إسلام ويب

مسائل الإيمانللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل التي يتكلم فيها العلماء مسألة الإيمان، ومذهب السلف أنه قول واعتقاد وعمل، وأن العمل جزء من الإيمان، وقد خالف في العمل بعض السلف، وقد بين الشيخ مرتبة هذا الخلاف وما يترتب عليه.

    1.   

    تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً

    قال الناظم:

    [ذلك والإيمان كل قد شمل عقداً بقلب مع قول وعمل

    بنية في سنة وبالعمل زيادة ونقصاً المثل احتمل]

    قوله: (ذلك)، أي: اعرف ذلك، وهذا يسمى الاقتضاب، فبدأ الكلام على توحيد الله سبحانه وتعالى وهو الركن الأول من أركان الإيمان؛ لأن أركان الإيمان ستة هي:

    الإيمان بالله.

    والإيمان بملائكته.

    والإيمان بكتبه.

    والإيمان برسله.

    والإيمان باليوم الآخر.

    والإيمان بالقدر خيره وشره.

    وقد سبق الكلام على القدر عرضاً في ذكر صفات الله سبحانه وتعالى، وكل ما سوى ذلك فهو داخل في الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فلهذا اقتضب هنا فقال: (ذلك) ومعناه: اعرف ذلك، وهذا مشهور في لسان العرب وهو دليل على بلاغة صاحبه، ويأتي بلفظ (هذا) أو (ذلك) وقد كثر في القرآن، ومنه قول الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4] ، ( ذلك ) معناه: اعرف ذلك، أو: اعرفوا ذلك، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ[محمد:4] .

    وقد يكون بلفظ (هذا)؛ لأنه اسم إشارة معناه: اعرف هذا، وإذا قلت: (ذلك) فهو اسم إشارة للبعيد، معناه: اعرف ما سبق المشرف التعظيم؛ لأن اللام بعد (ذا) تأتي للبعد إذا كانت مع الكاف، وهذا البعد المقصود به التعظيم، وإذا كان بلفظ (هذا) بالإشارة للقرب فالمقصود به: هذا الذي سبق، وهذا هو الذي يعنينا هنا، ومنه قول أبي الطيب المتنبي :

    هذا وإن مقام القول ذا سعة فإن وجدت لساناً قائلاً فقل

    اختلاف معنى الإيمان باختلاف حرف التعدية

    وبدأ في المسألة الأخرى وهي تحديد الإيمان وتعريفه:

    والإيمان في اللغة: مصدر آمن، تطلق معداة باللام ومعداة بالباء، فالمعداة باللام معناها التصديق فيقال: (آمن له) بمعنى: صدقه فيما يقول، ومنه قول الله تعالى في قصة إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ[يوسف:17] ، أي: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين.

    وترد أيضاً معداة باللام بمعنى التسليم، فيقال: (آمن له) بمعنى سلمه أو حفظ غيبه فلم يتكلم في عرضه ولم يلمه في غيبته، ومنه قول الله تعالى في سورة التوبة: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ[التوبة:61] ، ( يؤمن للمؤمنين ) معناه: يأمنونه بظهر الغيب فلا يعتدي عليهم ويسلمهم.

    ولذلك تلاحظون أنه فرق بين التعدية بالباء والتعدية باللام، قال: ( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ).

    وأما قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ[العنكبوت:26] ، فإن اللام هنا ليست هي اللام التي كنا نذكرها في تعدية (آمن)، وليس المقصود بذلك أن لوطاً صدقه أو أنه سلمه بظهر الغيب، وإنما المقصود بذلك أن لوطاً آمن وكان ذلك له، أي: في ميزان حسنات إبراهيم، أو: اتباعاً له، فآمن اتباعاً له لوط، فمفعول آمن هنا محذوف معناه: فآمن بالله لوط له، أي لإبراهيم، والمعنى: اتباعاً له.

    وأما (آمن) المعداة بالباء فإنها تقتضي زيادة على التصديق وهو التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك، والذي يقتضي عملاً، ولهذا لا يحل أن تعدى (آمن) بالباء إلا على ما هو ركن من أركان الإيمان، فتقول: آمن فلان بالله أو آمن بالرسول أو آمن بالكتاب أو آمن باليوم الآخر أو آمن بالملائكة أو آمن بالقدر، لكن لا يحل أن تقول: آمن بفلان من الناس، بمعنى: صدقه، ولا أن تقول: آمن بالمذهب الفلاني؛ لأن هذا وإن كان تصديقاً لكنه لا يقتضي الجزم، لكن يجوز أن تقول: آمن للمذهب الفلاني، أو آمن للخبر الفلاني، أو آمن لفلان، بمعنى: صدقه، لكن تعديتها بالباء تقتضي التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، فلذلك تقصر على ما يجب الإيمان به مطلقاً.

    معنى الإيمان في كلام الشرع

    والإيمان جاء في الشرع على إطلاقين:

    الإطلاق الأول: على الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دين الإيمان ودين الإسلام، وحينئذٍ يترادف الإيمان والإسلام في التسمية، فهذا الدين اسمه الإسلام واسمه الإيمان أيضاً، فيدخل في ذلك شعبه كلها، وهي كما في الحديث: (الإيمان بضع وستون شعبة) وهذا لفظ البخاري ، وفي صحيح مسلم : (بضع وسبعون شعبة)، وقد ذكر منها أن أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لا إله إلا الله.

    فالمقصود: أن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتقادات والأقوال والأعمال والأخلاق والقيم، داخل في مسمى الإيمان بإطلاقه العام، وهذا الإطلاق هو الذي تجدونه في بعض النصوص الشرعية التي لا يذكر فيها الإسلام معه، مثل حديث وفد عبد قيس ، فإنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)، وعلمهم الإيمان بالله وحده، وهو أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وأن يقيموا الصلوات الخمس، وأن يؤدوا خمس المغنم، فهذا كله من الأعمال، وهو مسمى الإسلام أيضاً.

    أما الإطلاق الثاني للإيمان: فهو على جزء الاعتقاد من هذا الدين، أي: على الجانب العقدي من هذا الدين، وهو الذي يسمى إيماناً بالمعنى الخاص، وقد جاء ذلك في قول الله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[الحجرات:14] ، وجاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وجاء كذلك في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً وترك رجلاً، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان فإني والله لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً؟ فسكت، ثم غلبني ما أعرف منه فقلت: يا رسول الله، والله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً؟ ثم سكت، ثم عدت فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثل مقالتي، ثم قال: يا سعد إني لأعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار).

    فهذا الحديث فيه تفريق بين الإيمان والإسلام، وكذلك في حديث جبريل السابق، وكذلك في آية سورة الحجرات، والمقصود بذلك أن الجانب العقدي من الإيمان يسمى إيماناً من باب تسمية الشيء باسم بعضه، مثل تسمية الإنسان الذي يُعتَق رقبة، والرقبة إنما هي جزؤه، ومثلما تقول: لدي خمسون رأساً من الغنم أو خمسون رأساً من الإبل، فهذا من تسمية الشيء باسم بعضه.

    ذكر اختلاف السلف في مسمى الإيمان وأدلتهم

    ونظراً لاختلاف هذين المدلولين من ناحية العموم والخصوص كثر الخوض فيهما من لدن التابعين إلى زماننا هذا، فقد اختلف الناس في تحديد مسمى الإيمان من لدن عصر التابعين إلى وقتنا، فذهب جمهور التابعين وأتباعهم إلى أن الإيمان بالإطلاق الأول يدخل في مسماه كل الأعمال.

    وذهب حماد بن أبي سليمان وعدد معهم من أئمة التابعين من أهل العراق، وتبعهم على ذلك كثير من أتباع التابعين مثل أبي حنيفة وأتباعه؛ إلى أن المقصود به عمل القلب فقط.

    وهذا الخلاف، وإن كان قد اشتهر وانتشر وكثر الكلام فيه إلا أن الذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكرا أنه خلاف لفظي؛ لأن الجميع لا يختلفون في أن من صدق بقلبه ولم يتبع ذلك أي عمل أنه لا يتقبل منه، ولا يختلفون كذلك في أن من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان سيخرج من النار يوم القيامة، ولا يختلفون كذلك في أن هذه الأعمال شرطها الإيمان، فمن لم يكن مؤمناً بقلبه لا يتقبل الله منه أي عمل ولا ينفعه ذلك في شيء، فالخلاف إذاً خلاف لفظي.

    لكن بعض الناس توهم أن الذين قالوا بالإطلاق الأخص للإيمان يقصدون بذلك مذهب المرجئة، فالمرجئة قوم بالغوا في ردة الفعل على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، فكانوا يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهؤلاء لم يقصدوا هذا المعنى ولا أرادوه وإنما أرادوا تفسير النصوص الشرعية، وفسروا الإيمان بمعناه الخاص الذي تدل عليه آية الحجرات، ويدل عليه حديث جبريل، ويدل عليه حديث سعد بن أبي وقاص .

    والآخرون أخذوا بالجانب الآخر، أعني بالإطلاق الأول العام الذي يدل عليه عدد كبير من الأحاديث مثل حديث عبد القيس ، ومثل حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، ومثل حديث: (دعه فإن الحياء من الإيمان)، ومثل حديث: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً)، ومثل حديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً)، وحديث: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)؛ كل هذا يقتضي أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان.

    ومع هذا فقد أخطأ بعض المتأخرين حين صنف أولئك الأئمة من التابعين وأتباعهم بأنهم مرجئة الفقهاء، وهذا الاسم خطأ في حد ذاته؛ لأن فيه جراءة على هؤلاء الأئمة من السلف الذين هم أبعد شيء عن الإرجاء، فلا ينبغي أن يوصفوا بشيء لم يقولوه، والذي قالوه إنما هو تفسير للنصوص باعتبار الاستدلال الذي ذكرناه، ويعتمدون في ذلك على نصوص صريحة صحيحة مثل آية الحجرات، وحديث سعد بن أبي وقاص ، وحديث جبريل.

