بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وألزم عباده باتباعها، وحظهم على الأخذ بها إيجاباً وسلباً، فالإيجاب بالترغيب في اتباعها، والسلب في الترهيب من مخالفتها، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده وارتضاها لهم: شريعة صلة الأرحام، إنها شريعة عظيمة، ذات مكانة عظيمة في هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
فقد قال الله تعالى في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء:1] .
فقراءة الجمهور: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيباً) وتفسيرها: اتقوا الله، واتقوا الأرحام الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها وصلوها.
وقراءة حمزة الكوفي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً)، أي: الذي تساءلون به وتساءلون أيضاً بالأرحام، فإن الناس يقولون: أنشدكم الله والرحم، والمقصود بذلك: أذكركم الله وأذكركم الرحم، وذلك لما لها من المكانة والهيبة.
وعرف ذلك من القراءتين معاً من قراءة النصب وقراءة الجر، فكلتاهما تدل على مكانة الرحم في الإسلام، سواءً كانت مما يتقى أو كانت مما يتساءل به، فكلا الأمرين ذو حرمة ومكانة عظيمة.
ثم إن الله سبحانه وتعالى توعد في الجانب السلبي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وعيداً شديداً، ومن أبلغ ذلك ما جاء في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23] ، فهذا وعيد شديد في حق قاطع الرحم.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بصلاة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى في كتابه في آيات كثيرة، وعطف ذلك على الإيمان به سبحانه وتعالى فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:36] .
وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء:23-24] إلى أن قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا[الإسراء:26] .
وبين الله سبحانه وتعالى دخول صلة الرحم في البر، فقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ[البقرة:177] ، إن أمراً بدئ به قبل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الإسلام لأمر عظيم.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى بين الوعد العظيم الذي وعد به من يصل ما أمر الله به أن يوصل، فقال في سورة الرعد: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ[الرعد:21] ، وبين كذلك في المقابل ما في قطيعة الرحم من النكس والرجوع إلى الأعقاب، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90] ، فبين سبحانه وتعالى موعظته للمؤمنين بما أمر به.
ووعظ الله لعباده ينقسم إلى قسمين:
إلى وعظ بالأوامر والنواهي.
وإلى وعظ بالتذكير والتخويف.
وقد جمعت هذه الآية بين الأمرين معاً، ففيها وعظ بالأوامر والنواهي في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ[النحل:90] ، وفيها كذلك الوعظ بالتخويف في قوله: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90] ، فهذا بيان للتذكير ببأس الله الشديد، وبما عنده من المخوفات التي يخوف بها من خالف أمره.
إن الآيات في صلة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى كثيرة في كتاب الله عز وجل، وهي متنوعة تنوعاً عظيماً؛ يدل على العناية بهذا الأمر الذي أنزل الله فيه عدداً كبيراً من آيات كتابه.
كذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عنه في صلة الرحم عدد كبير من الأحاديث الصحيحة، منها ما أخرجه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق، فلما فرغ من خلقهم قامت الرحم فأمسكت بساق العرش، فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله تعالى: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى. فقال: ذلك لكِ)، هذا ضمان من الله عز وجل للرحم أن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها.
وكذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه).
وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في وصفه أنه كان وصولاً للرحم، فقد أخبرته خديجة بذلك عندما أرادت تثبيته عند أول نزول الوحي، فقالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
وكذلك قال ابن الدغنة لـأبي بكر رضي الله عنه حين لقيه مهاجراً إلى أرض الحبشة، حين آذاه قومه بمكة، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى أرض الحبشة، فأذن له بذلك فخرج مسافراً فلقي ابن الدغنة وكان سيد القارة، فلما لقيه قال: إلى أين يا أبا بكر ! فقال: أسيح في الأرض أعبد ربي، فإن قومي منعوني ذلك في دارهم، فقال: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، ولكن ارجع إلى دارك فكن فيها فاعبد ربك، فإنك جار لي، فرجع معه ابن الدغنة حتى أتى مجالس قريش من المشركين، فكان يقول: إن أبا بكر مثله لا يخرج ولا يخرج، فإنه ليصل الرحم، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، وإنه جار لي، فأقرته قريش على ذلك، فكان أبو بكر يصلي بمكة لا يخاف أحداً.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على تعلم الأنساب لصلة الأرحام، فقد أخرج الحاكم في المستدرك و ابن حبان في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فإن تعلم الأنساب معين على صلة الأرحام).
ولذلك جاء في لفظ هذا الحديث عند الحاكم : (فإن الرحم إذا قربت كانت قريبة ولو بعدت، وإذا بعدت كانت بعيدة ولو قربت).
والمقصود ببعدها وقربها في الجملة الأولى تعلمها، فإذا عرف الإنسان رحمه إلى إنسان معين، فإنه سيتخذ تلك الرحم قريبة حتى لو كانت بعيدة من ناحية النسب، وإذا لم يعرف النسب إليه كانت الرحم بعيدة حتى لو كان قريباً منه جداً كابن عمه أو ابن خاله، فلهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإرشاد العظيم.
وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير ابن جرير بإسناد صحيح أن عمر كان يقول: أيها الناس! تعلموا أنسابكم لتصلوا بها أرحاكم، وفي رواية: تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم، فإن الرحم لا توصل إلا بالمعرفة؛ فلذلك لابد أن يتعلم الإنسان رحمه.
وهذا الحق المؤكد الذي يترتب عليه صلة الله سبحانه وتعالى لمن وصله، ويترتب عليه قطيعة الله لمن قطعه، لابد أن يتعلمه الإنسان وأن يقوم به؛ لأن الإنسان لا يستغني عن صلة الله ولا يستطيع أن يقاطعه.
إن من تذكر نعمة الإيمان ثم بعدها نعمة الوجود ونعمة الجوارح ونعمة التثبيت على دين الله، عرف أنه لا يستطيع مقاطعة الله سبحانه وتعالى، فإن الهواء الذي يتنفسه أثر واحد من آثار رحمة الله، والجوارح التي ينعم بها أثر واحد من آثار رحمة الله وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[القصص:73] وقال تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50] .
إن الاتصال بالله سبحانه وتعالى لا يستغني عنه الإنسان في حال من الأحوال، فأعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يلعنه أو أن يطرده عن رحمة الله، والملعون المطرود عن رحمة الله لا يمكن أن يتقبل الله منه أيّ عمل، ولا يمكن أن ينعم عليه بأية نعمة، نعم يمكن أن يرزقه، لكن يكون ذلك الرزق وبالاً عليه وحسرة يوم القيامة وندامة، لا ينعم عليه بنعمه؛ لأن النعم تشريف ولا يستحق التشريف إلا من اتصل بالله سبحانه وتعالى، أما من قاطع الله عز وجل فقاطعه الله، فأولئك هم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم المقطوعون الذين لا يطمعون في مغفرة الله ولا في رحمته، يطردون عن رحمة الله ومغفرته، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هؤلاء القاطعون: الذين يقطعون أرحامهم في هذه الحياة الدنيا.
إن أمراً كهذا نحتاج إلى تعلمه وإلى البحث عنه؛ لأن خطاب الشارع فيه صريح، ولأن الحض النبوي فيه واضح، فما أحوجنا إلى أن نتعلم هذه الشعيرة من شعائر ديننا، وبالأخص أن كثيراً من الناس اليوم قد سرت إليهم عادات الغربيين التي يزعمونها من الحضارة، ويزعمونها من الرقي والتقدم، فأخذوا بها، فقطعوا أنسابهم وهجروا أقاربهم.
بل إن من المؤسف جداً أن تجد الرجل ينعم بأنواع النعم في المدينة ويكون أبوه وأمه في غاية ما يكونان من البؤس والشقاء، وهو لا يشعر بحال أبويه اللذين ربياه صغيراً وحملاه، وهما أمن الناس عليه، وأعظمهم نعمة عليه.
ونتذكر قول أمية بن الأسكر رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، وكان يسكن الطائف، وكان له ولدان رباهما أحسن تربية فصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجا في الغزو إلى القادسية وتركاه، فأرسل بقصائده يستقدمهما، يقول في إحدى هذه القصائد:
يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني
يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان
إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان
أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحبسها بجمدان
إن ترع ضأناً فإن قد رعبتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني
يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان
إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان
أوما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان
ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني
فلما بلغت هذه القصيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن يرسل إليه كلاب بن أمية بن الأسكر في أسرع وقت، فأرسله سعد إلى عمر بن الخطاب ، فلما أتاه سأله: بم كنت تبر أباك؟ فقال: كنت أختار خير نياقنا، فأغسل ضرعها، وأغسل الإناء وأحتلبها فيه، وأمسكها عليها حتى يشرب منها ما شاء، فدعا عمر بـأمية فأجلسه بين يديه، وأمر كلاباً أن يحتلب الناقة دون أن يخبره به، فاحتلب تلك الناقة فأمسكها عمر على أمية ، فلما ذاق طعم اللبن قال: حلب كلاب ورب الكعبة، فأمره عمر أن يلزم أباه، وألا يكون منه أبعد من سجر الكلب حتى يلقى الله، ففعل ذلك.
وهذا التنبيه العظيم من أمير المؤمنين رضي الله عنه ينبه به الأبناء على أهمية الوالدين، فإنهما إذا خرجا من هذه الدنيا وماتا لم يستطع الإنسان برهما، ولم يمكنه أن يستغني عما كانا يقدمان له، أتذكر أن أحد الدعاة المشاهير كانت له أم هو بها بر، وكانت امرأة صالحة كثيرة الدعاء والصدقة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، فلما ماتت، قال لإخوانه: إنه كانت لي أم كنت أترك بسبب دعائها، وكنت أمهل بسبب صدقتها، وإن الله قد أخذها إليه، فدعوني أتعبد لله وأتحصن؛ فإنني كنت أترك في مقابل ما كانت تلك الأم تقدمه.
كذلك ما زاد على هذا من الأرحام الذين بين الله ولايتهم في قوله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا[الأحزاب:6] .
فالذين هم أولياء بعض ينبغي أن يتعرف بعضهم على بعض، وأن يقوموا بحقهم وألا يهملوه، وينبغي ألا يغتر أحد بالحفاوة الدنيوية؛ فإن الإنسان يمكن أن يسامح قريبه في هذه الدنيا في حقه، لكنه إذا جاء يوم القيامة حافياً عارياً أغرل ليس مع أحد حينئذٍ إلا عمله لا ترجى منه المسامحة.
فإذا جاء في ذلك الوقت، ورأى الحق بعيني رأسه، وزالت عنه الغمرة، وكان بصره يومئذ حديداً لا يمكن أن يسامح في حقوقه، فالأنساب قد انقطعت كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون:101-104] .
إن هذه الصلة لابد أن تبل ببلالها، وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين، لكن لهم رحم أبلها ببلالها).
فالأرحام لابد أن تبل ببلالها، ولا يقطعها الكفر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أتتني أمي بالمدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش، وكانت على دين أهل مكة، فجاءت راغبة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشاوره فيها فقلت: إن أمي جاءت راغبة وهي مشركة، فقال: صلي أمك)، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل أمها وهي مشركة.
ولذلك فسر ابن العربي وغيره قول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[الممتحنة:8] قالوا: تقسطوا إليهم، أي: تؤدوا إليهم قسطاً من أموالكم، فالإقساط في هذه الآية مشتق من قسط المال الذي هو جزؤه، على تفسير ابن العربي وغيره، وسبب نزول هذه الآية قصة أسماء مع أمها.
وكذلك الفجور فإنه لا يقطع صلة الرحم، حتى لو كان الإنسان مبتدعاً أو مضيعاً لما أمر الله بالحفاظ عليه، فإن ذلك لا يمنع صلة رحمه، بل يجب على الإنسان أن يصل رحمه، وأولى ما يصل به رحمه أن ينصح له، وأن يرشده إلى عدم تضييع ما أمر الله بالحفاظ عليه.
ولذلك فإن حق المضيع المبتلى في دينه هو النصح؛ ليرجع إلى دينه الذي ضيعه، فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).
إن أعظم البلاء البلاء في الدين، فالإنسان المفرط المضيع الذي يقبل ويدبر في معصية الله عز وجل مبتلى بلاءً عظيماً، وبلاؤه في الدين، وشر البلية البلاء في الدين، ورحمته إنما هي بنصيحته والاقتراب منه؛ لعل المقترب يحول بينه وبين الشيطان.
فالابتعاد منه لا يزيده إلا تمادياً في أمره، ولا يزيد الشيطان إلا عوناً عليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يعينوا الشيطان على أخيهم، فلابد أن يحاول الإنسان القرب من ذوي رحمه، وصلتهم بما يستطيع، إن هذه الصلة التي بينا نحتاج إلى تعريفها، وبالأخص في مثل زماننا هذا الذي كثرت فيه الوسائل وانتشرت.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وألزم عباده باتباعها، وحظهم على الأخذ بها إيجاباً وسلباً، فالإيجاب بالترغيب في اتباعها، والسلب في الترهيب من مخالفتها، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده وارتضاها لهم: شريعة صلة الأرحام، إنها شريعة عظيمة، ذات مكانة عظيمة في هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
إن الصلة في اللغة تشمل كل اقتراب، فتشمل الزيارة والحديث والكلام والإهداء والتلطف وغير ذلك، فكل هذا يدخل في الصلة في اللغة.
وقد عرف البخاري صلة الرحم فقال: هي تشريك الإنسان قرابته فيما أوتي من أنواع الخيرات.
تشريك الإنسان قرابته: أي الذين بينه وبينهم قرابة، وهذا يشمل ما كان من الرحم وما كان من المصاهرة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل نسب الآدمي رحماً وصهراً.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً في قوله: (ستفتحون أرضاً اسمها مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم نسباً وصهراً)، وفي رواية: (رحماً وصهراً)، وهذا يقتضي تشريك الإنسان ذوي قرابته في كل ما أوتي من أنواع الخيرات.
فإن كان الإنسان قد أوتي مالاً فتشريكه لذوي رحمه في ماله من صلة الرحم، وإن كان أوتي علماً فتشريكه لذوي قرابته فيما أوتي من العلم من صلة الرحم، وإن كان أوتي جاهاً فتشريكه ذوي قرابته في جاهه من صلة الرحم، وإن كان أوتي عقلاً فتشريكه لذوي قرابته في الرأي والتسديد والنصيحة هو من صلة الرحم، وهكذا فكل خير أوتيه الإنسان فإن تشريكه لذوي قرابته فيه هو من صلة الرحم التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يبقى بعد هذا تحديد الرحم، وتحديد الرحم لأهل العلم فيه أقوال كثيرة، فأشهر هذه الأقوال أن الرحم درجتان:
الدرجة الأولى: ما يجب وصله؛ وهو الرحم الوارث الذي يرث، سواءً كان ذلك بالفرض أو بالتعصيب، فهذا الرحم تجب صلته قطعاً، فرضاً عينياً على كل إنسان، فيشمل ذلك الآباء والأبناء إلى منتهاهم: ارتفاعاً واستفالاً، ويشمل كذلك فروع هؤلاء إذا قربت، ويشمل كذلك الكلالة عند حصول الكلالة، أي إذا لم يكن للإنسان أصل ولا فرع وارث، ففروع أجداده إلى منتهاهم.
فهذه إذن هي الرحم المؤكد صلتها، وهي الرحم التي يرث صاحبها.
والمرتبة الثانية: هي ما عرفه الإنسان من نسبه مما يصله بغيره، فكل من عرفت النسب بينك وبينه فهو ذو رحم منك، حتى لو بعد ذلك النسب، ولكن القسم الأول آكد من القسم الثاني.
ولا يقطع هذه الصلة أن يكون ذو الرحم كاشحاً، أي: حاسداً مقاطعاً، بل ذلك مما يزيد الأجر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل من يقطعه)، فالواصل هو الذي يصل من يقطعه من أرحامه، وليس الواصل المكافئ الذي إذا أحسن إليه ذو رحمه أحسن إليه في المقابل، فهذا مكافئ فقط وليس واصلاً.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه فقال: (إن لي أقارب أحسن إليهم فيسيئون إليّ، فقال: إن كنت صادقاً فيما تقول فإن الله تعالى سيورثك دارهم)، والمقصود بذلك أن ذا الرحم الكاشح إذا أساء إلى رحمه فإن صلته تقتضي استمرار نسله، وطول عمره، وقطيعتهم للرحم تقتضي قرب آجالهم، وانتقاص ذريتهم، فلذلك سيرثهم هو، قال الزبيري وهو من مشاهير النسابين من قريش: قد جربنا ذلك في أنساب قريش، فما من بيت كان أهله يصلون الرحم إلا استمرت ذريتهم، وطالت أعمارهم، وما من بيت اشتهر أهله بقطيعة الرحم وعدم الصلة، إلا قصرت أعمارهم وانتفت ذرياتهم.
ومن القصص العجيبة في هذا الباب أن رجلاً من بني هاشم خرج مع رجل من بني جمح في عير له أجيراً عليه وعسيفاً، فلما كان في طريق الشام مر به قريب له، فسأله حبلاً فأعطاه إياه، وكان الحبل لصاحب العير، فسأله صاحب العير عن الحبل فقال: أعطيته قريباً لي! فضربه بعصاً على رأسه ففت بها دماغه، فتركه مسجاً بثوب على حافة الطريق وهو يجود بنفسه، فمر به ركب من أهل مكة، فقال: إذا أتيتم الحرم فاسألوا عن أبي طالب ، فقولوا له: إن أخاك قد قتله فلان بعصاه في فضل حبل، فلما أبلغوه ذلك غضب أبو طالب وبنو هاشم لهذا الأمر، وقال أبو طالب فيه شعره المشهور الذي يقول فيه:
أفي فضل حبل لا أبا لك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا
فلما رجع إليه سأله عن ذلك فأنكر، فتحاكموا إلى حكيم، فلم يرض أبو طالب إلا بالقسامة، وهي: أن يحلف له خمسون منهم خمسين يميناً عند الكعبة ما قتلوه، فأتى منهم خمسون ليحلفوا، فجاءت امرأة من بني هاشم وهي أميمة أخت أبي طالب ، فافتدت ولدها طليباً بخمس أبعرة، فقالت: إن هذا منابه من الدية، فأنا أعطيك إياها فلا تحلفه، فلم يحلفه وحلف الآخرون، فلم تمض سنة حتى مات أولئك جميعاً، وورثوا بالقعدد، ولم ينج منهم إلا طليب وحده الذي لم يحلف.
إن هذه الصلة من ناحية النسب كما ذكرنا تكون في هذين المقامين: في المقام المؤكد الذي هو الرحم الوارث، وفي المقام الذي دونه، وهو الرحم الذي يعرف الإنسان النسب بينه وبينه.
أما الصلة من ناحية الصهارة فهي أقل من ذلك، فأصهار الإنسان أقارب الزوج أو أقارب الزوجة يدخلون في هذا الرحم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل النكاح سبباً لحصول الرحمة والشفقة، فقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[الروم:21] ، فهذه المودة والرحمة التي تحصل بسبب الصهارة مقتضية للصلة والإحسان.
ولذلك صح في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح شاة قال: أرسلوها إلى أصدقاء خديجة)، وكان صلى الله عليه وسلم يحسن إلى أقارب خديجة، فقد كان ذات يوم مضطجعاً في فراشه يريد أن ينام، فدخلت امرأة فسمع سلامها فتهلل، وقام مرحباً بها، فسئل عن ذلك، فقال: (إنها كانت تأتينا في زمان خديجة).
وفي حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها حين هجرت عبد الله بن الزبير ابن أختها ذهب فأتاها بقوم من وجوه بني زهرة -وكانت عائشة ترحمهم وتحنو عليهم لمكانهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فبنوا زهرة أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فرضيت عنه بشفاعتهم.
وكذلك ما يتعلق بالبعد في المسافة، فإن الرحم إذا ابتعدت عن الإنسان فإن صلته لها ستكون بحسب الذكر والقدرة، وبحسب ما يتمكن للإنسان، ولذلك أخرج ابن هانئ في مسائله: أن رجلاً أتى الإمام أحمد بن حنبل ، فقال: إن لي رحماً، وإني مرابط في الثغر، وإنه في مكان ناء قاص، أترى أن أذهب إليهم فأصلهم أم أرجع إلى الثغر الذي كنت فيه فأحمي ثغور المسلمين؟ فقال له أحمد : استخر -أي: صل الاستخارة- ثم قال له: اذهب إلى ذوي رحمك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشد من استأمره في الجهاد، فقال: (ألك والدان؟ فقال: نعم، قال: فيهما فجاهد)، فدل هذا على تقديم صلة الرحم.
وقال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن أحب الأعمال إلى الله: (إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ أو قال: ثم مه يا رسول الله؟ قال: صلة الرحم)، فهي التي تلي الإيمان بالله في حبها إلى الله سبحانه وتعالى، فإن أحب الأعمال إليه الإيمان به ثم صلة الرحم.
والذين يصلون الرحم بالمال فقط دون أن يصلوهم بالسؤال أو الزيارة أو المحادثة أو التلطف، هؤلاء وصلهم ناقص، فإنهم لم يؤدوا الحق في كل ما افترض عليهم الحق فيه، ولذلك لابد من إشراك ذوي الرحم في جميع ما أوتي الإنسان من أنواع الخيرات، فيشمل ذلك الوقت والزيارة، وكثير من الأرحام صلتها ليست ببذل المال لها، فقد يكون ذو الرحم غنياً عنك، ولكن الصلة بالزيارة والسؤال عن الحال والاتصال، حتى يشعر بأن تلك الرحم مؤداة الحق وأنك لا تمل الاتصال بها، فإن شعور ذي الرحم بالملل مدعاة لخبث النفس، ولذلك يقول صخر بن عمر الشريدي :
أرى أم عمر لا تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني
وأيّ امرئ ساوى بأم حليلة فلا عاش إلا في شقا وهوان
فعلينا أن نراجع أنفسنا، وأن نحاسبها في معاملة ذوي الأرحام، ففي واقعنا هذا نجد أن كثيراً من الناس يقطعون أرحامهم بالكلية، فيحبون أن لا ينسبوا إلى أحد، وأن لا ينتسب إليهم أحد، وأن لا تكون بينهم وبين أحد من أقاربهم علاقة، فيقطعون أشد الناس حقاً عليهم من الوالدين والإخوة والأخوات ويهجرونهم بالكلية! وما ذاك إلا خشية أن يشركوهم في شيء مما آتاهم الله، وهذا نظير الوأد الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه.
ومثل ذلك ما يفعله بعض الآباء والأمهات من التفريط في حقوق الأولاد، وعدم الاطلاع على ما في نفوسهم وما يدور في خلدهم، وعدم مشاورتهم في الأمر، واستصغارهم في كل الأمور، فهو من قطيعة الرحم.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويريبها ما يريبني)، وفي حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر : (ألا إن فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني، ومن أغضبني فقد أغضبها)، فهذا يقتضي عناية الوالد بأولاده، والتقرب إليهم ومعرفته بأحوالهم وما يحبون ويبغضون، وقيامه بهذا الحق، وهذا الذي يقتضي من الأولاد كذلك الحرص على بر الوالدين.
وكذلك على الولد أن يفعل ما أمر الله به من التأدب فيما يتعلق بحق الوالدين، من خفض جناح الذل لهما من الرحمة، فيكون بين يديهما مأموراً ينتظر الأمر، ويحب أن يؤمر بأيّ أمر حتى لو كان شاقاً؛ ليبادر إليه، فهذا هو سبب دخول الجنة، وهو الذي أرشد الله إليه، وبين في كتابه عظمه وأهميته، حيث عطفه على الإيمان به وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء:23] ، وفي الآية الأخرى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[النساء:36] ، وغير ذلك من الآيات الصريحة في هذا الأمر.
فهذه كلها تقتضي أن يخفض الولد جناح الذل من الرحمة لوالديه، وأن لا يخاطبهما إلا بأبين عبارة، وأن لا يرفع عليهما الصوت، وأن يكون ذليلاً بين يديهما، يأمرانه بما يشاءا، فهذا الذي ينبغي للولد أن يكون عليه مع والديه.
وإذا كان الأمر كذلك تحسس الولد ما يرضي والده، وبحث عنه حتى ولو لم يأمره به، وتحسس كذلك ما يغضب والده، فيفر منه ويجتنبه حتى ولو لم ينهه عنه، وإذا حصل ذلك حصل التآلف في الأسرة، واجتماع الكلمة، وحصل فيها من محبة بعض أفرادها لبعض الشيء الكثير.
وقد رأينا عجباً من هذا، فقد رأيت رجلاً كان يسكن في هذه المدينة وكان من التجار، وكان أبوه شيخاً كبيراً هو سيد قبيلته، وكان الولد من أصغر أولاده، لكنه كان أبرهم به، فكان الولد يسارع إلى كل ما فيه بر لوالده، فيقول الوالد: إنه يسبقني إلى مرادي، فيأتي بالشيء الذي أريده قبل أن أفكر فيه؛ وهذا من شدة بره به.
وكان الوالد بعد هذا إذا رأى أحداً من أصدقاء ذلك الولد قام بخدمته؛ من شدة محبته لذلك الولد، وكان الوالد كحال شيوخ أهل البادية، قد لا يفهمون أو لا يستوعبون كثيراً من أمور الدعوة أو كثيراً من تفاصيل الأمور، لكنه كان إذا قيل له: إن ابنك محمد محمود في هذا الأمر، قال: محمد محمود لن يكون إلا فيما هو خير في الدنيا والدين.
وقد توفى الله هذا الرجل -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- فكان أبوه بعد ذلك إذا رأى أحداً من الذين كانت بينه وبينهم علاقة يقول: هذا من أصحاب محمد محمود، ومحمد محمود لا يصحب إلا الصالحين، كان أبوه يشهد له بهذا فيما بعد.
وهذا يدلنا على أن الخلاف الذي يحصل بين الوالد وولده سببه نقصان البر، فإن كان الولد براً بوالده فسيحب له ما يحب، وسيبادر إلى مرضاته، والتأثير في عقلية الوالدين ميسورة سهلة، فقد جبلهما الله على الرحمة، لكن على الولد أن لا يتعجل، وأن لا يبادر إلى المخالفة، بل عليه أن يتقرب إلى الوالدين، وأن يجعل نفسه أشد أولادهم براً، وإذا حصل على ثقتهما فلن يخالفاه في أيّ شيء يريده بعد ذلك.
والبر من الأمور التي تتوارث في الأسر، فإذا كان الإنسان براً بوالديه فسيبره أولاده، ويستمر ذلك البر متوارثاً في السلالات، ونسأل الله السلامة والعافية، ففي المقابل إذا كان الإنسان عاقاً لوالديه فسيعقه أولاده، وقد جرب ذلك وحصل.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى شاباً ملوي اليد، قد يبست على الالتواء، فسأله فقال: ما ليدك هذه؟ قال: دعوة أبي، فقال: ماذا قال؟ فأنشده أبياتاً لوالده يقول فيها:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه
فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
فتحققت فيه دعوة أبيه، ويبست يده ملوية، وكذلك فإن بعض السلالات اشتهرت بالبر، ومن ذلك البيت النبوي الشريف، فإن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اشتهر فيهم بر الوالدين واستمر ذلك فيهم، وكان من صفاتهم التي يعرفون بها، فقد كان كثير منهم يتخفى في أيام الفتن؛ لكثرة متابعات الناس لهم ومقاتلتهم لهم، لكن كان الناس يعرفونهم بالبر والازدياد فيه والمبالغة فيه.
وقد ذكر ذلك عدد من الذين ذكروا صفات أهل البيت من المؤلفين، فقد اشتهر ذلك فيهم، حتى إن بعضهم كان يصرح به، فقد صح عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون بالبر وصلة الرحم، فهي من صفاتهم المشهورة المعروفة، ولا غرابة في ذلك، فهم أهل بيت ليس عهدهم في ذلك بقديم، فهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي وصفه بها كل من عرفه.
ولذلك فإنها -أي: صلة الرحم- من أوائل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه ويأمر به، فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب أنه كان في قوم من قريش، وكانوا تجاراً في الشام، في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وكفار قريش، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فسلمه إلى صاحب بصرى ليسلمه إلى هرقل، فلما أتاه كتابه سأل: هل بالشام أحد من قريش؟ فدل على أولئك الركب، فأتي بهم، فجمع وجوه الروم في قصر له، وأمر بأبوابها فأغلقت، ثم سألهم فقال: أيكم ألصق نسباً بهذا الرجل؟ قال: أبو سفيان فقلت: أنا ألصقهم نسباً به، فقال: أدنوه عندي واجعلوا أصحابه وراء ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إذا كذب فكذبوه، قال: فسألني اثني عشر سؤالاً عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما سأله عنه أن قال: فبم يأمركم؟ قال يأمرنا بالصدق والبر والصلة، وأن نعبد الله وحده ونترك ما يقول آباؤنا. فمن أول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه الصلة، فهي إذاً كانت قديمة في دعوته صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يعرفون دعوته بأنها دعوة صلة.
إن الذين يريدون سلوك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته عليهم أن يصلوا أرحامهم، والجفوة التي نشهدها بين كثير من الشباب الذين يتسننون ويأخذون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبين أرحامهم، دليل على نقص الفقه في السنة.
فلو كان أولئك من المتضلعين بالسنة لوصلوا أرحامهم ولما قطعوها، حتى لو كان ذوو أرحامهم من المبتدعة، فإن ذلك لا يقتضي قطيعة الرحم، بل لابد أن يصلوا رحمهم حتى لو كان الرحم مبتدعاً؛ ليتخلقوا بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، وليهتدوا بهديه.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم (
يا راكباً إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتاً بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعنَّ النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق
صبراً يقاد إلى المنية متعباً رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد يا خير ضيء كريمة في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت فربما منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلنأتين بأعز ما يغلو لديك وينفق
فـالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق
فلما قرئت الأبيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه، وقال: لو أتتني هذه الأبيات لأرسلته إليها برمته)، أي: بحبله الذي فيه، فهو امرؤ مشرك كافر، وكان محارباً لله ورسوله، ومع ذلك رق له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استنشد بالرحم.
إن من أراد التسنن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يصل أرحامه، وأن يسعى لاستصلاحهم وانتصاحهم، وأن لا يقاطعهم، فليست مقاطعتهم بعلاج لما هم فيه من المخالفة للهدي النبوي، كذلك فإن على الذين أنعم الله عليهم بنعم لم تكن لدى من مضوا من أسلافهم، أن يعلموا أن قيد هذه النعم بشكرها، وإن من شكرها أن يصلوا أرحامهم بها، وعليهم أن يستشعروا نعمة الله عليهم، فليتذكروا حال أسلافهم وأجدادهم، وما كانوا فيه قبل أن يفتح الله عليهم ما فتح من أبواب الدنيا.
وليتذكروا كذلك أن الدنيا لا تدوم على حال، وأنها عرض زائل، وأن كل ما فيها إلى زوال، فما أعجل انقطاعها وانصرامها، فعلى من أوتي بعضها أن لا يغتر به، وأن يعلم أنه امتحان امتحنه الله به، وأنه إذا جعل الله الدنيا تحت يد البخيل، فإنه سرعان ما يذهب الله بها، كحال التراب الذي على الصخر عندما يأتيه المطر الشديد فيذهب به، كما ضرب الله بذلك مثلاً لحال الغني البخيل بالصخرة الصماء التي يجتمع عليها التراب، فيأتي المطر فيذهب به، فتبقى خالية ليس عليها شيء من التراب.
فعلى هؤلاء أن يتذكروا أن الله سبحانه وتعالى امتحنهم بما جعل تحت أيديهم، وبالنعمة التي آتاهم، فعليهم أن يشركوا فيها أقاربهم، وأن يعلموا أن الصدقة على القريب صدقة وصلة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والله لدرهم أنفقه على قريب لي أحب إليّ من عشرة أتصدق بها على معدم، ولعشرة أعطيها قريباً لي أحب إليّ من مائة أتصدق بها على معدم.
فالقريب أولى؛ لأن في ذلك صدقة وصلة، ولهذا جاءت زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة من ثقيف و ابن مسعود ليس قريباً لها فهو من هذيل، فجاءت هذه المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن صدقتها على زوجها ابن مسعود ، وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين خرجوا من أموالهم لله عز وجل، ولم يصحب من ماله إلا سيفه الذي هاجر به من مكة.
فجاءت امرأته تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدقتها عليه أفيها أجر قال: (بل أجران، هي صدقة وصلة)، فلذلك فإن صدقة المرأة على زوجها هي صدقة وصلة.
وكذلك ما يهديه الرجل لامرأته وما يدفعه إليها مما آتاه الله من المال إذا نوى به الأجر فهو عظيم الثواب عند الله، ولهذا أخرج الشيخان في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك، أي: في فمها، فهو صدقة كذلك) أي: يعتبر أجراً عند الله سبحانه وتعالى.
ومثل ذلك إحسان الإنسان إلى أقاربه مطلقاً، حتى لو كان لديه من هو أقرب منهم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مخرمة أتاه فسمع صوته والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم أثواباً أتته، فلما سمع صوت مخرمة أمسك ثوباً عنده، فلما دخل عليه رماه بين يديه فقال: (أرضي مخرمة؟ أرضي مخرمة؟)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يداريه، أي: يسترضيه، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغضب عليه إذا وزع الأثواب ولم يعطه ثوباً، وكان بينه وبينه رحم، فهو من بني نوفل بن عبد مناف والنبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم بن عبد مناف.
وكذلك فإن القريب إذا كان محتاجاً فإن الأجر في صلته مضاعف، كما إذا كان القريب مريضاً فقيراً يحتاج إلى خدمة، فإن زيارتك له تؤديها بنيات كثيرة تثاب على كل نية بثواب عمل كامل، فنية الصلة وحدها تأتي بعمل كامل، ونية عيادة المريض، ونية المواساة، ونية خدمة المحتاجين، ونية التوسعة على الفقراء، كل هذه النيات يثاب عليها الإنسان بثواب عمل كامل عند الله سبحانه وتعالى، يضاعفه إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.
وكذلك إذا قصدت الصلة من بعيد، فإن الخطى التي تسيرها تكتب في ميزان حسناتك، ويشهد لك كل ما تمر به من ذرات الهواء والتراب، وقد جاء عن فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من خطوة بعد الجهاد في سبيل الله هي أحب إلى الله من خطوة في صلة الرحم)، فالخطوة أي: المسير الذي يسيره الإنسان.
وإن كثيراً من الناس قد تعترضه المشاغل والمشكلات الكثيرة، فتحول بينه وبين زيارة أقاربه فعليه أن يجعل لذلك أمداً ووقتاً يزورهم فيه وأن لا يقطعهم بحال من الأحوال، فإن استطاع أن يجعل ذلك أسبوعياً فبها ونعمت، وإن لم يستطع فليجعلها في كل خمسة عشر يوماً، فإن لم يستطع ففي كل شهر، وعلى الأقارب أن يساعد بعضهم بعضاً في الزيارة.
فلتكن زيارتهم متبادلة، فإذا كان هذا يزور في هذا الأسبوع، فالآخر يزور في الأسبوع الذي يليه وهكذا، حتى يقع التعاون على البر والتقوى ويقع التكامل، فلكل واحد منهما من الحق ما عليه.
نعم لكبار السن من الحق ما ليس عليهم، وللعجزة من الحق ما ليس عليهم.
وصلة الرحم لا يمنعها عدم المحرمية، بل على الإنسان أن يزور قريباته، حتى لو لم يكن محارم له، فإن كان للإنسان بعض النساء اللواتي بينه وبينهن رحم لكنه ليس محرماً لهن فإن ذلك لا يمنع زيارته وصلته، بل عليه أن يزورهن وأن يتفقد أحوالهن وأن يقدم لهن بعض ما آتاه الله من أنواع الخيرات في أي مجال من المجالات.
وقد كان أبو بكر و عمر رضي الله عنهما يذهبان إلى أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزورانها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فأتياها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جلسا إليها وسلما بكت أم أيمن بكاءً شديداً، فقالا لها: وما يبكيك؟! أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؟! فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسوله من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فأبكتهما فبكيا بكاءً شديداً حتى قاما.
فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مليكة أم سليم وكانت قريبة لـعبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عبد الله بن عبد المطلب أبوه عبد المطلب وأمه سلمى بنت صخر بن عمر النجارية وهي ابنة عم مليكة أم سليم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور تلك العجوز في بيتها ويصلي لها في بيتها ويدعو لها.
وكذلك فإن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل بقي عليه بعد موت والديه شيء من برهما؟ فأخبره بخمس فقال: نعم، أن تصلي عليهما، وأن تستغفر لهما، وأن تنفذ عهودهما، وأن تصل أرحامهما، وأن تصل ذوي ودهما)، فهذه خمسة أمور تبقى بعد موت الوالدين من برهما.
وقد صح في الصحيحين عن ابن عمر (أنه كان في طريقه بين مكة والمدينة، فأتاه أعرابي فأعطاه ابن عمر حماراً له كان يركبه، وعمامة له كان يستظل بها من الشمس، فقال ابن دينار وهو مولى ابن عمر راوي الحديث عنه: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن ! إنهم الأعراب وإنهم يرضون بأقل من هذا، فقال ابن عمر : إن أب هذا كان صديقاً لـعمر بن الخطاب ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أبر البر أن يصل الولد -وفي رواية: الرجل- ذوي ود أبيه)، أي الذين كان بينهم وبين أبيه ود، فمن أبر البر أن يصلهم ولده.
وهذا لا يختص بالوالد الذكر، بل يشمل كل والد والأم داخلة في عموم الوالد؛ وهكذا آباؤها وأمهاتها.
فالصلة أصلها للرحم، والرحم في الأصل مكان الولد من الأم، فالأرحام من جهة الأمهات في الأصل أكثر دخولاً في صلة الرحم من الأرحام من جهة الآباء، ولهذا كان العرب يفرقون في النسب بين الظهر والبطن، أو بين الظهر والرحم، فالأرحام قد تطلق على أقارب الأم فقط؛ لأن الولد خرج من رحم أمه، والرحم مشتق من ذلك.
على الإنسان الذي يعلم أن مدة بقائه في هذه الحياة الدنيا قليلة، وأن انتقاله عنها سريع، أن يصل أرحامه قبل أن ينقطع عنهم انقطاعاً لا يجتمع معهم بعده، إلا في الجنة أو في النار، نسأل الله السلامة والعافية.
وفي هذا يقول أحد الحكماء:
وصل حبيبك ما التواصل ممكن فلأنت أو هو عن قريب ذاهب
إما أن تذهب أنت وإما أن يذهب هو، فأنت أو هو عما قريب ذاهب.
كذلك على الإنسان أن يعلم أن فرصه في صلة الرحم قليلة وستنقطع، فأنت الآن بالإمكان أن تذهب وتزور، وبالإمكان أن تجد فراغاً في الوقت لصلة الرحم، وبالإمكان أن تقدم جزءاً من مالك في صلة الرحم، لكن سيأتي وقت لا تجد فيه ذلك، فعليك أن تنتهز هذه الفرصة لهذا العمل الصالح المبارك، الذي يزيد في العمر ويبارك في الرزق ويعمر الديار، فقد جاء في حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في الأعمار وتعمر الديار وتكثر الأموال والأولاد، فهي سبب لكل هذه النعم العظيمة.
فعلى الإنسان أن يبادر إليها قبل أن يفوت الأوان، وأن يعلم أنه ليس بالإمكان دائماً أن يفعل ذلك، فلهذا على الإنسان أن يتذكر أن الصنيعة قد لا تتأتى في كل الأوقات، فليس كل وقت يتأتى للإنسان فيها أن يصل رحمه أو أن يفعل معروفاً، فإذا وجد ذلك فليبادر إليه، وإذا وجد محتاجاً يمكن أن يقدم إليه خدمة فليبادر إلى ذلك، وليعلم أنها امتحان من الله تعالى، كما قال الحكيم:
واشكر فضيلة صنع الله إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات
فالإنسان إذا كانت الحاجات إليه لا له فقد أكرمه الله بنعمة عظيمة ينبغي أن يبادر لشكرها، وأن يعلم أنه ممتحن بها، كحال الثلاثة الذين امتحنهم الله بالملك الذي أرسله إليهم، وهم: الأقرع والأبرص والأعمى، وقصتهم مشهورة معروفة قد حدثنا بها أكثر من مرة.
علينا أن نصل أرحامنا، وأن نعلم أن كثيراً من الضيق في الرزق، ومن نقص البركة في العمر، ومن عدم الارتياح والطمأنينة في الوظائف والأعمال سببه عدم أداء حق الرحم، وقد سمعت من بعض العقلاء في هذا البلد أنه جرب تجربة، وهي أن كل موظف أنفق راتبه الأول في صلة أرحامه سيبارك في راتبه ولن يبتلى بالديون بعد ذلك، وأن كل من لم ينفق راتبه الأول في صلة أرحامه قل ما يبارك له في راتبه، وقد ذكر أمثلة كثيرة من ذلك في واقعه وفي الذين يعرفهم.
فلا شك أن صلة الرحم سبب للبركة مطلقاً، فلذلك ينبغي للإنسان أن يعلم أن كثيراً مما يعانيه من عدم استجابة دعائه، أو من تأخر نجاحه في الامتحان، أو من التضييق عليه في الرزق، أو من عدم وجود الأولاد أو الزوج الصالح، أو غير ذلك من النعم، إنما تحبس بتأخره عن صلة رحمه، فليتعاهد رحمه وليبادر لصلته، فإن ذلك سبب لفتح الأغلاق.
كان رجل من الأنصار عاقاً بأمه، فلما أدركه الموت عرضت عليها الشهادتان فامتنع ولم يستطع أن ينطق بهما، فاشتد ذلك على الناس، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبروه بشأنه، فدعا أمه فسألها أن تغفر له وأن تسامحه، فامتنعت من ذلك، فأمر بنار فأوقدت، ثم قال: احملوه فارموه في النار، فلما رأته أمه يحمل إلى النار رحمته فسامحته وغفرت له، فحينئذٍ انطلق لسانه بالشهادتين، فما زال يكررهما حتى مات.
إن أمراً يحول بين الإنسان وبين النطق بالشهادتين لأمر عظيم، وبالأخص عند الموت والاحتضار، كذلك فإن كثيراً من الذين يخالطهم الإنسان ويعايشهم قل ما يسلم من الحيف عليهم والجور، فعليه أن يحاول استرضاءهم قبل أن يخاصموه بين يدي الله.
وقد حدثني رجل من العلماء والمعروفين بالصلاح في جزيرة العرب، أن أمه كانت امرأة صالحة قوامة صوامة، وكانت تخدمها جارية، فكانت ربما أساءت إليها، وهو لا يعلم إلا خيراً لا يعلم ذلك، فلما ماتت أمه رأتها جارة لهم من الصالحات في النوم، فقالت: اذهبي إلى ابني عبد الرحمن فأخبريه أني بخير وأني ما لقيت ضرراً إلا من فلانة، فقد كنت أسأت إليها فليسترضها عني، قال: فجاءتني المرأة تطرق عليّ الباب بعد صلاة الفجر فأخبرتني بما رأته في النوم، فذهبت إلى تلك الجارية أسترضيها، فقلت: هل لك حق على فلانة، فقالت: لا، وامتنعت في البداية أن تقر بشيء، فما زلت بها حتى أقرت أنها ماتت وهي تجد عليها في نفسها، قال: فاسترضيتها بمال حتى رضيت، ثم مكثت أسبوعاً فإذا المرأة تطرق عليَّ الباب بعد صلاة الفجر، فقالت: لقد رأيت أمك البارحة في حالة عجيبة من النعيم، فأخبرتني أنك سددت عنها باباً عظيماً كانت تجد منه أذى.
فلذلك على الإنسان أن يسترضي الذين يمكن أن يكون أساء إليهم من الخدم أو الجيران أو الذين يعاشرهم، فهم خصوم يوم القيامة، فعلى الإنسان أن لا يدعهم يحملون الضغائن فيأتون بين يدي الحكم العدل فيشكون إليه سبحانه وتعالى، وما دام الإنسان في هذه الدنيا يستطيع أن يسترضي خصومه فعليه أن يبادر لذلك.
إن الكلام حتى لو طال وانتشر في صلة الأرحام لن يؤدي شيئاً منها، وإن ما ذكرناه إذا لم نعد به إلى واقعنا ونطبقه في أمور حياتنا فلا أثر له ولا فائدة، لكن علينا أن نذهب إلى بيوتنا ونحن عازمون على أداء هذا الحق الذي سمعناه وسمعنا أدلته من كلام الله وكلامه رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأن نعزم على أداء الحقوق إلى ذويها، وعلى صلة الأرحام ما استطعنا، وأن نستسمحهم فيما مضى من التفريط، فإنها حقوق تحمل إلى الدار الآخرة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً، وأن يبارك لنا فيما سمعنا، وأن يجعله حجة لنا على علينا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى وآله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر