إسلام ويب

شرح لامية الأفعال [16]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يختتم ابن مالك لامية الأفعال بحمد الله سبحانه وتعالى أن هيأ له الوفاء بما وعد به في أول منظومته، من الإحاطة بالقواعد المهمة في الفعل وأبنيته واشتقاقاته، ثم ثنى بالصلاة والسلام على النبي الكريم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم من الصالحين. ثم جاء الحسن بن زين فزاد على خاتمة ابن مالك كما سبق وأن زاد على منظومته، مبيناً منهجه في ترسم خطى شيخه، داعياً كل من اطلع على زياداته من أهل الفن والصنعة إلى إصلاح ما فيها من الخطأ وفق الضوابط المقررة.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد ختم ابن مالك لاميته بقوله:

    وقد وفيت بما قد رمت منتهيًا والحمد لله إذ ما رمته كملا

    (وقد وفيت بما قد رمت منتهياً) أي: الذي رمته وقصدته، رام الشيء، بمعنى: قصده، قد وفيت به، كأنه وعدك به من قبل؛ لأنه قال: ( فهاك نظماً محيطاً بالمهم )، فكأنه وعدك، والآن يفي بهذا الوعد، والوعد يجتمع فيه عطاءان؛ لأنه في البداية عندما يعدك منَّاك بشيء لتتعلق نفسك به، ثم بعد ذلك يفي لك به فقد أعطاك، ومن هنا يقال: إن الوعد لا ينافي الجود إذا حصل معه الوفاء.

    ( وقد وفيت بما قد رمت ) (وفيت) من وفى يفي، بمعنى: صدق وعده، ( بما قد رمت ) أي: بما قصدت من هذا النظم الذي هو محيط بالمهم من هذا العلم، ( منتهياً ) أي: بالغاً النهاية، وهي حال مني، أو من (ما رمت)، يمكن أن تكون حالة من ابن مالك نفسه، أو مما قد رام، يكون حالاً من ما أو حالاً من التاء.

    ( والحمد لله إذ ما رمته كملا )، أثنى على الله سبحانه وتعالى في النهاية، وهذا الحمد على النعمة؛ لأن من نعم الله عليه أن أكمل هذا النظم، ووفى بما وعد، وأدى ما أراد، فحمد الله سبحانه وتعالى على كماله؛ فلذلك قال: ( والحمد لله إذ ما رمته كملا )، (إذ) هنا يمكن أن تكون حرف تعليل، معناه: لأن ما رمته قد كملا، فالله يستحق الحمد على نهاية هذه النعمة، ويمكن أن تكون ظرفاً، معناه: والحمد لله حين كماله، وهذا الحمد في مكانه المناسب، الحمد لله أولاً وآخراً.

    ( والحمد لله إذا ما رمته ) أي: ما قصدته ( كملا )، وأراد أن يختم بمثل ما ابتدأ به بالحمد لله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

    ثم الصلاة وتسليم يقارنها على الرسول الكريم الخاتم الرسلا

    ثم بعد حمد الله، الصلاة والسلام وتسليم يقارنها؛ أي: يقارن الصلاة بالعطف عليها، والعطف بالواو يقتضي المقارنة؛ لأن الواو تعطف السابق على اللاحق، واللاحق على السابق، وتعطف المقارن الموافق أيضاً، والصلاة والسلام مقترنان لعطفهما بالواو؛ فلذلك قال: ( ثم الصلاة ) معناه: ثم بعد حمدي لله تعالى، والصلاة والسلام على الرسول، معناه: صلاة الله وسلامه على الرسول، ( وتسليم يقارنها )، وجملة يقارنها نعت للفظة (تسليم).

    ( على الرسول الكريم الخاتم الرسلا )، (على الرسول الكريم) صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يميزه؛ لأن كل الرسل كذلك، لكنه ميزه بقوله: ( الخاتم الرسلا )، هذا الذي يميزه عن غيره من الرسل صلى الله عليه وسلم، وهو خاتمهم، فيجوز أن يقال: الخاتِم الرسلا، أو الخاتَم الرسلا، الله تعالى يقول: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] (وخاتِم النبيين) كل ذلك مقروء به في السبع، فـ(الرسلَ) مفعول لقوله: الخاتم، والوصف محلى بأل، المفعول هنا أيضاً محلى بأل (خاتم الرسلا)، وهذا المنصوب بعد الوصف الراجح فيه أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به، ويقال غير ذلك، حيث قال: ( الخاتم الرسلا ).

    وآله الغر والصحب الكرام ومن إياهم في سبيل المكرمات تلا

    ( وآله ) عطف على النبي صلى الله عليه وسلم آله وهم: -كما سبق- المؤمنون به في مقام الدعاء، وفي مقام التشريف هم: آلُ بيته الذين حرموا الصدقة بعده.

    ( الغر ) وهم: جمع أغر، والأغر: الأبيض الوجه، والمقصود بذلك بياض السمعة، وطهارة العرض، لا بشرط بياض الوجوه، والعرب يمتدحون ببياض الوجوه، من ذلك قول حسان رضي الله عنه:

    بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول

    وكذلك قول امرئ القيس:

    ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المجالس غران

    فهنا امتداحهم ببياض الوجه إنما يقصد به أنهم لم تدنسهم الأطماع والأدران، ولم يزر بهم ما يزري بغيرهم من إدالة الوجوه، فقد أعزهم الله بعز الطاعة والغنى، ولم يذلهم بذل المعصية والفقر، هذا الذي يؤدي إلى سواد الوجوه، ولذلك يقول العرب:

    ما ابيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوِّدَه شحوب المطلب

    فبياض الوجه بمعنى: البياض المعنوي بين الناس.

    ( والصحب الكرام )، كذلك الصلاة والتسليم مع النبي صلى الله عليه وسلم على صحبه، قد سبق أن الصحب جمع صاحب، والكرام جمع كريم، وهي صفة كاشفة تتناول كل أصحابه، وهو مَن آمن به، واجتمع معه، ومات على دينه.

    ( ومن إياهم في سبيل المكرمات تلا )، كذلك يدخل معهم كل من تلاهم، أي: تبعهم في سبيل المكرمات، أي: اقتفى أثرهم في الحق، سبيل المكرمات هو: سبيل الله؛ لأن الحسنات هي: المكرمات، فهي التي يكرم الله من قام بها، فالمكرمات الأفعال التي يكرم من فعلها، وهي الحسنات، فكل من تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم فهو معطوف عليهم، فلهذا قال: ( ومن إياهم ) معناه: ومن تلا إياهم في سبيل المكرمات، وإياهم مفعول مقدم لـ(تلا).

    وأسأل الله من أثواب رحمته سترًا جميلاً على الزلات مشتملا

    من المناسب في نهاية الكتاب لما كان قربةً يتقرب بها إلى الله أن يدعو في نهايته ككل قربة، وكل من عمل طاعةً لله سبحانه وتعالى، وأكملها، فالمقام متاح لأن يدعو، كما قال الله تعالى في الحج: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:200-201]، وكذلك في كل عبادة، فبعد نهايتها وأدائها يشرع الدعاء؛ كالصلاة مثلاً يشرع الدعاء بعد التشهد الأخير، فلهذا أراد أن ينتهز هذه الفرصة، فيسأل الله، ووفق في السؤال، فسأل الله الستر الجميل، فقال: ( وأسأل الله من أثواب رحمته )، وجعل الرحمة ذات أثواب لسترها؛ لأن الستر الجميل هو من آثار رحمة الله تعالى، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص:73]، آثار الرحمة كثيرة جداً، وهذه الآثار جعلها أثواباً؛ لأنها تستر ما تحتها وتزينه، فالثوب يستر ويزين، ولهذا جاء في حديث لبس الثوب: ( الحمد لله الذي كساني ما أستر به عورتي، وأتجمل به في حياتي )، فكذلك أثواب الرحمة تستر وتجمل.

    (... من أثواب رحمته ستراً جميلاً )، والسِّتْر بكسر السين ما يستتر به، وأما السَّتْر بالفتح، فتطلق أيضاً عليه، وتطلق على المصدر، وبهما روي دعاء من أدعية الصباح والمساء: ( اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وسِتر، أو وسَتر، فأتمم نعمتك علي وعافيتك وسَترك في الدنيا والآخرة، أو وسِترك في الدنيا والآخرة ).

    ( ستراً جميلاً ) أي: غير قبيح؛ لأن الستر قد يكون جميلاً وقد يكون قبيحاً، فالستر الجميل: هو الذي لا يقتضي من الإنسان مذلةً ولا عيباً، والستر القبيح هو: أن يستر عيب الإنسان في الدنيا بعيب آخر، نسأل الله السلامة والعافية؛ كمن به برص، أو جذام، أو نحو ذلك، أو من به نقص عقل، فإن ذلك يستر عيوبه الأخرى، فيغتفر له بعض التصرفات بسبب ما فيه من نقص العقل مثلاً، أو نحو ذلك.

    ( على الزلات مشتملا ) أي: أن يكون هذا الستر، الذي هو من أثواب رحمة الله تعالى مشتملاً على كل الزلات، أي: على كل الذنوب التي وقعت فيها ليسترها، وذلك بعدم فضيحتي في الدنيا، وعدم مؤاخذتي في الآخرة، على الزلات مشتملا.

    وأن ييسر لي سعـيًا أكون به مستبشرًا جذلاً لا باسرًا وجلا

    الدعاء ينقسم إلى قسمين: إلى دعاء رغب، ودعاء رهب، فبدأ هو بدعاء الرهب؛ لأنه من باب دفع المضار ودرء المفاسد مقدم على جلب المنافع المصالح، فبدأ أولاً بدعاء الرهب، ثم ثنى بدعاء الرغب، فقال:

    وأن ييسر لي سعـيًا أكون به مستبشرًا آمناً لا باسرًا وجلا

    معناه: وأسأل الله أن ييسر لي سعياً؛ أي: عملاً صالحاً، (أكون به مستبشراً) في الدنيا والآخرة، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39].

    ( آمناً في الدنيا والآخرة ) أيضاً، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

    ( لا باسراً وجلاً )، لا باسراً هذه مقابلة لقوله: (مستبشراً)؛ لأن الباسر هو: العبوس المقنطر الوجه، ووجلاً مقابلة لقوله: (آمناً)؛ لأن الوجل هو: الخوف، وهذا تفسير للكلمتين بما يقابلهما ويضادهما، وهنا سأل الله أن ييسر له طاعته، وهذا امتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، وهذا تيسير للطاعة، هذه هي الخاتمة التي وضعها ابن مالك .

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088536517

    عدد مرات الحفظ

    777191128