    1.   

    الكلام على زيادة الإيمان ونقصه

    وقد تفرع عن هذه المسألة مسائل منها: مسألة زيادة الإيمان ونقصه.

    أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصه

    ومسألة زيادة الإيمان ونقصه، قد اختلف فيها أيضاً على ثلاثة أقوال:

    فذهب جمهور السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، واستدلوا على ذلك بعدد من الآيات التي فيها ذكر زيادة الإيمان مثل قول الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ[التوبة:124] ، وكذلك قول الله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ[الفتح:4] ، وكذلك قوله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[الكهف:13] ، وكذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260] ، فهذا يقتضي زيادة الإيمان، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الإيمان يخلق ويجد في القلوب.

    المذهب الثاني: ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة الذين ذكرناهم من أهل العراق مثل: حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما، حيث قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

    والمقصود عندهم القناعة القلبية؛ لأن من لم يصل إلى درجة اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك لا يسمى مؤمناً؛ لأننا عرفنا الإيمان في القلب بأنه التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، فعلى هذا من لم يكتمل هذا الجزم في يقينه وفي قلبه لم يؤمن بعد؛ لأن من شك أقل شك فهو غير مؤمن.

    المذهب الثالث: ما روي عن مالك رحمه الله رواية لا أدري مدى صحتها، ولكنها مذكورة في بعض كتب العقائد، أنه قال مرة: إن الإيمان يزيد ولكنه لا ينقص، أو امتنع عن القول بنقصه، واستدل على ذلك بحرفية النصوص؛ لأن النصوص جاء فيها ذكر الزيادة ولم يرد في نص واحد منها ذكر النقص، فقال: أقف عند النص في مسمى الإيمان ولا أتعداه.

    وكان رحمه الله يعجبه التقيد بالنصوص في المجال العقدي، لما ذكرناه من أن قاعدة العقائد التسليم بالنص وعدم مجاوزته، ولم يرد في أي نص لا من كتاب ولا من سنة ذكر النقص، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يجد ويخلق)، فقوله: (يخلق) يدل على النقص.

    وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، .....) ، ونحو ذلك؛ فهذا لا يقتضي نقصه فقط بل يقتضي مفارقته لصاحبه، وقد اختلف في المقصود به فقيل: الوازع الناشئ عن الإيمان الذي يمنع الإنسان من اقتراف المعصية سماه النبي صلى الله عليه وسلم هنا إيماناً، وهذا يفارق صاحبه وقت المعصية قطعاً.

    وقالت طائفة أخرى: بل المقصود نور الإيمان؛ لأن الله تعالى قال: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا[الشورى:52] ، فنور الإيمان يفارق الإنسان وقت مقارفته للمعصية، فسمي ذلك مفارقة للإيمان كله.

    وقيل: إن النفي مجازي لا حقيقي؛ لأن المقصود أن هذا الإنسان لو كان يؤمن بأن الله ينظر إليه وهو الذي حرم عليه هذا لما فعله واقترفه؛ لأنه لو نهاه ذو سطوة وقوة عن أمر وكان قائماً عليه بالسيف لم يمكن ليفعله بين يديه وهو يخافه؛ لكن هذا من نقص العقل لا من نقص القناعة؛ لأنه قد يكون أحمق، فيقع فيما نهي عنه وهو يعلم أن العقوبة ستحل به، فيكون هذا نقصاً في عقله لا نقصاً في قناعته.

    وعموماً فهذه الأقوال الثلاثة ينبغي أن تكون أيضاً على الخلاف السابق، وأن يكون المقصود أن الإيمان بمعنى فعل القلب، ولا خلاف بأنه لا يزيد ولا ينقص على هذا؛ لأن من كان شاكاً لم يتم جزمه بعد لا يعتبر مؤمناً، وإذا قصد به الإطلاق العام فلا شك أنه يزيد وينقص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وهذا يقتضي كمال الإيمان، وقد ذكر أن له ذروة سنام، وأن له شعباً من استكملها استكمل الإيمان.

    فإذاًَ: الخلاف لا ينبغي أن يعود خلافاً جوهرياً أيضاً.

    اختلاف القائلين بزيادة الإيمان في معنى ذلك

    لكن المشكلة أن القائلين بزيادة الإيمان اختلفوا في المقصود بزيادة الإيمان التي تتعلق بالزيادة والنقص:

    فقالت طائفة: الزيادة والنقص إنما يقعان في نور القلب تبعاً للعمل، فمن كثرت طاعاته ازداد نور الإيمان في قلبه، ومن كثرت معاصيه انتقص نور الإيمان في قلبه، وعلى هذا فالزيادة والنقص على قدر زيادة العمل ونقصه، فالعمل الصالح يزيد الإيمان بزيادته وينقص بنقصه، والعمل الفاسد يزيد الإيمان بنقصه وينقص بزيادته.

    ودليل هذا أنه ذكرت معه الأعمال، كما في حديث شعب الإيمان، وكحديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً)، (ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً)؛ فدل هذا على أن زيادة الإيمان تتعلق بالعمل نفسه.

    القول الثاني: أن المقصود بزيادة الإيمان زيادة أجزاء ما يؤمن به الإنسان، فالإنسان في بداية معرفته بالله لا يعرف كثيراً من التفاصيل فيؤمن بأشياء قليلة، وكلما ازدادت معرفته بالله ازداد إيمانه، بمعنى: ازدادت أجزاء ما يؤمن به على ما كانت قبل ذلك، ولذلك فإن قول الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا[التوبة:124] ، لأنهم كانوا يؤمنون بالسور التي سبقت، وقد زاد ذلك بهذه السورة فآمنوا بها أيضاً، فازداد عدد ما يؤمنون به، وعلى هذا فإنها تزيد جزئيات ما يؤمنون به.

    وأهل الإيمان كلما تعلموا شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ازداد إيمانهم بذلك؛ لأنهم يؤمنون بتصديقه بهذه المسألة بعينها، كما قال أبو بكر : (إن كان قالها فقد صدق)، ولهذا إذا سمعت أي خبر يتعلق باليوم الآخر وعرفت صحته فقد ازداد إيمانك بتلك الجزئية؛ لأنك كنت تؤمن من قبل لكن كان إيمانك بالتفصيل فيما يتعلق باليوم الآخر يتعلق بما تعرفه فقط ولا يتعلق بما تجهل إلا إجمالاً، وقد عرفت بعض تلك الجزئيات فزاد إيمانك؛ لأنه زادت أفراد ما تؤمن به.

    القول الثالث: أن المقصود بزيادة الإيمان قوته وتمكنه من القلب، وسمي ذلك زيادة مجازاً، والإيمان هو الإيمان، لكن بعض الناس يكون هذا الإيمان راسخاً فيه يباشر بشاشة قلبه ويتأثر به تأثراً بالغاً ويبقى معه دائماً، فيتصف بصفات الإيمان ومقتضياته من الأمانة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، ومن تمام خلقه لقوله: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وغير ذلك، فيكون الإيمان صفة راسخة في النفس.

    والمقصود بنقصه أن يكون هذا الإيمان لم يرسخ بعد في النفس، فلم يؤثر تأثيراً بالغاً، فهو صبغة الله، ولا شك أن صبغة البياض مثلاً يتفاوت فيها المصبوغ، فمن المصبوغات ما يثبت فيه اللون ولا يسقط عنه ولا يغسله الماء، ومن المصبوغات ما يسقط لونه الماء أو ينقصه، فكذلك الناس يتفاوتون في الإيمان بحسب الصبغة، ولهذا عرف الله تعالى هذا الدين بأنه الصبغة بقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ[البقرة:138] ، بعد ذكره للإيمان به.

    وهذه الأقوال الثلاثة يمكن الجمع بينها جميعاً فيكون كل هذا مقصوداً بزيادة الإيمان ونقصه.

    اشتراط الإخلاص في الإيمان

    ذكر الشيخ أطراف هذه المسألة فقال: (والإيمان كله)، والكل يشمل جزئيات متعددة، وهذا يدل على أنه ذو جزئيات سواء تعلق الأمر بفعل الجوارح لتفاوت الناس به، كما قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، أو تعلق الأمر بعمل القلب؛ لأن الناس متفاوتون فيه بحسب ما يعلمونه تفصيلاً، وبحسب تمكن الإيمان منهم ورسوخه في نفوسهم، فلهذا قال (كل)، وكل (كلٍّ) لابد أن تعلم جزئياته، فلذلك ذكر الجزئيات بقوله: (قد شمل عقداً)، ومعناه: اعتقاداً بقلب، أي: بمكان الاعتقاد من النفس.

    قوله: (مع قول)، وهو النطق بالشهادتين وبذكر الله سبحانه وتعالى، والإقرار بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به.

    قوله: (وعمل) وهو أعمال الجوارح الأخرى، مثل أركان الإسلام الخمسة.

    قوله: (بنية)، معناه: لا يتم هذا الإيمان إلا بنية، أي: بقصد لذلك، فمن أقر باعتقاد قلبه مع قول ومع عمل لكنه لم ينو بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وتصديق ما أرسل به رسله، فإنه لن ينفعه إيمانه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، والإيمان من الأعمال، وهذا محل بحث:

    فقد ذكر بعض أهل العلم أن عمل القلب لا يحتاج إلى النية وإلا لاقتضى ذلك دوراً؛ لأن النية نفسها عمل قلب، ولا يمكن أن تكون النية محتاجة إلى نية، وإلا لاحتاجت تلك النية إلى نية ولاحتاجت تلك الأخرى إلى نية فيقع التسلسل، وهذا ممنوع.

    لكن يجاب عن هذا بأن المقصود بنية الإيمان الإخلاص، والإخلاص شرط لكل عمل، فإذاً الإخلاص فيه لله هو المقصود بالنية هنا، وهذا معنى قوله: (بنية)، أي: بإخلاص.

    اشتراط المتابعة في أعمال الإيمان

    قوله: (في سنة)، معناه: بموافقة لما شرع الله؛ لأن الإيمان عمل صالح والعمل الصالح له ركنان:

    أحدهما: الإخلاص.

    والثاني: المتابعة والموافقة لشرع الله.

    والمقصود بالسنة طريقة الأنبياء، والسنة في اللغة تطلق على الصبيب من كل شيء ومنه قول غيلان ذي الرمة:

    تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب

    وتطلق على الطريق في الجبل فيقال: في هذا الجبل سنة تصل إلى كذا، معناه: طريق.

    وتطلق على الطريقة المعنوية في الخير كانت أو في الشر، ومن إطلاقها على الخير قول الله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا[الإسراء:77] ، ومن إطلاقها على الشر سُنَّةُ الأَوَّلِينَ[الأنفال:38] ، وقوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران:137] ، أي: المكذبين.

    وأما في الاصطلاح: فيختلف إطلاق السنة باختلاف العلم الذي تطلق فيه، فهي عند المحدثين ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو وصف خلقي أو خلقي سواءً صلح ذلك دليلاً لحكم شرعي أو لم يصلح، فهي موافقة للحديث على هذا، وقيل: الحديث أخص منها؛ لأن الحديث في الأصل يطلق على الأقوال دون الأفعال والتقريرات، والسنة تشمل كل ذلك.

    وهي عند الفقهاء: صفة الفعل الشرعي المأمور به أمراً غير جازم، فالفعل الشرعي المأمور به إما أن يؤمر به أمراً جازماً فهو الواجب، وصفته الوجوب، وإما أن يؤمر به أمراً غير جازم فهذا يسمى سنة، وفي ذلك تفصيلات تذكر في الأصول، وهي التفريق بين السنة والندب والتطوع والمستحب.

    وأما في علم العقائد فالمقصود بالسنة: ما يخالف البدعة، ولهذا جاءت مخالفة للبدعة ومعارضة لها في مثل قول حسان رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنة للناس تتبع

    يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

    سجية تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلم شرها البدع

    ولذلك كان مالك رحمه الله يقول:

    فخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع

    والسنة هنا المقصود بها ما يخالف البدعة، فالشيخ هنا ينظم رحمه الله كلام ابن أبي زيد في الرسالة، فإنه ذكر أن الإيمان لا يتم إلا باعتقاد، ولا يتم الاعتقاد إلا بقول، ولا يتم القول إلا بعمل، ولا ينفع اعتقاد وقول وعمل إلا بنية، ولا ينفع الاعتقاد والقول والعمل بالنية إلا بمتابعة السنة، والمقصود بذلك السنة عند أهل العقائد لا السنة عند من سواهم.

    قوله: (وبالعمل زيادة ونقصاً المثل احتمل)، يقول: إن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وقوله: (المثل احتمل)، أي: الإيمان يحتمل الزيادة والنقص، فبزيادة العمل يزداد الإيمان وبنقصه ينقص، وهذا اختيار من الشيخ للمذهب الأوسط من المذاهب الثلاثة التي ذكرناها في الكلام على زيادة الإيمان ونقصه.

    1.   

    الأسئلة

    تفاوت الناس في الإيمان بقدر ما يقوم بقلوبهم

    السؤال: ما معنى قول حنظلة: (نافق حنظلة)، وما علاقته بالإيمان وزيادته؟

    الجواب: بالنسبة لحديث حنظلة رضي الله عنه أنه خرج يبكي فلقيه أبو بكر فسأله: (ما يبكيك؟ فقال: نافق حنظلة . فقال: ولم؟

    قال: إنا إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكرنا الجنة والنار، فإذا خرجنا من عنده وعاشرنا أهلنا لم نستشعر ذلك..) ، الحديث في صحيح مسلم ، وهذا الحديث وإن كان يشعر بأن مقام التذكر والتأثر يتفاوت إلا أنه هنا يتعلق بالإحسان لا بالإيمان من ناحية المصطلح العقائدي.

    فقد ذكرناه أن الدين ثلاثة عناصر:

    الإيمان.

    والإسلام.

    والإحسان.

    فحديث حنظلة هنا يتعلق بالإحسان، لأنه فيما يتعلق بإيثار الآخرة على الأولى والانشغال بها، وتعلق القلب بالله وبما عنده، والخوف منه ورجائه، فهو فيما يتعلق بالرجاء والخوف والاتصال بالله، لا فيما يتعلق بالإيمان من حيث الجانب العقدي.

    كذلك ما ورد في الآثار من نسبة زيادة الإيمان لبعض الناس مع أن أعمالهم ليست أكثر من أعمال من سواهم، لكن إخلاصهم وأعمالهم الباطنة قد تكون أكثر، والعمل هنا يشمل الجميع.

    وأيضاً: فقد تطلق زيادة الإيمان على الإطلاق الأول الذي لا خلاف فيه، وهو إطلاق الإيمان على كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المقصود بذلك الاجتباء.

    فإن الله سبحانه وتعالى قسم أهل الإيمان إلى قسمين:

    القسم الأول: الذين اجتباهم، وهؤلاء ملأ الله قلوبهم من الإيمان دون أن ينشغلوا ودون أن يتعبوا أنفسهم بالمجاهدة.

    والقسم الثاني: الذين هداهم، وهؤلاء هم الذين أتعبوا أنفسهم بالمجاهدة وبمحاولة زيادة القناعة وزيادة الطمأنينة في القلب.

    وذكر الله سبحانه وتعالى القسمين في قوله: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ[الشورى:13] ، فالاجتباء لم يشرطه إلا بمشيئته، والهداية اشترطها بالإنابة، والإنابة من عمل المكلف وفعله، وبهذا يتبين الفرق بين الأمرين.

    وهذا المعنى قد أخذه الصوفية حين فرقوا بين الجانبين، فذكروا أن الواصلين لله سبحانه وتعالى بمعرفة الله ينقسمون إلى قسمين: أهل اجتباء، وأهل هداية.

    فأهل الاجتباء سموهم بالمجذوبين، وأهل الهداية سموهم بالسالكين، ولذلك يقولون: المجذوب لا يُسلِّك، والسالك يمكن أن يُسلِّك.

    المقصود هنا: أن من ملأ الله قلبه بقناعة الإيمان دون أن يتعب نفسه بالعمل ودون أن يتعب نفسه بالتعلم والمجاهدة لا يستطيع أن يربي غيره؛ لأنه ما عرف المفاوز ولا عرف كثيراً من العلل والمشكلات التي تمر بها النفوس.

    أما السالك الذي تعب بالمجاهدة والصبر، فصبر عن معصية الله وصبر على طاعته، وعانى مزالق النفوس وعرف أوقات الضعف وأوقات الإقبال على الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يستطيع أن يُسلِّك، بمعنى: يستطيع أن يربي.

    وهذا الكلام وإن كان في الأصل مصطلحاً من مصطلحاتهم لكنه مقبول شرعاً؛ لأنك تعرف الآن أن بعض الناس أذكياء بفطرتهم، يمكن أن يقرأ أحدهم الكتاب فيستوعبه بالمرة الواحدة لكنه لا يستطيع شرحه، أما من درس الكتاب وشرح له وفهمه، فإنه يستطيع أن يشرحه وأن يبين كثيراً من الأمور التي لا يمكن أن يعرفها الأول بمجرد القريحة.

    فإذاً: هذا فرق بين الأمرين، فهو مثل الفرق بين طريقتي الجذب والسلوك.

    وعلى هذا فأولئك الإخوان الذين جاءت فيهم بعض القصص والحكايات وبعض الآثار الصحيحة، واتصفوا بزيادة منسوب الإيمان ومستواه، لعلهم من الذين اجتباهم الله ولم يتعبوا أنفسهم بالمجاهدة والعمل، ولهذا جاء في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح البخاري : (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أسلم وأقاتل، أم أقاتل ثم أسلم؟ فقال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً)، فهذا أصبح من أعلى الصحابة منزلة؛ لأنه أصبح من الشهداء مع النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومثل هذا يقال فيما يتعلق بالذين ماتوا قبل أن ينزل كثير من القرآن، فإن خديجة بنت خويلد توفيت ولم تصل الصلوات المفروضة، ولم تصم؛ لأن رمضان ما فرض بعد، ولم تحج حجاً واجباً؛ لأن الحج ما فرض إلا بعد موتها، ولم تزك؛ لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، ومع ذلك فهي من أكمل الناس إيماناً، وكثير من التفصيلات لم تتعلمها قط.

    وكذلك صاحب عبد الله بن عمرو الذي قال له: (إني لاحيت أبي فأريد المبيت عندك ... إلخ)، فليس عنده كثير صلاة ولا كثير صيام ولا ذكر، لكنه كان لا يجد في قلبه ضغينة على مسلم، فبهذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

    معنى أن المؤمن لابد أن يخرج من النار

    السؤال: يذكر أهل العلم أن النجاة الأخروية مشروطة بالإيمان، فهل ينفع ذلك بدون عمل؟

    الجواب: بالنسبة لما يذكره أهل العلم من أن النجاة الأخروية مشروطة بالإيمان، فهذا لا خلاف فيه بين الناس؛ لأن من لم يؤمن فإنه لو عمل أمثال الجبال من الأعمال الصالحة فإنها لا تنفعه، لقول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان:23] ، ولقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[النور:39] .

    فالمقصود أن من كان مؤمناً فإنه سيخرج من النار إذا مكث فيها قدر ما ينقيه؛ لأن الله سيقول: (وأخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).

    وأما من كان كافراً بالله وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه إلى النار قطعاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي، إلا كبه الله على وجهه في النار) ، فمن مات على الكفر سيدخل النار خالداً مخلداً لا يخرج منها أبداً، ومن مات وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان فصاعداً فإنه لابد أن يخرج من النار حتى لو دخلها، وهذا المقصود بأن الإيمان شرط النجاة.

    وكذلك حديث القبضة الربانية التي يقبضها الله سبحانه وتعالى من أهل النار فيدخلها الجنة، فإنه يحمل على من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ لأن من ليس كذلك لا يدخل الجنة، ويمكن أن يحمل على الذين لم يكلفوا أصلاً، ولعلهم ممن دخل بسوق آدم، لأن آدم سيخرج بعث النار بأمر الله تعالى له من أرض المحشر، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فتكون القبضة من هؤلاء، ولذلك جاء في حديث الشفاعة: (انتهت شفاعة الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين)، فالله سبحانه وتعالى يشفع لمن لم يشفع له ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فهذه شفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى عندما تنقضي الشفاعات الأخرى.

    التوفيق بين غضب الله الشديد في المحشر وادخاره للرحمة إلى يوم القيامة

    السؤال: جاء في حديث الشفاعة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ، أين هو من رحمته حيث ادخر تسعاً وتسعين رحمة، وأنزل في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها... إلخ؟

    الجواب: تلك الرحمات التسع والتسعين مدخرة لعباده المؤمنين في الجنة فقط، وأما أهل المحشر فإن رحمتهم إنما هي من رحمة أهل الدنيا؛ لأنهم يرحمون بمحمد صلى الله عليه وسلم بشفاعته، وهو رحمة مهداة إلى أهل الدنيا، فهي من الرحمة الواحدة.

    فتور المؤمن في مقامات اليقين

    السؤال: الخوف والإشفاق والخشية من مراتب الإيمان، والإنسان قد تضعف عنده هذه الأمور أحياناً، فما السبب، وهل يكون ذلك من ضعف الإيمان؟

    الجواب: بالنسبة للإشفاق والخوف والخشية كلها مراتب متقاربة من مراتب الإحسان، وكلها من مقامات اليقين ومن أقسام الإحسان، وليست من مراتب الإيمان.

    وبالنسبة للفتور الذي يصاب به أهل الإيمان في بعض الأحيان فإنه ينشأ عن أمور متعددة، منها:

    أولاً: المطاعم والمشارب، فهذه كثيراً ما تؤثر في إيمان صاحبها، فكم من شربة يشربها الإنسان أو لقمة يلتقمها تعطله عن طاعة عظيمة، وقد تكون هي مباحة في حد ذاتها لكنها غير مباركة، لم يبارك الله فيها، فتقعد بصاحبها عن بعض الأعمال.

    ولذلك فالبركة شيء في المطاعم والمشارب نفسها، فمثل ما نقدر نحن اليوم الفيتامينات والبروتينات في التغذية فكذلك البركات مثلها تماماً، لكننا لا نستطيع قياسها ولا نستطيع اكتشافها مثلما نكتشف البروتينات والفيتامينات.

    ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في موانع استجابة الدعاء الأكل من الحرام، قال: (إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟).

    كذلك من أسباب هذا الفتور الاندفاع الشديد؛ لأنه يقتضي من الإنسان حصول المشقة في بدنه فتكون نفسه قد سبقت بدنه، فتبذل نفسه ما لا يستطيع البدن تحمله فتخونه قواه، وهذا ما نبه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) وفي قوله: (فأوغلوا فيه برفق).

    وكذلك أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي ، عن معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية : (ولن يشاد الدينُ إلا غلبه) وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا قاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).

    السبب الثالث من أسباب هذا الفتور: استعجال النتائج: فكثير من الناس يعلق آمالاً بحصول نتائج معينة، وهذه النتائج ليست بنات الأسباب، فالنتائج من قدر الله والأسباب من قدر الله، لكن لا يحل التوكل على الأسباب والاعتماد عليها، بل هو شرك، ولا يحل تركها، بل هو معصية، فعلى الإنسان أن يباشر الأسباب وهو يعلم أن النتائج إلى الله إن شاء أداها وإن شاء لم يؤدها، وعلى هذا فإن من تعلق قلبه بتلك النتائج كثيراً ما يمتحنه الله بتأخرها.

    وفي القاعدة الفقهية المعروفة: من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فكثيراً ما يعاقب بحرمان ذلك، ومن هنا يصاب بإحباط فيقتضي ذلك فتوراً منه.

    ومن أسباب الفتور: عدم وجود المنافسة، فالنفوس مبنية على الملل، وإذا شعر الإنسان بالمنافسة ازداد تضحية، فإذا لم يشعر بالمنافسة فإنه يكسل، وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26] ، وكانت منافسة الصحابة فيما بينهم للتضحية في سبيل الله والبذل.

    أقسام رضوان الله ومن يستحقه

    السؤال: ورد في حق أهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وفي حق عثمان : (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، فما حكم الذنوب التي يفعلونها بعد ذلك؟

    الجواب: لا شك أن بعض الأعمال قد يرتب الله سبحانه وتعالى عليها رضوانه الأكبر ، فإذا رضي عن قوم رضاه الأكبر الذي لا خطر بعده فإنه لا يضرهم ما فعلوا، وقد اختلف العلماء في معنى ذلك:

    فقالت طائفة منهم: يفعلون الذنب وهو مغفور، فتسبق المغفرة الذنب أصلاً، فنحن الآن قد يغفر الله لنا إذا تبنا واستغفرنا، وأولئك ذنوبهم سبقتها المغفرة، فهم يفعلون الذنب وهو مغفور أصلاً.

    وقالت طائفة أخرى: بل يفعلونه ذنباً مبغوضاً إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يتوب الله عليهم وقد تعهد لهم بذلك فتوبته عليهم تأتي بعد وقوعهم في الذنب.

    فمن الذين حل عليهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، الذين شهدوا معركة بدر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

    وكذلك الذين بايعوا تحت الشجرة، فأنزل الله فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ[الفتح:18] ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة).

    وفي حديث جابر في صحيح مسلم أنه قال لهم حين بايعوه تحت الشجرة: (أنتم أفضل أهل الأرض)، وفي رواية: (أنتم خير أهل الأرض).

    وكذلك في حديث عثمان بن عفان : (لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، وذلك حين جهز جيش العسرة واشترى بئر رومة فجعل دلوه فيه كدلاء المسلمين، ونحو ذلك من الأعمال.

    لكن هذا لا يمكن أن يكون نوعاً من العمل يقاس عليه فمن فعله أثيب هذا الثواب، وإنما يعرف هذا بالوحي: هل حل رضوان الله الأكبر وعلى فلان من الناس أو لم يحل.

    فقد عرفنا نحن بالوحي أن رضوان الله الأكبر حل على كل من حضر معركة بدر وكل من بايع تحت الشجرة، فهم أقوام بأعيانهم، أخبر الله عنهم رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يمكن أن نقول: الآن من جهز ثلاثة آلاف مجاهد مثلما فعل عثمان حلَّ عليه رضوان الله قياساً على عثمان ، بل لا يعلم من تقبل منه، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[المائدة:27] .

    فإن قيل: يمكن أن يحل رضوان الله الأكبر يقع على بعض الناس اليوم؟

    فالجواب: قال جل وعلا: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا[الإسراء:20] ، نسأل الله أن يحل علينا رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، ونحن لا نمنعه أبداً لكننا لا نطلع عليه؛ لأن الوحي قد انقطع، وهو لا يعلم إلا عن طريق الوحي، لكن نسأل الله أن نكون ممن حل عليه رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده.

    والرضوان ينقسم إلى قسمين: رضوان أصغر، ورضوان أكبر.

    فالرضوان الأصغر: هو المتعلق بذنب بعينه، كمن أسلم بعد الكفر، أو تاب من ذنب معين فتاب الله عليه، فهذا رضوان أصغر، يمكن أن يذنب الإنسان بعده ويكتب عليه ذلك الذنب.

    والرضوان الأكبر: هو الذي يغفر ما تقدم من الذنب وما تأخر، ومما يدخل في الرضوان الأكبر ما أخرجه البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد يذنب ثم يقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، ويقول الله: قد فعلت، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: قد فعلت، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، لا يضر عبدي ما فعل بعدها أبداً)، فهذا يحل عليه رضوان الله؛ لكننا لا نعرف هذا بعينه، ولا نعرف أن الله أجاب أحداً منا بهذا إلا عن طريق الوحي، والوحي قد انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن هذا من الرضوان الأكبر، لأنه في المرة الأولى قال: (قد فعلت)، وهذا رضوان أصغر، والمرة الثانية أيضاً رضوان أصغر، والمرة الثالثة رضوان أكبر.

    حسن الخلق وكمال الإيمان

    السؤال: ما المقصود بحسن الخلق في حديث: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً

    الجواب: بالنسبة لحسن الخلق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا) المقصود به ما يكون من حسن التعامل مع الله ومع الناس، فهو يشمل ما يقتضي من الإنسان الإحسان عموماً.. الإحسان في أدبه مع الله، والإحسان في معاملته لوالديه.. والإحسان في معاملة أهله ولده، والإحسان في معاملة جيرانه، والإحسان في معاملة عامة المسلمين، والإحسان في معاملة سائر الناس.

    إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما روي عنه من حديث أبي ذر رضي الله عنهما: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وهذه هي الرحمة، والله كتبها على نفسه فقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54] .

    ولذلك يقول الحكيم:

    ارحم بني جميع الخلق كلهم وانظر إليهم بعين الرفق والشفقه

    وقّر كبيرهم وارحم صغيرهم وراع في كل خلق حق من خلقه

    فهذا الخلق هو ركن ركين من أركان هذا الدين، وهو أساس القيم التي جاء بها هذا الدين وفرضها وشرعها، ولذلك من أراد أن يتعامل مع هذا الدين في برود وجفاف ولا يستعمل جانبه العاطفي فيه ولا يهتم به، لا يمكن أن يكون من أكمل المؤمنين إيماناً أبداً، لأنه يهمل هذا الجانب فتقع منه مجازفات وتنطع وتشدد على الناس في غير موضعه.

    وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج أن رجلاً قال لـعطاء بن أبي رباح : (يا عطاء ! إنك يجتمع في مجلسك الناس -يقصد الفرق الإسلامية- وإني أكلمهم فاشتد عليهم ولا أراك تفعل ذلك، فقال: إني سمعت قول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة:83] )، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767958083