام) فلم يجد شاهداً يشهد لقوله، لكنه اقتنع بأنه موافق للسليقة وأن ما قاله لابد أن يكون لغة بعض العرب، وكانت أخت زوجته مغتربة في أرضٍ بعيدة، فكانت ذات يومٍ تطالع كتاب معجم الشعراء الأدباء للمرزباني فقرأت فيه قول الشاعر :
أكابد من تماضر برح همٍ وذو التهيام عزك أن ينومَ
فإذا هو شاهدٌ في عين المسألة فأرسلت به راكباً حتى أتاهم به.
وكذلك فإن ابنة هذا الرجل وهي سكينة رحمها الله، أتاها ضيوف في عام من الأعوام التي كانت تمر بأهل هذه البلاد من القحط والجدب، فقدمت لهم رسل نوقٍ لديها، فأنشد الضيف رفيقه قول ابن مالك رحمه الله في النعت:
ونعتوا بجملة منكراً فأعطيت ما أعطيته خبرا
وامنع هنا إيقاع ذات الطلب
فالجملة الطلبية لا ينعت بها، وإذا نعت بها فإن ذلك على تقدير قولٍ مضمرٍ وشاهد ذلك قول الراجز:
بتنا بحسان ومعزاه تئط من لبن لها وسمن وأقط
حتى إذا جنَّ الظلام واختلط جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذيب قط
فلم يذكر الشاهد وإنما ذكر قول ابن مالك :
وامنع هنا إيقاع ذات الطلب
ففهمت أنهم يقصدون الشاهد على هذه القاعدة، فقالت: كلا والله ما مسه ماءٌ ولكنه رسل نوقٍ ليس لها مرعى إلا ماء ضبة، فعرف الرجل أنها فهمت المسألة قبل أن يفهمها رفيقه.
ونظير هذا ما حصل لزوجة العلامة محمد فال بن بابا بن أحمد بيبا رحمها الله، فإن رجلاً من الطلاب كتب لها بعد قدوم محمد فال من سفر كان سافره:
لا يرفع المريد للأشياخ من حاجاته إلا الذي منها بطن
ورفعه الظاهر نزر ومتى عاقب فعلاً فكثيراً ثبتا
فأرسلت إليه بكحل وكان هذا جواب البيتين، لأنه هو يريد مسألة الكحل في ألفية ابن مالك وهي: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، وهذه المسألة هي التي يقول فيها ابن مالك في أفعال التفضيل:
ورفعه الظاهر نزر ومتى عاقب فعلاً فكثيراً ثبتا
كلن ترى في الناس من رفيق أولى به الفضل من الصديقِ
ففهمت هذا بهذا اللغز، ونظير هذا كثير جداً، مما يقتضي منا المحافظة على مثل هذه القيم، وهذا التراث العريق الذي نحن بحاجة إليه، والأمة بحاجة كذلك إلى من يقوم بحفظ تراثها ونشره بين الناس.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر