بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
هنيئاً لكم برباطكم هذا في بيت من بيوت الله، في الوقت الذي غفل الناس فيه عن الله، فأنتم الآن قد جيء بكم من مختلف الأماكن والدور إلى هذا المكان المبارك, فأحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها، جيء بكم لتكونوا في هذا الوقت ضيوفاً على ربكم جل جلاله، وهو أكرم الأكرمين, وأرحم الراحمين، ولا ينتهي خيره عند حدٍ، فإنه أعد لعباده المؤمنين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ومن فضله عليكم: أن هداكم لهذا الدين، ووفقكم لاتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأخذ بنواصيكم الآن لتجتمعوا في بيت من بيوته لا يجمعكم إلا خوفه، وطلب رضوانه، وهذه مزية كبرى عظيمة لابد من استحضارها وشكرها لله سبحانه وتعالى.
وقد كان الأنبياء رضوان الله عليهم يرابطون، فيخلون بالصعدات أو في الجبال أو في البراري؛ يعبدون الله سبحانه وتعالى، وينشغلون به في وقت غفلة الناس عنه، وقد حبب الخلاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك.
وهذه الخلوة لله سبحانه وتعالى لا تنافي الاجتماع؛ لأنها عبادة، والعبادة أفضلها ما كان جماعياً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وصلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما زاد فهو أزكى عند الله)، ولذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل في عدد من الليالي مع بعض أصحابه، فقد قام بهم ليلةً ثلث الليل، ثم قام بهم الليلة الأخرى ثلثيه، ثم قام بهم الليلة الثالثة. قال أبو ذر: حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قيل: وما الفلاح يا أبا ذر ؟ قال: السحور.
وكذلك صلى بابن مسعود في غير رمضان، قال ابن مسعود: فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ الفاتحة، وافتتح سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة آية، فتجاوزها، فقلت: يركع عند المائتين، فتجاوزها، فأكمل السورة، فقلت: يركع، فقرأ النساء -وكانت في الترتيب بعد البقرة- فقلت: يركع، فقرأ بعدها سورة آل عمران، حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هو يا ابن أم عبد؟ قال: هممت أن أجلس.
وكذلك صلى معه يعلى بن أمية قيام الليل، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد ضربت له خيمة، وجاء يعلى بن أمية فأوسد رأسه بباب الخيمة، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالسواك، فساك فاه، وتوضأ، ثم قام يصلي، فقام يعلى وراءه، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطال الصلاة والبكاء، فما مر بآية رحمة إلا سأل الله منها، ولا مر بآية عذاب إلا استعاذ بالله منها.
وكذلك في الصحيحين أن ابن عباس رضي الله عنهما بات عند خالته ميمونة في ليلتها، أي: ليلة مبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في عرض الوساد، ونمت في طوله، والمقصود بالوساد: الفراش اللين الذي ينام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله.
فلما كان نصف الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاك؛ ثم قام إلى شن معلق فتوضأ منه وضوءاً يقلله عمرو ويخففه، وعمرو هو: عمرو بن دينار وهو أحد راويي هذا الحديث في الصحيحين عن ابن عباس، وقد رواه عنه كريب، وعمرو بن دينار، وفي رواية عمرو قال: وضوءاً يخففه عمرو ويقلله، (يخففه عمرو) هذا راجع إلى الكيف، يعني: شيئاً خفيفاً. (ويقلله) هذا راجع إلى الكم، ومعناه: أن كمَّ الماء الذي استعمل فيه خفيف، وكيفية الوضوء كانت خفيفة، ولكنه مع ذلك كان يسبغ الوضوء، لكن تارة يغسل مرة مرة، وتارة يغسل مرتين مرتين، وتارة يغسل ثلاثاً ثلاثاً، كل ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء.
ثم قال: إن الغليِّم نام.. إن الغليم نام، والغليِّم: هو تصغير الغلام, وهو يقصد به ابن عباس، وهذا إطراء له، قال: فقمت، ففعلت مثل ما فعل، يعني: توضأ ابن عباس وضوءاً كوضوئه، واستاك قبله، فأحرمت عن يساره، فأمسك بمنكبي أو بأذني فأدارني عن يمينه من ورائه، وفي رواية في هذا الحديث ليست في الصحيحين: أنه جعله إلى شقه الأيمن، قال: فتأخرت فجذبني، فتأخرت فلما سلم قال: ( ما لك أقدمك فتتأخر؟ قلت: كيف أساويك يا رسول الله؟ فضمني وقال: اللهم علمه الكتاب, وألهمه الصواب )، فما شككت في أمرٍ بعد، وصلى ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى أربعاً طوالاً طوالاً طوالاً، واستراح بعد الأربع ثم قام فصلى أربعاً طوالاً طوالاً طوالاً ثم استراح ثم أوتر بثلاث ركعات، فرجع إلى مكانه واعتمد على يده وأسند خده إلى يده اليمنى ونام حتى نفخ، يعني: حتى سمع له صوت الذي يسمع للنائم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه؛ ولذلك يعلم كل ما يقال حوله أو يدور وهو في نومه، فإذا مر إنسان وهو نائم رآه، وإذا حصل أي حادث بحضرته وهو نائم أدركه، ولذلك كان نائماً عند الكعبة كما حدثنا عن ذلك، ( فجاء ثلاثة ملائكة فوقف أحدهم عند رأسه، والآخر عند رجليه، ووقف الآخر قبالة وسطه، فقالوا: اضربوا لهذا الرسول مثلاً، فذكروا المثل, وهو بانٍ بنى بيتاً فكمله وجمَّله وترك فيه موضع حجر واحد، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون منه، فيقولون: لقد حسنه وجمله وكمله إلا موضع هذا الحجر )، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحجر، فهذا البناء هو رسالات النبوة, بيت بناه الله فجمله وكمله وبقي منه موضع حجر وهو ختم ذلك البناء، وهذا الحجر هو أشرفه وأفضله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أننا نحتاج دائماً إلى مراجعة إيماننا وزيادته, والرباط في المسجد -وبالأخص إذا انتظر الإنسان الصلاة- هو رباط في سبيل الله، وأنتم تعرفون فضل الرباط في الثغور، فإن النبي صلى عليه وسلم قال: ( لرباط ليلة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وكل أحد يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه لا يختم على عمله, ويأمن الفتان).
ومعنى (لا يُختم على عمله) أي: إذا مات يبقى مستمراً عليه، فإذا حان وقت الصلاة كتب في المصلين، وإذا حان وقت الصيام كتب في الصائمين، وإذا حان وقت الزكاة أو الصدقة كتب في المتصدقين، وإذا حان وقت تلاوة القرآن كتب في التالين، وإذا حان وقت الدرس كتب في الحاضرين، وإذا حان وقت أية عبادة من العبادات كتب كأنه مؤديها، فيبقى عمله مستمراً وهو حاضر، فالعبادات كلها تنزل لها أوراق من السماء، فأنتم الآن لستم أقوى أهل هذه المدينة ولا أفرغهم ولا أحرصهم على الخير لا محالة، ففي هذه المدينة كثير من الذين يحرصون على الخير, ويرغبون في فضل الله ورحمته, ويحبون دخول الجنة, ويكرهون أن يرمى بهم في النار، لكن الله اختار هذه المجموعة من بينهم الآن لشهود هذه العبادة, وأذن لهم بطاعته في هذا الوقت، فحبسوا جوارحهم عن المعصية، لا ينظرون الآن إلى حرام، ولا يسمعون حراماً ولا مكروهاً، ولا ينظرون إليه، وهم مرابطون في هذا المكان، وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى فهذا رباط، والمرابط لا يختم على عمله، فيبقى مستمراً عليه بالتحضير الذي نزلت به اللوائح من السماء، فلان ابن فلان أو فلانة ابنة فلان كتب لها فضل شهود هذه الليلة في المسجد الفلاني، وكذلك تبقى هذه اللوائح بعد الموت؛ فإذا نوى الإنسان الرباط يبقى مرابطاً، فإذا جاء وقت عمل كان يؤديه كتب في اللائحة، مثل تحضير الطلاب للدروس, فيكتب في الحاضرين، ويستمر عليها عمله.
(ويأمن الفتان)، فالإنسان عرضة لكثير من الفتن، ففي الدنيا يفتن الإنسان في نفسه وأهله وماله، ويفتن بالنسيان، فينسى بعض ما حفظ، ويفتن بالكسل فيتكاسل عن العبادات، ويفتن بقرناء السوء فيصرفونه عن الطاعات، ويفتن بأهله حتى بمرض بعض أهله أو بانشغاله، وتجدون أن من الفتن في الأهل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قصة جريج: ( وكان عابداً صواماً قواماً, ففتن بأمه؛ دعته وهو في الصلاة فقال: يا ربِّ أمي أو صلاتي، وكان براً بها، ثم استمر في صلاته، فدعته فقال: يا ربِّ أمي أو صلاتي فاستمر في صلاته، فدعته الثالثة فقال: يا ربِّ أمي أو صلاتي، فاستمر في صلاته، فدعت عليه قالت: اللهم أره وجوه المومسات، فزنت امرأة من بني إسرائيل فجاءت بولد زعمت أن جريجاً أبوه، وأنه زنى بها، فجاءوا فهدموا صومعته، وكلموه بذلك الأمر، فأنكر فقال: ائتوا بالغلام، فجاءوا به وهو في المهد، فقال له: من أبوك؟ فقال: فلان الراعي )، تكلم بلسان فصيح، وهو من الذين تكلموا في المهد، فعرضوا عليه أن يردوا له صومعته وأن يبنوها من ذهب، فقال: لا، ولكن من مدر كما كانت، والمدر: هو الطوب أي: الطين، فأعادوها كما كانت، فلذلك يفتن الإنسان بكل أنواع الفتن التي تثبطه عن الطاعة والعبادات، سواءً منها ما كان في أهله، أو في ماله وانشغالاته، أو في جيرانه, فالفتن كثيرة.
كذلك فتنة المحيا؛ وهي في آخر المحيا عند الموت، يعرض الإنسان فيقال له: مت على دين اليهودية.. مت على دين النصرانية. وهو يسمع ذلك ولا يرى قائله، ليزحزح ذلك يقينه ويثبت الله أهل الإيمان في ذلك الوقت، كما قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27].
وكذلك فتنة الممات؛ وهي بعد الموت، فإن الإنسان إذا وري في قبره أياً كان ذلك القبر، كما إذا أكلته السباع، أو الوحوش، أو أكلته الحيتان في البحر، أو كان مصلوباً, فإن ملكين يأتيانه وهما: منكر ونكير، وقد جاء فيهما كثير من الأحاديث في وصفهما وهيأتهما المروعة، وورد في بعض تلك الأحاديث: ( أن بصرهما مثل البرق الخاطف، وأن صوتهما مثل الرعد القاصف، يجلسانه إلى ركبتيه، فيسألانه فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم هو محمد، هو محمد، هو محمد، ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، ويقولان له: صدقت وبررت قد علمنا إن كنت لموقناً, نم نومة عروس، ويضجعانه -والمقصود بنومة عروس: أنه لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، وذلك عمله, فإنه إذا انصرفا عنه جاءه عمله في أحسن صورة وأحسن رائحة، فيقول له: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير, فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا أنيسك في غربتك- وأما المنافق فيقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول لهما: هاه.. هاه، لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت، ولا تليت، ويضربانه بمطارق بين فخذيه فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن)، وهذا لفظ حديث أسماء في الصحيحين، وفي لفظ آخر: ( ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها )، والمرزبة: هي التي يوتد بها الوتد، (لو اجتمع عليها أهل منى) أي: الحجيج بكاملهم، (ما أقلوها) أي: ما استطاعوا رفعها عن الأرض، (فيصيح صيحة يسمعها من يليه) أي: من الخلائق، (إلا الإنس والجن): فهم محجوبون عن ذلك؛ لأنهم ممتحنون بالإيمان بالغيب، أما البهائم والدواب وما يكون في داخل الأرض من حيات والحشرات فإنها غير ممتحنة بالإيمان بالغيب؛ ولذلك تشاهد هذه الغيوب فتسمع كلام الموتى، وقد يخرج بعض عذاب الموتى أو بعض أعراض القبر أو نعيمه إلى أن يكون من عالم الشهادة تثبيتاً لأهل الإيمان، ولذلك ثبت أن عدداً من الصحابة كانوا ليلةً يتعشون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ينتظرون العشاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالسه لا تخلو هذه المجالس من تغذية القلوب وتغذية الأبدان، فيأتيه الفقراء والمحتاجون يتعشون عنده، وفي انتظار ذلك يقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمهم، فبينما هم ينتظرون العشاء إذا سمعوا أصواتاً مروعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تلك يهود تعذب في قبورها)، والمقصود بيهود حينئذٍ: بنو قريظة، فقد حكم الله فيهم بحكمه، ووفق له سعد بن معاذ فحكم به، وهو حكم الله من فوق سبع سموات؛ أن ينظر من جرت عليه الموسى منهم فيقتل، وأن تسبى ذراريهم ونساؤهم، فقتل البالغون منهم وجعلوا في حفير، فعذبوا عذاب القبر حتى سمع الصحابة أصواتهم في ذلك العذاب الشديد, نسأل السلامة والعافية!
وهذه الفتنة هي فتنة الملكين منكر ونكير، في قبر الإنسان يُكفاها من كان مرابطاً في سبيل الله، فمن نوى أن يكون رباطه في سبيل الله فإنه يأمن الفتان، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أهل العلم: هذا محتمل لأمرين: إما ألا يفتن أصلاً، أي: ألا يسأل، فمن الناس لا يسأل، وإما أن يثبت عند السؤال فيكون آمناً في سؤاله، فكل ذلك محتمل من دلالة اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ويأمن الفتان ).
كذلك فإن عمارة المساجد محمودةً شرعاً، فإن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ[التوبة:18]، وقد أخرج الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ[التوبة:18]).
والله سبحانه وتعالى أحب هذه المساجد، فهي أحب البقاع إليه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها)، فإن استطعت عبد الله! ألا تكون أول داخل السوق, ولا آخر خارج منها فافعل، فلذلك هذه المساجد محبوبة إلى الله, وأهلها محبوبون ممدوحون؛ ولذلك امتدحهم الله في سورة النور فقال تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[النور:35-38]، فامتدح الله تعالى هذه المساجد, وبين أنها محل لنوره في الأرض، وامتدح روادها والعاملين لها بأنهم رجال، وهذا اللفظ دائماً يدل على الرضى، ولذلك لم يأتِ في القرآن إلا في سياق المدح: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ[غافر:28]، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ[المائدة:23]، مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[الأحزاب:23]، فِيهِ رِجَالٌ[التوبة:108]، فهؤلاء الذين يستطيعون أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا في المساجد هم رجال.
ولذلك فإن خواتيم سورة آل عمران وهي ذات خصوصية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنها نزلت عليه في الليل، وقال: ( لقد أُنزل عليَّ الليلة آيات, ويل لمن قرأها ولم يتدبرها) فهي من الليل، أي: من القرآن الذي أنزل بالليل، وويل لمن قرأها ولم يتدبرها، وبدايتها ذكر خلق الله سبحانه وتعالى وآياته في هذا الكون: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ * وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران:190-200]، فهذه الآية التي ختم الله بها هذه الآيات كانت خطاباً لنا، فأمرنا فيها بثلاثة أمور:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)): نادانا نداء تشريف؛ بأشرف أوصافنا وبأفضل نعمه علينا؛ وهي نعمة الإيمان، (اصبروا): فأمرنا بالصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على قضاء الله وقدره، ومن ذلك الاستعداد للصلاة، فالصلاة لها ثلاثة أنواع من الصبر: صبر عليها قبلها بالاستعداد لها؛ بالطهارة والسواك وتطهير الثياب والاستعداد لليقظة في الوقت المناسب، فكل ذلك من الصبر عليها قبلها، ثم بعد هذا الصبر عليها في أثنائها بأن يخشع الإنسان ويحضر، ثم بعد ذلك الصبر عليها بعدها؛ بألا يبطلها الإنسان بالمبطلات اللاحقة، وأن يأتي بعدها بأذكارها البعدية التي هي تمامها وختامها، فكل ذلك أمرنا به.
ثم قال: (وصابروا)، فالإنسان قد يصبر مرة، فيشارك في ليلة تربوية، أو يهيئ نفسه لقيام الليل وشهود الصلاة في الجماعة، ولكنه ينقطع، فهذا ليس من أهل الصبر، لكن إذا جاءت المصابرة فسيكون مستقيماً، والاستقامة تقتضي من الإنسان أن يستمر على ما عرف الله عليه، فيكون ثابتاً على عبادته، مستمراً عليها في كل أوقاته، فأحب العبادة إلى الله أدومها، ولذلك قال: (وصابروا)، والمصابرة تقتضي من الإنسان أن يكون بعد توفيقه للعمل مثابراً عليه مستمراً عليه ما استطاع، بصفة دائمة.
ثم بعد ذلك قال: (ورابطوا)، ولا يكون ذلك إلا بإسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فهذا رباط الصلاة، ومعه رباط الجهاد؛ وهو الوقوف في الثغور لمنع تسلل الأعداء إلى عورات المسلمين، فكل ذلك رباط، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا أخبركم بما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الرباط يمتثل المرء به أمر الله تعالى، وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والقرآن حجة لك أو عليك)، فكل آية من القرآن فيها أمر أو نهي تأتي تجادل يوم القيامة، وتخاصم الإنسان، فإذا كانت سمعتها أذناه ووعاه قلبه فإما أن يعمل بها, وإما أن ينبذها ظهرياً وراء ظهره، فإن كان قد عمل بها كانت حجة له، وإن كان لم يعمل بها كانت حجة عليه، وهذه الآية سمعتموها ووعيتموها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا[آل عمران:200].
ثم بعد ذلك قال: وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران:200]، فلا بد من امتثال هذه الأوامر، والحرص على أدائها؛ لأن كل أمر أنزله الله تعالى وخاطب به عباده فهو دين قد تعلق بالمؤمن، فنحن تحملنا ديناً من هذه الآية بأن نوفي هذه الأمور التي أُمرنا بها، وكل إنسان هنا هي دين في عنقه لله جل جلاله؛ لأنه إذا أمر فلابد من الامتثال لأمره، وبقاؤكم وشهودكم لمثل هذه الليالي هو امتثال لهذه الأوامر، فتكون هذه الآية حجة لكم إن شاء الله تعالى، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً, وصل اللهم وسلم على نبينا محمد, وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر