الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله عز وجل إذ خلق الخلق خلق الخير والشر، وجعل لكل حزباً، فجعل للخير حزباً هو حزب الله، وجعل للشر حزباً هو حزب الشيطان، وجعل للباطل صولةً، ولكنه يضمحل بعدها، وجعل للحق العاقبة وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
ولذلك فإن من سنته الكونية أن يستمر الصراع في كل العصور بين هذين الحزبين؛ حتى يميز الله الخبيث من الطيب، وهذا الصراع محسوم في علم الله؛ لأن العاقبة للمتقين، ولكنه أيضاً لحكمة خالدة باقية لا مبدل لها، فلو شاء الله لجعل الناس أمةً واحدة، ولكنه وزعهم إلى هذين الحزبين.
ولو شاء بعد التوزيع لانتصر من أعدائه الكافرين فأهلكهم، فإنه سبحانه وتعالى بقبضته السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن، ولو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه السموات السبع والأرضين السبع، ولكنه امتحن حزبه الموحدين بحزب الشيطان الملحدين، فجعل الجولات والصولات بينهم مستمرةً إلى يوم الدين، وأرسل الرسل لتسديد حزب الله وقيادته، وجعل مقابلهم أعدائهم من أعداء الله تعالى من شياطين الإنس والجن الذين يقودون حزب الشيطان، ويكيدون لحزب الله.
وبداية هذا الصراع كانت من تسلط إبليس عليه لعنة الله على أبينا آدم وأمنا حواء؛ حتى زين لهما مخالفة ما نهيا عنه، وكان ذلك سبباً في إهباطهما إلى الأرض، فتاب الله عليهما ولعنه هو، وكانت البداية أن حزب الله يمثله آدم و حواء اللذان تاب الله عليهما، وحزب الشيطان يمثله إبليس الذي حلت عليه لعنة الله التي لا مبدل لها، فاستمر هذا الصراع منذ ذلك الوقت إلى وقتنا هذا، ولا يزال مستمراً حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وأعداء الله عز وجل لا يستطيعون محاجة الله، فإنهم لا يمكن أن يبلغوه بضر ولا بنفع، ( يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني )، ولكنهم أوتوا كيداً يكيدون به دينه، لم يعطوا إلا كيداً يكيدون به الدين، وهذا الكيد مع ذلك ضعيف جداً، فهو بمثابة بناء العنكبوت، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، ولذلك فإن قوة كل عمل إنما هي من الدافع العقدي الذي يدفع الشخص إليه، فالمؤمن دافعه إلى الصلاة عقيدته التي يؤمن بها، ولذلك لا يفرط فيها، حتى لو كان على فراش الموت ولا يستطيع الجلوس فيصلي بجنبه أو بطرف من أطرافه، ومن لم يقدر إلا على نية أو مع إيماء بطرف.. وهكذا؛ لأن الدافع العقدي هو أقوى الدوافع.
وفي المقابل فإن حزب الشيطان دافعهم هو مجرد إغواء الشيطان وتزيينه لهم لوحيه الذي هو بطل من أصله، ولذلك يمكن أن تكون لهم صولة، ولكن لا بد من تلك الصولة من نهاية؛ لأن العاقبة للمتقين دائماً.
وقد كاد حزب الشيطان للرسل عليهم الصلاة والسلام كثيراً من الكيد، وقد قص الله علينا كثيراً منه.
فإذا قرأتم آيات نوح عليه السلام تجدون مكائد حزب الشيطان لهذا النبي المقرب، الذي هو من أولي العزم والرسل، حيث اتهموه بكل أنواع الاتهام، وتعجبوا من كل ما يقوم به، وظنوا أنه مكابر لا يمكن أن يستجاب له، ولا يمكن أن ينتصر؛ لأنه ما آمن معه إلا قليل، ومع ذلك نصره الله بهذا الطوفان الذي أمر الله به السماء أن تنهمر، وأمر الأرض أن تفتح عيونها، فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12]، وأهلك من في الأرض من حزب الشيطان، وبقي نوح ومن معه في السفينة، وكانت هذه النتيجة الحاسمة نهايةً لألف سنة من المواجهة، وتعتبر صولةً قليلةً في عمر الدنيا، لكنه بإهلاكهم عادت الأمور إلى نصابها، وأخذ القوس باريها، وعاد حزب الله من جديد ليعبد الله ويوحده على أرضه، ويصلح في الأرض، ويستثمرها ويستغل ما فيها على الوجه الذي يرضي الله.
وهكذا إبراهيم عليه السلام عندما جادل قومه، وبدأ ذلك بمناقشة أبيه الذي هو أقرب الناس إليه، فكاد له أبوه؛ لأن أباه كان من حزب الشيطان، فحين قال له: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42]، ما كان من أبيه إلا أن قال له: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46]، فحكم الله بالعاقبة الصالحة لإبراهيم رغم كل الكيد الذي كيد به له، فإنهم أوقدوا له هذه النار التي لا يستطيع الطير المرور فوقها، ورموه في النار بالمنجنيق فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70]، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ [الصافات:98].
وكانت العاقبة للمتقين، فنجا الله إبراهيم، وجعله خليله، واصطفاه، وجعله قدوةً لأهل الأرض كلهم، وأمر خير أهل الأرض باتباع ملة إبراهيم؛ ولذلك قال الله في استجابة دعائه أنه سأل الله تعالى بقلب سليم دعوات عجيبة، لا يزال كل مسلم اليوم إذا قرأها تستهل عيناه، وتدمع بإصابة هذا النبي المرسل المقرب الذي هو خليل الله، فإنه قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، وهذه بداية كل شيء ما يتعلق بخلق الهداية؛ لأن الشخص إذا عاش عمر نوح في غير هداية لا فائدة من خلقه أصلاً؛ لأنه خلق للنار، ولكنه علق الهداية بالخلق مباشرةً.
وبعد ذلك بعد الخلق من لوازمه: حاجة الإنسان إلى المطعم والمأكل والمشرب والمسكن، فقال: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79]، ثم بعد ذلك تعرض العوارض من الحاجات والأمراض والمصائب، فتحل بالتوكل على الله والالتجاء إليه، فقال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]. ثم جاء بعد ذلك الذي هو النهاية، أي: نهاية عمر الإنسان في الكون فقال: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:81]، فهو يؤمن بأنه سيبعث بعد الموت.
وبعد هذا بقيت دعواته مستمرة، فقال: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء:82-83]، وأمر الصالحين عظيم؛ لأن إبراهيم يريد اللحاق بهم وهو خليل الله، ثم قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]، وحقق الله هذه الدعوة بالاستجابة له ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم في ذريته ليهديهم إلى سبيل الله، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85].
ثم إنه دعا لأبيه؛ لأنه قد عاهده على ذلك، ولم يعلم أنه من حزب الشيطان؛ ولهذا اعتذر الله عنه في كتابه بقوله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114]؛ وهنا قال: وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء:86-87].
ولاحظوا أن هذه العواطف عندما تتذكر ذلك الموقف الذي يؤتى فيه بالناس جميعاً بأولهم وآخرهم، فيقومون في صعيد واحد، وكل شخص منهم يأتي كما خلق، يأتي عارياً أغرل حافياً، يعرض على الله تعالى بتمام شعره، وبتمام أظافره كما خلق، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، فيعرض على الله تعالى، ولا يحمل إلا صكه الذي في عنقه، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14]. فيرى الأولين والآخرين يجتمعون جميعاً في لحظة واحدة في صعيد واحد، ويرى الأنبياء من بينهم، وهم أشد الناس تأثراً بهذا الموقف؛ لأنهم أعلم الناس بالله، والخوف من الله تعالى ناشئ عن معرفة الله، فالذي لا يخاف الله، ولا يرهبه ولا يخشاه لا يعرفه، أما من يعرف الله فهو أشد الناس خشيةً له، فالأنبياء يوم القيامة هم أشد الناس تأثراً بهذا الموقف الشديد؛ ولذلك يقولون: ( نفسي نفسي، ربي لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله ).
فإذا تذكر الشخص هذا الموقف وأنه سيؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، وتحيط بالناس من كل جانب، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل، ويطول الموقف حتى يلجم الناس العرق في يوم كألف سنة مما تعدون على أقل الناس حساباً، وخمسين ألف سنة على أكثر الناس حساباً، فإذا تذكر الشخص هذا الموقف تذكر أن بعض الناس سيصب عليه الخزي الأبدي، فيخزى على رءوس الأشهاد، وينادي به المنادي بذلك، وبعضهم سيبيض وجهه يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه.
ولذلك تذكر إبراهيم هذا الموقف فقال: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:87-91].
إذاً كانت العاقبة هنا لمن؟ لإبراهيم ومن معه من حزب الله، فلا أحد اليوم يسمع عن أعدائه إلا ذوو الثقافة يسمعون أسماء بعض ملوكهم وبعض مشاهيرهم، حتى أبو إبراهيم مختلف في اسمه الآن، مع أنه جاء في القرآن باسم آزر، لكن اختلف هل هو اسمه بلغته الأصلية، أو لقبه الذي اشتهر به، أو اسم عمه؟ على خلاف لا وجه له، لكن المهم هنا أن هؤلاء الأعداء حكم عليهم جميعاً بالبوار في هذه الدنيا والعذاب في الآخرة، وإبراهيم ما من مسلم إلا وهو يحبه، وكثير من أولاد المسلمين يتسمون باسم إبراهيم، وكل منهم يوالونه ويحبونه، ويسألون الله أن يهديهم ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
إذاً هذه هي العاقبة التي كتب الله لحزبه، والمنزلة التي أعلى بها خليله عليه السلام.
ثم بعده موسى عليه السلام، فقد ولد في الاستضعاف، وبنو إسرائيل تحت جبروت فرعون وطغيانه، يقتل الذكور منهم، ويستحيي النساء للاستغلال والخدمة، ويأخذ أموالهم كما يحلو له، ويستعبدهم ويستذلهم بأنواع الذلة والمهانة، وقد عاشوا على هذا زماناً طويلاً حتى اعتقدوا أنه لا مبدل لهم، حتى إن بني إسرائيل يسمون أنفسهم أهل الذلة والمسكنة؛ لأنهم آمنوا بأن الذلة والمسكنة كتبت عليهم، ولذلك قنعوا بالعبودية والمذلة للفراعنة، ثم بعدهم لم يستطيعوا كذلك أن تكون لديهم نفسية الجهاد في سبيل الله، فحين فرض الله عليهم دخول (أريحا) وأمرهم موسى عليه السلام بذلك ماذا قالوا؟ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22]، فلم يفكروا بأنهم من بني آدم، وأن لهم أعضاءً مثلما لأعضائهم، وأن لهم قوةً مثلما لأعدائهم، وأنه ليس النصر حليفاً لأعدائهم دائماً، بل يمكن أن ينصروا هم.
وهذه هي التي لاحظها أحد أبطال سكان هذه الأرض حين لقي أعداءه من النصارى في معركة من معارك الجهاد في سبيل الله، وهي المعركة التي تسمعون عنها شمال نواكشوط، فلما التقى الفريقان قال أحد المجاهدين: لا طاقة لنا اليوم بهؤلاء الجنود؛ لأنهم أهل عدة وعدد، فقال له أحد ذوي الإيمان من كبار السن من المجاهدين: أليست لهم أعمار مثلما لنا أعمار؟ فقال: بلى، فقال: ألا يخافون على أعمارهم؟ فقال: بلى، فقال: فلم نخاف نحن ولا يخافون هم؟
وقد ألهمه الله هذه الحجة التي ألهمها إبراهيم، فإبراهيم عندما خوفه قومه تذكر أنه لا داعي لأن يخاف هو ولا يخاف أعداءه، حيث قال: أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:80-83].
وهذه الذلة والمسكنة التي دأب عليها بنو إسرائيل ونشئوا عليها ولد فيها موسى، ولكن الله حفه بغرائب لطفه، فتربى في بيت عدوه، والتقطه آل فرعون؛ ليكون لهم عدواً وحزناً، فأمر الله أمه أن ترميه في صندوق في البحر إذا خافت عليه، والأصل أن من خاف على شيء يعز عليه، فلا يرميه ولا يلقيه بل يكنه ويحتضنه، وأم موسى أمرت بخلاف المألوف لدى الناس، فمن كان لديه سلعة غالية فخاف عليها هل يرميها في البحر؟ بل يحتضنها ويضعها في أوثق كن يمكن أن يكنها فيه، لكن أم موسى أمرت أن ترمي ولدها في البحر إذا خافت عليه، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي [القصص:7]، فحين ألقته في اليم جاء أمن الله تعالى، وجاء حرس فرعون فأخذوه وأتوا به إلى فرعون، فوضع الله له المحبة والقبول في أعين الناس، حتى إن امرأة فرعون قالت: لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص:9].
وهذه المحبة والقبول التي وضعها الله على موسى هي نصره الذي يجعله على الرسل وعلى أتباع الرسل، فهي تمكين في قلوب الناس.
وأنتم الآن تعرفون أسماء بعض العلماء الذين ليس يربطكم بهم نسب ولا حسب، ولا ترغبون في مالهم ولا في أي شيء مما لديهم، ولكن الله جعل لهم القبول قلوبكم، حتى يغلو بعض الناس فيهم فيتعصبوا لهم، فبعض الناس يتعصب للإمام أبي حنيفة، وبعضهم يتعصب للإمام مالك، وبعضهم يتعصب للإمام الشافعي لماذا؟ هل يريدون منهم مالاً؟ أو بينهم وبينهم نسب؟ أو رأوهم؟ أو يريدون منهم خدمة؟ لا، ولكنه القبول الذي وضع الله لهم في القلوب؛ لأنهم قد أخلصوا لله ونصحوا للأمة، وبذلوا ما يستطيعون، فجعل الله لهم قبولاً.
وهذا القبول جعله الله على موسى فلم يره أحد إلا أحبه، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، فكان الكيد له في البداية أن يتربى على غير ما تربى عليه بنو إسرائيل، وأراد آل فرعون أن يتخذوه ولداً، وأن يربوه على الشدة والغلظة، وأن يربوه على الطغيان، ولكن الله رباه على خلاف تربيتهم، فاختاره رسولاً ليكون من أولي العزم من الرسل.
ثم بعد هذا امتحن بكثير من المحن، منها: امتحانه في ولائه لله تعالى ولدينه، فإنه رأى رجلاً مؤمناً يتقاتل مع رجل كافر، وهو في مكان الملك والقوة، فإما أن يقوم بالولاء لله، وإما أن يقوم باختيار مصالحه الشخصية، وهذا امتحان من ربه من رب العزة، إما أن ينصر المؤمن المحتاج إلى نصره، وإما أن يختار مصالحه هو وينجو هو بنفسه، لكن موسى نجح في الامتحان، فاختار الولاء لله ولرسله وللمؤمنين، فوكزه موسى وقضى عليه، ونصر المؤمن حتى لو أدى ذلك إلى إخراجه من مصر وطرده من بيت الملك، وإيذائه وتعريضه للقتل، لكنه قال: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]، فذكر أن هذا من نعمة الله، وأن القوة التي عنده ليست موروثةً، ولا هي من تغذية، ولا غير ذلك إنما هي من نعمة الله، رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17].
وهنا بدأ مسلسل طويل من المحن ومن مكائد الأعداء، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:20-21] ليس معه زاد، ولا علم له بالطريق، ولكن هداية الله تسدده وتوفقه، فابتلي بمحنة أعظم من هذا؛ وهي أنه أمر بأن يذهب إلى فرعون ليقارعه بالحجة، وليقيم عليه حجة الله، وهو الذي هرب خائفاً منه يترقب، فأمر بأن يرجع إليه ليس معه جيش ولا سلاح، ما معه إلا يده التي إن أدخلها في جيبه فأخرجها خرجت بيضاء من غير سوء، وعصاه التي إن رمى بها كانت حيةً تسعى، فإن أخذها عادت سيرتها الأولى، في تسع آيات، ولكن موسى صبر هنا، وكان موفقاً بشكل عجيب.
وكانت العاقبة أيضاً للمتقين، فخرج لبني إسرائيل في الليل ليس لهم سلاح، ولا معهم أية قوة، والبحر من أمامهم، والعدو من ورائهم، وكاد لهم فرعون، فجمع الجنود من مختلف المدن وحشرهم جميعاً لينتقم من بني إسرائيل، ولكن الله أيده بهذه العصا التي ضرب بها الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، فخرج بنو إسرائيل يمشون في اليبس، وعندما تبعهم فرعون وتوسط في البحر أمر الله البحر أن يلتطم كما كان، فأغرق فرعون ومن معه من جنوده، ولم ينج منهم أحد إلا جثة فرعون بعد موته؛ لتكون آيةً، وكان هذا بمرأىً من بني إسرائيل، وهذا غاية التمكين، وكل شخص يعلم أن كل عدو له فان وأنه سيموت، لكن رؤيته لهلاكه أبلغ في الانتصار عليه، ولهذا امتن الله على بني إسرائيل بذلك فقال: وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50]، وهذه غاية المنة في إهلاك العدو.
وكذلك عيسى عليه السلام امتحن بكثير من أنواع الامتحان، وكاد له أعداؤه بكثير من أنواع المكائد:
منها: أنهم رأوه حين أراد أن يعتكف في كنيسة القيام، فأرادوا أن يقتلوه وأن يصلبوه، وأحضروا الخشبة لذلك، وأحضروا السيف، ودخلوا الكنيسة وليس فيها غير عيسى، ولكن الله رفعه إليه وشبه لهم، فظنوا أنهم قتلوه وصلبوه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، فكانت العاقبة لمن؟ للمتقين.
وعيسى عاش آلاف السنين وهذه الفترة الطويلة، وسينزل إلى الأرض حكماً عدلاً مجدداً لملة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعداؤه الذين كادوا له لم يضروه شيئاً، ولا أحد يعرف مكان أحد منهم إلا أنه يعرف أنهم من أهل النار.
وبعد ذلك جاء محمد صلى الله عليه وسلم فنال أوفر نصيب من كيد الأعداء، فكادوا له بكل أنواع المكائد.
ولاحظوا أنهم عندما اجتمعوا ليدبروا له غيلةً يغتالونه بها جاء إبليس، فحضر جماعته في صورة شيخ من أهل نجد، وكل شخص يأتي برأي فلا يوافق عليه إبليس، حتى جاء رأي أبي جهل فوافقه إبليس، وكان موافقاً له، فقال: نأخذ اثني عشر رجلاً كل واحد منهم من بطن من بطون قريش، فينتظرونه حتى إذا خرج من بيته ضربوه بأسيافهم في وقت واحد، فيتفرق دمه في الناس فلا يعرف قاتله ونتخلص منه، فوافق إبليس على هذا الرأي، فجاء هؤلاء وبأيديهم أسيافهم، وثبتوا على الباب ينتظرونه، ورسوله الله صلى الله عليه وسلم يصلي، حتى إذا أكمل صلاته خرج عليهم، وأخذ قبضةً من الأرض فرماها على رءوسهم فناموا جميعاً، وما استيقظوا حتى لفحتهم الشمس، فكان هذا من كيدهم له.
ومن كيدهم له كذلك ما فعله عقبة بن أبي معيط عندما أتاه وهو يصلي عند الركن اليماني ساجداً لربه، فأخذ سلا ناقة فوضعه بين كتفيه، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم من سجوده، حتى جاءت فاطمة رضي الله عنها فرفعت عنه السلا، وغسلت كتفيه وطهرت ذلك وطيبته، وقامت على الملأ من قريش فسبتهم وعابتهم.
وكذلك قاموا إليه يريدون مناوشته في الحجر، فاجتمعوا عليه يجذبونه بثوبه من كل جهة، فكان أبو بكر يدافع عنه ويقول: ( أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، وكان مثل مؤمني آل فرعون ).
وكذلك كيد له بغير هذا من المكائد، فعندما هاجر إلى المدينة، وأعزه الله تعالى، وثبت قدمه في الأرض ومكن له، كان اليهود يحملون راية أعداء الله، يحملون راية حزب الشيطان، فلم يبق كيد إلا كادوه لمحمد صلى الله عليه وسلم، فبنو قينقاع حين جاءهم فجلس في ظل بيت لهم، وحف به أصحابه، أطلعوا عمرو بن جحاش اليهودي فوق الدار يحمل حجراً عظيماً ليضعه على رأسه، فجاء جبريل، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمكيدة فانسحب، فوقع الحجر في مكانه بين أصحابه بعد أن خرج هو.
وكذلك وضعوا له السم في الشاة يريدون التخلص منه، وكانوا إذا دخلوا عليه لا يقولون: السلام عليكم، وإنما يقولون: السام عليكم، يدعون عليه بالموت.
ونحو هذا من المكائد الكثيرة التي قام بها اليهود والتي لا حصر لها ونهاية لها، وألبوا عليه الأحزاب يوم الأحزاب، وجمعوا له الجموع، وآذوه بكل أنواع الإيذاء، وما زال إيذاؤهم له مستمراً حتى وقتنا هذا، حتى إنهم رسموا خنزيراً -عليهم لعنة الله- وكتبوا عليه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلونه يكتب برجليه أوراقاً يكتبون فيها أنها القرآن، الذي هو من إخوة القردة والخنازير اليهود لا محمد صلى الله عليه وسلم، فمحمد صلى الله عليه وسلم إخوانه الأنبياء المقربون، من أولي العزم من الرسل، واليهود هم إخوة القردة والخنازير، والخنزير لا يشبهه إنما يشبه اليهود، ولهذا رد الله عليهم في مكائدهم بهذه الآية البالغة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51] إلى أن يقول فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:57-60]. فهم الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وحكم عليهم بعداوة الله تعالى وبالذلة والمسكنة.
في وقتنا هذا لا يزال هذا الكيد مستمراً، والكيد لدين الله تعالى في عصرنا هذا ينقسم إلى قسمين: كيد داخلي، وكيد خارجي.
الكيد الخارجي: هو أن أعداء الله تعالى لم ييئسوا ولم يقنطوا أن يرجع المسلمون عن دينهم، وهذا ما بينه الله في كتابه، كما قال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
وإذا رأيتم قتال الكفار للمسلمين قد توقف فاعلموا أن معنى ذلك أن المسلمين قد تركوا دينهم؛ لأن الله قال: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
وكثير من الناس اليوم يقولون: لم يعد اليهود والنصارى يقاتلون المسلمين، ولم يعد جهادهم وارداً بهذا المعنى، وهذا من أين أتى: هل من تراجع اليهود والنصارى عن خطتهم؟ لا، لكنه من تراجع المسلمين عن دينهم، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
ولذلك فإنهم ينقسمون في هذا إلى قسمين:
القسم الأول: اليهود الذي لا يريدون إدخال الناس في دينهم المحرف الذي هو اليهودية، ولكن يريدون استعبادهم وتسخيرهم لخدمة هذا الدين المحرف، يقولون: إن اليهودية دين شعب الله المختار، فلا يصلح أن يدخل فيه كل الناس؛ لأنه دين النخبة، ولكن ينبغي أن يكون جميع الناس عباداً لهذا الدين يخدمون هذا الدين، ولا ينالون سعادته ولا ينالون ملذته، وهذه فكرتهم.
مثلاً يقولون: المسلمون اليوم لا يستحقون أن يوصفوا بأنهم يهود وأن يدخلوا في اليهودية، فلا نريد منهم الدخول في دين اليهودية؛ لأن دين اليهودية للنخبة، ولكن ينبغي أن يكونوا مثل الغنم يستغلها الناس ويحلبونها، ويكلون لحومها، ويأخذون أوبارها وشعورها، وكذلك يريد اليهود تذليل كل الناس لخدمة دين اليهودية؛ ولهذا يسعون بمختلف الوسائل إلى هذا، ومن ذلك سعيهم الحثيث لتشكيك الناس في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الدين الذي جاء به، وفي تحريف الوحي، والسعي لذلك بمختلف الوسائل.
وأكثرها وسائل سرية، يطلونها ويلبسونها بلباس عجيب، وقد أقاموا ما يسمى بالماسونية، وهي محافل تريد انتظام أهل الأرض جميعاً في سلكها، وتقوم بخطوة وبيعات وعهود على أساس خدمة دين اليهودية، ولكن لا يصرحون بهذا، فيغتر بهم كثير من المسلمين الصالحين الذين لو عرض عليهم أن ينتموا للدين اليهودي ما انتموا له، ولكنهم يخدمونه من حيث لا يشعرون؛ لأنهم يوقعون على وثائق الماسونية، واليهود يخدمون بهذا أكثر من هدف، فإن من مات فوجد في وثائق الماسونية أنه كان منتسباً لها فتزول الثقة منه لدى الناس، حتى لو كان عالماً صالحاً.
وكذلك يقيمون الأندية التي تحاول أن تقوم ببعض الأعمال الاجتماعية داخل الناس، ولكنها تتعهد أيضاً ببعض الأمور التي لا يعلم أصحابها فائدةً فيها ولا مضرةً فيها، فيظنون أنها أعمال مفيدة، أو على الأقل أعمال غير ضارة، والواقع خلاف ذلك، ولهذا يقومون بالأندية التي ترونها في كثير من بلاد المسلمين، وهي ما يسمى مثلاً بنادي الوتاري وغيرها من النوادي، وهذه النوادي ينتسب لها كثير من الصالحين، وحتى من المثقفين من المسلمين الذين لهم غيرة على الدين، ولكنهم لا يعلمون حقيقتها ومن أين أتت، فيظنونها نوادي تقوم ببعض الأعمال الثقافية والرياضية والاجتماعية، وفيها اتصال بالعالم، ونقل للأخبار فلا ضرر فيها، ولكن الواقع أن اليهود يريدون من ورائها إحصاء مجموعات من الناس يوهمون الناس أنهم موالون لليهود، ويخرجون أسماءهم في اللوائح، وإذا ماتوا أخرجوا هذه اللوائح: فلان كان من النادي الفلاني، فيصبح الناس يلعنون فلاناً هذا، لماذا؟ لأنهم ظنوا أنه قد والى اليهود، وتوقيعه موجود عندهم، والواقع خلاف ذلك.
ولهذا فإن الشخص ما دام حياً ينبغي أن يحتاط لنفسه، وألا يبقى بعده هذا الأثر أنه كان مسجلاً في النادي الفلاني، أو عنده عضوية في النادي الفلاني؛ لأن هذا خطر على سمعته بعد موته إن كان يعلم أنه غير عاص فيما يقوم به من الأعمال، فعلى الأقل عرضه وسمعته بعد موته معرضة للعن؛ لأنهم لا شك يلعنونه إذا وجدوا أنه كان عضواً، بعد مائة سنة اطلعوا على أنه كان عضواً في النادي الفلاني.
وكذلك المؤسسات العالمية التي أقاموها مثل محاولتهم الأولى التي سميت عصبة الأمم، ثم بعدها الأمم المتحدة وبرامجها المختلفة مثل: محكمة العدل الدولية، ومنظمة الصحة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المؤسسات العالمية، هذه كلها تقوم على خدمة دين اليهود من حيث لا يشعر الناس، فلا يتولى رئاستها إلا من يرضى عنه اليهود، ولا يتولى تسييرها إلا من يرضى عنه اليهود، وجانبها الاقتصادي بالذات يظهر فيه كثيراً اقتصاد اليهود، فأنتم تعلمون أن اليهود هم أهل الربا، وقد حكم الله عليهم بذلك في كتابه، واليوم لم يعد اقتصاد العالم في أي مكان من الأمكنة ناجياً من الربا؛ والسبب هو هذه المنظمات الدولية التي تولت تسيير اقتصاد العالم واليهود من ورائها.
ومن أعجب العجائب فيما شاهدناه ورأيناه عندما زرنا الولايات المتحدة الأمريكية، فذهبت إلى الجامعات الكبرى المشهورة في العالم، فإذا أقسام الاقتصاد لا يسيطر عليها إلا دكاترة اليهود، والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة لا يسيطر عليها إلا دكاترة اليهود، فعلمت أن اليهود علموا أن الاقتصاد هو عصب الحياة، وأنه أبلغ تأثيراً في الناس من غيره، وأرادوا التمسك به ليخسروا الناس ويذللوهم لخدمة دينهم حتى لو لم يدخلوا فيه، فهم لا يريدون أن يترك شخص الإسلام ويدخل اليهودية، أو يترك النصرانية ويدخل اليهودية، إنما يريدون أن يكون عبداً ذليلاً يخدم اليهودية من حيث لا يشعر، مثل العنز التي تحتلب ويؤكل لحم ولدها إذا ولدت وهي معددة لخدمة الإنسان الذي يملكها.
القسم الثاني: النصارى، وهؤلاء يريدون إدخال كل الناس في دينهم المحرف مهما كلفهم ذلك، ولهذا يسعون بمختلف الوسائل لنشره، فتجد أن عدداً كبيراً منهم يقدم عمره كله قرباناً لدين المسيحية.
والنصارى يتطوعون لكثير من أعمارهم لخدمة دينهم، ويسعون لإقناع الناس بهذا الدين بمختلف الوسائل.
فمن وسائلهم لذلك: نشر الكتب وطباعتها، وقد ترجم الإنجيل، وطبع بكثير من الطبعات بلغات مختلفة، ويوجد الآن أربعة وسبعون لغة ترجم إليها الإنجيل وطبع بها، ويوزع بالمجان، وكذلك الكتيبات الصغيرة التي فيها نشر لأفكار الكنيسة وتعليماتها، وكذلك بناء الكنائس في مختلف أنحاء العالم.
وكذلك البرامج الإعلامية، فلدى التنصير اليوم عدة إذاعات في كل قارة من القارات، وتسمعون الإذاعة الموجودة في ليبيريا الموجهة إلى إفريقيا، ولا تتوقف ساعةً واحدة من أربعة وعشرين ساعة، تبث بمختلف اللغات حتى اللهجات الإفريقية للتنصير، وتسمعون الإذاعة الأخرى التي في لبنان، وهي أيضاً تعمل أربعة وعشرين ساعة، والإذاعة الأخرى التي في ألمانيا وهي تعمل أربعة وعشرين ساعة، وإذاعات أخرى في العالم كلها لخدمة دين النصرانية تبث أربعة وعشرين ساعة بلغات مختلفة.
ومن العجائب: أن كثيراً من شبابهم يتبرعون بثلاث سنوات من أعمارهم لخدمة دين النصرانية، ومرة من المرات رأيت مجموعةً من الشباب يلبسون الزي الكنسي، وإذا هم يدعون إلى النصرانية، فوقفت أستمع منهم، فسألتهم عن واقعهم فإذا هم قد تبرعوا بثلاث سنوات من أعمارهم لنشر المسيحية، وإذا هم اجتمعوا في ناد فيه خمسون ألف متبرع بثلاث سنوات، والسنة التي ولدوا فيها سنةً واحدة، فيهم رجال ونساء تبرعوا بثلاث سنوات من أعمارهم لنشر المسيحية في العالم، ويوزعون الكتيبات ويناقشون الناس، وكان من جملة النقاش الذي دار معهم أني سألتهم عمن مات على دين النصرانية: هل سيدخل الجنة؟ فقالوا: نعم، فقلت: ومن مات على دين الإسلام هل سيدخل الجنة؟ فقالوا: نعم، فقلت: إذاً المهم دخول الجنة، فما فائدة دعوتكم لنا لتغيير هذا الدين ما دمنا سندخل الجنة في رأيكم وفي مذهبكم؟ فقالوا: كل هذا صواب وصحيح، ولكن نريد توحيد البشرية حتى لا يكون فيها إلا دين واحد، إذاً فكرتهم أنهم يريدون أن يكون البشر جميعاً منتسبين للكنيسة.
وكذلك في الجانب الاجتماعي يبذلون جهوداً طائلة، فالمنظمات التي تسمى في الإعلام بمنظمات الإغاثة، مثل: الصليب الأحمر، والهلال الأحمر، والشمس الحمراء، والأسد الأحمر، ومثل المنظمات الطبية: أطباء بلا حدود، والأخوات البيض، وغيرها من المنظمات التنصيرية التي تجوب أنحاء العالم، وتبذل كثيراً من الجهود لا حصر لها كلها للتنصير.
وفي هذا البلد وحده ثمانية وعشرون منظمةً تنصيرية في موريتانيا وحدها، ولها منسق واحد، وأستاذ واحد هو الذي ينسق هذه المنظمات كلها، وبعضها يتوزع بحسب الولايات، وبعضها يقوم بأعمال عامة، وبعضها يتخصص في مجال المياه فقط؛ لأنهم يعلمون أن كثيراً من المناطق تحتاج إلى المياه، فيقومون السدود، ويحفرون الآبار، ويقومون بالمشاريع المائية، وبعضها يتخصص في الزراعة فقط؛ لأنهم يعرفون أن المزارعين عادةً من فئة الناس غير مثقفة، فيساعدون المزارعين؛ لأنهم يريدون أن يشتروا ضمائرهم ودينهم، وبعضهم يتخصص في نفقات المدارس، فيتم توزيع نفقات على المدارس التي يسجل فيها الأولاد الصغار، وهذا التوزيع إنما هو هدف كنسي ومنظم ومكتوب، ويقصد به الدعوة إلى التنصير.
وكذلك هناك أمور أخرى يتدخلون فيها مثل خدمات الزواج، والسعي لمساعدة الأرامل والأيتام، حتى تعليمهم القرآن، فالكنائس تتبنى أجرة معلم للقرآن يعلم أولاد المسلمين القرآن، والقصد هنا ليس نشر القرآن بين أولاد المسلمين، وإنما هو اجتذاب قلوبهم وجمعهم وتأليفهم حتى ينصروهم في مرحلة لاحقة.
وكذلك البرامج الثقافية مثل رحلات الاطلاع على العالم، والرحلات السياحية التي يأخذون فيها المتفوقين من المدارس، فيذهبون بهم في رحلات سياحية إلى أنحاء معينة من العالم، يرونهم بعض الانحلال الخلقي، وبعض الأمور السيئة.
وكذلك استغلال بعض الواجهات، فيدخلون من خلالها، مثلاً رأت منظمة الصحة العالمية التي هي تابعة لليهود أن العلاج الأنفع لمرض... هو توزيع الواقي الذكري الذي يستغلونه، فصاروا يوزعونه مجاناً على الناس، ولكن هذا لم ينج من أن يستغله المنصرون لتنصيرهم لإفساد أخلاق الناس، فقالوا: توزيعه لا يكفي؛ لأن الناس يحتاجون إلى تعليم الطريقة، وتعليم الطريقة معناه تعويد الناس على مشاهدة أفلام الزنا والفواحش، أو ممارسة ذلك مباشرةً، فما عندهم مانع من ممارسة ذلك مباشرةً، فهذا استغلال لبعض الواجهات السيئة لهذه الأهداف الخبيثة.
وكذلك أنهم رأوا أن المسلمين في عقر دارهم يصعب تخليهم عن دينهم، فكان لا بد من علاج ذلك، وعلاجه لا يتم إلا إذا كثر فيهم العمال الذين يشتغلون عن العلم بالعمل؛ لأن الطبقات غير المثقفة هي التي يمكن أن يؤثر على عقلياتها ودياناتها، فقالوا: ما دامت اليد العاملة متوفرة في المسلمين فيقل انشغال الناس بالمجال العملي اليدوي؛ لأنه حرفة ممتهنة موجودة، فينبغي أن نسعى لتقليل النسل بين المسلمين، حتى يحتاج كل شخص إلى أن يخدم نفسه، وإذا احتاج إلى ذلك فستقل الثقافة بينهم، فأقاموا البرامج لتحديد النسل، وأقاموا الجمعيات الموجودة، مثلاً جمعية تنظيم الأسرة، وجمعية التنمية يسمونها التنمية الأسرية، والجمعيات الموجودة بين المسلمين وحتى يكون في رئاستها بعض علماء المسلمين مخدوعين بذلك.
وهذه الجمعيات ما هي إلا لتقليل نسل المسلمين ليشتغلوا بالعمل عن الدراسة؛ لأن الشخص إذا كان هو الذي يغسل ملابسه لنفسه، وهو الذي ينضج طعامه لنفسه، وهو الذي ينظف بيته لنفسه، ليس لديه وقت لدراسة كثير من العلم، فإذا انشغل الناس في هذا قل النسل، فيشتغل كل شخص بخدمة نفسه، فلا يبقى وقت للدين، وهذا المهم عندهم.
وكذلك من مكائدهم الخبيثة في هذا المجال: أنهم يأتون إلى بعض الأشخاص فيقيمون معهم علاقة شخصية فقط، علاقة شخصية بين شخصين: شخص نصرني وشخص مسلم، وهذه العلاقة في الأصل لا مانع منها، فتكون علاقة فيها حذر منه، لأنه مشرك، لكن يحاول أن يكون يستفيد من بعض جوانب خبرته، أو من بعض الجوانب التي يعمل فيها، فتلك العلاقة دائماً يستغفلون بعض الأشخاص فيها، فيوقعون لهم على رسالة، أو على ورقة وبيضاء أو على أي أمر، فيكتبون فيه انتساب هذا الشخص للدين المسيحي، فإذا مات هذا الشخص أخرجوا تلك الوثيقة.
ومن ذلك ما حصل هنا في كنيسة نواكشوط، فقد أخرجت في مجلتها المسماة مريم، ولا شك أن بعضكم قد اطلع على هذه المجلة، حيث أخرجت توقيعات لبعض الناس الذين ماتوا في حوادث السير موت فجأة على أنهم كانوا نصارى، والواقع خلاف ذلك، فقد اتصلنا ببعض الناس الذين كتبت أسماءهم في المجلة، وسألنا أقاربهم: هل لهم علاقة بالتنصير؟ فقالوا: لا، هؤلاء مسلمون، وماتوا مسلمين، وكانوا من المصلين، ولا نعرف فيهم شراً، ولكن النصارى أرادوا تشويه سمعتهم؛ ولينخدع ضعاف العقول من الناس بذلك فيظنوا أنه يمكن أن يبدل الشخص دينه، فلا يطلع عليه ولا يؤذى بين الناس، وهذا حصل كثيراً.
حتى إن المشكلة في هذا أنني أعرف رجلاً من قادة قبيلة معينة من القبائل المحترمة في هذا المجتمع، وهو ابن أسرة كريمة، وأبوه من العلماء، ولكنه هو فقير، فجاء إلى نواكشوط لطلب العمل، وعرفوا أنه صيد سمين؛ لأن لديه كثيراً من المشكلات، ويعلق به كثير من الأعمال، فبادروا إليه لاختصار الطريق وقالوا له: تعال نسق لنا بعض أعمال الإغاثة، ونعطيك راتباً مضاعفاً، فقام بهذا العمل، فكتبوا أنه منسق أعمال التنصير في خمس منظمات تنصيرية في العاصمة نواكشوط، وطلعت الوثيقة باسمه وفيها: تاريخ ميلاده ومكانه، حتى عرف تماماً باسمه الكامل الذي في وثيقته، وقد اتصل به بعض الناس فسألوه فأنكر هذا، وذكر أنه إنما يعمل في تنسيق أعمال إغاثية محضة، ولا علم له بشيء مما وراء هذا العمل التنصيري.
وحتى إن كثيراً منهم يسكنون مع أهل البوادي، ويخدعونهم بحسن تعاملهم، وبما يقدمونه من بعض الخدمات فيؤثرون فيهم.
وأذكر أنه قبل سنتين خرجت في سفر إلى ولاية...، فكنا في مكان يسمى أمريش، وفيه سد يقيمه بعض المنصرين من الألمان، فلقينا رجلاً من أهل تلك المنطقة كبير السن، فسألناه عن المنصر وعرضنا تحذيره منه، فقال: أنا أشهد أنه لو كان من المحسنين أحد حي لكان هذا الرجل، فقلنا: كيف ذلك؟ فقال: ما رأيته أتاه أحداً يريد حاجةً إلا ذهب بها أو بنصفها، وهذا هو الإحسان عنده، فأصبح هذا الرجل عنده مبرأً من كل عيب، وكلامنا نحن فيه لغو؛ لأنه تعود على معاشرته خمس سنوات أو فترة طويلة، ورآه يقضي للناس حوائجهم، فظن أنه من المحسنين، ولا يمكن أن يسمع في كلام أحد لا يقدم إليه خدمات ونقولات، ونظير هذا كثير جداً من مكائدهم.
الآن نصل إلى مكائدهم الداخلية.
وهذه المكائد من أهمها المناهج التعليمية؛ لأن الأولاد الصغار هم الذين يمكن أن يعلموا؛ لأن صفحات قلوبهم ما زالت بيضاء كما ذكر ابن أبي زيد في مقدمة الرسالة، فما زالت صفحات قلوبهم بيضاء ناصعة، يمكن أن يكتب فيها كل شيء، والتعلم في الصغر كالنقش في الحجر، وهم أهل براءة، ويحتاجون إلى النهل من العلم والجد، فتوضع لهم المناهج، وتخلو هذه المناهج من كل ما يحبب إليهم الدين.
ولاحظوا المناهج التي يوزعها المعهد التربوي مثلاً، وتدرس في المدارس الابتدائية، وكثير منكم من المعلمين، أو في المدارس المتوسطة، وفيكم كثير من الأساتذة فيها، وحتى المدارس الثانوية وفيكم أساتذتها، فيجد أنه إذا تصفح منهاج هذه المدارس بكاملها لا يجد فيها شيئاً لتحبيب الناس في هذا الدين، فيجد أنه هناك مادة اسمها التربية الإسلامية، فيها كل العلوم الشرعية، وكأن علم الشرع كله مادة واحدة، وهذه المواد التي دوخت هذا العالم كله، وهي تنقسم إلى قسمين: مقاصد ومكملات، وفيها علم الفقه، علم الأصول، علم القواعد الفقهية، علم تخريج الفروع على الأصول، علم السيرة النبوية، علم التاريخ الإسلامي، علم الحديث، علم المصطلح، علم العلل، علم الرجال، علم القرآن، علم القراءات، علم التفسير، علم خط المصحف، والعلوم الخادمة المكملة لهذه مثل: علوم النحو والبلاغة والمنطق وغيرها من العلوم، وكلها أصبحت داخلة في اسم واحد وهو التربية الإسلامية، بينما علوم الدنيا توزع وتكثر حتى تصبح كثيراً من العلوم.
ومن اطلع منكم على منهج كلية العلوم في نواكشوط سيجد أن الكيمياء وحدها قسمت إلى عدة مواد، وأن الفيزياء وحدها قسمت إلى عدة مواد، وأن الرياضيات قسمت إلى عدة مواد، بينما الإسلام كله جعل مادةً واحدة.
وهكذا في الثانوية مثلاً تقسم بعض العلوم إلى علوم متعددة، ويجعل ما يتعلق بالإسلام علماً واحداً، وهذا ما هو إلا من كيد المنصرين الذي يسيطرون على منظمة اليونسكو، وهي منظمة التربية والثقافة والعلوم العالمية التي ترعى الشهادات، ولا يعترف بشهادة إلا إذا كانت موافقة للمقاييس التي تخرجها اليونسكو، فتجد الدولة مضطرةً لتعديل المناهج وفق رغبة اليونسكو، واليونسكو ترسل مفتشين يراقبون على المناهج وعلى تطبيقها في المدارس، فلا يراد أبداً أن يتخرج من المدارس النظامية التي ينفق عليها من بيت مال المسلمين شخص يحمل هذا الدين، ويحب محمداً صلى الله عليه وسلم، أو يحب دين الله، أو يحفظ كتاب الله، لا يراد هذا، يتخرج سنوياً الآلاف من مدارس المسلمين التي ينفق عليها من بيت المال العام، وهؤلاء لائكيون، لا يؤمنون بأن هذا الدين له ضرورة في الحياة، تجد ولد المسلمين الذي تربى بين أبوين مسلمين يتخرج من الجامعة ولا يحفظ حزباً واحداً من القرآن.
وتجد الشخص يدرس في المدارس من السنة الابتدائية إلى أن يتخرج من الجامعة ولم يقرأ سورة البقرة، ولا علم شيئاً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ير الموطأ، ولم ير صحيح البخاري، ولم ير صحيح مسلم، كيف يكون هذا مدرساً للمسلمين وحاملاً شهادة جامعية وهو لا يعرف الموطأ ولا صحيح البخاري ولا صحيح مسلم ولا تفسيراً من التفاسير؟ وهذا من كيدهم الداخلي.
ومن كيدهم الداخلي: أنهم يشغلون أولاد المسلمين عن تعلم ما ينفع في بعض المواد التي تكون نافعةً في الجملة، ولكن نفعها ليس لكل الناس، فالرياضيات علم مفيد، الفيزياء علم مفيد، الكيمياء علم مفيد، لكن هل هو مفيد لكل الناس؟ لو كان مفيداً لكل الناس لكان كل من تخرج من الجامعة أو من الثانوية، ودرس هذه المواد يمكن أن يطبق النظريات التي درسها، والواقع أنه من كل دفعة خمسة فقط هم الذين يمكن أن يطبقوا شيئاً مما درسوه، فمعناه أن هذا العلم ينبغي ألا يتعب في دراسته إلا المتخصصون فيه الذين سيقومون بالخدمة ويطبقونها، أما من عداهم من الناس فلماذا يدرسون هذه العلوم؟ تأخذ حيزاً كبيراً من عقله ووقته، ويدع في المقابل أمراً عظيماً من أمر دينه، وينشغل بأمور لا نفع فيها في حياته.
أنا أسأل الذين درس كثير منهم كثيراً من المواد مثل الفلسفة ومثل الفيزياء ومثل الكيمياء: هل ينتفع بشيء مما درسوه في حياتهم الواقعية؟ درستم كثيراً من هذه النظريات لكن لم تطبقوا شيئاً منها، لم يصلح لنا واحداً منكم جهازاً مثل هذا ولا كهرباء مثل التي نستغلها في المسجد، فما فائدة دراستكم للفيزياء إذاً؟ الفيزياء ينبغي أن تدرس، لكن ينبغي أن يدرسها من سينتج بدراسته لها، والذي لا ينتج لماذا يدرسها؟ لا فائدة من دراسته.
ومن كيدهم الداخلي: الإعلام وإفساده، فالإعلام هو المؤثر في صوغ عقليات الناس، والشخص إذا سمع شيئاً عدة مرات، وتكرر عليه ولم يسمعه من شخص، وإنما سمعه من جهاز سيثق فيه ثقةً كاملة، وكثير من الناس إذا لقيته المذيع مثلاً إذا لقيته لا تثق به، وتعرف أنه شخص عادي غير موثوق به، ولكن إذا سمعت كلامه في الإذاعة وثقت به، تقول: هذا قال في الإذاعة، ولكن الواقع أن الإعلام يشارك في صياغة عقليات الناس، وهو الذي يصوغ الرأي العام للناس، فكان أهل التنصير لا بد أن يستغلوه، وهذا الاستغلال ذو أوجه متعددة، منها:
أولاً: السعي لأن يكون المسلمون سلبيين في حياتهم، فالسلبية في حياة الناس أن تكون هذه الشرائح الكبيرة غير منتجة، فالوقت الكثير من وسائل الإعلام يمضي في سماع الأغاني، وهذه الأغاني تعطله عن كثير من الأعمال التي كان يمكن أن يقوم بها، وسيتعلق قلبه ببعض ما لا ينفع، وإذا تعلق قلبه بذلك انتقص إيمانه بالله، وكل من تعلق قلبه بما لا يرضي الله انتقص إيمانه بالله، ولا يزال هذا يزداد، فتجد كثيراً من الناس يتعلق بشخص مغن أو مغنية تعلقاً شديداً حتى تشك هل حبه له أعظم أم حبه لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ والسبب هنا هو هذا الإعلام الفاسد.
وكذلك ينشر كثيراً من الترويج لكثير من المشكلات السيئة، فتقام البرامج التي تخرج في التلفزيون، فينظر الناس إليها وتتكرر عليهم مراراً، وإذا تكرر الخبر على مسامع الشخص عدة مرات فسيقتنع به حتى لو كان باطلاً ولديه معطيات تقتضي كذبه وبطلانه، ولذلك فإن الإعلام يركز على سيطرة المؤسسات الإعلامية الغربية، أيكم اليوم يثق في إذاعة لندن مثلاً؟ ستجدون أن أكثركم يثق فيها، وأنه إذا أراد سماع أي خبر عن طريق الثقة يذهب إلى إذاعة لندن أو مونت كارلو أو إذاعة فرنسا الدولية، أو أي إذاعة عالمية من إذاعات الغرب، فإذاعات الكفار هي التي يستمع للأخبار فيها، حتى أخبار المسلمين يريد سماع أخبار الجهاد في طاجاكستان، أو أخبار مستضعفين من المسلمين في الصومال، أو أخبار المجاهدين في الشيشان، من أين يسمع أخبارهم؟ من إذاعات الكفار أعدائهم، ولا يجد إذاعةً يمكن أن تقدم خبراً موثوقاً به إلا هذه الإذاعة؛ والسبب هو الرأي العام فقط، أن الرأي العام تعود على أن هذه الإذاعة هي التي لا تكذب، ولا تجازف.
وكذلك في التلفزيون مثلاً القنوات المفتوحة مثل إم بي سي، ومثل سي إن إن، ومثل غيرها من القنوات المفتوحة التي يعيش عليها أسر المسلمين، ويشاهدونها آناء الليل وأطراف النهار، فلا يميزون فيها بين الغث والسمين، ويسمعون كل ما فيها، فيتلقونه بأسماعهم دون أن يصل إلى عقولهم، ويتمظهرون بالمظاهر التي فيها، فيؤثر ذلك على حياتهم تأثيراً غريباً، وقد شاهدنا كثيراً من ذلك، فمثلاً حصل في دولة إسلامية أن رجلاً اشترى تلفزةً ودشاً، ووضعه على بيته، فمكن أولاده من مشاهدة بعض الأفلام السيئة، ومشاهدة بعض القنوات الإباحية، ففتح ولده وبنته قناةً تلفزيونيةً خليعة من القنوات الغربية، فما كان منهما وهما جاهلان صغيران إلا أن طبقا ما رأياه بينهما، ففوجئ الرجل بأن ابنته تلبست بحمل، فخرج بها إلى المستشفى يظنها مريضةً مرضاً مخوفاً، فقيل له: إنها حامل، فسألها: من أين هذا؟ فذكرت القصة بكاملها، وإذا الوالد هو المتسبب؛ لأنه الذي أدخل هذا التلفزيون وهذا الدش إلى البيت، هدم بيته بيده، فملامته على نفسه لا على غيره، وهذا كثير جداً ونظائره كثيرة.
فمثلاً فشو الكذب في الناس كثير منه سببه ما يسمعونه في الإعلام، الإعلانات الباطلة، والترويج الذي هو كذب من أصله يعلم أهل السوق كثيراً من الكلام السيئ في غش الناس في السلع، وكثير من الناس تسمعونه يروج سلعه بالترويج الذي سمعه في الإذاعات والتلفزيونات، وهو يعلم أن الغش محرم، وأن (من غشنا فليس منا)، ولكنه سمع شيئاً فتلقته أذنه، والتصق بأسماعه فأثر فيه.. وهكذا، فهذا الإعلام خطير جداً، وقد شعر الغربيون بخطورته على المسلمين، فاستغلوه أسوى استغلال، ولذلك لا يمارس العمل الإعلامي إلا من لديه نقص في الدين، ورقة فيه، وخلاعة، وسلبية، هل علمتم من بين الصحفيين المشاهير في العالم من هو ملتزم بالدين مصل من رواد المساجد؟ لا تعرفون هذا في مشاهير الصحفيين في العالم، لكن اسمعوا مشاهير الصحفيين في العالم، فستجدونهم إما ممثلين، وإما فساق، وإما أهل خلاعة وغير ذلك.
ومن كيدهم الداخلي: إحداث الفرقة والخلاف بين المسلمين، ومن أخطر الأدواء بين المسلمين هو حصول الخلاف بينهم، إنما يجمع المسلمين أكثر مما يفرقهم، فالمسلمون يجمعهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والإيمان بالله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والإيمان بالرسل والملائكة والكتب المنزلة، وتجمعهم الصلوات الخمس والقبلة والقرآن، ويجتمعون في حياتهم كلها وهم بنو أب واحد وأم واحدة، وطلب منهم تحسين الخلق لبعضهم وإلانة الجانب لهم، وأن يكونوا أشدةً على الكافرين، أذلةً على المؤمنين، فما يجمعهم أكثر مما يفرقهم.
وقد تحصل الفرقة والخلاف بينهم، ولكن ينبغي ألا يعدو هذا الخلاف حده، فالشخص الذي تتفق معه في سبعين مسألة، وتخالفه في ثلاثين مسألة، فلماذا تجعل النقاط التي تخالفه فيها أعظم من النقاط التي توافقه فيها؟ ألا يمكن أن تلتمس له العذر، وتحاول إصلاحه بالتي هي أحسن، وإذا كنت تعلم أنك مصيب تحاول إيصال الصواب إليه بالتي هي أحسن، وإذا قنط منه وأيست فإن لذلك علاجاً غير العلاج الذي يستغل في عصرنا هذا، فالفرقة التي تؤدي التعصب المذموم حتى يترك بعض الناس الصلاة خلف بعض، وحتى يسخر بعض الناس لسانه للنيل من بعض، وحتى يطلق كثير من الناس الألقاب السيئة بالتفسيق والتبديع وغير ذلك لكثير من الناس هي التي حذرنا الله منها في كتابه بقوله: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
ونجد الخلاف لأبسط الأسباب، شخصان اختلفا في الرأي: هل نذهب إلى هذه الجهة أو نبدأ بهذه؟ هل نمر من هذا الطريق أو نمر من هذا؟ هل نحاضر في الموضوع الفلاني أو في الموضوع الفلاني؟ فيقع بينهما خلاف ومشادة هما في غنىً عنها، لماذا لا يتنازل أحد منهما للآخر، وهما يعلمان أن نقاط الاتفاق بينهما أكثر من نقاط الخلاف؟ لماذا يحصل الغضب بسبب خلاف بسيط، وليس جانب منه معه وحي منزل، خلاف إنما هو اجتهاد، أنا أعلم أن عقلي قاصر، وأنه ناقص، وأنني غير معصوم، فلماذا أتعصب لرأيي حتى يكون عندي وحي منزل أضحي في سبيله بنفسي ومالي ووقتي؟ لماذا؟ هو غير معصوم، يمكن أن يكون خطأً، وفي كثير من الأحيان أطلع أنا على خطأ في كثير من مواقفي التي اتخذتها وتسببت فيها، وجربت نفسي في هذا، فلماذا أتعصب لبعض الآراء التي قد تكون خطأً وقد تكون صواباً؟
إذاً من كيد الأعداء أن يسعوا لحصول الخلاف بين المسلمين في كل الأمور، مثلاً تجزئتهم إلى دويلات كما ترونه، وكل دولة تجزأ أيضاً إلى ولايات، وكل ولاية تجزأ إلى مقاطعات، وكل مقاطعة تجزأ إلى منتمين إلى أحزاب معينة وأحزاب غيرها، وحتى نفخ روح القبائل من جديد وإعادتها كما كانت، أو أشد مما كانت في عصر الجاهلية، وحتى الأماكن المختلفة داخل القرية الواحدة، تجد هذا المكان أهله أهل دخل محدود، وهذا أهله هم الأغنياء والعلية من القوم.. وهكذا، فنجد كل شيء تدخل فيه هذه التجزئة، وهذه التجزئة هي التي تؤدي إلى النفرة والخلاف والمعاداة بين الناس.
كذلك الطبقات الاجتماعية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد عدم الائتلاف حتى في المساجد، نجد الصف في المسجد الذين أمرهم الله أن يستووا في الصف، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عباد الله! لتسوون بين صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم )، تجد الرجل يصلي بحذر، ثم ينفتل من الجماعة ولا يعرف شيئاً عن واقع إخوانه الذين بجنبه، ولا يسأل أحداً منهم عن اسمه، ولا مسكنه، ولا حاجته، ولا يعلم هل هو فقير لا يجد لقمة عيش، أو هو مريض يحتاج من يعوده، أو ظمآن يحتاج من يسقيه، فكل هذه الأمور لا يعرفونها.
والله تعالى ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أنه يخلو بعبده المؤمن، فيقول: ( أي عبدي ظمأت فلم تسقني، وجعت فلم تطعمني، ومرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب! كيف أطعمك وأسقيك وأعودك وأنت ديان السموات والأرض؟ فيقول: ظمئ عبدي فلان فلو سقيته لوجدتني عنده، وجاع عبدي فلان فلو أطعمته لوجدتني عنده، ومرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده )، هذا التواصل بين الناس هو الذي يكمل إيمانهم، وهو الذي يزيد العلاقة بينهم، ويذهب النفرة، حتى المشاورة، فأنت تحتاج في أمورك إلى أن تشاور ذوي العقل من الناس، فالذي يصلي بجنبك ترضى عنه؛ لأنه قام بعمل محمود، ويمكن أن يكون الآن قد اطلع عليه ديان السموات والأرض فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ لأنه ينتظر الصلاة بعد الصلاة، وبعد الصلاة جالس في المسجد مستقبل القبلة، فلماذا لا تعرض عليه بعض مشكلاتك تستشيره فيها؟ تسأله الدعاء، تتعرف عليه، هذه أمور قطعت الصلات فيها بين المسلمين، وحتى إن من الكيد فيها ما ترونه ظاهرةً يحمدها كثير من الناس، ويشكرون الله عليها، وهي في الواقع فتنة لا مسرة، هي كثرة بناء المساجد، تجد في المكان الواحد يبنى عشرة مساجد، فتقل جماعة كل مسجد، كل مسجد يصلي فيه خمسة، بينما لو بني مسجد واحد، مثلاً هذا مسجد عتيق هنا في هذه المدينة، لماذا لا نكبره ونوسعه، ويكون المسلمون يصلون خلف إمام واحد، وتزداد الخطا إلى المساجد والصفوف كما كان الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيجتمع أكبر جمع من المسلمين فتستجاب دعوتهم، لا يمكن أن يجتمع حشد من المسلمين كبير فيرفعون أيديهم إلى الله فلا يستجاب لهم، لا بد أن يكون فيهم ولي من أولياء الله، فيهم من غفر الله له، وفيهم من سمع الله دعوته، فيهم من تقبل له عملاً واحداً ولو صلاةً واحدة، أو استغفاراً واحداً، يتجزءون.
فتجد أهل كل دار يريدون أن يبنوا مسجداً يختص بهم، فيكثر الأئمة، ويكثر الخلاف بينهم والجدال، حتى بين دور متجاورة، تجد مسجد هنا لفئة معينة من الناس ومسجد لفئة أخرى، لماذا لا يصلون في مسجد واحد؟ الشيطان الذي نزغ بينهم، وأعداء الله من حزب الشيطان يحاولون تفتيت أعضادهم، ومنع اجتماع كلمتهم بالتفريق، ولذلك تجد كثيراً من الناس يتباهى ببناء المساجد، ويظنه قربة عظيمة.
والواقع أن بناء المساجد عظيم، لكن لماذا لا يوسع مسجداً موجوداً، أو يبني مسجداً موجوداً، لماذا يحدث مسجداً جديداً، قد يكون مسجد ضرار، وقد يؤدي إلى فرقة جماعة موجودة، والواقع أن بناء المسجد قربة عظيمة لله تعالى، لكن بناء المسجد يشمل توسيع مسجد موجود وهو أولى، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لبني سلمة: ( ألا تحتسبون خطاكم يا بني سلمة )، وقال: ( دياركم دياركم تكتب آثاركم ).
واليوم أصبح الناس يريدون أن يكون بين كل مجموعة منازل متقاربة مسجد مختص بأهلها؛ حتى لا يكثروا الخطا إلى المساجد، وحتى لا يجتمعون مع عدد كبير من المسلمين، وحتى لا يتعرفون على حشد كبير من المسلمين، فيرون فقراءهم ومرضاهم والمعوزين منهم، فيساعدونهم بما يتيسر، فهذه الأمور نفقدها في حياتنا، ونحتاج إليها غاية الاحتياج.
ومن مظاهر هذه المكائد الداخلية: ما ترونه من أن كثيراً من أولاد المسلمين ينشغلون بأمور الدنيا عن أمور الدين، فيؤثرون الدنيا على الآخرة، ويكاد لهم بذلك، حتى إن كثيراً من مظاهر السرف التي تشيع بين الناس الناس في غنىً عنها، مثلاً يأتي مفسد من المفسدين فيأتي بنوع من السيارات الفارهة، فتظهر بين الناس، فيظن كل شخص أنه لا يمكن أن يكون شخصيةً محترمة إلا إذا اشترى هذا النوع من السيارات، فيبذل فيه مالاً كثيراً، وهذا المال ذهب لوجهه في غير طائل.
ويكثر المتنافسون في هذا مع أن السيارة التي كانت لديه يمكن أن تقوم بكل أعماله، ويمكن أن تكون أكثر اقتصاداً له، فيجري وراء الموضة وما ذلك إلا بأخذ جزء كبير من اقتصاد المسلمين إلى الدول المصنعة، والدول المصنعة هي الكافرة، وأنتم تعلمون أن دول المسلمين اليوم قد وقعت على الاتفاقية المشئومة المسماة باتفاقية الجات، وهذه الاتفاقية أعدها أعداء الله من ثلاثين سنة، ووثائقها نقلت إلى المسلمين في أربع حاويات، مليئة بالأوراق، ووقع بروتوكولاتها رؤساء الدول في بلدان مختلفة، ومؤتمرها في المغرب وقع عليه رؤساء كثير من البلدان الإسلامية، وهذه الاتفاقية تقتضي أن الدول القوية تبقى قويةً أبداً، والدول الضعيفة تبقى ضعيفةً أبداً، والدول الفقيرة تبقى فقيرة، والدول الغنية تبقى غنية، وهذا يراد تطبيقه حتى داخل الدول، فيراد أن يبقى الغني يزداد غنىً؛ لأنه تفتح أمامه الأبواب كلها، وتخفف عنه الضرائب، ويعطى الامتيازات والحقوق التي يستورد بها، والفقير يزداد فقراً؛ لأنه يستغل ولا يمكن أن يوفر شيئاً.
ومن ذلك مثلاً أنهم اتفقوا في هذه الاتفاقية على إلغاء الضرائب عن البضائع المصنعة، فظن كثير من رؤساء المسلمين الجهال أن معنى هذا أننا ربحنا؛ لأن صناعتنا ستدخل أوروبا دون أن يفرض عليها ضرائب، فبادروا بالتوقيع، لكن ما هي صناعتنا؟ هل لنا صناعة في سوقنا الآن يمكن أن نغزو بها أسواق فرنسا وألمانيا؟ لا، لكن هم الذين يغزون أسواقنا، وقد رفعنا الضرائب عن سلعهم، وما دامت سلعهم رفعت عنها الضرائب فمعناه أنه لا يمكن أن يأتي إنتاج محلي؛ لأن الإنتاج لا يمكن أن يصنع الشخص شيئاً إلا إذا علم أنه سيجد رواجاً في السوق، والشيء المصنع من جديد لا بد أن يكون غالي الثمن، فإذا كان ينافسه ما هو أجود منه وأرخص ثمناً فلا يمكن أن يصنعه شخص، هل سيقوم هذا الشيخ مثلاً بمغامرة فيقيم لنا مصنعاً لصناعة السيارات الآن؟ سيكلفه كثيراً، وستكون سيارته في البداية غير جيدة، وفي المقابل نجد السيارات الفارهة الألمانية والفرنسية والأمريكية واليابانية وغيرها، لا يمكن بهذه المغامرة؛ لعلمه أنه محكوم على مشروعه بالفشل من البداية.
فالمقصود هنا أن الدول الآن غير المصنعة لم تعد مصنعةً أبداً؛ لأن الإنتاج سيغزو أسواقها بأسعار رخيصة ليس عليه ضرائب، فلا يتشجع الأغنياء منها على إقامة مشاريع نافعة، وهذا ما وقع عليه رؤساؤنا في العالم الإسلامي كله من حيث لا يشعرون، فهذا من الكيد الذي يكيده أعداء الله، وأنتم تجدون أن هذا الكيد يشمل الأسواق كلها، حتى لو خفت وضعفت، فالسوق هنا يغزوه كثير من السلع التي لسنا بحاجة إليها في حياتنا اليومية، ولكنها تصبح موضةً يتبعها الناس فيبذلون فيها الأموال، ويتنافسون فيها، والرابح هو العدو الكافر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يجمعنا في مستقر رحمته في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصرنا على أعدائنا يا أرحم الراحمين، اللهم ثبت أقدامنا يا أرحم الراحمين، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا إلى سواء الصراط، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم إنا نرفع إليك أيدي الضراعة فلا تردنا خائبين، اللهم إنا ندرأ بك في نحور أعدائنا من اليهود والنصارى والملحدين، اللهم لا تحقق لهم غاية، اللهم لا ترفع لهم راية، اللهم اجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، وخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، واجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نعوذ بجلال وجهك أن تفقدنا حيث أمرتنا، ونعوذ بجلال وجهك أن تجدنا حيث نهيتنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر