إسلام ويب

مقدمة في التفسير [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحاجة للبحث في ورود القرآن ودلالته، وكذلك التابعين؛ لسلامة مصدر التلقي وسلامة اللغة. وظهرت الحاجة في عهد أتباع التابعين لتلقيهم عن التابعين وفيهم العدول وغيرهم، واختلطت الحضارة العربية بغيرها من حضارات الأمم وشاع في اللسان العربي بعض الأخطاء. وفي عصر أتباع التابعين بدأ استقلال كل علم على حدة، ومن ذلك علم تفسير القرآن، وظهرت مدرستان مهتمتان بهذا الشأن هما مدرسة الأثر والذي تعتمد على النقل عن الصحابة والتابعين، ومدرسة الرأي الذي يعتمد أصحابها على علومهم واستنباطاتهم ولا تخلو من الاعتماد على الآثار. وظهر التأليف والتصنيف في علم التفسير واعتنى المفسرون بذلك اعتناء كبيراً، كابن جرير الطبري وابن كثير وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    حاجة الصحابة للبحث في ورود القرآن ودلالته

    فقد سبق أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن، فجاء فيه كل ما يحتاج إليه أهل الأرض، وكان حاوياً لكل ذلك، تبياناً له، كما قال الله تعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فهو أصل العلوم كلها، وهو يبحث فيه من جهتين، الجهة الأولى: جهة الورود، والجهة الثانية: جهة الدلالة، أما جهة الورود، فمعناها: إثبات أن هذا من كلام الله سبحانه وتعالى، وأما جهة الدلالة فمعناها: فهم مراد الله بكلامه، بعد تحقق أن هذا من كلامه، والصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، أما جهة الورود؛ فلأنهم سمعوا من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، والمعجزة شاهدة بصدقه؛ فلذلك لم يرتابوا، ولم يشكوا في أي شيء مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا احتاجوا إلى البحث في إسناد، ولا في تعديل، ولا في جرح؛ لأنهم سمعوا بالمباشرة من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، كذلك لم يحتاجوا أيضاً إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وهم من أهل اللسان العربي على وجه السليقة، فهم من الناطقين بهذه اللغة؛ فلذلك لا يحتاجون إلى دراسة أن الفاعل مرفوع، ولا إلى دراسة أن المفعول منصوب، ولا أن المضاف إليه مجرور، فهذه أمور تجري على ألسنتهم بالسليقة؛ فلذلك يفهمون الكلام، وينزلونه منازله، ويضعونه في مواضعه، دون حاجة إلى البحث في تفسيره، أو دلالاته؛ لأنه من لغتهم، وقد امتن الله عليهم بذلك، وبين أن هذا من سنته في الأمم، فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهمْ [إبراهيم:4].

    حاجة التابعين إلى البحث في ورود القرآن ودلالته

    جاء بعد الصحابة التابعون رضوان الله عليهم، فلم تشتد حاجتهم إلى البحث في الجهتين أيضاً، أما جهة الورود، فبسماعهم من الصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة جميعاً معدلون بتعديل الله تعالى؛ لأن الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، ويقول: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، ورضوان الله مناف للفسق؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]؛ فكل من رضي الله عنه فقد انتفى عنه الفسق قطعاً؛ لأن الله يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، وإذا انتفى الفسق عنهم وجب لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها؛ فالرجل قابل للعدالة والفسق، فإذا انتفت عنه العدالة، وجب له الفسق، وإذا انتفى عنه الفسق، وجبت له العدالة، والصحابة انتفى عنهم الفسق؛ لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين؛ فوجب لهم ضد الفسق وهو العدالة، فهم جميعاً عدول بتعديل الله تعالى لهم، سواء منهم من كان عدلاً في الشهادة، ومن كان ليس كذلك، كالمحدود، فالمجلود منهم في حد من حدود الله لا يشهد لدى القاضي في الحدود، وفي غيرها من الأمور، لكن ذلك لا يرد روايته، فروايته مقبولة؛ ولهذا قبل المسلمون بالإجماع رواية أبي بكرة رضي الله عنه مع أن عمر جلده في الحد، وكذلك قبلوا رواية قدامة بن مظعون رضي الله عنه، مع أن عمر جلده في الحد، فالجلد في الحد لا ينافي قبول الرواية؛ لأنه حاصل على من رضي الله عنهم، والرضوان يقتضي مغفرة زلاتهم، والرضوان أمر أخروي، والحد أمر دنيوي، فهذه الذنوب لا تقع من الذين رضي الله عنهم إلا مغفورة.

    ولكن مع ذلك لا بد أن تُجرى عليهم أحكام الظاهر في الدنيا، فالذين بايعوا تحت الشجرة يجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، وقال: ( أنتم خير أهل الأرض )، وقد أخبر الله أنه رضي عنهم، لكن مع ذلك تقام عليهم أحكام الظاهر، فمن زنا منهم، أو سرق، أو قذف؛ يقام عليه الحد في الظاهر، وإن كان ذنبه سبقته المغفرة؛ لأن رضوان الله الأكبر قد حل عليهم، فأحكام الظاهر إنما يعامل بها في الدنيا، وأحكام الباطن هي الراجعة إلى الآخرة، فهم في الآخرة قطعاً لا يدخلون النار، ولا يلجونها، وهم في الدنيا تقام عليهم الأحكام كغيرهم من المكلفين؛ لأنهم مأمورون بأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، ومتعبدون بترك المناهي، سواء كانت لفظية أو عملية، فمن فرط منهم في أمر من ذلك، فهو غير معصوم، فيقام عليه أمر الظاهر، فيجلد الحد، ويعاقب، ويقام عليه القصاص إذا قَتَل، وهكذا.

    ولم يحتج التابعون كذلك حاجة كبيرة إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم أيضاً ما زالوا يفهمون العربية، وما زالوا من أهلها الناطقين بها على وجه السليقة، ولم تتغير حياتهم كثيراً عن الحياة في العهد النبوي الذي نزل فيه الوحي، وإن كان بعضهم قد بدأ البحث في الدلالة، فـمجاهد بن جبر رضي الله عنه يقول: (عرضت المصحف على ابن عباس ثلاثاً، أُوقفه عند كل كلمة)؛ ولذلك قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (إذا أتاك التفسير عن مجاهد، فاشدد عليه يديك) فهذا هو من الحرص على العلم وطلب زيادته، وإلا فـمجاهد يفهم العربية على السليقة في الأصل، فحرص على زيادة العلم، وليس ذلك مقتضياً لنفيه جميعاً.

    وكذلك من التابعين من ليس في الأصل من الناطقين بالعربية، ثم تعلمها، فـعكرمة مولى ابن عباس من أشهر المفسرين من التابعين، وهو من البربر، فهو في الأصل من البربر، نسبه كذلك، وكذلك نافع مولى ابن عمر، فهو في الأصل من فارس، وهكذا عدد كثير من الموالي الذين كان المرجع إليهم في التفسير في عصر التابعين، كـعطاء بن أبي رباح، وهو من الحبشة، وغيره من الذين كانت آباط الإبل تضرب إليهم في طلب العلم.

    حاجة أتباع التابعين للبحث في ورود القرآن ودلالته

    ثم جاء بعدهم أتباع التابعين، فاشتدت الحاجة في زمانهم إلى البحث في الجهتين معاً، أما جهة الورود؛ فلأنهم لم يدركوا الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا أدركوا الصحابة المعدَّلين، وإنما أدركوا التابعين، فيهم عدول وغير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في الإسناد، في اتصاله، وفي تعديل أهله، وفي صفاته، وما يتعلق بذلك، ومن هنا بدأ اختراع علم الجرح والتعديل، والطبقات، والتاريخ؛ فالاختراع وليد الحاجة، هذه العلوم لم تكن في عصر الصحابة؛ لأنه لم يكونوا يحتاجون إليها، ولم تكن في عصر التابعين؛ لأنه لم يكونوا يحتاجون إليها، لكن عندما جاء أتباع التابعين وجدوا أنفسهم بحاجة إليها؛ فاخترعوها، اخترعوا علم الجرح والتعديل، اخترعوا علم التاريخ، اخترعوا علم الطبقات، وهي علوم خادمة للكتاب والسنة، مكملة لها، وليس فيها ابتداع، ولا تغيير، ولا مخالفة؛ لأنها لم يأت عنها نهي، بل جاءت الظواهر التي تدل عليها وعلى طلبها؛ فما يتعلق بالجرح والتعديل أصله قول الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، وعلم التاريخ أصله قول الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وقوله تعالى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، فهذا أصل علم التاريخ، وكذلك الطبقات، فإن أصلها تمايز الناس في الفضل، فقد قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8-10]، وكذلك من أصل علم الطبقات قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم )، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فهذا أصل هذه العلوم.

    وحاجة التابعين إلى البحث فيها أنتجت لهذه الأمة تراثاً عجيباً، فكان من خصائص هذه الأمة الإسناد، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، والأمم السابقة ليس لها إسناد في شيء، فاليهود ليس لديهم إسناد يثبتون به أن حرفاً واحداً مما لديهم مما أنزل على موسى، والنصارى ليس لديهم إسناد يثبتون به أن حرفاً واحداً مما في أيديهم مما أنزل على عيسى؛ ولذلك فهذه الأمة شرفت بالإسناد، وكان مزية عظيمة لها؛ ولهذا قال أهل الحديث: (الإسناد نسب الحديث، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) ويقولون: (كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاتصال الإنسان بالنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسناد هو اتصال روحي، فيكفي أن يكون الإنسان في سلسلة هو أدناها، وأعلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فأنا أحدثكم الآن تكرمة لوجوهكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد المتصل؛ ليحصل لكم هذا الشرف، فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود، عن يحظيه بن عبد الودود، عن محمد بن محمد سالم، عن حامد بن عمر، عن الفقيه الخطاب، عن القاضي ابن علم أم السباعي، عن شيخ الشيوخ الحسني، عن علي الأجهوري، عن البرهان العلقمي، عن الجلال السيوطي، عن زكريا الأنصاري، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن عبد الأول بن عيسى السجزي، عن الحسين بن المبارك، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله بن أحمد السرخسي، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، قال في صحيحه: (حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: أخبرنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، أن محمد بن إبراهيم التيمي أخبره، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي، يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال:( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه )، وبالإسناد السابق إلى البخاري رحمه الله، قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، وقال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( الأعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ).

    وكذلك احتاج أتباع التابعين إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن الواقع تغير، فاختلطت الحضارة العربية بغيرها من الحضارات، وفتحت الأمصار، وبدأت اللغات الأخرى تختلط بالعربية، حتى شاع في اللسان العربي بعض الخطأ؛ ولذلك فإن أتباع التابعين اشتغلوا بتصحيح اللغة، والبحث في النحو، والمفردات اللغوية، وفي التفسير، وفي شرح الحديث، وابتكروا لنا هذه العلوم النافعة التي نحن في أمس الحاجة إليها، وذلك بتوفيق الله وتسديده، ولولا هذه العلوم لم يفهم الناس ما خاطبهم به ربهم جل جلاله؛ فلذلك لا يوجد اليوم على وجه الأرض أحد من الناطقين بالعربية على وجه السليقة، لا يوجد أحد اليوم من المتكلمين بالعربية إلا وهو يتعلم أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، وهكذا، فهذه أمور أصبحت الآن متلقاة عن طريق النحو، ولم يعد أحد يتقنها بالسليقة والخلقة، وقد كان الناس في بدئها يستنكرونها، حتى قال أحد الشعراء:

    ماذا لقيت من المستعربين ومن قياس نحوهمُ هذا الذي ابتدعوا

    إن قلت قافية بكراً يكون لها معنىً يخالف ما قاسوا وما ذرعوا

    قالوا لحنت فذاك الحرف منتصب وذاك منخفض وذاك مرتفع

    وحرشوا بين عبد الله واجتهدوا وبين زيد فطال الضرب والوجع

    فقلت واحدة فيها جوابكم والحق حيث يقال الحق يتبع

    ما كل قولي مشروحاً لكم فخذوا ما تفقهون وما لم تفقهوا فدعوا

    حتى أعود إلى قومي الذين غذوا بما غذيت به والرأي رأي مجتمع

    وإني غذيت بأرض لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى بها البيع

    لا يطأ الكلب والخنزير تربتها لكن بها الرئم والرئبال والضبع

    وكذلك احتاجوا في فهم كلام الله سبحانه وتعالى إلى المفردات اللغوية؛ فوضعوا لنا المعاجم التي نحن بأمس الحاجة إليها، فلولا هذه المعاجم لما عرف أحد منكم اليوم معنى "القسورة"، ولا عرف معنى "الأَبِّ"، ولا عرف غير ذلك من المفردات التي لم تعد مستعملة في لسان الناس؛ فكان عصر أتباع التابعين عصر تفنن هذه العلوم، واستخراجها من الكتاب، والكتاب أصلها جميعاً، فكل علم أنتجته هذه الأمة هو خادم لكتاب الله سبحانه وتعالى، فجميع العلوم مهمتها خدمة القرآن، والمشتغل بها بهذه النية يثاب هذا الثواب العظيم، فيكون من المتعلمين للقرآن، وقد حدثتكم بحديث عثمان بن عفان الذي أخرجه البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، فكل مشتغل بعلم من هذه العلوم الخادمة لكتاب الله هو من المتعلمين لكتاب الله تعالى، والخادمين له، ولو كان ذلك بتفاوت عظيم الدرجات، فقد أخرج البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي يقرأ القرآن، ولا يتعتع فيه، وهو عليه غير شاق - مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه، وهو عليه شاق- ممن يؤتى أجره مرتين )؛ فلذلك لا يمكن أن يتعلم أحد من القرآن ولو حرفاً واحداً إلا أثيب عليه ثواباً عظيماً، وإلا كان من الفائزين، فكل معتمد عليه، ومستند إليه، فهو ممسك بحبل الله المتين؛ ولذلك في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في القرآن): ( هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره )،فهذا الكتاب هو حبل الله المتين، فالحرف الواحد منه يثاب عليه الإنسان عشر حسنات: ( ولا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، والذي عجز عن تعلمه، عن تعلم هذه العلوم المتشعبة، فساعد متعلماً، يكتب له ثوابه، والذي عجز عن المساعدة، فأحب ذلك، يكتب له الثواب أيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب قوماً حشر معهم )، ( ولما سأل الأعرابي قال له: الرجل يحب القوم، ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت )، فمجرد محبة الإنسان للعالمين والمتعلمين توصله إلى منزلتهم، وهي منزلة سامقة عالية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )، وكذلك قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع )، فمجرد خروج الإنسان من بيته، وجلوسه في مسجد يستمع إلى علم، تضع له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع، الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يضعون له أجنحتهم رضاً بما يصنع، فهذا الخير الجزيل، والثواب العظيم يرتبه الله سبحانه وتعالى على خدمة كتابه، والتعلق به، والسعي لتعلمه، والعمل به.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521748

    عدد مرات الحفظ

    777103276