بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد سبق أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن، فجاء فيه كل ما يحتاج إليه أهل الأرض، وكان حاوياً لكل ذلك، تبياناً له، كما قال الله تعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فهو أصل العلوم كلها، وهو يبحث فيه من جهتين، الجهة الأولى: جهة الورود، والجهة الثانية: جهة الدلالة، أما جهة الورود، فمعناها: إثبات أن هذا من كلام الله سبحانه وتعالى، وأما جهة الدلالة فمعناها: فهم مراد الله بكلامه، بعد تحقق أن هذا من كلامه، والصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، أما جهة الورود؛ فلأنهم سمعوا من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، والمعجزة شاهدة بصدقه؛ فلذلك لم يرتابوا، ولم يشكوا في أي شيء مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا احتاجوا إلى البحث في إسناد، ولا في تعديل، ولا في جرح؛ لأنهم سمعوا بالمباشرة من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، كذلك لم يحتاجوا أيضاً إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وهم من أهل اللسان العربي على وجه السليقة، فهم من الناطقين بهذه اللغة؛ فلذلك لا يحتاجون إلى دراسة أن الفاعل مرفوع، ولا إلى دراسة أن المفعول منصوب، ولا أن المضاف إليه مجرور، فهذه أمور تجري على ألسنتهم بالسليقة؛ فلذلك يفهمون الكلام، وينزلونه منازله، ويضعونه في مواضعه، دون حاجة إلى البحث في تفسيره، أو دلالاته؛ لأنه من لغتهم، وقد امتن الله عليهم بذلك، وبين أن هذا من سنته في الأمم، فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهمْ [إبراهيم:4].
جاء بعد الصحابة التابعون رضوان الله عليهم، فلم تشتد حاجتهم إلى البحث في الجهتين أيضاً، أما جهة الورود، فبسماعهم من الصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة جميعاً معدلون بتعديل الله تعالى؛ لأن الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، ويقول: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، ورضوان الله مناف للفسق؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]؛ فكل من رضي الله عنه فقد انتفى عنه الفسق قطعاً؛ لأن الله يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، وإذا انتفى الفسق عنهم وجب لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها؛ فالرجل قابل للعدالة والفسق، فإذا انتفت عنه العدالة، وجب له الفسق، وإذا انتفى عنه الفسق، وجبت له العدالة، والصحابة انتفى عنهم الفسق؛ لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين؛ فوجب لهم ضد الفسق وهو العدالة، فهم جميعاً عدول بتعديل الله تعالى لهم، سواء منهم من كان عدلاً في الشهادة، ومن كان ليس كذلك، كالمحدود، فالمجلود منهم في حد من حدود الله لا يشهد لدى القاضي في الحدود، وفي غيرها من الأمور، لكن ذلك لا يرد روايته، فروايته مقبولة؛ ولهذا قبل المسلمون بالإجماع رواية أبي بكرة رضي الله عنه مع أن عمر جلده في الحد، وكذلك قبلوا رواية قدامة بن مظعون رضي الله عنه، مع أن عمر جلده في الحد، فالجلد في الحد لا ينافي قبول الرواية؛ لأنه حاصل على من رضي الله عنهم، والرضوان يقتضي مغفرة زلاتهم، والرضوان أمر أخروي، والحد أمر دنيوي، فهذه الذنوب لا تقع من الذين رضي الله عنهم إلا مغفورة.
ولكن مع ذلك لا بد أن تُجرى عليهم أحكام الظاهر في الدنيا، فالذين بايعوا تحت الشجرة يجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، وقال: ( أنتم خير أهل الأرض )، وقد أخبر الله أنه رضي عنهم، لكن مع ذلك تقام عليهم أحكام الظاهر، فمن زنا منهم، أو سرق، أو قذف؛ يقام عليه الحد في الظاهر، وإن كان ذنبه سبقته المغفرة؛ لأن رضوان الله الأكبر قد حل عليهم، فأحكام الظاهر إنما يعامل بها في الدنيا، وأحكام الباطن هي الراجعة إلى الآخرة، فهم في الآخرة قطعاً لا يدخلون النار، ولا يلجونها، وهم في الدنيا تقام عليهم الأحكام كغيرهم من المكلفين؛ لأنهم مأمورون بأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، ومتعبدون بترك المناهي، سواء كانت لفظية أو عملية، فمن فرط منهم في أمر من ذلك، فهو غير معصوم، فيقام عليه أمر الظاهر، فيجلد الحد، ويعاقب، ويقام عليه القصاص إذا قَتَل، وهكذا.
ولم يحتج التابعون كذلك حاجة كبيرة إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم أيضاً ما زالوا يفهمون العربية، وما زالوا من أهلها الناطقين بها على وجه السليقة، ولم تتغير حياتهم كثيراً عن الحياة في العهد النبوي الذي نزل فيه الوحي، وإن كان بعضهم قد بدأ البحث في الدلالة، فـمجاهد بن جبر رضي الله عنه يقول: (عرضت المصحف على ابن عباس ثلاثاً، أُوقفه عند كل كلمة)؛ ولذلك قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (إذا أتاك التفسير عن مجاهد، فاشدد عليه يديك) فهذا هو من الحرص على العلم وطلب زيادته، وإلا فـمجاهد يفهم العربية على السليقة في الأصل، فحرص على زيادة العلم، وليس ذلك مقتضياً لنفيه جميعاً.
وكذلك من التابعين من ليس في الأصل من الناطقين بالعربية، ثم تعلمها، فـعكرمة مولى ابن عباس من أشهر المفسرين من التابعين، وهو من البربر، فهو في الأصل من البربر، نسبه كذلك، وكذلك نافع مولى ابن عمر، فهو في الأصل من فارس، وهكذا عدد كثير من الموالي الذين كان المرجع إليهم في التفسير في عصر التابعين، كـعطاء بن أبي رباح، وهو من الحبشة، وغيره من الذين كانت آباط الإبل تضرب إليهم في طلب العلم.
ثم جاء بعدهم أتباع التابعين، فاشتدت الحاجة في زمانهم إلى البحث في الجهتين معاً، أما جهة الورود؛ فلأنهم لم يدركوا الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا أدركوا الصحابة المعدَّلين، وإنما أدركوا التابعين، فيهم عدول وغير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في الإسناد، في اتصاله، وفي تعديل أهله، وفي صفاته، وما يتعلق بذلك، ومن هنا بدأ اختراع علم الجرح والتعديل، والطبقات، والتاريخ؛ فالاختراع وليد الحاجة، هذه العلوم لم تكن في عصر الصحابة؛ لأنه لم يكونوا يحتاجون إليها، ولم تكن في عصر التابعين؛ لأنه لم يكونوا يحتاجون إليها، لكن عندما جاء أتباع التابعين وجدوا أنفسهم بحاجة إليها؛ فاخترعوها، اخترعوا علم الجرح والتعديل، اخترعوا علم التاريخ، اخترعوا علم الطبقات، وهي علوم خادمة للكتاب والسنة، مكملة لها، وليس فيها ابتداع، ولا تغيير، ولا مخالفة؛ لأنها لم يأت عنها نهي، بل جاءت الظواهر التي تدل عليها وعلى طلبها؛ فما يتعلق بالجرح والتعديل أصله قول الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، وعلم التاريخ أصله قول الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وقوله تعالى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، فهذا أصل علم التاريخ، وكذلك الطبقات، فإن أصلها تمايز الناس في الفضل، فقد قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8-10]، وكذلك من أصل علم الطبقات قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم )، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فهذا أصل هذه العلوم.
وحاجة التابعين إلى البحث فيها أنتجت لهذه الأمة تراثاً عجيباً، فكان من خصائص هذه الأمة الإسناد، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، والأمم السابقة ليس لها إسناد في شيء، فاليهود ليس لديهم إسناد يثبتون به أن حرفاً واحداً مما لديهم مما أنزل على موسى، والنصارى ليس لديهم إسناد يثبتون به أن حرفاً واحداً مما في أيديهم مما أنزل على عيسى؛ ولذلك فهذه الأمة شرفت بالإسناد، وكان مزية عظيمة لها؛ ولهذا قال أهل الحديث: (الإسناد نسب الحديث، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) ويقولون: (كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاتصال الإنسان بالنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسناد هو اتصال روحي، فيكفي أن يكون الإنسان في سلسلة هو أدناها، وأعلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فأنا أحدثكم الآن تكرمة لوجوهكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد المتصل؛ ليحصل لكم هذا الشرف، فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود، عن يحظيه بن عبد الودود، عن محمد بن محمد سالم، عن حامد بن عمر، عن الفقيه الخطاب، عن القاضي ابن علم أم السباعي، عن شيخ الشيوخ الحسني، عن علي الأجهوري، عن البرهان العلقمي، عن الجلال السيوطي، عن زكريا الأنصاري، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن عبد الأول بن عيسى السجزي، عن الحسين بن المبارك، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله بن أحمد السرخسي، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، قال في صحيحه: (حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: أخبرنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، أن محمد بن إبراهيم التيمي أخبره، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي، يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال:( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه )، وبالإسناد السابق إلى البخاري رحمه الله، قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، وقال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( الأعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ).
وكذلك احتاج أتباع التابعين إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن الواقع تغير، فاختلطت الحضارة العربية بغيرها من الحضارات، وفتحت الأمصار، وبدأت اللغات الأخرى تختلط بالعربية، حتى شاع في اللسان العربي بعض الخطأ؛ ولذلك فإن أتباع التابعين اشتغلوا بتصحيح اللغة، والبحث في النحو، والمفردات اللغوية، وفي التفسير، وفي شرح الحديث، وابتكروا لنا هذه العلوم النافعة التي نحن في أمس الحاجة إليها، وذلك بتوفيق الله وتسديده، ولولا هذه العلوم لم يفهم الناس ما خاطبهم به ربهم جل جلاله؛ فلذلك لا يوجد اليوم على وجه الأرض أحد من الناطقين بالعربية على وجه السليقة، لا يوجد أحد اليوم من المتكلمين بالعربية إلا وهو يتعلم أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، وهكذا، فهذه أمور أصبحت الآن متلقاة عن طريق النحو، ولم يعد أحد يتقنها بالسليقة والخلقة، وقد كان الناس في بدئها يستنكرونها، حتى قال أحد الشعراء:
ماذا لقيت من المستعربين ومن قياس نحوهمُ هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكراً يكون لها معنىً يخالف ما قاسوا وما ذرعوا
قالوا لحنت فذاك الحرف منتصب وذاك منخفض وذاك مرتفع
وحرشوا بين عبد الله واجتهدوا وبين زيد فطال الضرب والوجع
فقلت واحدة فيها جوابكم والحق حيث يقال الحق يتبع
ما كل قولي مشروحاً لكم فخذوا ما تفقهون وما لم تفقهوا فدعوا
حتى أعود إلى قومي الذين غذوا بما غذيت به والرأي رأي مجتمع
وإني غذيت بأرض لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى بها البيع
لا يطأ الكلب والخنزير تربتها لكن بها الرئم والرئبال والضبع
وكذلك احتاجوا في فهم كلام الله سبحانه وتعالى إلى المفردات اللغوية؛ فوضعوا لنا المعاجم التي نحن بأمس الحاجة إليها، فلولا هذه المعاجم لما عرف أحد منكم اليوم معنى "القسورة"، ولا عرف معنى "الأَبِّ"، ولا عرف غير ذلك من المفردات التي لم تعد مستعملة في لسان الناس؛ فكان عصر أتباع التابعين عصر تفنن هذه العلوم، واستخراجها من الكتاب، والكتاب أصلها جميعاً، فكل علم أنتجته هذه الأمة هو خادم لكتاب الله سبحانه وتعالى، فجميع العلوم مهمتها خدمة القرآن، والمشتغل بها بهذه النية يثاب هذا الثواب العظيم، فيكون من المتعلمين للقرآن، وقد حدثتكم بحديث عثمان بن عفان الذي أخرجه البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، فكل مشتغل بعلم من هذه العلوم الخادمة لكتاب الله هو من المتعلمين لكتاب الله تعالى، والخادمين له، ولو كان ذلك بتفاوت عظيم الدرجات، فقد أخرج البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي يقرأ القرآن، ولا يتعتع فيه، وهو عليه غير شاق - مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه، وهو عليه شاق- ممن يؤتى أجره مرتين )؛ فلذلك لا يمكن أن يتعلم أحد من القرآن ولو حرفاً واحداً إلا أثيب عليه ثواباً عظيماً، وإلا كان من الفائزين، فكل معتمد عليه، ومستند إليه، فهو ممسك بحبل الله المتين؛ ولذلك في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في القرآن): ( هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره )،فهذا الكتاب هو حبل الله المتين، فالحرف الواحد منه يثاب عليه الإنسان عشر حسنات: ( ولا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، والذي عجز عن تعلمه، عن تعلم هذه العلوم المتشعبة، فساعد متعلماً، يكتب له ثوابه، والذي عجز عن المساعدة، فأحب ذلك، يكتب له الثواب أيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب قوماً حشر معهم )، ( ولما سأل الأعرابي قال له: الرجل يحب القوم، ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت )، فمجرد محبة الإنسان للعالمين والمتعلمين توصله إلى منزلتهم، وهي منزلة سامقة عالية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )، وكذلك قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع )، فمجرد خروج الإنسان من بيته، وجلوسه في مسجد يستمع إلى علم، تضع له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع، الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يضعون له أجنحتهم رضاً بما يصنع، فهذا الخير الجزيل، والثواب العظيم يرتبه الله سبحانه وتعالى على خدمة كتابه، والتعلق به، والسعي لتعلمه، والعمل به.
في عصر أتباع التابعين بدأت العلوم تنفصل، فبدأ التأليف في علوم المقاصد، وفي علوم الوسائل، فبدأ تدوين السنة، وهي أول علم انفصل عن القرآن، أول علم قام بنفسه واستقل هو علم السنة، وكان ذلك بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقد كتب إلى ولاة الأمصار: (أن انظروا إلى سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوها؛ فإني أخاف أن يموت العلماء، فتندرس السنة) فانتدب لذلك عدد من الأئمة من التابعين، منهم: أبو بكر بن عمرو بن حزم، ومنهم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وغيرهم، فدونوا السنن وكتبوها، لكنهم في ذلك الوقت لم يصنفوها على الأبواب، حتى جاء أتباع التابعين، فكانت بداية التصنيف فيها على الأبواب، ومن أوائل الذين كتبوا فيها عبد الملك بن جريج بمكة، ومالك بالمدينة، وعبد الملك بن صبيح بالبصرة، وهشيم الواسطي بواسط؛ فأولئك الذين دونوا السنن، وكتبوا عدداً من المؤلفات، ولم يصل إلينا من مؤلفاتهم إلا موطأ مالك، فهو أقدم كتاب لدى المسلمين بعد كتاب الله، وعندما ألفه مالك قيل له: كثرت الموطآت، وأنت لا تزال تنقص موطأك، فقال: (ما كان لله فسيبقى)؛ فبقي الموطأ، وقد رواه عن مالك تسعمائة نفس، ووصل إلينا منه بالإسناد الآن ست وعشرون رواية، ستة وعشرون موطأً وصلت إلينا بالأسانيد إلى مالك رحمه الله.
وبعد ذلك بدأ الاهتمام بتفسير القرآن، وألف فيه عدد من الطبقات المختلفة، ومن أقدم من ألف فيه يزيد بن هارون رحمه الله، وتفسيره له لم يصل إلينا، ولكنه كان من التفسير بالأثر؛ أي: بالآثار التي يرويها عن التابعين، فما يفسر به التابعون القرآن يرويه عنهم، وما فسر به الصحابة قبلهم، وما كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع ذلك، ولا يلتزم تفسير كل كلمة، ولا تفسير كل آية، فالتفسير بالأثر لا يمكن فيه التزام كل كلمة أو آية؛ لأن المرجع فيه إلى الرواية والحفظ.
وظهر في ذلك الوقت مدرستان في التفسير:
إحداهما: مدرسة الأثر، والأخرى تسمى: مدرسة الرأي.
أما مدرسة الأثر، فالمقصود بها: المدرسة التي يعتمد أهلها على الرواية عن التابعين والصحابة، ومن خصائصها: أنها لا تتبع كلمات القرآن، ولا آياته، وإنما تتبع النقول، فيعَنون مثلاً لتفسير سورة البقرة، فيذكر ما فيها من الأحاديث المرفوعة، وما فيها من الآثار الموقوفة على الصحابة، وما فيها من الآثار المقطوعة عن التابعين، وهكذا في سورة آل عمران، وهكذا إلى نهاية القرآن، والسورة التي لا يوجد فيها مروي تُتجاوز، فلا يذكر فيها شيء، وهذه المدرسة اشتهر فيها من التابعين أصحاب ابن عباس؛ كـسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وطاوس بن كيسان، فهم من أوائل مدرسة التفسير بالأثر.
وكذلك المدرسة الثانية، وهي التي تسمى "مدرسة التفسير بالرأي" فمعنى ذلك: أن أصحابها يعتمدون على علومهم، فيفسرون كل كلمة، وكل آية، وكل سورة، ولا يتجاوزون شيئاً من القرآن، ويذكرون لنا استنباطاتهم، وما هداهم الله إليه من الفهم في كتابه، وهذا أمر أحال إليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل أحال الله إليه في كتابه، فقد قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فبين الله أن من هذه الأمة مَن يستنبطون الأحكام من القرآن، فأحال إلى علمه، وإحالة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هي ما أخرجه البخاري في الصحيح، من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه، قال: قلنا لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل عندكم شيء تقرءونه غير كتاب الله؟ فقال: والذي فطر النسمة وبرأ الحبة ما عندنا شيء نقرؤه غير كتاب الله، إلا فهماً آتاه الله رجلاً في كتابه، أو ما في هذه الصحيفة) فأخرج صحيفة من قراب سيفه، فإذا فيها: (العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، والمدينة حرم ما بين عائر إلى كذا...) كذا، أو: (إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ومن انتسب إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) وهذا الكتاب رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، وأصحاب السنن، وأحمد في المسند، وغيرهم من أهل الحديث، وفيه زيادات كثيرة، فقد أخرج النسائي فيه زيادة: (والمسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم)، وفي صحيح مسلم: زيادة لعن من ذبح لغير الله، ففيه كثير من الزيادات في هذا الكتاب الذي أخرجه علي من قراب سيفه، ومحل الاستشهاد فيه: أن علياً قال: (إلا فهماً آتاه الله رجلاً في كتابه)؛ فبين أن ذلك مما يحال إليه، أنه مما أحال إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المدرسة - وهي مدرسة التفسير بالرأي أقصد- لا تخلو أيضاً من أثر، فأهلها يعتمدون الآثار، ثم يزيدون بما فتح الله به عليهم من الفهم، كما أن مدرسة التفسير بالأثر لا تخلو أيضاً من رأي؛ لأن أكثر الآثار التي فيها هي موقوفة على الصحابة، أو مقطوعة عن التابعين وهي من رأيهم؛ فإذاً يجتمع الأثر والرأي؛ ولهذا فالذين يذمون الرأي مطلقاً يقعون في خطأ؛ لأن الأثر أيضاً كثير منه رأي، ما كان من موقوفات الصحابة، أو مقطوعات التابعين هو من الرأي؛ فلذلك لا يذم الأثر ولا الرأي، بل يؤخذ بالجميع، فما كان من الأثر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحاسم القاطع للنزاع، وما كان موقوفاً على من دونه، أو مقطوعاً، فهو آراء رجال، يؤخذ منها ويرد، وما شهد له الأدلة منه أخذ به أيضاً؛ لأن بعضها قد تتواتر القرائن حوله، حتى يصل إلى درجة القطع، فكثير من الآثار يقطع به؛ لأنه توافرت القرائن الدالة عليه، والنصوص التي تشهد له؛ حتى أصبح مقطوعاً به، وإلا فالأصل أن هذا القرآن لم ينزل لجيل واحد؛ فلا يمكن أن ينحصر فهمه في الصحب أو التابعين، بل أهل كل عصر يفهمون منه ما رزقهم الله به، أهل كل عصر يفهمون منه ما رزقهم الله به؛ وبهذا لا يستغنى بتفسير عصر من العصور عما بعده من العصور، أهل كل زمان يحتاجون إلى تفسير للقرآن، فيه ما يمن الله به عليهم، وما يفتح به لعلمائهم من الفهم في كتاب الله؛ وذلك أن أساليب القرآن متفاوتة، فمن أساليبه ما يكون واضح الدلالة، ومن أساليبه ما يكون فيه خفاء، ومن أساليبه ما يكون مجملاً، ومنها ما يكون مشكلاً، ومنها ما يكون متشابهاً ثم يزول عنه التشابه بالتدريج؛ فإن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن جميعاً بالإحكام، فقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود:1]، والمقصود بالإحكام: الإتقان، الإحكام العام، معناه: الإتقان، أنه متقن ليس فيه تفاوت ولا تكذيب ولا خلل؛ فلا يمكن أن يجد فيه الإنسان أي خطأ، ثم وصفه جميعاً بالتشابه، فقال: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23]، ومعنى هذا التشابه العام: أن بعضه يفسر بعضاً، ويصدقه، فما طوي في مكان ينشر في مكان آخر، فإذا أردت القطع بأي أمر من الأمور ولم تجده في آية واحدة، فاجمع نظائرها؛ فسيحصل لك القطع، مثلاً: لو سألك الإنسان عن الدليل القاطع على وجوب الصلاة من القرآن، فإنك لو قلت له: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، لقال لك: هذا أمر محتمل لأن يكون للندب، ولأن يكون للإباحة، ولأن يكون للوجوب، والصلاة تشمل النفل والفرض، وهي شاملة للخمس وغيرها، والأمر أيضاً خطاب للأمة، وفيها المكلفون وغير المكلفين؛ فلا يحصل القطع به، لكن إذا جمعت القرائن، فقلت مثلاً: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، ثم قلت: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وذكرت آيات ذم التاركين للصلاة، وآيات المدح للمصلين، ونحوها، سيحصل القطع بجميع ذلك، بحيث لا يمتري الإنسان ولا يشك، وكذلك في الصدقة، والزكاة، والجهاد، وغير ذلك من أمور الإسلام، فإن القرآن يطوي بعضها في مكان، وينشره في مكان، وبجمع ذلك يزول الإشكال بالكلية؛ ولهذا يحمل المتشابه على المحكم، كلما جاء خفاء في آية عددناها من المتشابه، فنحملها على المحكم، فنجد بيانها، سواء كان ذلك في قراءة واحدة، أو كان في قراءات مختلفة.
فالقراءات أيضاً يفسر بعضها بعضاً ويبينه، فأنت إذا قرأت بقراءة نافع قول الله تعالى: (قلنا احمل فيها من كلِّ زوجين اثنين)، سيتشكل ذلك الإمام، فيقول: كيف آخذ من كلِّ زوجين اثنين، والزوجان اثنان فقط؟! لكن جواب ذلك: هو بالقراءة السبعية الأخرى: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود:40]، فالآية تفسير للأخرى، وهكذا إذا قرأ القارئ مثلاً بقراءة حمزة: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً) فسيستشكل الإنسان: كيف يقسم بالأرحام؟! فالجواب: هو بالقراءة السبعية الأخرى: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وكذلك إذا قرأ القارئ بقراءة ابن كثير: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتمُ إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكمُ وأيديكمُ إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجِلكمُ إلى الكعبين)، (وأرجلِكم) بالجر، يستشكل ذلك فيقول: هل يمسح على الرجلين؟ والجواب: هو القراءة السبعية الأخرى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] بالنصب؛ فيزول الإشكال؛ فإذاً يصدق بعض القرآن بعضاً ويفسره؛ وبذلك يزول الخفاء مطلقاً، فما على الإنسان إلا زيادة العلم فيه، إذا أراد الفهم، فليزد في العلم، وكلما ازداد في العلم فيه، كلما ازداد فهماً عن الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، (وما يعقلها إلا العالمون)، فهم الذين يدركونها.
ولذلك فالقرآن من ناحية التفسير على أربع درجات:
الدرجة الأولى: ما كان من واضح اللغة، فهذا يفهمه كل من يفهم العربية حتى لو كان طفلاً صغيراً، ولو كان غير مقيم للعربية (لو كان لا يقيم الكلمات العربية فإنه يفهمه) فالعامي الذي يتكلم بلهجة من اللهجات العربية لا يعرف رفع الفاعل، ولا نصب المفعول، ولا جر المضاف إليه إذا سمع: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فهمها، وإذا سمع: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فهمها؛ لأن هذا من واضح القرآن، وهذا الواضح يجوز لكل إنسان تفسيره؛ فيجوز للأم أن تفسره لأولادها إذا سألوها عن دلالته، ويجوز لغير العالم تفسيره، ويجوز لكل إنسان أن يأخذ منه الأحكام، وأن يتفهم فيه، وهذا مما يصل به الإنسان إلى درجة الاعتبار والتدبر اللذين أمر الله بهما في كتابه، فقد قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فكل إنسان من أهل العربية يمكن أن يعتبر ويتدبر في هذا القسم من القرآن، وهو القسم الأول واضح الدلالة.
القسم الثاني: ما كان من غريب اللغة، الذي لم يعد مستعملاً في تخاطب الناس من مفردات اللغة، وهذا المرجع فيه إلى أهل اللغة الذين يعرفون لغات العرب وشواهدها، وهذا النوع يختلف باختلاف العصور، فقد يكون اللفظ غريباً لدى أهل بلد، ومعروفاً لدى أهل بلد آخر، كما أنه قد يكون معروفاً في لغة بعض القبائل، ومجهولاً في لغة بعض، فهذا النوع من المفردات الذي لم يعد مستعملاً في لغة الناس وتخاطبهم يحتاج لفهمه إلى الرجوع إلى معاجم اللغة، وإلى أهلها؛ ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنه مرجعاً لدى الصحابة في لغات العرب؛ لكثرة ما يحفظ من قصائد العرب، وكان يسمع القصيدة فيحفظها بالمرة الواحدة، وكذلك عائشة أم المؤمنين، وكانت تحفظ لـلبيد بن ربيعة وحده اثني عشر ألف بيت، وجاء نافع بن بزرة إلى ابن عباس، فسأله عن مسائل في التفسير، كلها من علوم اللغة، وكان معه، فضجر به ابن عباس؛ لكثرة مسائله، وكثرة المسائل لم تكن محمودة لدى الصحابة، وهي دليل على الإحداث والابتداع؛ فلذلك عرف أن السائل من الخوارج، من أهل البدعة، فضجر به، فجاءه عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، فأنشد ابن عباس قصيدته الرائية:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر
لحاجة نفس لم تقل في جوابها فتبلغ عذراً والمقالة تعذر
وهي ثمانية وستون بيتاً، فأنشدها، فحفظها ابن عباس بمرة واحدة، فقال له نافع بن بزرة: أنت يا ابن عباس نضرب إليك آباط الإبل في طلب العلم فتعرض عنا، ويأتيك شاب حدث من قريش ينشدك سفهاً فتسمعه؟! قال: بلى، أما سمعت قوله:
رأت رجلاً أمَّا إذا الشمس عارضت فيخزى وأمَّا بالعشي فيخصر
فقال: ما هكذا قال، إنما قال:
رأت رجلاً أمَّا إذا الشمس عارضت فيضحى وأمَّا بالعشي فيخصر
ولو شئت أن أعيدها عليك، لفعلت.
فهذه هي أسئلة ابن الأزرق المشهورة، قد سأله عن معنى قول الله تعالى: لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ [القلم:8]، فقال: غير مقطوع، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري:
فترى خلفها من الرجع والوق ع منيناً كأنه إهباء
ثم سأله عن قول الله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119] فقال: تبرز للشمس، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم، أما سمعت قول المخزومي بالأمس:
رأت رجلاً أمَّا إذا الشمس عارضت فيضحى وأمَّا بالعشي فيخصر
وهذا النوع من القرآن يختص فهمه بأهل اللغة العربية؛ ولذلك كان تعلم مفردات اللغة من الفروض الكفائية، فيجب على أهل كل بلد أن يكون فيهم من يتعلم مفردات اللغة العربية؛ ليستطيع تفسير هذا النوع من القرآن، وفهمه، وتفهيمه.
والنوع الثالث من أنواع القرآن في التفسير: هو ما كان من آيات الأحكام عرضة للاستنباط؛ أي: ما تستنبط فيه الأحكام من الآيات، فأساليبها متميزة عن غيرها من الأساليب؛ ولذلك تأتي آيات الأحكام قابلة لكثير من الوجوه، كما قال علي رضي الله عنه: (إن القرآن حمال كثير الوجوه)؛ فلذلك يمكن أن يأخذ منها أهل العلم مذاهبهم جميعاً، فمثلاً قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، من أهل العلم من فهم من قوله: فَاغْسِلُوا [المائدة:6]وجوب الدلك؛ لأن الغسل عندهم لا يطلق على صب الماء فقط إلا مع دلك، وبعضهم فهم أن الغسل: هو مجرد إيصال الماء إلى العضو، ولو لم تمسه اليد، والوجه أيضاً هو ما واجهك، فاختلف أهل العلم هل يدخل فيه المضمضة والاستنشاق، هل داخل الفم من الوجه أو لا؛ لأن داخل الفم لا يواجه الإنسان إذا قابلك، وكذلك داخل الأنف، فهل هو داخل في الوجه الذي يجب غسله أم لا؟ فمن أهل العلم من رأى وجوب المضمضة والاستنشاق معاً في الوضوء والغسل، ومنهم من رأى وجوبهما في الغسل دون الوضوء، ومنهم من رأى وجوب الاستنشاق دون المضمضة، قالوا: لأن الفم ينسد، فيغلق، والأنف لا ينسد، فرأوا أن داخل الأنف هو من الوجه، وكل ذلك دلالة القرآن عليه واضحة، وإذا فهم الإنسان مآخذ أهل العلم، زال عنه التعصب، وعرف أنهم جميعاً أعملوا أذهانهم وعقولهم لفهم كتاب الله، فمن وفقه الله منهم للصواب فله أجران، ومن لم يوفقه فله أجر.
القسم الرابع: ما كان من مشكل القرآن الذي لا يمكن الوصول إلى كنهه وحقيقته بمجرد العقل، وهذا النوع مقصور على أهل الرواية، فلا يمكن أن يفهم إلا بالقرآن أو بالحديث، فالمرجع فيه إلى الوحي، فمن كان لديه فيه رواية يمكن أن يفسره بتلك الرواية، ومن لم يكن لديه رواية لا بد أن يقف دونه، ومن ذلك تفسير الورود بالعبور في قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الورود بالعبور؛ أي: العبور فوق الجسر، الذي هو الصراط، فهذا لا يمكن أن يعرف إلا من الرواية.
فإذاً هذه أربعة أقسام، وبهذا يعلم أن كثيراً من الناس يظنون أن القرآن جميعاً سواء من ناحية التفسير، فيظنون أن المفسر مطلقاً لا بد أن يشترط له معرفة اللغة، ومفرداتها، وشواهدها، ومعرفة النحو، ومعرفة أصول الفقه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة أسباب النزول، ومعرفة الحديث، حتى يعرف ما فسر من ذلك في الحديث المرفوع.. إلى آخره، لكن هذا غير صحيح، هذه الشروط إنما هي لدرجات من درجات المفسرين، وليست لكل القرآن، فقد عرفتم أن القرآن أربعة أقسام، فإنما يحتاج إلى هذه الشروط في حق من يفسر المشكل، أو الذي تستنبط منه الأحكام دون غيره.
وبعد يزيد بن هارون رحمه الله ظهر في تلك العصور عدد من المؤلفات في التفسير، سواء منها ما كان في أثناء الكتب، وما كان مستقلاً، فما كان في أثناء الكتب منه مثلاً ما في الصحيحين والسنن من كتب التفسير، فـالبخاري عقد كتاباً في صحيحه للتفسير، وذكر فيه كثيراً من الأحاديث والآثار، وأيضاً أتى فيه ببعض الرأي؛ لأنه يفسر المفردات اللغوية من عند نفسه، فيذكر هو تفسيرها في اللغة، ويأتي به معها، وكذلك مسلم عقد آخر كتاب في صحيحه للتفسير، ولم يورد فيه كثيراً من الأحاديث، قد يكون ذلك ناشئاً عن أنه كان يريد أن يزيده، ثم بدا له أن يقتصر على هذا الحد، أو مات قبل أن يصل إلى مبتغاه من ذلك، وقد يكون لأن كثيراً من أحاديث التفسير ليست على شرطه، وهكذا أصحاب السنن، فقد عقد كثير منهم كتباً للتفسير.
وقد ألف الإمام أحمد بن حنبل كتاباً في التفسير حافلاً كبيراً، ولم يصل إلينا، ومن أقدم المؤلفات في التفسير التي وصلت إلينا كتاب أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي مؤلف السنن، وقد توفي سنة 303 من الهجرة، وتفسيره موجود مطبوع، وهو مثل غيره من التفاسير بالأثر، وقد ذكر كثير من أهل العلم أنه كان كتاباً من أبواب السنن الكبرى له؛ فيكون على هذا كتفسير البخاري مثلاً، ولم يؤلفه تفسيراً مستقلاً، إنما ألفه كتاباً من كتب السنن، وبعده محمد بن جرير الطبري أبو جعفر، وقد توفي سنة 310 من الهجرة، وكتابه هو أبو كتب التفسير جميعاً؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كل أهل التفسير عيال على محمد بن جرير الطبري) وقد أتى في كتابه بعدد من الفوائد الجديدة، فإنه في سياقه يسوق مقطعاً من القرآن أو آية، ثم يقول: القول في تأويل قول الله تعالى كذا، فيذكر شواهد اللغة، وتفسير مفرداتها من علمه هو ورأيه، ثم ينقل الأحاديث والآثار الواردة فيها بإسناده، ويعلل بعضها، ويحكم على بعضها، ولا يشترط الصحة، بل يورد الإسناد، ومن ذكر الإسناد فقد برئ، ثم بعد ذلك يورد ابن جرير رحمه الله المسائل الفقهية المستنبطة، ويتعرض للقراءات، ويرجح بينها، وفي عصره لم تشتهر القراءات المتواترة بعد؛ فلذلك ربما أنكر في بعض الأحيان بعض القراءات المتواترة؛ لأنه لا يعلم أنها قد تواترت، وكتابه مطبوع منشور بعدة طبعات، وهو من الكتب التي لا ينبغي أن يستغني عنها طالب التفسير، فكل من يسعى لتدبر كتاب الله من المهم له أن يطلع على كتاب ابن جرير، وأن يطالع فيه آراء التابعين، وأتباع التابعين في تفسير كتاب الله، وهو يوسع مجال الاجتهاد؛ لأن ابن جرير رحمه الله كان من المجتهدين، ولم يكن يتقيد بمذهب واحد، بل كان جسوراً في الاجتهاد، حتى إنه خالف أهل السنة جميعاً في قضية المسح على الرجلين في تفسير قول الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، والقراءة الأخرى: (وأرجلِكم إلى الكعبين)، قال هو: القراءتان كالآيتين؛ فدل هذا على جواز المسح على الرجلين وغسلهما، فبأيهما أخذت جاز، وهذا الذي خالف فيه مذاهب أهل السنة، فأهل السنة يرون وجوب غسل الرجلين، وإنما يرون المسح عليهما إذا كان عليهما خفان مثلاً، أو جوربان، والشيعة هم الذين يرون المسح على الرجلين إلى معقد الشراك (إلى الكعبين اللذين عند معقد الشراك) ولا يرون المسح على الخفين، وابن جرير قال: (القراءتان كالآيتين)، فأتى بمذهب ملفق بين المذهبين، وهكذا له آراء في مسائل كثيرة، يختار فيها رأياً من آراء التفسير.
ولا بد أن يعلم الذي يطالع في تفسيره أن تفسير السلف عموماً - كالآثار المقطوعة عن التابعين وأتباعهم - لا يقصد بها حصر معاني الكلمة، أو حصر معاني الآية، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (إن تفسير السلف إنما يقصد به التفهيم، كمن سألك عن الخبز: ما هو، فرفعت له قطعة من الخبز، فقلت: هذا الخبز؛ فليس معناه أنك تجزم أنما في علم الله من الخبز هو ما رفعته، بل المقصود: أنه هو يفهم الخبز؛ لأنه رأى مثالاً له)، ومن أمثلة هذا: قول عائشة رضي الله عنها في تفسير قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصلت:33]: هو المؤذن؛ فإنه دعا إلى الله حين قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وعمل صالحاً حين قال: الله أكبر، الله أكبر، وقال: إنني من المسلمين، حين قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، لكن لا تقصد عائشة رضي الله عنها حصر تفسير الآية في المؤذن، بل هذا يشمل كل داع إلى الله من الملتزمين بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبهذا يعلم أن كثيراً من تفاسير السلف يمكن الجمع بينها، فيمكن أن تكون جميعاً تفسيراً للآية، وتُحمل عليها جميعاً.
وقد ذكرت لكم من قبل في أقوال أهل العلم في تفسير المتشابهات أنها خمسة أقوال، وأن الذي أراه أنه يمكن أن تفسر المتشابهات بها جميعاً، فيقال: المتشابهات هي: رقم واحد، رقم اثنين، رقم ثلاثة، إلى أن نأتي على الخمس كلها، فأهل العلم اختلفوا في الأمور المتشابهات بين الحلال والحرام في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس )، أهل العلم اختلفوا على خمسة أقوال:
القول الأول: أن الأمور المتشابهات هي: ما خفيت دلالة النصوص عليه (ما كانت دلالة النص عليه خفية)، ومنهم من يرى: أنها ما اختلف فيه أهل العلم، ومنهم من يرى: أنها ما تعارضت فيه الأدلة، ومنهم من يرى: أنها ما جمع الحلال والحرام من المال، ومنهم من يرى: أنها المكروهات، فهي بين الحلال والحرام، لكن يمكن أن نفسر المتشابهات بهذه جميعاً؛ فكل هذه داخلة في المتشابهات، والمتشابهات أوسع منها، وبهذا نعلم أن القرآن حمال، كثير الوجوه، وأنه يمكن أن يغطي حاجات الناس في كل زمان ومكان، لكن علم تفسيره، وعلم الاجتهاد في ضوئه، هذه العلوم في أمور الدين هي بمثابة الاقتصاد في علوم الدنيا، فعلم الاقتصاد في علوم الدنيا: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من الموارد المحصورة، فمثلاً: هذا الشخص راتبه محصور، يتقاضى راتباً قدره ثلاثون ألفاً مثلاً، لكن حاجياته غير محصورة، يمرض له مريض، تحل به نازلة، يأتيه ضيف، هذه الحاجيات غير محصورة، ولا يمكن أن يتصورها الإنسان، هل فيكم أحد يمكن أن يتصور ما سينفقه في هذا الشهر جميعاً؟ هذا من الأمور الغيبية، والإنسان عاجز عن تصوره، فالموارد محصورة والحاجيات غير محصورة، فعلم الاقتصاد يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من الموارد المحصورة؛ لأنه يرتب للإنسان أولوياته بالإنفاق، ويبين له أوجه الصرف، ويبين له كذلك الهامش الذي ينبغي أن يدخره، وأوجه الاستثمار الناجعة؛ فبذلك يستطيع الإنسان تغطية حوائجه مما لديه، وعلم التفسير، وعلم الاجتهاد، وعلم أصول الفقه، هذه العلوم أيضاً تغطي النوازل والوقائع غير المحصورة من النصوص المحصورة، فقد علمنا أن القرآن لا يمكن أن يزداد الآن بآية واحدة، ولا كلمة، ولا حرف، وآياته بالعد المدني الثاني (6214) آية، وبالعد الكوفي (6236) آية، وآيات الأحكام من القرآن (500) آية، والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تتجاوز (300) ألف حديث، وأحاديث الأحكام منها لا تتجاوز (11) ألف حديث، ومواقع الإجماع محصورة، والنوازل والوقائع كل يوم تتجدد، فيتجدد منها الكثير، وهي جميعاً لله فيها حكم، فلا يمكن أن يقول الإنسان: هذه النازلة ليس فيها حكم لله؛ فالله هو الحكم العدل في كل شيء: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ [الشورى:10]، لكن إنما يحال فيها إلى الفهم والاستنباط؛ ولذلك فعلم الاستنباط: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية جميع النوازل، والفتاوي، والوقائع التي لا حصر لها من النصوص المحصورة، فأية نازلة تتجدد فسنجد في القرآن حلاً له أو وجواباً عنها، أياً كانت تلك النازلة، في أي عصر من العصور؛ ولذلك فإن الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه لما صلى في الطائرة صلاة الفرض، واستشكل ذلك بعض معاصريه من أهل العلم، قالوا: من أية آية استخرجت الصلاة في الطائرة؟ قال: قول الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فقال: هذه الآية صريحة في تولية الوجه إلى جهة المسجد الحرام في: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144]، (حيث) ظرف مكان، في أي مكان كنت، سواء كنت في الأرض، أو في الجو، أو في غير ذلك؛ ولذلك يقول:
وصلاة الفرض فوق الطائر صحيحة ليس بها من ضائر
لأنه في غاية الإمكان توفر الشروط والأركان
فخل ما سمعته وشاهد فليس من يسمع مثل الشاهد
وحيث ما كنتم فولوا الآية نص به أو ظاهر في الغاية
ولفظ الارض في الحدود مدرجاً ليس لتقييد ولكن خرجا
لغالب كالوصف للربائب بكونهن في الحجور الغالب
فكان عندي قائماً مكانا مقام من يقوم أين كانا
فذاك عندي حاصل النصوص على العموم وعلى الخصوص
وهكذا، فأهل كل عصر يستنبطون لنوازلهم الحلول من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويجدون فيها الأحكام، سواء كان ذلك الاستنباط ظاهراً يفهمه الجميع، أو كان خفياً لا يفهمه إلا الأذكياء، فـعلي بن أبي طالب استنبط أن أقصر أمد الحمل ستة أشهر؛ من الجمع بين قول الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، وقوله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]؛ فإن الله جعل الحمل والفصال - أي: الرضاع - في ثلاثين شهراً، وجعل الفصال وحده في عامين، فلم يترك للحمل إلا ستة أشهر؛ لأن ثلاثين شهراً إذا انتزعت منها عامين، انتزعت منها أربعة وعشرين شهراً؛ فلم يبق لك إلا ستة أشهر؛ فقال: هذا أقل أمد الحمل، وكذلك مالك رحمه الله استنبط من قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] أن الصائم يجوز أن يصبح جنباً؛ لأن الله تعالى يقول: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فلم يترك وقتاً للغسل (لم يترك وقتاً للاغتسال)؛ فدل هذا على جواز إصباح الصائم جنباً، هذا النوع من الفهم هو للأذكياء الموهوبين، وليس كل الناس يمكن أن يصل إليه، ومع ذلك فتوجد قضايا أخرى يرزق الله بها من يشاء من عباده، فيفهم الإنسان فهماً في كتاب الله قد سين له، كما قال ابن متالي رحمه الله:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
وقال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: (وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين) والإنسان يعجب إذا قارن بين كتب التفسير؛ فيجد أن كثيراً من الناس يهدى لبعض الأمور والفهم الدقيق الذي حجب عن آخرين، وكثير من الأذكياء النابهين حجب عنهم بعض المسائل، لم يفهموها، وفهمها من دونهم، فهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، وهو من قسمة الأرزاق، فيرزق الله من شاء فهماً في كتابه، كما يرزق من شاء إيماناً، ومن شاء مالاً، ومن شاء جاهاً.. إلى آخره، فكل ذلك من قسمة الحظوظ، والله سبحانه وتعالى هو الحكم العدل، لا معقب لحكمه.
وبهذا يعلم أن أهل كل عصر قد اشتهر فيهم عدد كثير من كتب التفسير، ونحن لا نستطيع تتبعها؛ فلا حصر لها، ولكننا نذكر أمثلة يحتاج إليها الباحث في التفسير، وهي من المراجع المهمة لكل دارس تفسير، فمن مدرسة الأثر: كتاب ابن جرير الطبري الذي ذكرناه، وهو في الواقع جامع بين الأثر والرأي، ومنها: كتاب ابن كثير "تفسير القرآن العظيم"، فإنه يجلب فيه النصوص بالأسانيد، ما كان منها في مسند الإمام أحمد يذكره بإسناد أحمد، وما كان في صحيح البخاري يذكره بإسناد البخاري، وما كان في صحيح مسلم يذكره بإسناد مسلم، وهكذا، ولا يذكر إسناده هو إلى أصحاب الكتب المعروفة؛ استغناءً عن ذلك، فالإسناد ثلاث درجات: الإسناد منك إلى صاحب الثبت، ومن صاحب الثبت إلى صاحب الكتاب، ومن صاحب الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى منتهاه، وأهم الأسانيد هو الإسناد من صاحب الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكتاب اشتهر، وروي، وعرف، فنحتاج إلى معرفة رجاله من المؤلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً، أما رجالنا نحن إلى البخاري فقد لا تحتاج إلى تراجم كثير منهم؛ لأن صحيح البخاري قد تناقله الناس، وهو موجود في الأيدي، معروف؛ فلذلك أورد ابن كثير في تفسيره هذه الأحاديث بأسانيد أصحاب الكتب.
ولم يخل كتابه من بعض القصص الإسرائيلية، وقد لا يعلق عليها، مثل كلامه في الشجرة، قال: (شجرة كانت تأكل منها الملائكة) وهذا إنما هو نقل عن الإسرائيليات؛ فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون، وقد قال الله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، فلم يبق لهم وقت للأكل ولا للشرب؛ لأنه قال: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، فهذا لا بد مردود على من قاله.
كذلك من التفاسير بالأثر كتاب الجلال السيوطي الذي سماه "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، وقد جمع فيه كثيراً من الكتب التي سبقته، واعتمد فيه على ابن جرير الطبري، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم الرازي، وغيرهم من الأئمة الذين ألفوا في التفسير بالأثر.
أما التفسير بالرأي فهو أنواع؛ لأن أهل العلم تختلف آراؤهم باختلاف انشغالهم في العلم، فمنهم من اشتغل بالفقه، ومنهم من اشتغل بالعقائد، ومنهم من اشتغل بالأصول، ومنهم من اشتغل بعلوم اللغة، وكل يتأثر باختصاصه، فمثلاً تفسير ابن عطية المسمى بــ(المحرر الوجيز) اشتغل فيه صاحبه بالفقه، وبالقراءات، وتبعه على ذلك القرطبي؛ فتفسيره (الجامع لأحكام القرآن) أيضاً اشتغل بالقراءات، والفقه، وأقوال أهل العلم، وأدلتهم، وكذلك الذين أفردوا التفسير في آيات الأحكام كـالجصاص من الحنفية، فقد ألف كتاب (أحكام القرآن)، وكـالكيا الهراسي من الشافعية، وكـأبي بكر بن العربي من المالكية، وكـابن الفرس أيضاً من المالكية، فهؤلاء ألفوا في تفسير آيات الأحكام بالخصوص، فاهتموا بالفقه والاستنباط، وقد حاول السيوطي تلخيص بعض كتبهم في كتابه المختصر الذي سماه "الإكليل في استنباطات التنزيل"، وإن كان السيوطي في الإكليل لا ينسب المذاهب إلى أهلها، فيقول: قول الله تعالى كذا وكذا فيه كذا، وفيه كذا، وفيه كذا..، يذكر ما استنبط منه دون أن ينسب ذلك إلى أحد، والذين اشتغلوا بالتفسير قبله يذكرون من استنبط ذلك، وأقوالهم، وأدلتهم.
والذين اشتغلوا باللغة من أشهرهم أبو حيان الأندلسي الجياني، وكتابه هو "البحر المحيط"، وقد اشتغل فيه بعلوم اللغة مطلقاً، بمفرداتها، وبنحوها، وببلاغتها، وكتابه بحر محيط في هذا الباب، وقد أورد فيه كثيراً من الشواهد، وشواهده اللغوية أتى القرطبي في تفسيره أيضاً بكثير منها.
ومن الذين اشتغلوا بعلم الكلام، والعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق، الفخر الرازي، وتفسيره هو "مفاتيح الغيب" أو "التفسير الكبير"، وقد توفي قبل إكماله، فوصل في التفسير إلى قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء:101-103]، فلما فسر هذه الآيات مات، فكانت ختامه في التفسير، وهذا النوع حصل لعدد من المفسرين؛ ففي عصرنا هذا الشيخ محمد رشيد رضا رحمة الله عليه في "تفسير المنار"، آخر آية فسرها هي قول الله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، فسر هذه الآية ومات في حادث سير رحمة الله عليه، وهكذا الشيخ محمد الأمين آب رحمة الله عليه، فآخر ما فسره قول الله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20]، هذا آخر ما فسره رحمه الله.
وكتاب الفخر الرازي كمله أحد طلابه بسياقه؛ فلا يستطيع الإنسان الفصل بين كلامه وكلام الرازي، كما فعل السيوطي أيضاً بتفسير المحلي -الجلال المحلي- أراد تفسيراً مختصراً للقرآن يشير فيه إلى اختلاف القراءات إشارة خفية، فافتتحه بتفسير الفاتحة، ثم بدأ من سورة الكهف حتى أكمل القرآن، فتوفي عندما أكمل تفسير سورة الناس، فجاء السيوطي، فبدأ من البقرة إلى سورة الكهف، لكن جاء بنفس الأسلوب، والسياق، والشرط الذي سار عليه المحلي؛ فلا يستطيع الإنسان التمييز بين كلامهما، وتفسيرهما هو الذي يسمى بــ"تفسير الجلالين" الجلال السيوطي والجلال المحلي.
وكذلك من الكتب المهمة في التفسير أيضاً تفاسير أخرى نحت منحىً تجديدياً في أمور أخرى، كتفسير الثعالبي، وقد ذكر فيه كثيراً من القصص، والأخبار، والمواعظ، والذكرى، وكتفسير البيضاوي، وكتفسير أبي السعود، وقد انتهج منهج الاختصار، وذكر النكت البلاغية، واتبع في ذلك الزمخشري؛ فتفسيره "الكشاف" من الكتب التي اهتم فيها كثيراً ببلاغة القرآن وإعجازه، وإن كان الزمخشري ذكر كثيراً من الآراء الاعتزالية في كتابه، وأتى بها على وجه يصعب فهمها معه، فيأتي بها بإشارة خفية، وقد بالغ في مدح كتابه، حتى إنه قال:
أهل التصانيف في الدنيا ذوو عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي
ويقول فيه:
فالكتب كالداء والكشاف كشاف.
وهذه سلالة من سلالات التفسير؛ فـالزمخشري هو أب للبيضاوي ولـأبي السعود، ومن كان على شاكلتهما، أي سلالة معينة من سلالات التفسير، وكذلك النسفي؛ فإنه اعتمد على ترتيب البراهين بعقلية، وإن كان تفسيره مختصراً، وكذلك الخازن؛ فقد اعتمد على قصص بني إسرائيل وأكثر منها (الإسرائيليات) مع أن كثيراً منها نحن في غنىً عنه، لكنه اعتمد على قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( حدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج ).
وكذلك من المتأخرين كثير من الذين أفادوا، وأجادوا، وأتوا بأمور لم يسبقهم إليها من سبق، فمثلاً: الألوسي رحمه الله ألف كتابه في التفسير، فأتى فيه بإبداع جديد، وهو تعرضه للتفسير الإشاري، وذكره لأوجه من أوجه الإعجاز لم يسبقه إليها غيره، وكتابه هو (روح المعاني) وكذلك شيخه أيضاً الذي ألف كتاب "روح البيان" أتى بكثير من الإشارات، والدلالات في تفسيره.
وكذلك من المتأخرين أيضاً الشيخ محمد جمال الدين القاسمي، وكتابه أراد فيه أن يقتصر على أقوال أهل السنة وأن يجنبه أقوال أهل البدعة، وأقوال المعتزلة، وأقوال المتكلمين، وأن لا يسوق فيه الإسرائيليات؛ فكان كتاباً نافعاً جيداً، وانتحى فيه نحو عالمين سبقاه إلى التفسير، وهما: الماوردي، وكتابه "النكت"، وهو مطبوع، وكذلك ابن الجوزي، وكتابه "زاد المسير"، وهو مطبوع أيضاً؛ فهذه أيضاً سلالة، وهي: الماوردي، وابن الجوزي، والقاسمي، هذه كتب في التفسير متشابهة؛ فيغني بعضها عن بعض.
وكذلك من المتأخرين الذين انتهجوا منهجاً تجديدياً الشيخ محمد الطاهر بن عاشور التونسي، وسماه: "التحرير والتنوير"، وهو من أكبر كتب التفسير وأوسعها، وقد ركز فيه على الإعجاز البلاغي للقرآن، فيأتي بأسلوب القرآن، ويأتي بأساليب العرب، والتعبير عن الأفكار، فيبين إعجاز القرآن، وأنه لا يمكن أن تسد كلمة من لغة العرب مسد كلمة من القرآن.
وكذلك من المبدعين من المتأخرين في التفسير أيضاً الشيخ محمد الأمين آب ولد اخطور رحمة الله عليه، وكتابه سماه: "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن"، وأراد بذلك أن يبحث المواضع التي تكررت في القرآن، فيفسر بعضها ببعض، ويجلب بعضها شاهداً على بعض، فما طوي في مكان ينشر في مكان آخر، وقد توسع الشيخ في أصول الفقه، وفي بعض المسائل الفقهية، حتى إنه في تفسير سورة الحج أتى بأكبر منسك ذكر فيه أقوال أهل العلم في مسائل الحج التفصيلية، ويقارن بين الأدلة، ويرجح، وقد أتى فيه بأبحاث جليلة عظيمة، منها رده على ابن حزم في نفي القياس، وأتى به في تفسير سورة الأعراف، وقد توفي قبل إكماله رحمة الله عليه.
وكذلك من المبدعين في عصرنا هذا في التفسير أيضاً سيد قطب رحمة الله عليه، وقد سمى كتابه: "في ظلال القرآن"، فلم يرد أن يجعله تفسيراً، وقد ألف كثيراً منه في السجن، وليس له مراجع، وأراد أن يجعل مقدمة لكل سورة يذكر فيها ما تناولته هذه السورة بالعموم، فإذا أراد الإنسان الاطلاع على سورة من سور القرآن، مثلاً: سورة المائدة، أو سورة الأنعام، أو سورة الأعراف، فليقرأ المقدمة، فسيجد محتوى السورة مبيناً بأسلوب يقتضي معك أن تسير مع السورة، فتعرف المواقف (ما يمكن أن تقف عنده من السورة، والمقاطع التي يمكن أن تبتدئ بها) وهذا النوع من التفسير هو إبداع جديد؛ لأن كثيراً من المفسرين يفسرون القرآن كلمة كلمة، أو آية آية، والقرآن في الواقع معجز؛ ولذلك فأساليبه متماسكة، يكون الكلام الآن في مجال، ثم يخرج منه الأسلوب بلطف ورفق، فيدخل في أمر آخر، ولا تشعر بالفرق بين البابين؛ ولذلك فإن الله تعالى في القرآن إذا حكى كلام من يرتضي كلامه، لا يقول قبله: قال، ولا يذكر قبله ما يشعر بأن هذا من كلام غير الله، وإذا حكى كلام من لا يرتضي كلامه قال قبله: قال، وحكى ما يشعر بأنه ليس من كلام الله، وتجدون مثال ذلك في سورة مريم، في قول الله تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، الآية التي قبل هذه يقول فيها: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم:59-64]، هذا الكلام سياق واحد، وهو معجز، ولا يشعر الإنسان فيه بالخروج من الأسلوب: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، ثم جاء: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم:64]، فهذا من كلام الملائكة، حكاه الله تعالى عنهم، لكن بما أن الله يقره ويثبته لم يقل: تقول الملائكة: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا * وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم:64-66]، هذا الكلام غير مرضي، وغير صحيح؛ فنسبه الله إلى قائله، فقال: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم:66]، فهذا من الإعجاز العجيب، والإنسان إذا لم يكن يعرف هذه المواقف في القرآن لا يمكن أن يفهم أسلوبه؛ ولذلك قد تأتي الضمائر على وجه معجز لا يفهمه الإنسان إلا بهذا التقصي، فمثلاً قول الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:8-9]، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9]، الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم، وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح:9]، الضمير لله سبحانه وتعالى، فمن لا يعرف عود الضمير ومراجعه، يشكل عليه هذا، لكن هذا من إعجاز القرآن؛ فلذلك أبدع سيد قطب رحمة الله عليه حين أتى بهذه المقدمات، وذكر المقاطع، وقد هدي إلى إبداع جديد في التفسير، وهو أيضاً بيان تغطية القرآن للمجال الفكري لعقل الإنسان؛ فعقل الإنسان يتعلق بالكون، والحياة، وشئون الناس ومعاشهم، والأمور الاجتماعية، والأمور السياسية، وارتقاء الدول وانخفاضها، ونحو ذلك، هذه أمور يتعلق بها عقل الإنسان، ولكنه يحتاج فيها إلى تنوير من الوحي؛ فجاء التنوير فيها بالقرآن مقطعاً في أماكن مختلفة، فأتى هو به وجمعه، وأصبح تفسيراً فكرياً واضحاً للقرآن، وإن كان فيه بعض الأخطاء ككل التفاسير الأخرى، فكل التفاسير التي ذكرناها فيها أخطاء؛ فالكتاب الذي لا خطأ فيه هو القرآن وحده.
وكذلك من المبدعين في هذا أيضاً من المعاصرين سعيد حوى رحمة الله عليه، وكتابه سماه: "الأساس في التفسير"، أراد فيه فقط الأساس الذي يرجع إليه طالب العلم في التفسير، وقد انتهج منهجية سيد قطب في ذكر المقدمات للسور والمقاطع، وأتى فيه أيضاً بكثير من التربية: ركز فيه على أمور التربية؛ كيف يحفظ الإنسان جوارحه في ظلال القرآن، كيف يحفظ تفكيره في ظلال القرآن، كيف يعرض عن اللغو، كيف يعرض عن المنكرات، الجانب التربوي ركز عليه في كتابه، وهكذا.
فالجميع يغترفون من هذا البحر الخضم الذي لا حصر له، وما أتوا به إنما هو نقطة فقط من هذا البحر، وسيأتي بعدهم أضعافهم، ولا يزال القرآن فيه ما يفسره المفسرون، ويبقى على ذلك كثير منه يفهمه أهل عصر لم يفهمه من قبلهم؛ ولذلك فنحن الآن نفهم كثيراً من أمور القرآن التي لم يذكرها المفسرون، ولا وردت من قبل، وهذه فائدة حلقاتنا هذه في التفسير؛ لأن الإنسان يطلع فيها على كثير من الأمور التي لم يتعرض لها المفسرون؛ ولذلك فالشيخ محمد متولي الشعراوي رحمة الله عليه كان ينبه على الأوجه التي لا توجد في التفسير، وهدي هو إلى تفسيرها في مواضع متنوعة من القرآن، وكذلك الشيخ عبد الحميد كشك رحمة الله عليه في كثير من المواضع يهدى لنكات عجيبة جداً، وتجدها قريبة سهلة، وتعجب كيف لم يذكرها المفسرون؟! والعلوم الحديثة تكشف كثيراً من الأمور من هذا النوع؛ ولذلك لا يمكن الجزم بأن دلالة الآية منحصرة في كذا، بل يقال: هذا من تفسيره، مما يفهم من هذه الآية، ويمكن أن يفهم منها غيرنا كثيراً من الزيادات.
قد انتهى الوقت دون أن نلم بما كنا نريد الإلمام به من أوجه خدمة هذه الأمة للقرآن، ونحاول إن شاء الله الاختصار في الحلقات اللاحقة، ثم نبدأ في حلقات التفسير إن شاء الله.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر