إسلام ويب

تقويم الله لغزوة أحد [5]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في ضمن تقويم الله لغزوة أحد بين سبحانه وتعالى سبب تراجع المؤمنين وهزيمتهم وأن ذلك باستزلال الشيطان لهم ببعض كسبهم، وقد عفا الله عنهم وتجاوز، وهذا دليل لحسن الظن بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والتجاوز عن عثراتهم. ولذلك كان من الدروس المستفادة من يوم أحد الصفح والحلم والتجاوز عن العثرات، ومنها الإيمان بقضاء الله وقدره وأنه لن يكون إلا ما أراده سبحانه وتعالى، وكذلك أهمية الشورى وما تحتويه من فوائد، والتوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، وحاجة المسلمين لاجتماع الكلمة وتوحيد الصف.

    1.   

    أسباب فرار بعض الصحابة عن القتال يوم أحد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد وصلنا في آيات تقويم غزوة أحد إلى قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ[آل عمران:155].

    وقد بين الله سبحانه وتعالى هنا تعليقًا على حدث مهم حصل في غزوة أحد، وهو انهزام طائفة من المؤمنين، وتركهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة العدو بعد أن بايعوه على القتال، وهم لا شك يرغبون في الجنة، ويرغبون في الشهادة في سبيل الله، فيحتاج إلى بيان سبب ذلك، فما السر في انهزام هؤلاء وهم من المؤمنين الصادقين؟ كيف انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه، وهم يحبونه أشد مما يحبون أنفسهم؟ وهم يرغبون في الشهادة في سبيل الله، وكانوا يتمنون الموت من قبل أن يلقوه.

    استزلال الشيطان لبعض الصحابة

    والجواب عن هذا الحدث: بينه الله تعالى بقوله: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]، فلم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ولا هو نقص في شجاعتهم، ولا هو نقص في إيمانهم، ولكنه استزلال من الشيطان، فقد دخل عليهم الشيطان من ثغرة، وهي بعض ما كسبوه من قبل؛ أي: إن الشيطان يستضعف الإنسان بسبب ذنوبه السابقة، فيدخل عليه من ثغرات الذنوب، ومن هنا فإن الإيمان حصن الله يدخله المؤمن فيتحصن به من الشيطان والمكاره، ولكن هذا الحصن تعروه الثغرات، وهي خدوش الإيمان وهي السيئات، فإذا اقترف الإنسان كبيرة من كبائر الإثم أو فاحشة من الفواحش، فقد حصلت ثغرة في جدار إيمانه، وهكذا كلما زاد من السيئات، كلما انتقصت حصانة هذا الحصن، وحينئذٍ يدخل الشيطان إليه من تلك الثغرات التي سببها ما اقترف من السيئات؛ فلهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ[آل عمران:155]؛ أي: انهزموا.

    (يوم التقى الجمعان)؛ أي: يوم التقى حزب الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وحزب الشيطان وهم المشركون.

    إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]؛ أي: استدرجهم حتى وقعوا في الزلل، ويقال: زل الفارس عن ظهر الفرس، إذا سقط عنه، ومنه قول امرئ القيس:

    كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل

    فالمقصود بذلك: أنهم وقعوا في مزلة- وهي فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من قبل الشيطان، فهو الذي استدرجهم إلى ذلك: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]، كيف يسلط عليهم الشيطان؟

    سبب استزلال الشيطان لبعض الصحابة

    جواب ذلك: بما اكتسبوا: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155]؛ أي: ببعض سيئاتهم السابقة التي اقترفوها، فكانت سبيلًا للشيطان عليهم حتى استزلهم إلى الوقوع في هذا الذنب، وهذا درس عظيم يدل أهل الإيمان على أن كل إنسان اختاره الله وشرفه بهذا الإيمان عليه أن يحصن إيمانه، وأن يحذر من الثغرات التي يدخل منها الشيطان، فإن كبائر الإثم والفواحش هي صدوع في جدار الإيمان، وبعدها الصغائر أيضًا سبب لاقتراف الكبائر، وبعد ذلك المكروهات سبب للوقوع في الصغائر، وبعد ذلك خلاف الأولى، فاقترافه سبب للدخول في المكروهات، وبعد ذلك عدم الورع عن الشبهات، فهو سبب للدخول في خلاف الأولى، فكل هذه الشريعة متدرجة؛ ولهذا فهي بمثابة الشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

    فأكارع الإيمان هي عروق الشجرة، ولحاؤه؛ أي: قشرة الجذع، هي التي ترد عنه، فإذا اقتُطع شيء من هذه القشرة، دب اليبس في مكانه وما يقابله من الجذع، فيتأثر بذلك أصولها وأطرافها.

    فالشجرة تتمدد، ولكن تمددها يتأثر بتأثر انقطاع الماء أو اليبس عن أطرافها، فإذا قطع عرق من عروقها أو قُشِّر بعض قشورها، فذلك سبب ليبس بعض أطرافها، وتراجع تمددها.

    ولهذا كان على كل إنسان أن يحرص على إيمانه؛ حتى لا يكون عرضة للعب الشيطان به، فما منا أحد لديه ضمانة أن يموت على الإيمان، وكلنا يحرص على حسن الخاتمة، وهذا الحرص لا يمكن أن يكون مجرد التمني أو التظني، بل لابد أن يطابقه عمل، والذي يريد حسن الخاتمة لابد أن يحرص على تقوى الله، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والتقرب إليه بالأعمال الصالحة؛ ولهذا أخرج مسلم في الصحيح، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف).

    فهنا بيَّن أن من كان يريد حسن الخاتمة، وأن يموت على الإيمان، فعليه أن يحافظ على هذه الصلاة، فهي الضمان والعهد الذي يحول بين إيمانه وبين الانتقاض؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حد ما بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر).

    فإذا خدش شيء من الصلاة اقتضى ذلك الاستدراج في أصل الإيمان، فتيبس أطرافه وأكارعه، ثم لا يزال ينقص حتى يتراجع بالكلية.

    ومن هنا على كل إنسان منا أن يعلم أن الحسنة تدعو إلى الحسنة، وأن السيئة تدعو إلى السيئة، فإذا أخلصت فقمت في الليل والناس نيام، فذكرت الله وتوضأت وصليت ركعتين، فهذه الحسنة سيوفقك الله بها لحسنة أكبر منها، فتوفق مثلًا للدعوة في سبيل الله، فإذا أخلصت في ذلك وفقت للحج المبرور، فإذا أخلصت في ذلك وفقت للجهاد في سبيل الله، وهكذا، فهذا التدرج بالحسنات، كل حسنة تدعو الإنسان إلى حسنة أكبر منها، وفي مقابله السيئات، فكل سيئة تدعو إلى سيئة أخرى أكبر منها، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولهذا قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155].

    1.   

    عفو الله عن الصحابة الفارين يوم أحد

    ومع ذلك بشر الله هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم بأمر مهم، وهو أن الله قد عفا عنهم فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لا شك كبيرة عظيمة، ولكن تداركهم الله برحمته ومغفرته، فعفا عنهم، وهذا يؤخذ منه درس عظيم آخر، وهو أن الإنسان لو اقترف السيئات، فإنه يبقى دائمًا على أمل مغفرة الله تعالى؛ فالقنوط من رحمة الله ليس من شأن أهل الإيمان، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ[الحجر:56].

    وقال: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[يوسف:87].

    حسن الظن بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج أهل السنة في ذلك

    ومن هنا فيبقى الإنسان على كل حال حسن الظن بالله تعالى، وهو يؤمل مغفرته ورضوانه، ثم من هذا الدرس أيضًا: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جديرون بأن يظن بهم أحسن الظنون، وأن يلتمس لهم الأعذار، وألا يظن بهم ظن السوء؛ فهم أقرب هذه الأمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولاهم بشفاعته، ولهم سابقتهم في الإسلام وبلاؤهم فيه، وكل ذلك يكفر سيئاتهم، فنحن نعلم أنهم غير معصومين، ولكننا نعلم أن سيئاتهم لها كثير من الدواعي لمغفرتها، فقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتهم له، وجهادهم معه، ودفاعهم عنه، وسبقهم في الإسلام، وجهادهم، ونفقتهم من قبل الفتح، كل ذلك يجعلهم أولى بالمغفرة والرضوان، فنحن نواليهم جميعًا، ولا نعادي أحدًا منهم، ونترضى عنهم جميعًا، ونسأل الله أن يرضى عنهم، وأن يبعثنا معهم، وأن يحشرنا في زمرتهم.

    وبهذا ينفصل أهل السنة عن أهل البدعة، فأهل البدعة لا يوالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفصلون فيهم، فمنهم من يكفرهم، ومنهم من يطعن فيهم، ومنهم من يلعنهم، نسأل الله السلامة والعافية.

    وقد سمع مالك بن أنس رحمه الله رجلًا من الخوارج يلعن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال: أأنت من المهاجرين الأولين؟ قال: لا. قال: أفأنت من الذين آووا ونصروا؟ قال: لا. قال: فأنا أشهد أنك لست من الذين اتبعوهم بإحسان، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10].

    التجاوز عن عثرات وزلات السلف

    ومن هذا الدرس أيضًا: أن سلفنا الصالح إذا درسنا تاريخهم، فعلينا أن نتجاوز عن العثرات، وألا نقف عندها كثيرًا، وأن نبحث في الوجوه الناصعة والعمل الصالح الكثير الطيب، فنتعلق به، وألا نتعلق بتلك الهنوات والهفوات؛ فهي لا تعد في سبيل ما قدموا، ومن هنا قال ابن القيم رحمه الله: (زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).

    فلا مقارنة بيننا وبين سلفنا الصالح؛ ولذلك لابد أن نلتمس لهم أحسن المخارج، وأن نظن بهم أحسن الظنون، وإذا وجدنا خطأً لبعضهم حتى لو كان من القرون المتأخرة، لو كان من أجدادنا وآبائنا فوجدناه وقع في خطأ من الأخطاء الكبيرة، علينا أن نقارن ذلك أيضًا بما قدمه من الأعمال الصالحة، فإنهم لم يكونوا يأكلون الربا، ولم يكونوا يوالون اليهود، ولم يكونوا يناصرون المبطلين، وقد نجوا من كثير مما يقع فيه كثير منا اليوم؛ فلذلك تلتمس لهم الأعذار، ويظن بهم ظن الخير.

    ومثل ذلك: كل من عرف بالخير من الداعين إلى الله، أو العلماء، أو الصالحين، أو الذين عرفوا بأي وجه من أوجه الخير، يعلم أن ما قدموه من الخير هو أكبر من تلك الهنوات والهفوات التي وقعوا فيها، والله تعالى يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، ويكفر الكبائر بالتوبة؛ ولذلك فأعمالهم الصالحة تقتضي منا رجاء أن يغفر الله لهم وأن يتجاوز عنهم.

    ترك تقويم الرجال بالزلات والنظر للخواتيم

    كذلك من هذا الدرس: أن علينا أن نعلم أن تقويم الرجال ليس بهذه الزلات، فالعبرة بالخواتم، فكثير هم أولئك الذين إذا ذكر عندهم أحد من أعلام هذه الأمة، قالوا: فيه وفيه، فيذكرون بعض ما فيه من الزلات والأخطاء، وينسون زلات أنفسهم، ولا يعلمون أن الله تعالى عندما ذكر ذنب هؤلاء العظيم، قال بعده: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155]، فالتمس لهم العذر، ثم قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ[آل عمران:155]، هل بعد هذا كلام؟

    لا يمكن أن يذكر هذا الذنب بعد أن عافاه الله سبحانه وتعالى، وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بوصفين عظيمين في هذا المقام، وهما يناسبان القرح والمصيبة، فإذا جاءت المصائب فإن القرآن يأتي لتثبيت المؤمنين، وتقوية شخصياتهم، في أوقات الضعف يأتي ذكر صفات الله المشجعة لأهل الإيمان، فقال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

    هنا لم يقل: (إن الله شديد العقاب) بل جاء بهذين الوصفين العظيمين اللذين يعيدان إلى المؤمن رغبته في الله، واتصاله به، وقوة شخصيته وتمام عزيمته؛ فلذلك قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155]، وقد سبق أن المغفرة: هي ستر الذنب في الدنيا، وعدم المؤاخذة به في الآخرة، والحلم معناه: عدم المبادرة إلى الأخذ بالحق، فالحليم هو من لا يبادر إلى الأخذ بالحق، والله سبحانه وتعالى من تمام كرمه أن يحلم عن المسيئين، فلا يؤاخذهم بحقه، ويمهل به؛ فلذلك قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

    1.   

    أقسام القرائن التي تتصل بالذنوب

    كذلك من هذا الموقف تؤخذ عبر أخرى تقتضي أن القرائن التي تتصل بالذنوب خمسة أقسام، وهي أشد ضررًا على الإيمان من اقتراف الذنب نفسه:

    إكبار الذنب وتعظيمه

    فأولها: إكبار الذنب وتعظيمه حتى يظن الإنسان أنه أكبر من مغفرة الله، فهذا سبب للقنوط من رحمة الله، وقد حذر الله منه.

    احتقار الذنب وعدم الاهتمام بالتوبة منه

    والثاني: احتقار الذنب حتى لا يقدره الإنسان ولا يهتم بالتوبة منه، وهذا أمن لمكر الله، وقد قال ابن مسعود: (إن ذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا، وذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه).

    الإصرار على الذنب

    والثالث: الإصرار على الذنب، فإن الإصرار على الذنب يقتضي إزالة الحياء من الله سبحانه وتعالى من القلب، فالإصرار على الذنب: أن يفعله الإنسان في الصباح، فيقدم الملائكة تقريرًا فيه إلى الله: يا رب عبدك فلان اقترف الذنب الفلاني، ثم في المساء يقدمون تقريرًا آخر، وفي صباح اليوم الآخر، وفي مسائه: يا رب، عبدك فلان ما زال مصرًّا على الذنب الذي فعل، فيزول حياؤه من الله بالكلية، نسأل الله السلامة العافية.

    وهذا منافٍ لاستمراء الإيمان ومحبته؛ فأهل الإيمان إذا وقعوا في الذنوب، بادروا إلى التوبة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:201-202].

    أي: إن أهل التقوى إذا مسهم طائف من الشيطان، والطائف: بمثابة الريح، نسيم الريح الذي يأتي فجأة، (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) أي: ذكروا الله، (فإذا هم مبصرون).

    وإخوانهم: أي: إخوان الشياطين، يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.

    وفي القراءة السبعية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَيفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201]، والطيف: ما يرى في المنام، وهو في مدة يسيرة جدًّا، فالثانية الواحدة يرى فيها الإنسان رؤيا طويلة؛ فلذلك استزلال الشيطان بالمؤمنين الصادقين لابد أن يكون بمثابة الطيف الذي يرى في المنام، أو الطائف الذي يأتي من النسيم، فهو يسير قليل، ومع ذلك قد يوقعه في معصية، لكن يبادر بعدها إلى التوبة، فيمحو الله عنه تلك السيئة.

    الجهر بالذنب

    ثم بعد هذا: الرابع: الجهر بالذنب، فهو دعوة إليه؛ لأن الإنسان ما لم يرَ الذنب فهو بمأمن عنه، فإذا رآه وتكررت عليه رؤيته، فذلك داعٍ لمواقعته، وكثرة المساس تزيل الإحساس.

    الجرأة على الذنب والجسارة عليه

    ثم بعد هذا: الخامس: هو الجرأة على الذنب، والجسارة عليه، بأن يكون الإنسان لا يحس بأن بينه وبين المعصية حاجزا، فهو يقع فيها ويبادر إليها كأنه لا يحس بالعقوبة، ولا يحس برقابة الله عليه، وهذا جسور على الذنب، فقد خمدت جذوة الإيمان في قلبه، وإذا خمدت الجذوة فذلك مقتضٍ من الإنسان المبادرة إلى المعصية- نسأل الله السلامة والعافية- فلذلك قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

    1.   

    الدروس المستفادة من غزوة أحد

    الحلم والصفح

    كذلك من دروس هذا الموقف: أن على الإنسان أن يكون حليمًا، وأن يكون مسامحًا في حقوقه، وأن يقبل العذر ممن اعتذر إليه، وقد أخرج ابن ماجه في السنن، وأحمد في المسند، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف له بالله فليرضى).

    فلذلك على الإنسان إذا اعتذر إليه أن يقبل العذر حتى لو كان صاحبه كاذبًا في عذره، فذلك من تمام الخلق، ومن حسن الترفع عن الرذائل، وكذلك لا شك أن العفو مزية، وهو من الصفات التي اتصف الله بها، فهي من صفات التخلق والتعلق، فصفات الله تنقسم إلى قسمين: إلى صفات للتخلق، والتعلق، فنحن نسأل الله بها: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف:180]، فهذا التعلق، ونحن نتخلق بها؛ لأننا علمنا أن الله قد رضيها، ومنها ما هو للتعلق دون التخلق، كالصمدية وكالجبار، والمهيمن ونحو ذلك، فهذا للتعلق دون التخلق.

    وهنا: غفور حليم، هذا للتعلق والتخلق معًا، فيتخلق به الإنسان ويتعلق به؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال: (من لا يرحم، لا يرحم)؛ فلذلك على الإنسان أن يكون حليمًا، وأن يكون مسامحًا في زلاته، وأن يعفو عنها ويتجاوز عنها، فقد أخرج البخاري في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن تاجرًا فيمن كان قبلنا، كان يداين الناس، فإذا حان الأجل أرسل غلمانه، فيقول: إذا صادفتم معسرًا فتجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه).

    فهذا النوع من التجاوز هو سبب للمغفرة، وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التجاوز عن حقوقهم، وهو حق من حقوق النفس، فنفسك- يا أخي- لها ثلاثة حقوق عليك، لابد من أدائها:

    الحق الأول: عدم الانتصاف لها؛ أي: عدم الانتصار لها من الآخرين، فحاول ألا تنتصر لنفسك أبدًا؛ ولذلك في حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما انتصر لنفسه قط، وما غضب لنفسه، إنما يغضب لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله).

    فإذا كان الإنسان مسامحًا في حقوق نفسه، ولا يطالب لها بحقوقها، فهذا حق من حقوق نفسه، وهو خير لها لا محالة.

    والحق الثاني: هو الانتصاف منها للآخرين، أن يجعل نفسه في قفص الاتهام للآخرين حتى يأخذ منها حقوقهم، ويحاسبها محاسبة الشريك الشحيح.

    والحق الثالث: هو أن يخاف من غوائلها، فهذه النفس لها زلات عظيمة جدًّا، ومخاطر كبيرة جدًّا، فعلى الإنسان أن يحذر من غوائل النفوس، وأن يحرص كل الحرص على ألا يكون من الْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[المطففين:1-3].

    ترك التشبه بالكفار

    بعد هذا وجه الله تعالى خطابًا عظيمًا إلينا معاشر المؤمنين، وهو عام في كل زمان ومكان، لا يختص بالمشاركين في هذه الغزوة العظيمة، ولكنه خطاب لكل المؤمنين، وهو ربط لهذا القرآن بواقع الناس في كل زمان ومكان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا[آل عمران:156]، هذا خطاب لنا معاشر المؤمنين أن نتميز عن الكفار، فالكفار يربطون الأمور كلها بمقاييس المادة ومقاييس الدنيا، فالعبرة عندهم بالأسباب، ويغفلون عن مسبب الأسباب، يغفلون عن تدبير الله تعالى لهذا الكون، وهذا ما حذرنا الله منه، ونحن نشهد في واقعنا اليوم من آثار العلمانية أن كثيرًا من المؤمنين أصبحوا مثل الذين كفروا من ناحية الركون إلى الأسباب وتعلق القلب بها، فإذا جاء القحط لم يقولوا: جاء القحط بسبب الذنوب، فعلينا أن نتوب إلى الله، وأن نستغفره، وأن نخرج إلى الصعدات نجأر إلى الله، بل يقولون: إن الجبهة المدارية قد نقلها تيار كناريا من المكان الفلاني إلى المكان الفلاني مثلًا، وإذا جاء الغلاء ذكروا أن سبب ذلك هو التضخم، والانكماش، وانخفاض سعر الأوقية مثلًا، وهكذا إذا جاء مرض من الأمراض قالوا: إن سببه العدوى، وإنه لولا أن فلانًا ذهب إلى فلان المصاب بهذا المرض لما أصيب به!

    فهذا محاكاة للكافرين ولهذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[آل عمران:156].

    فهنا بين أن هذا النوع من الركون إلى الأسباب ونسبة المسببات إليها هو من شأن الذين كفروا وليس من شأن المؤمنين، وحذرنا تحذيرًا بليغًا، فأنت قبل أن تعرف الموضوع إذا سمعت: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا[آل عمران:156] نفرت نفسك من هذا الموضوع؛ لأنك تعرف أنه نسبة اشتراك بينك وبين الذين كفروا لو وقعت فيه، فلو فعلت هذا الفعل كان فيك نسبة من الذين كفروا، وأنت تريد مقاطعتهم بالكلية.

    فلذلك من بداية الآية تنفر من هذا الحدث الذي تُنَفَّر منه إذا سمعت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا[آل عمران:156] كرهت الفعل الذي ستنهى عنه في الآية، وهو: وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا[آل عمران:156].

    إن كثيرًا من المنافقين لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد هو والذين معه، قالوا: كان رأينا خيرًا من رأي هؤلاء حين رجعنا عن المعركة، فدخلنا في حصوننا ولم نقاتل، فلم يجرح أحد منا ولم يقتل، فلو كانوا عندنا هنا في الحصون لما قتلوا، وهذا رأي أولئك المشركين المنهزمين الذين عدلوا إلى راية عبد الله بن أبي ابن سلول، وتركوا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتذروا في البداية، وقالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ[آل عمران:167].

    حذرنا الله تعالى من مثل هذا الموقف، ولكن مع ذلك لا نزال نشاهده يتكرر في أوساط الناس، فكثير من الناس إذا أصيب إنسان بما كتب عليه من قدر الله بعد أن أدى عليه حقًّا واجبًا عليه، تشمتوا به، وظنوا أنه إنما أصيب بسبب ذلك الفعل الذي فعله، ولو لم يفعله لنجا، أين الإيمان بقدر الله خيره وشره؟!

    يقولون للذي اغتسل من جنابة بالماء حين أمر بذلك، أو توضأ حيث يجب عليه الوضوء، فأصيب بزكمة، أو حمى، أو صداع: إنما مرض بسبب هذا الذي فعله، ألم يفعل أمرًا قد أوجبه الله عليه؟!

    وهذا الذي أصيب به، أليس قد كتب عليه قبل ميلاده؟!

    فإذًا أين الإيمان بقدر الله سبحانه وتعالى؟ إنما هذا وصف من أوصاف الكافرين.

    ومثل ذلك: إذا دعا إلى الله تعالى، وصدق ما عاهد الله عليه، ولم يرضَ أن يكون من المنافقين، فأصيب بنكبة من نكبات الدنيا، قالوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا[آل عمران:156].

    فهذا هو من صفات الكافرين، وقد حذرنا الله منه، وبالأخص لابد لنا أن نعلم أن كثيرًا من الناس يجهلون الحكمة المأمور بها شرعًا، فقد أمر الله باتباع الحكمة في الدعوة، فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125].

    فكثير من المخذِّلين يرون أن الحكمة معناها ترك العمل، الحكمة هي أن نقول: لا مساس، وأن نمسك أيدينا وأكفنا، وألا نعمل أي عمل، وألا ننصر دينًا، وألا نقول حقًّا، وألا نفعل أي تصرف، هل هذه هي الحكمة؟!

    لو كانت هذه هي الحكمة لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منأى عنها هو وأصحابه؛ لذلك لابد أن نعرف أن الحكمة هي المبادرة إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، والتقيد بأوامره واجتناب نواهيه، فهذا هو الحكمة، فهي وضع الشيء في موضعه، والشيء منه الطاعة، فالطاعة موضعها أن يطاع بها الله ورسوله، وألا يطاع بها أعداء الله، فليسوا محلًّا للطاعة، فوضع الطاعة لدى أعداء الله هو من وضع الشيء في غير موضعه، فليس هذا من الحكمة؛ ولذلك فإن كثيرًا من هؤلاء يدعون دائمًا إلى التعقل، وإلى الحكمة، وإلى الحذر، وإلى كذا، وإلى كذا، وإذا سألتهم: ماذا أصنع؟ فليست (لديهم حلول)؛ لأنهم يريدون منك أن تكون فيما هم فيه؛ وهو لا مساس، لا يعملون أي عمل، لا يقدمون أية خدمة للدين، لا يدعون أحدًا إلى صراط الله المستقيم، لا ينصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى نصرته، لا يقولون حقًّا، هم منجرفون وراء أهوال النفاق، وهذا النوع هو من الخطر العظيم، وقد بين الله تعالى حال المنافقين، فذكر أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.

    وهذه الفتنة هي المواقف التي تعرض على الإنسان، فإذا عرض عليه موقف، فلم يقل فيه الحق، ولم ينصر الله تعالى، ولم تكن منه مبادرة ولا نصرة، فقد رسب في هذا الموقف ولم ينجح فيه، فإذا جاء موقف آخر فعليه أن يبادر للنجاح، فقد ندم على ما فرط في جنب الله في الموقف الماضي، وقد أتيحت له فرصة جديدة ليري الله من نفسه خيرًا.

    ولذلك فإن أنس بن النضر رضي الله عنه لما غاب عن غزوة بدر ندم على ذلك ندمًا شديدًا، وقال: (لئن لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو بعد اليوم، ليرين الله صنعي فيهم)، فشهد معركة أحد، فقاتل حتى قتل شهيدًا في سبيل الله.

    فلذلك لابد أن يدرك الإنسان أن مجرد التظني والتمني، وتجاهل قدر الله وما كتبه الله تعالى، هذا من الأمور التي لا خير فيها، وهي من شأن الكافرين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ[آل عمران:156]؛ أي: قالوا عنهم ذلك، إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ[آل عمران:156]؛ أي: سافروا، أَوْ كَانُوا غُزًّى[آل عمران:156]؛ أي: خرجوا في غزوٍ في سبيل الله مثلًا، لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا[آل عمران:156]؛ أي: معنا في حصوننا، مَا مَاتُوا[آل عمران:156] إذا ضربوا في الأرض، وَمَا قُتِلُوا[آل عمران:156] إذا كانوا غزى، وهذا هو اللف والنشر المرتب، وهو من أوجه البلاغة.

    مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ[آل عمران:156]، فهذا القول الذي قالوه إنما وقعوا فيه فتنة ليجعله الله حسرة وألمًا في قلوبهم، فيظنون أنهم فقدوا إخوانهم بسبب ذلك السفر أو بسبب ذلك الغزو، وأنهم لو كانوا عندهم ومعهم ما ماتوا وما قتلوا، فحينئذٍ يقع استعظام هذه المصيبة، وهذا أيضًا نقص آخر في الإيمان، فيظنون أن ذلك من الظلم أو من الاعتداء، أو يتسخطون قدر الله سبحانه وتعالى، فلا يزالون في وحل ومشكلة بعد مشكلة، وكل ذلك ضرر ماحق، وهو من شأن الكافرين لا من شأن المؤمنين.

    لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ[آل عمران:156]، والحسرة: الندم، والمقصود بالحسرة في القلوب؛ أي: الندم على تلك المصيبة، أن يقول الإنسان: لو أني فعلت كذا لما كان كذا أو لحصل كذا، وهذا من عمل الشيطان، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم "ولو"؛ فإن "لو" تفتح عمل الشيطان)، وفي رواية: (إياكم ولوًّا، فإن لوًّا تفتح عمل الشيطان)، وهي "لو"، أن يقول الإنسان: لو فعلت كذا لما كان كذا، ومحل ذلك: إذا كان في تسخط القدر أو في تجاهله، أما إذا كان الإنسان يلوم نفسه على ما فرط فيه في جنب الله، فلا يعتبر ذلك من لو، لو قال إنسان: لو أنني حين استيقظت من الليل توضأت وصليت، أو: لو أنني بادرت إلى إجابة نداء الله حين سمعت الأذان، فهذا ليس من لو التي نهى عنها رسول الله صلى عليه وسلم؛ لأن هذا من لوم النفس، والنفس حينئذٍ لوامة، وهذه مرتبة من مراتب الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولا جعلتها عمرة)، وكما قالت عائشة: (لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير نسائه).

    فهذا النوع ليس من لو المنهي عنها، بل هو من لوم النفس في تقصيرها أو قصور حصل منها.

    الإيمان بقضاء الله وقدره وإيثار الدار الآخرة

    وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ[آل عمران:156]، هذا بيان؛ لأن ما يقع من الأمور كله بقدر الله تعالى، فلا حياة لأحد إلا بإحياء الله له، فلا موت لأحد إلا بإماتة الله له؛ فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يحيي ويميت، وليس ذلك إلى الناس، فالغزو ليس سببًا للموت، والوقوف في الصف في وجه العدو ليس سبب الموت، فالموت مكتوب بأجل، ولا يموت الإنسان إلا بأجله؛ ولذلك كم من إنسان لم تبق معركة إلا شارك فيها فمات على فراشه، كما قال خالد بن الوليد رضي الله عنه عند الموت: (لا وألت نفس الجبان، لقد شاركت في مائة وبضع وأربعين غزوة، وطلبت الموت مظانه، ولم يبق فيَّ موضع إصبع إلا وفيه ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو نضحة بنبل، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير).

    فالموت بأجل مسمى، ومن كتبت عليه موتة لابد أن يموتها؛ ولذلك فإن ملك الموت كان في الأمم السابقة يراه المحتضر عند موته، يراه عيانًا.

    وقد كان نبي الله سليمان عليه السلام في مجلسه وعنده شاب نضير تام الصورة، فجاءه ملك الموت، فجلس عند سليمان فإذا هو ينظر إلى ذلك الشاب نظرًا حادًّا، فعجب سليمان منه، فارتاع الشاب من ذلك النظر، فلما قام ملك الموت من المجلس جاء الشاب إلى سليمان، فقال: أريد أن تحملني في الريح الآن إلى بلاد الهند. قال: وما حاجتك إليها؟ قال: جليسك هذا قد روعتني نظراته، ولا أتحمل مجالسته بعد الآن. فحملته الريح في تلك اللحظة، فوضعته في الهند، فكان على موعد مع ملك الموت هناك فقبض روحه، فجاء ملك الموت إلى سليمان، فسأله، فقال: كيف كنت تنظر إلى ذلك الشاب، فقد ارتاع من نظراتك؟ فقال: كنت أعجب منه، فقد أمرت بقبض روحه في الساعة التي بعد هذه في الهند، وهو عندك الآن في الشام، فعجبت من ذلك.

    فملك الموت يعلم أن الله أمره بقبض روح هذا الشاب في الهند بعد ساعة، وهو الآن في الشام، فتعجب! كيف يصل إلى الهند في خلال ساعة! فحملته الريح فأوصلته إلى الهند في تلك الساعة، وكان ذلك عن رغبة منه وشوق، وهو يريد ذلك.

    فلهذا لابد أن يستشعر الإنسان أن الموتة التي كتبت عليه لابد أن ينالها، وبالتالي الخوف من هذه الموتة بعد أن قدرها الله وكتبها لا فائدة فيه؛ فقد قال الله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78].

    فالإنسان الذي كتب عليه الموت بأية وسيلة من الوسائل لابد أن يموت بتلك الوسيلة التي كتبت عليه.

    ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

    فلذلك على الإنسان ألا يخاف من الموتة التي كتبت عليه؛ فخوفه منها لا يؤخرها ولا يقدمها، لابد أن يموت كما كتب له، إذا كتب أنه يموت بالحمى فسيموت بالحمى، وإذا كتب أنه يموت بالطاعون فسيموت بالطاعون، وإذا كتب أنه سيموت بالكوليرا فسيموت بالكوليرا، وإذا كتب أنه سيموت بالسرطان فسيموت بالسرطان، وإذا كتب أنه سيموت بالرصاص فسيموت بالرصاص، وإذا كتب أنه سيموت بالمشنقة فسيموت بالمشنقة.

    فلذلك عليه ألا يفر مما قدر له؛ ولذلك فإن أحد الدعاة البارزين في هذا القرن وهو سيد قطب رحمه الله، عندما حكمت عليه المحكمة الجائرة بالقتل بالمشنقة، أتاه شيخ من شيوخ الأزهر، فيريد أن يلقنه الشهادة، وقال: أريد أن تكتب اعتذارًا للسيد الرئيس الآن حتى يعفو عنك ويسامحك، فقال له ثلاث كلمات مؤثرة جدًّا: الكلمة الأولى: قال: إن هذه الإصبع التي أرفعها في التوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله تأبى أن يكتب ما يخالف ذلك ويناقضه.

    والكلمة الثانية: قال له عندما عرف أنه ميت لا محالة، وأراد أن يلقنه الشهادة، قال: نعم أقولها، وأموت من أجلها وأنت تعيش بها، تأكل بها الخبز.

    الكلمة الثالثة: عندما خوفه، قال:

    أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر

    يوم لا أقدر لا أحذره ومتى يقدر لا ينجو الحذِر

    فمن كتبت عليه موتة لابد أن ينالها مهما كان؛ فلذلك قال: وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ[آل عمران:156]، ولا يمكن أن يموت أحد إلا بأجله.

    وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[آل عمران:156]، بعد هذه الجملة المؤكدة المؤثرة جاءت جملة أخرى شارحة ومتممة لوجه آخر من أوجه الكمال، والجلال، والجمال لله تعالى، بعد أن قال: وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ[آل عمران:156]، قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[آل عمران:156]، فكل ما تُعملونه من الحيل، وكل ما تعملون به من الاحتياطات، وكل ما تأخذونه من الأدوية، وكل ما تدخلون فيه من الحصون، كل ذلك بعلم الله تعالى، وإرادته، وقدرته؛ لهذا قال: وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[آل عمران:156]، ثم قال: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[آل عمران:157].

    لو قدر أن الإنسان قتل شهيدًا في سبيل الله، أو مات غازيًا في سبيل الله، أو مهاجرًا في سبيل الله، أو ضاربًا في الأرض ابتغاء مرضات الله، أليس هذا الموت خيرًا له من حياة المذلة والهوان؟

    إن هذه الحياة مدة البقاء فيها يسيرة محدودة، وفيها كثير من المنغصات والمشكلات، إذا عاش فيها الإنسان في رخاء وغنًى، فإن المرض يكدر ذلك، والهرم يكدره، وما ينقص من سمعه، وبصره، وطاقته، وقواه، كله يكدر بقاءه، وما يفقده من الأهل والمال كذلك مكدر، ثم بعد هذا إذا سلطت عليه الأمراض فهي أبلغ كدرًا، ثم بعد ذلك الهوان والمذلة، فالإنسان العزيز الكريم لابد أن يذل في هذه الحياة، (كان حقًّا على الله ألا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه).

    ولذلك تجدون من عجائب قهر الله تعالى أن القوي النشط يقهر بالموت، فيبقى جثة لا حراك به يجذبه الإنسان يمينًا وشمالًا، ويقلبه كيف يشاء، كما قال مالك بن الريب:

    خذا طرفي ثوبي فجراني إليكما فقد كنت قبل اليوم صعبًا قياديا

    وكذلك الحال بالنسبة لمن كان رئيسًا آمرًا مهيبًا مطاعًا ويصبح أسيرًا، كما ترون الآن بعد أن كان صدام حسين بالأمس يصدر الأوامر، وترتجف منه القادة، أصبح أسيرًا ما له حول ولا قوة ولا دفع عن نفسه، يفتح فمه وتضاء فيه الإضاءة، وينظر إلى أسنانه وأضراسه.

    كل ذلك من قهر الله سبحانه وتعالى وجبروته، وهو عام في كل جبار، جميع الجبابرة مصيرهم كذلك، هو إلى الذلة والمهانة والهوان في الدنيا والآخرة.

    ولهذا قال: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[آل عمران:157].

    ما نجمعه في هذه الحياة من الأموال ومتع الدنيا وزخارفها وزهوها وزهرتها، لا شك أن رضوان الله خير منه؛ فلذلك قال: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ[آل عمران:157]، وهما مرتبان على القتل في سبيل الله، والموت في سبيله، فهما خير مما تجمعون من زخارف هذه الدنيا وشهواتها، بالإضافة إلى ما سبق من أن الموت مقدر لا محالة: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[الزمر:30].

    مع ذلك لو قدر أن الإنسان يعيش في هذه الحياة، فإن عيشه في هذه الحياة خير منه أن يموت شهيدًا في سبيل الله: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[آل عمران:157] في هذه الحياة.

    فلذلك موت الشهيد وانتقاله من هذه الدار هي حياة أخرى، وهي خير له من الحياة الدنيوية، ليس فيها تنغص ولا إشكال، وهو يفرح برحمة الله ونعمته، كما قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران:169-171].

    ولهذا نشاهد في كل يوم من أيام الدنيا عجبًا من العجائب، مما يشهد لصدق هذا القرآن، وقد رأيتم في الأيام الماضية المقال المنشور في الإنترنت، نشره طبيب من أهل الفلوجة، وهو مقيم في إحدى دول الخليج، ذهب إلى الفلوجة في وقت الحصار، فكان فيها في وقت القصف الشديد، وانتدبته مسئوليته وإنسانيته إلى المستشفى لا يعمل فيه، لكن جاء متطوعًا حين رأى القصف الشديد ورأى الجرحى والقتلى ينقلون إلى المستشفى، فجاء ليشارك في تضميد جرح أو علاج جريح، فلما جاء إلى المستشفى كان فيه تحت القصف، فجيء بشاب صغير لم يتجاوز عمره إحدى وعشرين سنة، وقد لاقى الشهادة في سبيل الله -نحسبه والله حسيبه- قال: فلما أدخلت جثته وأنزلت من سيارة الإسعاف امتلأ المستشفى برائحة عطر ما شممت عطرًا مثله قط، فحملناه واقتربنا إليه، وترك الناس علاج المرضى، وانشغل المرضى عن جراحهم وهي تنزف، من هول ما يشمون من تلك الرائحة، فازدحموا جميعًا على ذلك الشهيد، فيقول: أنظر إليه كأن شفتيه تبتسمان، وكأنه نائم، وأفحص قلبه فلا حراك ولا أي نبض، ولا أجد فيه إلا جرحًا خفيفًا في رقبته، به نال الشهادة في سبيل الله، رصاصة دخلت في عنقه، فمزقوا ثيابه عنه لتشريحه وفحصه، قال: فاحتفظت بقطعة من ثوبه، وسافرت بها إلى بلد من بلدان الخليج، وبعد شهر كامل كان يعرضها على الناس، فذات ليلة بعد شهر كامل من استشهاد ذلك الشهيد، عرض تلك القطعة على مجلس من الناس فيه تجار، فشم الناس رائحتها، فعرفوا أنها رائحة عطر ليس من عطر الدنيا، ولا يشبه شيئًا من طيبها، فتقدم إليه تاجر من التجار، فاشترى تلك الرقعة من لباس ذلك الشهيد بثمانين مليون دولار لبناء مستشفى في الفلوجة لعلاج الجرحى.

    فهذا هو من شواهد ما ذكره الله في كتابه، وقد قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[فصلت:53].

    فهنا قال: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[آل عمران:157]، ثم بعد هذا، ماذا بعد الموت؟ فالموت ليس نهاية ليس بعدها شيء، بل الموت بداية لا نهاية، فهو تحول من دار إلى دار، وانتقال من حال إلى حال؛ فلذلك قال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ[آل عمران:158]، فحينئذٍ سيجازي المحسن بإحسانه، ويجازي المسيء بإساءته، فالموت حاشر يحشر الناس ويسوقهم إلى الله تعالى، فيجتمع الخصوم عنده، وسيحكم الحكم العدل بما هو أهله، وهو لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وحينئذٍ لا شك أن أهل الإيمان سيحكم لصالحهم على أهل الكفر؛ فقد قال الله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ[الحج:19-22].

    فلا شك أن الأوبة والرجوع بعد الموت هي إلى الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ سيجد الإنسان جزاءه، وسيكون هذا الجزاء- إذا كان على العمل الصالح- جزاء مشكوراً، وسيكون بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويكفي من ذلك أنه إلى الله، فقد تعهد الله بذلك الجزاء، وانتدب به؛ ولذلك قال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ[آل عمران:158].

    عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الصحابة الفارين يوم أحد

    جاء درس آخر، وعبرة من العبر، وهي عبرة في خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الرسول الكريم الذي شرفه الله على سائر الخلائق، وجعله غنيًّا بالمعجزات الظاهرة الباهرة عن نصرة الناس، مع ذلك لما دعاهم إلى نصرته وكان يدعوهم في عقباهم وهم يفرون عنه، لم يجدوا في وجهه إلا المسامحة والعفو والإحسان، وهذا من تمام خلقه وكمال مروءته، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يعجب الإنسان من ذلك، فيقول: لماذا لا يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الذين فروا عنه من أصحابه؟ ولماذا لا يستقبلهم بوجه كالح؟ ولماذا لا يزجرهم أو يؤدبهم تأديبًا، ويعاملهم معاملة غليظة؟ قال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ[آل عمران:159]؛ أي: ما حصل من اللين واللطف في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسن التعامل مع الناس، إنما هو برحمة من الله، جعلها الله في قلبه؛ فقد جعله الله رحيمًا، وأثنى عليه بهذه الرحمة، فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128].

    فهذه الرحمة هي التي جعلته يسامحهم ويعفو عنهم، ويستقبلهم بالوجه الذي عرفوه من الانبساط وحسن الخلق: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ[آل عمران:159]، قال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران:159]، هذه الرحمة التي في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الخلق الكريم، كان سر تأليف قلوب المؤمنين واجتماع كلمتهم: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ[آل عمران:159]، كحال ملوك الدنيا وقادتها: لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران:159]؛ أي: لتفرقوا عنك.

    ثم أمره الله تعالى بأوامر عجيبة: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159]، ثلاثة أوامر متتالية، وكلها نابعة من هذا الموقف، فأعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ((فَاعْفُ عَنْهُمْ)) فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك المنهزمين، ولم يواجه أحدًا منهم بما يكره.

    ((وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)) فاستغفر لهم، فغفر الله لهم، ولم يؤاخذهم بفرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    فوائد الشورى

    (( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )) أي: في الأمور المستقبلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور الناس في الأمر كله. وهذه الشورى هي خلق كريم يتعود عليه الإنسان، وفيه عشر فوائد مطلوبة، يحسن تحققها:

    الطاعة لأمر الله

    فالفائدة الأولى: أنها طاعة لأمر الله في قوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159]، ولقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38].

    التخلق بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم

    والفائدة الثانية: أنها تخلق بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع لسنته فهكذا كان يفعل.

    الانتصار على النفس

    والفائدة الثالثة: أنها انتصار على النفس، فالإنسان الذي يشاور غيره ينتصر على نفسه؛ لأنه أقر بالنقص، فهو يطلب الزيادة من غيره، أما الإنسان الذي لا يشاور أحدًا، فمعناه أنه يظن الكمال لنفسه، وبذلك قد انتصرت عليه نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.

    ومن هنا على الإنسان أن يطلب الخير من كل أحد، وأن يستشيره، وأن يلتمس منه الرأي، فهذا انتصار على نفسه هو، وغلبة عليها، حين عرَّف نفسه أنها يمكن أن يخفى عليها بعض الأمر، ويمكن أن يستر عنها بعض الأمور.

    عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء.

    الجبر للقلوب

    والفائدة الرابعة: أنها أيضًا جبر للقلوب، فإذا حصل خلاف بين الناس فإن من علاجه المشورة، من غضب عليك، أو هجرك، أو كان بينك وبينه شحناء، إذا شاورته في أمورك فإن ذلك سيزيل الضغينة بالكلية، فمشاورته في الأمر تزيل ضغينته.

    سبب لامتثال الأمر

    كذلك من فوائدها: أنها أيضًا سبب لامتثال الأمر، فالذين شوِّروا عند اتخاذ القرار، لم يستبد عليهم به، فلابد أن يسعوا لتنفيذه؛ لأنه لم يتخذ عليهم عنوة، وإنما شاركوا في اتخاذه، فمروءتهم تقتضي منهم أن ينفذوه؛ لأنهم لم يجبروا عليه، بل قد أشار بعضهم به، وحصل الاتفاق عليه.

    سبب للوصول إلى الصواب

    كذلك من فوائد الشورى: أنها أيضًا سبب للوصول إلى الصواب، فإذا تزاحمت العقول خرج الصواب، فعقول الناس متفاوتة، والرأي يحجبه الشيء اليسير؛ فلذلك قد يخفى الرأي عن الإنسان، فإذا شاور اطلع على الصواب، وكم من إنسان عاقل أشار عليه من دونه برأي فعدل إليه ورآه صوابًا.

    ولذلك فإن عامر بن الظرب كان من أعقل العرب في الجاهلية، وكانوا يتحاكمون إليه في خلافاتهم ومشكلاتهم، وكانت له أمة سوداء غير مشهورة بعقل ولا تدبير، وكان في عقلها خفة، فجاءه قوم يسألون عن ميراث الخنثى، فاستشكل ذلك ولم يعرفه، فبات ليلته ساهرًا يفكر في حل هذه المعضلة، فرأته هذه الأمة واسمها سخيلة، فقالت: ما الذي يسهرك؟ قال: ليس يعنيك. قالت: وما هو؟ قال: ميراث الخنثى. قالت: يا سيدي، أتبع المال المبال. فقال: فرجتها سخيلة. فأرسلها مثلًا.

    ولذلك قال محمد مولود رحمه الله:

    لكن تطفلًا على سخيلة فكم وكم من عامر في بلدي وعامر لمثله لم يهتد

    قطع للندم عند الإخفاق

    ثم بعد هذا: الفائدة السابعة من فوائد الشورى: أنها أيضًا قطع للندم عند الإخفاق، فإذا اتخذت قرارًا فكان غير مصيب، وكنت قد شاورت قبله، فإنك لا تندم؛ لأنك لم تتخذ القرار من عند نفسك، بل شاورت الآخرين فيه، وبذلك لن تندم على الإخفاق فيه.

    كذلك هذه تعزية عند حصول المصيبة في الإخفاق، وقد قال الحكيم:

    فلابد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع

    فمجرد التوجع تسلية وتعزية.

    تعويد للمأمور على هذا الخلق

    كذلك الفائدة الثامنة من فوائد الشورى: أنها تعويد للمأمور على هذا الخلق، وإكساب له عليه؛ فالإنسان إذا كان يشاور أولاده في أمره، إذا مات وترك أولاده، فقد أكسبهم خلقًا كريمًا وهو المشورة، فسيشاورون، يتعودون على الشورى، وإذا كان يستبد عنهم في الأمر، فقد عودهم على الاستبداد.

    وكذلك كل رئيس إذا كان يستشير الناس في الأمر، ولا يستبد عليهم به، فهذا خلق كريم قد عودهم إياه، فمن ترأس منهم في المستقبل، لم يستبد دونه هو أيضًا وسيشاوره.

    المشاركة في الأجر

    كذلك فإن الشورى أيضًا إشراك في الأجر، هذه الفائدة التاسعة: فهي إشراك في الأجر؛ لأن الإنسان الذي أعمل عقله، ولو لم يصل إلى الصواب في الرأي، على الأقل شارك في التفكير في الموضوع، فيكون مأجورًا فيه، وكل عمل مشترك- كل عمل جماعي- القائم فيه والنائم مشتركان في الأجر.

    فالعمل الجماعي المشترك بمثابة الشجرة الواحدة إذا تحرك منها غصن تحرك سائر أغصانها؛ ولهذا فأهله شركاء في الأجر إذا استشير بعضهم فيه، ففكر فيه ولو لم يصل إلى أي رأي، مجرد ذلك التفكير، يكتب له الأجر به، فيكون مشاركًا فيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على إشراك الناس في الأجر، فقد كان يقول: (إني لأُؤخِّر الأمر أريد أن أصنعه، رجاء أن يشفع فيه)، وكان يقول: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء).

    فكل ذلك من إشراك المستشار في الأجر.

    بعث الثقة في نفس المشاور

    كذلك الفائدة العاشرة: أن الشورى بعث للثقة في نفس المشاور؛ فالذي يستشار ولو كان طفلًا صغيرًا، قد بعثت في نفسه شخصيةً، وقويت شخصيته، وجعلته محلًّا للثقة، وهذا يقتضي منه العناية بنفسه في المستقبل؛ لأنه أصبح محلًّا لأن يستشار، وبذلك أعنته على تجاوز العقبات والعراقيل؛ لأنه أصبح ينظر إلى نفسه على أنه مستشار، والمستشار مؤتمن، وأصبح ذا مكانة حين يشاور في الأمر.

    فهذه عشر فوائد في الشورى، وكلها تدل على أن كل ما يأمر الله به في كتابه فهو مصلحة البشر؛ فلذلك قال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159]، والأمر هنا (أل) التي فيه جنسية، والمقصود به: الأمر الذي يعني الناس، فالأمر المشترك لابد من مشورة الناس فيه، الأمر العام لا يمكن أن يتخذ فيه القرار الفردي، بخلاف أمر الإنسان في خاصة نفسه، هل ينام الآن أو يستيقظ؟ هذا هو بالخيار أن يشاور فيه، أو لا يشاور؛ لأن الأمر مختص به، لكن اتخاذ القرارات التي يتعلق بها نفع أو ضرر على الناس لابد من أخذ رأيهم فيها.

    1.   

    استخارة الله عند التردد في الأمر

    ثم قال: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[آل عمران:159]، من المعلوم أن الشورى إذا حصلت، قد لا تأتي برأي واحد مجمع عليه؛ فقد يشير هذا برأي، وهذا برأي، وهذا برأي آخر، فتقع الآراء المتباينة المختلفة، فماذا يعمل الإنسان حينئذ؟

    حينئذٍ إذا شك وتردد بين الأمرين فالحل هو الاستخارة، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتوضأ الإنسان، ويصلي ركعتين من غير الفريضة، ثم يقول هذا الدعاء: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر- ويسميه باسمه- خير لي في ديني، ودنياي، وعاجل أمري وآجله، فاقدُرْه لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر- ويسميه باسمه- شر لي في ديني، ودنياي، وعاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به).

    1.   

    ضوابط المبادرة بالأعمال

    وبهذا يكون قد أرجع الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، فيختار الله له ما هو الخير، فإذا عزم على أحد الآراء فقد عزم الله له، وحينئذٍ لابد من المبادرة، وبهذا يعلم أن القرار له وقتان: وقت اتخاذ، ووقت تنفيذ، فوقت الاتخاذ لابد فيه من الشورى، ووقت التنفيذ لابد فيه من الحزم، والتقيد بنصية القرار؛ فلذلك قال: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[آل عمران:159]؛ أي: امض لشأنك وما عزمت عليه، ولا تكن من المترددين.

    ويؤخذ من هذا عدد من الدروس العجيبة، فمنها: أن التردد، وعدم الأخذ بالعزيمة في الأمر، هو من شأن العاجزين؛ فالذي لا يتخذ قرارًا ويتهرب من اتخاذ القرارات، ويريد أن يكون مصيبًا في كل أمر، ولا يريد أن يسجل عليه خطأ أبدًا، هذا لا يمكن أن يعمل شيئًا.

    الذي يعمل، هو الذي يأتي بالمبادرات، فمنها المصيب، ومنها المخطئ، والمبادرات من الأمور التي ينبغي أن تشجع، وأن يعان عليها أصحابها، ولكن لابد أن يضبط ذلك بالضوابط الشرعية، فالمبادرة إما أن تكون سلبية، وإما أن تكون إيجابية، والفرق بينهما ثلاثة شروط، إذا تحققت هذه الشروط الثلاثة كانت المبادرة إيجابية، وإذا اختل شرط منها كانت المبادرة سلبية.

    موافقة المبادرة للتوجه العام

    فالشرط الأول من هذه الشروط: أن تكون المبادرة موافقة للتوجه العام، فإذا كانت المبادرة مخالفة للتوجه العام، والسياسة المتبعة، والخطة والاستراتيجية العامة، فهذه المبادرة غير إيجابية، لابد أن يتركها الإنسان، ومن أمثلتها: مبادرة حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قادم إليهم بما لا قبل لهم به.

    هذه المبادرة مخالفة للتوجه العام، وللخطة الاستراتيجية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم خذ الأسماع والأخبار عن قريش حتى نبغتها في عقر دارها)، وحاطب بن أبي بلتعة كتب إليهم بهذا الكتاب، فكان مبادرة منه، وكانت هذه المبادرة سلبية؛ لأنها جاءت على خلاف التوجه العام، والخطة والاستراتيجية المتبعة.

    عدم مخالفة المبادرة لأمر شرعي

    الشرط الثاني: ألا تكون مخالفة لأمر، فإذا أمر الإنسان بأمر، فبادر على خلاف الأمر، فالمبادرة سلبية قطعًا حتى لو ترتبت عليها فائدة، ومثال ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب أرسل حذيفة بن اليمان: ليأخذ له أخبار الأحزاب، وعممه بعمامته، وقال: (لا تحدث حدثًا حتى ترجع إليَّ)، لاحظوا أنه نهاه عن أن يحدث أي حدث حتى يرجع إليه، فذهب حذيفة، فدخل إليهم، فوجدهم قد هزموا بالريح الشديدة، والرعب الذي قذف الله في قلوبهم، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان قد قذف في قلبه الرعب تلك الليلة، وأنه سيسعى لهزيمة الأحزاب والرجوع بهم، فأتاهم، فجلسوا، فقرروا الانهزام والرجوع إلى مكة، فظنوا أنهم قد اخترقوا، وأن من بينهم من ليس منهم، فاتخذوا مبادرة فقالوا: ليمسك كل رجل من يليه ويسأله من هو، فبادر حذيفة، فكان أول المبادرين، فأمسك من عن يمينه، ومن عن شماله، فقال: هذا معاوية، وقال: هذا صفوان، وكان في وسط الحدث، في قلب المعركة مباشرة، عن يمينه معاوية بن أبي سفيان، وعن شماله صفوان بن أمية بن خلف، فكانت هذه المبادرة إيجابية؛ لأنها غير مخالفة للتوجه العام، وغير مخالفة لأمر، لكن المثال: هو أنهم لما انهزموا وقف حذيفة على أبي سفيان وهو يركب بعيره معقولًا لا ينزع عقاله من شدة الفزع، وقائم سيف حذيفة بيده، فهم أن يطير رأسه، هذه المبادرة لو فعلها لكانت سلبية، لماذا؟ لأنها مخالفة للأمر؛ فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحدث حدثًا حتى ترجع إلي)، فلو فعلها لكان بالإمكان أن يرجع المشركون عن قرارهم بالانهزام.

    دراسة عواقب المبادرة

    كذلك الشرط الثالث: أن تكون المبادرة مدروسة العواقب، معروفة العاقبة، فإذا كانت المبادرة مجهولة العاقبة، ولا يدرى ما يترتب عليها، وما يتوقف عليها، فهي مبادرة سلبية؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[الأنفال:68].

    فهذا توجيه لتلك المبادرة التي حصلت في أسرى بدر؛ فلهذا قال: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[آل عمران:159].

    ثم بين الله سبحانه وتعالى أمرًا عظيمًا، وهو محبته للمتوكلين عليه.

    1.   

    مواقف من خلق النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد

    كذلك من الفوائد المأخوذة من هذا الموقف: أن هذا الخلق الكريم الذي ربانا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نتحلى به جميعًا، وهو الصبر والصفح والحلم والأناة، فأنت -يا أخي- لن تخالط أحدًا إلا أحوجك على الصبر، أمك، أبوك، زوجك، جارك، أخوك، لن تخالط أحدًا منهم إلا وجدت منه كدرًا، فأحوجك إلى الصبر، وأولى من تصبر عليه إخوانك الذين تعرفهم في الصف في المسجد متطهرين متوضئين، لا تعرفهم إلا في إعلاء كلمة الله وقول الحق، فهم أولى من يصبر عليهم.

    الحرص على جمع كلمة المسلمين

    وكذلك من هذه الدروس: أن اجتماع كلمة المسلمين محمود مطلوب لا محالة؛ فلذلك قال الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران:159]، فدل هذا على أن الاجتماع مطلوب، وأن جمع الكلمة محبوب.

    عدم التذكير بالماضي المعفي عنه

    وكذلك من هذه الدروس التي تؤخذ من هذا الموقف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابلته لأولئك الذين انهزموا، لم يذكرهم بالماضي، فذلك من الجفاء، فذكر الجفاء في أيام الصفاء جفاء.

    فعلى الإنسان إذا حصل العفو والسماح ألا يتذكر شيئًا من الماضي الذي قد تجوّز وعفي عنه.

    وعلى هذا فتذكير الإنسان ببعض أخطائه الماضية ونشرها، وعرضها في حال الصفاء والسماح، ليس من الخلق الكريم؛ فالخلق الكريم يقتضي من الإنسان نسيان الزلات، أن ينساها بالكلية، وبذلك يقبل الأعذار، ويسامح في الزلات، ويصبر للإنسان على ما بدر منه؛ ليتجاوز الله عنه في مستقبل أيامه: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[آل عمران:159].

    هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى أنه يحب المتوكلين عليه، وهذا هو أعلى جائزة ينالها المخلوق، وهي محبة الخالق، فمن توكل على الله سبحانه وتعالى، كفاه ما أهمه، ومحبة الله تعالى للمتوكلين تقتضي أن يختار لهم الخير، وأن يوفقهم له، وهذا تحفيز للتوكل، وسعي له، بأن يبادر الإنسان إلى التوكل على الله سبحانه وتعالى في الأمر كله.

    1.   

    تعليق نتائج الأمور بما قضاه الله وأراده

    ويؤخذ من هذه الآية درس مهم، وهو أن العبرة ليست بالأسباب، ولا بما نأخذه نحن من الاحتياطات، ولا بما نقدره من التقادير، فالعبرة بما ينفذه الله تعالى وبما يقضيه؛ فلذلك لابد من التوكل عليه سبحانه وتعالى، ومعرفة أن الأمر كله بيده، وأن مصير كل شيء إليه، وأنه إليه تصير الأمور، وإذا توكل الإنسان عليه كفاه ما أهمه وما لا يهتم له، وتوكل الإنسان على الله سبحانه وتعالى يقتضي منه ألا يغلب وألا يهزم مطلقاً؛ لأن قوته ارتبطت بقوة الخالق القوي العزيز، ولم يعد متعززًا بشيء من قوى أهل الدنيا، فقوة أهل الدنيا لا تساوي شيئًا من قدرة الله سبحانه وتعالى وقوته، وبهذا تنهزم أمامه قوى الدنيا كلها عندما يتصل بقوة الله سبحانه وتعالى ويتوكل عليه في أمره كله.

    ولهذا انتصر إبراهيم على قومه وقد رموه بالمنجنيق في النار، فقال إبراهيم عليه السلام: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[الأنبياء:69]، فأعتى ما لدى أهل الدنيا من القوى إذ ذاك هو النار، وأبلغ عقاب يمكن أن يعاقبوا به إنسانًا أن يرموه في النار، وأبلغ عذاب أو سجن يمكن أن يعذب به إنسان أن يرمى في النار، وبالأخص إذا كان يرمى فيها من بعيد بالمنجنيق وسيقع فيها على وجهه، فهذا عقاب لا يمكن أن تتعداه البشرية في العقاب، لكن قال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل، فتوكل على الله، فكفاه الله هذه النار، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[الأنبياء:69].

    وهذا الموقف يتكرر دائمًا، فكل من توكل على الله، وصدق ما عاهد الله عليه، فإن الله سيكفيه ما أهمه وما لا يهتم له.

    نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765744545