الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقال الحسن: (وشذ منه خمسة وعشرون، اثنا عشر منها بوجهين، وثلاثة عشر بالكسر فقط، فصلها الناظم و الحضرمي بقولهما:
وجهان فيه من احسب مع وغرت وحر أنعم بئست يئست اوله يبس وهلا
يقول: إن (فَعِل) بالكسر، لا بقيد كونه مضاعفاً مدغماً، بل (فعِل) بالكسر مطلقاً، شذ عن القاعدة التي ذكرناها في مضارعه، قد ذكرنا أن مضارعه بالفتح إلا ما شذ، وهذا الشاذ خمسة وعشرون فعلاً، اثنا عشر فعلاً منها بوجهين، وثلاثة عشر بالكسر فقط، الوجهين: الفتح القياسي، والكسر الشاذ، وثلاثة عشر بالكسر فقط شاذ، فصلها الناظم و الحضرمي، الناظم هو: ابن مالك، و الحضرمي هو: شارح اللامية، (بقولهما)؛ أي: بقول كل واحد منهما، ليس هذا قولاً مما اشتركا فيه، والبيت لـابن مالك:
وجهان فيه من احسب مع وغرت وحر أنعم بئست يئست اوله يبس وهلا
(وجهان فيه)؛ أي: في مضارعه، إذا صيغ من (احسِب)، وهو أمر من (حَسِبَ)؛ أي: ظن، فتقول فيه: (يحسِب) و (يحسَب)، (يحسِب): على القياس و (يحسَب): على الشذوذ، حُسباناً بالضم، وفيه: حِسباناً بالكسر أيضاً، والكسر أفصح، الكسر أفصح في المضارع، تقول فيه: (يحسِب) فهو أفصح من (يحسَب)؛ لأنه لغة أهل الحجاز، (وبه القراءة): يقصد قراءة نافع، ولا يقصد قراءة كل القراء، فقراءة نافع: (أيحسِب الإنسان أن لن نجمع عظامه)، (أم يحسِبون أن لا نسمع سرهم ونجواهم) في كل القرآن.
أما قراءة الكوفيين بالفتح: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة:3]، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف:80].
الكسر أفصح في المضارع، هنا أقواس ساقطة؛ لأنه أضاف أشياء ليست من الطرة، كلام الطرة أمر من (حسِب)؛ أي: ظن حسباناً، والكسر أفصح.
كذلك قوله: (مع وغرت) فهي من (وَغِرَ) (فَعِل) بالكسر أيضاً، فكان القياس أن يقال في مضارعها: (تَغِرُّ) بالكسر، وتحذف الواو؛ لأنها تقع بين عدوتيها: بين الكسرة والياء، (يغِر).
فأمر أو مضارع منك وعد احذف وفيك عدة ذاك الطلب
فيحذف في الأمر وفي المضارع، لكنه (توغَر) فيه القياس، لكن سمع فيه (تغِر)، فيحذف في الأمر وفي المضارع؛ فالفتح هو القياس، والكسر هو الشاذ، قال: (تغِر) و(توغر)، (توغر): هي القياس، و (تغِر): على الشذوذ، (وَغْراً) و(وَغَراً) محركة، (وغْراً): هذا المصدر، و(وَغَراً) محركة: مصدر آخر، فأنت وغِر، هذا الوصف، بمعنى: توقد غيظك، ومعناه: اشتد غيظك، ومنه قول الشاعر وهو ضرار بن الخطاب رضي الله عنه، شاعر قريش، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قصيدته التي مطلعها:
يا نبي الهدى إليك لجا حي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهمُ سعة الأ رض وعاداهمُ إله السماء
والتقت حلقتا البطان على الـ ـقوم ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعداً يريد قاصمة الـ ظهر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الـ ـغيظ رمانا بالنسر والعَوَّاء
وغر الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء
إذ ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الـ ـخزرج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء
فانهينه فإنه أسد الأسد لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الـ أمر سكوتاً كالحية الصماء
وبسبب هذا عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً عن قيادة الجيش، وولى مكانه ابنه قيس بن سعد بن عبادة بن دليم رضي الله عنه، وقد أدى قيس المهمة على أحسن الوجوه.
فقوله: (وغر الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء)، (وغر الصدر)؛ أي: شديد الغيظ.
نعم، لا شك أن المسلمين قد اشتد غضبهم على قريش - على المشركين- لأنهم أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآذوه، وقتلوا أصحابه، عزله رسول الله صلى الله عليه وسلم رفقاً بقريش ورحمة بهم؛ لأنه نبي الرحمة، ولم يعزله عزلاً فيه نقص؛ لأنه ولى ابنه مكانه، هذه زيادة لمنزلة سعد.
كذلك (وحِر)، فهي (فعِل) بالكسر؛ فمضارعها قياسه (يَوحَر) بالفتح، وسمع فيه (يحِر) بالكسر، (وحْراً) و(وَحَراً) محركة، بمعنى: حقد، والوحِر، معناه: الحاقد، ومنه قول الشنفرى في لامية العرب:
دعست على غطش وبغش وصحبتي سعار وإرزيز ووحر وأثكل
(دعست)، معناه: طعنت، (على غطف) معناه: ظلام، (وبغش) بمعنى: برد، (وصحبتي سعار)؛ أي: حزن، (وإرزيز)؛ أي: ريح شديدة الهبوب، (ووحر)؛ أي: حقد، و(أثكل)؛ أي: رعدة، الوحر: الحقد، والأثكل: الرعدة، ومحل الاستشهاد هنا، هو قوله: (وحر)، مصدر (وَحِرَ)، فالغطش: الظلمة، والبغش: يطلق على البرد، ويطلق على المطر الخفيف، والسعار: الحر، المقصود به: حر الصدر، لا حر الجو؛ لأنه يطلق أيضاً على الجنون، وعلى الجوع، و(الإرزيز): الصقيع والبرد، و(الوحر)، معناه: شدة الحقدية والعداوة، و(الأثكل): هو الرعدة.
كذلك قوله: (انعَم): أمر من نعِم، فهي (فَعِل) بالكسر، ومضارعها قياسه بالفتح، تقول فيه: (تنعَم)، وسمع فيه الفتح، لكن سمع فيه الكسر أيضاً، تقول فيه: (تنعِم) بالكسر، أمر من (نعِم، نَعمة) بالفتح، معناه: حسنت حاله، ومنه قول الله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل:11]، معناها: أولي حسن الحال؛ أي: أولي الميسرة والبذخ والترف.
كذلك (بئِس) فهي (فعِل) بالكسر، مضارعها قياسه بالفتح (يبأَس)، وسمع فيه الفتح، كما سمع فيه الكسر الشاذ، فتقول فيه: (يبأَس) و (يبئِس)، بُؤساً: هي المصدر، و بُوسَا: مصدر آخر، فهو بائس، هذا الوصف منها، ومنه قول الله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، فسر البائس بالفقير؛ لأن البائس، معناه: الذي ساء حاله، البؤس: سوء الحال، تطلق على الفقر، وكذلك (يئِس): فهي (فَعِل) بالكسر، مضارعها قياسه في الفتح، قياسه أن يقال: (ييأسَ)، وسمع فيها (ييئِس) شاذة، واليأس هو مصدرها، فهو يائس، هذا الوصف منها، والفتح أفصح، (ييأَس): أفصح من (ييئِس)، وبه القراءة، وهي قوله تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، وقد اتقف القراء عليه في هذه الآية.
وقوله: (اوله): فعل أمر من (وَلِه، ولهاً)، فهي (فَعِل) بالكسر، مضارعها قياسه الفتح، قياسه أن يقال: (يَوْلَه)، وسمعت، كما سمع الكسر الشاذ (يلِه)، فهو: واله وولهان، وكلاهما بمعنى: ذاهب العقل؛ أي: لفقد المحبوب، يقال: (يولَه) ويقال: (يلِه).
(يبِس) وسكنها للضرورة، قال: (يبس وهلا): فهي أيضاً (فَعِل) بالكسر، وقياس مضارعها الفتح، أن يقال: (ييبَس)، وسمع كما سمع الكسر الشاذ (ييبِس)، فهو يابس، هذا وصف من أوصافها، أوصافها متعددة، فيقال: يابس، ويقال: يبْس، ويقال: يبَسٌ، ويقال: يَبِيسٌ، هذه أربعة أوصاف، أما اليَبَسُ، فمنه قول الله تعالى: طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه:77]، وأما اليَبْسُ فمنه قول الشاعر:
أجاعلة أم السوير خزاية علي فراري أن لقيت بني عبسِ
لقيت أبا عوف وعوفاً ومالكاً وعمراً فجاشت من لقائهمُ نفسي
لقونا فضموا جانبينا بصادق من الضرب فعل النار بالحطب اليبس
وليس فرار اليوم عاراً على الفتى إذا عُلمت منه الشجاعة بالأمس
قال:
لقونا فضموا جانبينا بصادق من الضرب فعل النار بالحطب اليبس
هذا (اليبْس) بالإسكان، وأما (اليبيس) فمنه قوله:
إذا فضت خواتمه علاه يبيس القمحان من المدام
يصف الخمر المعتقة التي مكثت زماناً وهي مختومة، فإذا فضت خواتمها، ارتفع فوقها اليبيس منها، يقول:
كأن مشعشعاً من خمر بصرى نمته البخت مشدود الختام
إذا فضت خواتمه علاه يبيس القمحان من المدام
القمحان: الذرات الصغيرة من العنب التي تتركز في الخمر.
وأما اليابس، فمنه قول الله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].
وهذه وضحها أحدهم بهذه الأبيات، مع أن في الأبيات خللاً في القافية، حيث قال:
كقاطن وكتف وبطل واللفظ ما من يبس اسم فاعل
وكظريف كل ذا في المجد إن شئته تجده دون جحل
(المجدِ)، أي: القاموس، القاموس المجدي للفيروزآبادي، (قاطن): على وزن فاعل، و(كتف)؛ أي: يابس، ويَبِس، ويَبَسٌ، ويَبْس، وهي على وزن اللفظ، و يبيس، فزاد واحداً، وهو ما كان على وزن يَبِس، (فَعِل) ككتف.
كذلك (وَهِل) فهي (فَعِل) بالكسر أيضاً، فمضارعها قياسه: (يوهَل)، وسمع، كما سمع الكسر الشاذ فيه، فتقول: (يَهِل وهلاً): هي المصدر، فهو وهِل، هذا الوصف، وتفسيرها: فزِع، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :
ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
علقتها عرضاً وعلقت رجلاً غيري وعلق أخرى ذلك الرجل
وعلقته فتاة ما تلائمه ومن بني عمها ميت بها وهل
وعلقتني أخيرى ما تلائمني فاجتمع الحب حبًّا كله تبل
هذا قوله:
وعلقته فتاة ما تلائمه ومن بني عمها ميت بها وهل
(وهِل)؛ أي: فزع، والمقصود بذلك متعلق القلب به.
وعن الشيء، وفيه: نسيه وغلط، (وهِل عن الشيء) معناه: نسيه، و(وهل في الشيء) معناه: غلط فيه، فـ(وَهِل) تستعمل ثلاثة استعمالات، تستعمل لازمة: (وهِل) بمعنى: حزِن أو فزِع، وتستعمل معداة بفي: (وهل في الشيء) معناه: غلط فيه، وتستعمل معداة بعن: (وهل عن الشيء) بمعنى: نسيه وذهل عنه.
هذا الذي ذكره ابن مالك من الشاذ في الوجهين.
وأضاف عليه الحضرمي قوله:
ومثل يحسب ذي وجهين من فعل يلغ يبق تحم الحبلى اشتهت أكلا
وفي الرواية الأخرى:
ومثل يحسب ذا وجهين من فعل يلغ يبق تحم الحبلى اشتهت أكلا
(ذا وجهين) بدون (أل)، (ومثل يحسِب) حال كونه (ذا وجهين من فعل).
(يلغ)، معناه: و(يلغ) مثل (يحسِب) حال كونه ذا وجهين من (فعِل) بالكسر، أسكن (يلغ) و (يبق) للضرورة فقط، فـ(وَلِغ الكلب) (فعِل) بالكسر، قياسها: (يلَغ)، (يَوْلَغ) سمع فيها، وسمع فيها (يلِغ) بالكسر أيضاً، شاذ، ولوغاً: هذا المصدر، فهو والغ، هذا الوصف، ومنه قول الشاعر:
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )، إذا ولغ الكلب، ولِغ الكلب، ورُويَ فيها الفتح.
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
لأنها تحتقرها وتزدريها، شمت رائحة ولوغ الكلاب فيها.
فالكلاب فيها ضرر غريب حتى على الأسود؛ فلذلك حرم الشارع ذلك، وهذا البيت ضرب به الرجل مثلاً؛ لأنه هو كان يريد تزوج امرأة قد تزوجها رجل آخر وطلقها، لكن هذا الرجل هو لا يراه كفئاً له؛ فضرب لذلك المثل بهذا:
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
قال على عكس ما قال الأحوص:
كأن المالكين نكاح سلمى غداة نكاحها مطراً نيام
فطلقها فلست لها بكفءٍ وإلا يعل مرفقك الحسام
سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر سلام
والأحوص من شعراء الإسلام، من ذرية عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح .
كذلك (وبق) بمعنى: هلك، فهي (فَعِل) بالكسر، قياس مضارعها (يَوبَق)، وسمعت، وسمع معها (يبقِ) شاذة، بمعنى: هلك، ومصدرها: وبوقاً، (وبِق، وبوقاً) بمعنى: هلك، وأوبقه، بمعنى: أهلكه، هذه معداة بالهمزة، ومنه: الموبقات، الموبقات معناه: كبائر الإثم؛ لأنها تهلك صاحبها، وهذه الأبيات في نظم الموبقات، الموبقات التي هي في مسلم رويت، في الواقع أنها ليست في مسلم وحده، لكن في الصحيحين.
فهذا البيت
جمع الموبقات كلها، نسأل الله السلامة والعافية!
شرك وسحر وقذف والفرار رباً مال اليتيم وقتل النفس سابعها
والفرار - يعني من الزحف-
كذلك (وحمت الحبلى)، فهي (فعِل) بالكسر، قياس مضارعها أن يقال: (توحَم)، وسُمع (تحِم) أيضاً، شاذ، بمعنى: اشتهت أكلاً، (اشتهت أكلاً): جمع أكلة بالضم، وهي اللقمة أو القرصة، أو أي شيء تشتهيه الحبلى، تقول فيها: وحماً، هذا المصدر، ووِحاماً بالكسر، أو وَحَماً أيضاً: في الطرة بالكسر، لكن هو ذكر هنا الفتح، وهو لغة صحيحة، بالفتح والكسر، لكن فيه خطأ مطبعي، ومنه قول لبيد رضي الله عنه في معلقته:
يعلو بها حدب الإكام مسحّج قد رابه عصيانها ووحامها
يصف الحمر الوحشية، فإن فحلها يعلو بها حدب الإكام، (الحدب): الأكم الصغيرة التي هي دون الجبال، و(الإكام): جمع أكمة، (مسحّج) معناه: معضض من كل مكان؛ لأنها تعضه من كل مكان، أو تعضه الفحول الأخرى، (قد رابه عصيانها)، (رابه) معناه: ارتاب من أجل عصيانها، كانت مطيعة له قبل أن تحمل، فلما حملت أصبحت تعصيه، (قد رابه عصيانها ووحامها)؛ أي: عَرَض من أعراض الحمل.
(وهي وحمى كسكرى)، (هي)؛ أي: المؤنثة الحامل تسمى: وحمى، (كسكرى): هذا وزنها، ومنه قول الشاعر:
أصبحت عاذلتي معتلة قرمت بل هي وحماء للصخب
(أصبحت عاذلتي) معناه: التي تعذلني وتنهاني عن الأمور، (معتلة) معناه: مريضة، (قرمت) معناه: جاعت، (بل هي وحماء للصخب): إعراض على ذلك، معناه: لم تجع، (وإنما هي وحماء للصخب): تريد الصخب فقط، تشتهي الصخب.
وأفرد الكسر فيما من ورث وولي ورم ورعت ومقت مع وفقت حلا
انتهينا من الأفعال التي في مضارعها وجهان: الفتح المقيس، والكسر الشاذ، ووصلنا إلى الأفعال التي ليس في مضارعها إلا الكسر الشاذ على سبيل الحصر.
قال ابن مالك: (وأفرد الكسر فيما من (ورث) و(ولي).
(وأفرد الكسر فيما جلا) معناه: ما ظهر؛ أي: المضارع الذي جلا؛ أي: ظهر من هذه الأفعال التي هي (ورِث)، فهي (فعِل) بالكسر، ومضارعها (يرث) شاذاً، ولا يقال فيها: (يورَث)، إرثاً: هذا المصدر، ووراثة بكسرهما مصدر آخر أيضاً، تقول فيها: يرث: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40]، (نرث): هذا المضارع.
كذلك (ولِي): فهي (فَعِل) بالكسر، قياس مضارعها الفتح، أن يقال فيها: (يولَى)، ولم يسمع ذلك، وإنما سمع (يلي) فقط، (ولي الأمر، يليه، وَلاية ووِلاية بالفتح والكسر، فهو وال، وبهما قرئ: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ [الكهف:44]، أو الوِلاية: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ [الأنفال:72]، (ما لكم من وِلايتهم)، (بهما)؛ أي: بالفتح والكسر.
(ورِمْ)، كذلك (ورِمَ)، وأسكنها للضرورة، فهي (فَعِلَ) بالكسر، قياس مضارعها الفتح، أن يقال: (يورم)، ولم تسمع، وإنما سمع فيها الكسر (يرِم)، (وَرِم الجرح، يرِم)، بمعنى: انتفخ، ومصدرها: الورم، (وَرَماً).
كذلك (وَرِع)، بمعنى: اتقى الشبهات (وَرَعاً)، فهو وَرِع، فإنها (فَعِل) بالكسر، قياس مضارعها أن يقال: (يورَع)، ولم تسمع، وإنما سمع (يرِع)، (فَعِلَ) بالكسر على القياس، و(يَهِمُ) أيضاً، بالنسبة للوهم: هو التوهم، وهو درجة من درجات العلم، وأما الوهَم فهو: الغلط، الوهَم بالتحريك: الغلط، (وَرَعاً) هذا المصدر، (ورِعَة) مصدر آخر، فأنت وَرِع، هذا الوصف، ومعناه: اتقيتَ الشبهات.
كذلك (وَمِقَ)، فهي (فَعِلَ) بالكسر، قياس مضارعها أن يقال: (يومَق)، ولم يسمع، وإنما سمع (يمِق)، قال: (ومقتَ، ومقاً)، هي المصدر، و(مقة) مصدر آخر، فأنت وامق، هذا الوصف معناه: محب أو عاشق، ومنه قول الشاعر:
لولا اصطبار لأودى كل ذي مقة لما استقلت مطاياهن بالظُّعُن
(لولا اصطبار) معناه: تحمل الصبر، (لأودى) معناه: لمات، (كل ذي مقة)، معناه: كل ذي عشق، (لما استقلت مطاياهن بالظعن): لما استقلت مطايا الظعن بالظعن، والظعن: جمع ظعينة، وفي البيت رواية أخرى، وهي:
لولا اصطبار لأودى كل ذي مقة لما استقلت مطاياهن للظَّعَن
باللام بدل الباء، و (الظَّعَن) بالفتح؛ لأن الظعن الانتقال.
(مع (وَفِقْت)): كذلك من (فَعِل) بالكسر (وفِق)، فقياس مضارعه أن يقال: (يوفَق)، ولم يسمع، وإنما سمع (يفِق)، من (وفِق الفرس، يفق) معناه: حسُن.
هذا الذي ذكره ابن مالك وابنه، والذي في القاموس والمصباح: (وفقت أمرك، تفقه)، معناه: صادفته موافقاً، ولا مشاحة بين الأمرين، فهو فعل واحد، يرد بمعنى: الحسن، ويرد بمعنى: الموافقة، وكلها (فَعِل) بالكسر، والمضارع بالكسر أيضاً على الشذوذ.
أما قوله: (جلا)، فإما أن يكون بالجيم، فيكون ماضياً، فعل ماضي، فيكون صلة لـ(ما)، فيكون معنى البيت: وأفرد الكسر فيما جلا، من (ورث) و(ولي) و(رم) و(رعت) و(مقت) مع (وفِقت)، أو أن يكون بالحاء، سواء كان مضموماً أو مكسوراً، فإن كان مضموماً يكون المعنى: وفقت حُلاً، من (وفِق) بمعنى: حسُن، (حلاً): جمع حلية، والحلية مناسبة للحسن، أو أن يكون (حَلَا)، معناه: حلا في أفواه العرب، فتكون بمثابة جلا، فكأنه قال: فيما حلا من (ورث) و(ولي)، فتكون صلة أيضاً.
(حلا): جمع حلية أيضاً، سواء كان مضموماً، أو مكسوراً، أو مفتوحاً، هذا الذي ذكره ابن مالك.
زاد الحضرمي بقية الأفعال، فقال:
وخمسةٍ كيرث بالكسر وهي وجد وقه له ووكم ورك وعق عجلا
قال: (وأفرد الكسر فيما)، في خمسة، وأفرد الكسر في خمسة أيضاً، كـ(يرث)، فـ(خمسة) معطوفة على (ما) في قول ابن مالك: (فيما من ورثْ)، (في خمسة) معناه: في خمسة أفعال، (كـ(يرث)): فهي كـ(يرثُ)، وأسكن هنا للضرورة، قال: (كيرث)، ما هي هذه الخمسة؟ وهي: (وجِد)، (وجِد به) بمعنى: أحبه، فهي (فَعِل) بالكسر، وقياس مضارعها أن يقال: (يَوْجَد)، وإنما سمع فيها الكسر (يجِد)، يقال: وجد به، بمعنى: أحبه، ووجِد عليه، معناه: حزن، حبه
وظاهر القاموس أن فيها (يجُود) بالضم أيضاً، فتكون مما لا نظير له؛ لأنه لا يوجد في (فَعِل) بالكسر ما مضارعه بالضم غير هذه الكلمة وحدها، لا نظير لها، فمن الأول قول الشاعر:
(وَجْدي بجمل على أني أجمجمه): وجدي بالفتح.
وجْدي بجمل على أني أجمجمه وجد السقيم ببرء بعد إدناف
(وجدي بجمل) معناه: حبي لجمل، (على أني أجمجمه) معناه: أكتمه، و(جمل): اسم امرأة، وهي عَلَم من أعلام النساء.
(على أني أجمجمه وجد السقيم ببرء بعد إدناف) معناه: مثل حب السقيم؛ أي: المريض، (لبرء بعد إدناف) معناه: بعد إشراف على الموت.
وأما (وجِد) بمعنى: حزن، فمنه قول الشاعر:
فما وجِدت على إلف أفارقه وجدي عليك وقد فارقت ألافا
(فما وجدت) معناه: ما حزنت، (على إلف) معناه: مألوف، والمقصود به: الصاحب والخليل، (أفارقه) معناه: قد فارقته، (وَجَدي) بفتح أيضاً، والضم خطأ، الموجود هنا، (عليك وقد فارقت ألافاً) معناه: فارقت عدداً من الألاف الذين آلفهم ويألفونني.
(وَقِهْ له): كذلك (وَقِهَ) له، وأسكنها أيضاً للضرورة، (يَقِهُ) بمعنى: أطاع، فهي (فَعِلَ) بالكسر، قياس مضارعها أن يقال: (يَوْقَه)، وإنما سمع فيها الكسر، فيقال: (يَقِهُ) بمعنى: أطاع.
و(وَكِم): كذلك سكنها للضرورة، وهي (وكِمَ) (فَعِلَ) بالكسر، بمعنى: اغتم واكترب، قياس مضارعها أن يقال: (يَوْكَم)، ولم تسمع، وإنما سمع (يكِم وَكَماً): وهو الغم والكرب، نسأل الله السلامة والعافية!
كذلك (وَرِكَ)، وأسكنها للضرورة أيضاً، قال: (وَرِكْ): وهي (فَعِل) بالكسر، وقياس مضارعها أن يقال: (يورَك)، ولم يسمع، وإنما سمع (يرِك)، ومعناها: اضطجع على وركيه، أو جلس عليهما، (تورَّك).
كذلك (وعِق) بمعنى: عجل، وسكنها للضرورة أيضاً، فهي (فَعِل) بالكسر، وقياس مضارعها أن يقال: (توعَق)، (يوعَق)، ولم تسمع، وإنما سمع (يعِق)، قال: فهي أفعال ماضية سكنت ضرورة كما في (يَبِسْ)، وفي قول ابن مالك : (يَبِسْ وَهِلا)، وبقي عليه (وهِم، يهم)، لكن لدينا قاعدة هنا: أن كل ما انفرد بالكسر من الأفعال التي ذكرناها فهو واوي الفاء، كل هذه الأفعال التي هي من (فَعِلَ) بالكسر، ومضارعها شاذ بالكسر واوية الفاء، هذه الأخيرة، (وَرِثَ)، و(ولِي)، و(ورِم)، و(وَرِع)، و(ومِق)، و(وفِق)، و(وجِد)، و(وَقِهَ)، و(وكِم)، و(ورِك)، و(وعِق).
هذه الثلاثة عشر التي بالكسر فقط، كلها واوية الفاء؛ لأنه قال: وأفرد الكسر فيما من ورثْ، وولِي، ورم، ورعت، ومقت مع وفقت جلا، وخمسة كيرِث بالكسر، وهي: وجِد، وقِه له، ووَكِم، ورك، وعق، عجلا، وثِقتَ مع وَرِيَ المخ فستأتيان، ويضاف إليها (وهِم) أيضاً، فتكون الجميع أربعة عشر فعلاً، وكلها واوية الفاء.
وأما الذي هو بوجهين، فمنه: ما هو واوي الفاء، ومنه: ما ليس كذلك؛ لأنه قال: (وجهان فيه من احسب)، فهي غير واوية، (مع وغرت): هذه واوية، و(حرت) كذلك واوية، (مع وغرت وحِرْت...)، (نَعِمَ) ليست واوية، وكذلك (بئِس) ليست واوية، و(يئِس) ليست واوية، لكن (وله) واوية، و(وهل) كذلك واوية، و(ولغ) واوية، و(وبق) واوية، و(وحمت الحبلى) واوية، فهذه ثلاثة هنا في قول الحضرمي، وأربعة في قول ابن مالك، فالجميع سبعة، السبعة من أحد عشر كلها ماضية تسكن للضرورة، لكن الذي نريده هنا أن نجعل قاعدة لـ(فَعِل) بالكسر؛ لأنها إذا كانت واوية الفاء، فيكثر الكسر في مضارعها إما منفرداً، وإما مشروكاً.
وثقت مع وري المخ احوها وأدم كسراً لعين مضارعٍ يلي فعلا
كذلك من (فَعِلَ) بالكسر (وثِق به)، (يثِق)، ثقة، وموثقاً، فهو واثق به، معناه: ائتمنه واعتمد عليه، فقياس مضارعها أن يقال: (يوثَق)، ولم تسمع، وإنما سمع (يثِق) فقط.
وكذلك (ورِي المخ)، (مع وري المخ)، (معْ) بالإسكان، (وري المخ)، بمعنى: كثر، وري المخ، بمعنى: كثر، فهي (فَعِل) بالكسر، قياس مضارعها أن يقال: (يورَى)، ولم تسمع، وإنما سمع (يرِي)، لا الزند: لا ورِي الزند، بمعنى: كثرت ناره؛ لأن الحضرمي ذكر فيه: (وري، يورَى) كـ(رضي، يرضى)، و(ورى، يري) كـ(رمى، يرمي)، فيكون من ذي الوجهين، فكان ينبغي أن يذكر مع ذي الوجهين، وذكر فيه لغة مركبة بينهما، وهي (ورِي، يرِي) بكسرهما معاً.
وهذه ينبغي أن تكون هنا مع المكسور، والتي تعنينا هنا (ورِي، يرِي)، لكن لعدم استقلالها لم يذكرها الناظم، حيث كانت من التداخل والتركيب بين لغتين؛ ولذلك لم يذكرها، وإنما ذكر (وري المخ)، واحترز ابن مالك بقوله: (وري المخ) عن (وري الزند)؛ لأن وري الزند فيها لغات مختلفة، أما وري المخ، فليس فيها إلا لغة واحدة، قال: (احوها)؛ أي: احفظها، ولا تقس عليها، فهي لا تتجاوز هذا.
انتهينا من مضارع (فَعِل) بالكسر - ولله الحمد- ونصل إلى مضارع (فَعَل) بالفتح، ونقف عنده.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر