بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بالنسبة لعلم الاعتقاد علم من هذه العلوم التي كانت في الأصل داخلةً في علوم الحديث ثم استقلت بعد بالتأليف، وقد ذكرنا من قبل أن علم الحديث هو أصل العلوم الشرعية كلها، فقد كان علم التفسير وعلم القراءات، وعلم شروح الحديث وعلم الفقه والأصول كل ذلك داخلاً في علم الحديث، فلهذا تجدون كتب الحديث تشمل هذه العلوم كلها، فهو أصل العلوم كلها، ومنه انشعبت هذه العلوم الأخرى ومنها علوم العقائد.
وإذا بدأنا في مقدمات هذا العلم فسنذكر حده أي تعريفه، ينقسم إلى قسمين كغيره: إلى تعريف بالمعنى اللقبي، وتعريف بالمعنى الإضافي، فقولنا: علم العقائد هذا مركب إضافي، قدره علم، ومعناه كما ذكرنا من قبل الفهم والمعرفة، والمقصود به هنا الفن من الفنون، والعقائد جمع عقيدةً وهي ما ينعقد عليه القلب أي يجزم به، وإدراك القلب أقسام، فأقل مراتبه وأدناها الوهم، وفوقه الشك وهو المستوي الطرفين، وفوق ذلك الظن، وهو ثلاثة أرباع العلم، وفوق ذلك اليقين وهو العلم كله، لكن اليقين إن كان لا يقبل الشك سمي اعتقاداً جازماً، وإن كان يقبل الشك سمي اعتقاداً غير جازم، والاعتقاد الجازم هو الذي يطلق عليه باليقين، وليس معنى هذا أن علم العقائد كله قطعي ولا تدخله ظنيات كما يتوهمه كثير من الناس، بل نحن نتكلم عن العلم بكامله وبه المسائل الخلافية وهي أكثره، وفيه المسائل التي لا يشترط معرفتها على المسلمين، ولا يطلب من كل المسلمين معرفتها، بل لا ينقص ذلك من إيمان الإنسان، فجهل الإنسان بها لا ينقص من مراتب إيمانه، وذلك أن أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته عائشة أم المؤمنين، وقد كانت تجهل بعض المسائل التفصيلية في العقائد كعذاب القبر، كما صح في الصحيحين: ( أنها ما تعلمت ذلك إلا من عجوزين من اليهود، وكان ذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: فكذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما، فلما خرجتا دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: عائذاً بالله من عذاب القبر، ثم لم أزل أسمعه بعد ذلك يستعيذ بالله من عذاب القبر ).
وعقيدة عذاب القبر من العقائد المتفق عليها والقطعية بالأدلة، أما قطعيتها فهي على الراجح؛ لأنها جاءت في القرآن، وجاءت في السنن الثابتة، أما في القرآن فمن ذلك قول الله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فهنا قوله: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) هذا عذاب القبر، ومثل ذلك قوله: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21]، والمقصود به عذاب القبر، وقد جاء فيه عدد من الأحاديث الكثيرة مثلما ثبت في الصحيحين في فتنة القبر من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الكسوف: ( إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال لا أدري أي ذلك قالت أسماء، فيقال للرجل: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: صدقت وبرئت، نم نومة عروس، وأما المنافق أو المرتاب: لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما، لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها )، وفي رواية: ( بمطارق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، وهذه الضربة دليل على عذاب القبر إنها منه، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدل على عذاب القبر مثلما ثبت في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مجلس من أصحابه ذات ليلة، فسمعوا أصواتاً مفزعةً فقال: تلك يهود تعذب في قبورها ).
وكذلك ما ثبت في الصحيحين من وقوفه على أهل القليب بعد أن رماهم فيه فكلمهم وقال: ( ما أنتم بأسمع منه لما أقول عندما قال له عمر ما قال ).
وعلى هذا فعلم العقائد يشمل القطعيات والظنيات، فظنياته المسائل الخلافية، وما لا يقوم عليه دليل أصلي قوي، أو ما يقوم عليه دليل ظني، فكل ذلك يسمى ظنياً، وأما القطعيات فمثل أركان الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، ومثل ذلك ما يتعلق باعتقاد وجوب أركان الإسلام العملية، فالذي يرى أن الأصول تختص بالجانب العلمي العقدي دون الجانب التطبيقي العملي مخطئ، فلا شك أن اعتقاد وجوب الصلاة من الاعتقاد الواجب القطعي من الدين، وأن اعتقاد حرمة الخمر والزنا والربا من أصول الدين الأصلية، ومن أنكر وجوب شيء من ذلك القطعي فهو كافر؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة وكابر فيه، فهذا تعريفه بالمعنى الإضافي.
أما تعريفه بالمعنى اللقبي: فإن علم العقائد علم من علوم الشرع يبحث فيه عما يجب على المسلم تعلمه، أو يطلب منه من أمور الإيمان وما يلتحق بها، فقولنا: علم من علوم الدين، فليس هو من علوم العقل المحضة، ولا من علوم العادات التي تخضع للتجربة، بل هو من علوم الدين، معناه أن مبناه على الوحي، يبحث فيه في أمور الإيمان وما يجب على المكلف أو يطلب منه تعلمه من أمور الإيمان، والواجبات التي يجب تعلمها أركان الإيمان، وكذلك في المقابل ما يجب تعلمه من واجبات الدين الأصلية كوجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وكحرمة الزنا، والخمر، وقتل النفس التي حرم الله، وغير ذلك من الأركان، أو يطلب.
فعلم العقائد لا يختص بما يجب تعلمه بل يدخل فيه ما يطلب تعلمه عموماً سواءً كان ذلك الطلب على سبيل الوجوب الكفائي، أو كان على سبيل السنية أو الندب أو الاستحباب كتفصيلات هذا العلم.
وبالنسبة لطلاب العلم فإنه يندب لهم الإحاطة بها ومعرفتها، ولا يجب ذلك عليهم؛ لأن ما ليس كفائي منها لا يجب، ومثل ذلك ما لو قام بفرض الكفاية من يكفي فإن البقية لا يجب عليهم تعلم تلك الجزئيات، بل يندب لهم فقط، وقولنا: من أمور الإيمان أي: ما يتعلق بالإيمان، والمقصود بالإيمان هنا الإطلاق الأخص؛ لأن الإيمان يطلق إطلاقين: يطلق إطلاقاً عاماً على كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، فيدخل فيه اعتقاد القلب، وعمل الجوارح، والنطق باللسان، فيكون شاملاً لذلك كله، فهو نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
والإطلاق الخاص إطلاق الإيمان على الجانب العلمي الذي يتعلق بعلم القلب فقط، وهو ركن من أركان الإيمان العام، وهذا الإطلاق هو في حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، وكذلك هو في آية الحجرات في قول الله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].
ومثل حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح البخاري: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً وترك رجلاً وسعد جالس، قال: فقلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان، فإني والله لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً؟ فسكت ثم غلبني ما أعرف فيه فقلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان، فإني والله لأراه مؤمناً؟ فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته، فسكت، ثم غلبني ما أعرف فيه فعدت لمقالتي فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته ).
فهذا الإيمان هنا إذا أطلق بالإطلاق الأخص تعلق بالجانب العلمي الذي يعتقده القلب، ولا شك أن الترابط حاصل بينه وبين غيره من الجوانب؛ لأن مبناها عليه، الجوانب الأخرى مبناها على هذا العلم الذي يقر في القلب، ويستقر في النفس، فعليه تبنى الأعمال الظاهرة للجوارح، وعليه تبنى الأخلاق الباطنية في النفوس، فالدين كله مترابط على هذا، لكن مقصودنا هنا الجانب العلمي فقط، فهو الذي يتناوله علم العقائد ولا يدخل فيها تفصيلات الجوانب العملية، لا في الأخلاق والسلوك، ولا في التعبدات والمعاملات، وإن كان بعض أهل العلم يورد بعض المسائل الجزئية أي: المسائل العملية في مسائل الاعتقاد ويجعلها منها؛ لكثرة الخلاف فيها؛ ولاشتهار مذهب أهل السنة فيها، ولكن هذا اصطلاح لا حرج فيه مثلما تداخل مسائل العلوم كلها، فمثلاً أحكام الإمامة، وطاعة ولاة الأمور، وما لهم من حقوق وما عليهم، وأحكام البيعة وشروطها، هذه مسائل عملية فقهية، ولكن العلماء درجوا على إدراجها في كتب العقائد وعلم العقائد، وقد ذكر بعضهم أيضاً بعض المسائل الأخرى كالمسح على الخفين الذي ذكره الطحاوي مثلاً؛ لأنه من الأمور التي اشتهرت مخالفة الروافض فيها.
وكذلك أحكام التكفير، فقد يدرجها بعض الناس في علوم العقائد، مع أنها من الأحكام الفقهية المختصة التطبيقية، ومثل ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسائل الحسبة فهي من الفقه، ولكن درج بعض المؤلفين في العقائد على إدراجها فيها؛ لأن المعتزلة جعلوا من أصولهم الخمسة أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصود عندهم الخروج على الأئمة، وأخذوا ذلك من الخوارج هذا أصل عندهم.
والمسألة الأولى هي التي يدخلها الإرجاء والكلام فيه في مسائل التكفير.
والمسألة الثانية هي التي يدخل فيها الخروج وما يتعلق بالإمامة.
هذا عن حد هذا العلم.
أما موضوعه فهو أركان الإيمان وما يتعلق بها، وأركان الإيمان تشمل أولاً معرفة الإيمان ما هو، والقدر الكافي منه؛ لأن الإيمان مشكك متفاوت الأطراف متناه، فمنه الأكارع، ومنه ذروة السنام، ومنه الأطراف المتباينة، ودرجات الناس فيه متفاوتة جداً وهو يخلق ويجد في النفوس ويصدأ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأقل ما يطلق عليه الإيمان من ذلك هو مثل يوم القيامة يوزن بذرة أو بحبة من خردل، أما في الدنيا فيحتاج إلى معرفته بالمسائل التي يتعلق بها الإيمان.
ولهذا ينكر في هذا العلم ما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصه، وقد اختلف العلماء في المقصود بزيادة الإيمان ونقصه، فقالت طائفة: المقصود بذلك قوة اليقين ونقصه، وهذا الذي عليه الجمهور، أن الناس يتفاوتون في اليقين، فمنهم من يكون يقينه قوياً بحيث يكون أرفع عنده من الأسباب، وذلك أن الإيمان ليس مجرد قناعة عقلية، بل هو منحة ربانية، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وكما في قوله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].
ومثل قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111].
فلذلك يتفاوت الناس فيه بحسب قوة هذه القناعة التي هي منحة ربانية تنزل في جذر قلوب الرجال، وتزداد بالعمل والتقوى والابتعاد عن الشبهات، وكلما ازداد الإنسان عبادةً لله سبحانه وتعالى ازداد حظه من هذا النور الذي هو اليقين والثبات.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود بزيادة الإيمان زيادة جزئيات ما يؤمن به الإنسان، فكلما ازداد الإنسان علماً في الاعتقاد، ازداد إيماناً بمعنى أن تزداد الجزئيات التي يؤمن بها، وذلك لقول الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124].
إذا وزنت أية سورة سيزداد عدد السور التي يجب الإيمان بها، فيكون الإيمان قد ازدادت أفراده؛ لأنك قبل نزول هذه السورة كان يجب عليك الإيمان بالسور التي نزلت فقط، وزادت الأفراد بالسورة الجديدة، فيزداد الإيمان بمقتضاها وتصديق ما فيها، لكن هذا القول يشكل عليه أن الذين ماتوا قبل تكامل القرآن ليسوا أقل إيماناً ممن سواهم، ولو كان المقصود بزيادة الإيمان ونقصه هذا المفهوم لكانت خديجة بنت خويلد من أقل الناس إيماناً؛ لأنها توفيت قبل تكامل القرآن المكي فضلاً عن المدني، وليس هذا صحيحاً، بل نحن نعلم مستوى إيمانها الذي استطاعت هي أن تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الحاجة، قالت: ( كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق ).
وكذلك الذين قتلوا في المعارك الأولى في الإسلام كشهداء بدر وأحد وغيرهم فلا شك أن مستواهم في الإيمان هي أعلى الدرجات، فهم الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:173-174]، وبذلك فليسوا في أدنى درجات الإيمان، مع أن كثيراً من القرآن نزل بعد موته، وكثير ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يجب الإيمان به أخبر به بعد موته.
القول الثالث: أن المقصود بزيادة الإيمان مجرد زيادة العمل، فكلما ازداد الإنسان بالتقوى اعتبر قد زاد إيمانه، وكلما انتقص من واجباته أو فعل من المحرمات يعتبر قد نقص إيمانه بذلك، وهذا القول مجازي ليس على حقيقته، بل المقصود بذلك ما يلزم عليه؛ لأنه لا شك أن زيادة الطاعات تزيد النور القلبي، وزيادة ذلك النور القلبي هو الذي نعني بزيادة الإيمان، فهذا القول راجع إلى القول الأول، وليس مقصوداً بذاته، والذين يصرحون بأن زيادة الإيمان بزيادة الأعمال، وأن نقصه بنقصها من أئمة السلف مقصودهم زيادة النور الذي يترتب على الأعمال لا نفس الأعمال، فلذلك من الناس من يعمل أعمالاً طائلةً ولا تنفعهم، بل قد قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا، وشتم هذا، أكل مال هذا، ويأتي بحسنات أمثال الجبال، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم ثم ألقي هو في النار )..
في سورة المائدة لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93] فيها خلاف في المقصود بها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المقصود أن الذين فعلوا بعض هذه الأفعال قبل تحريمها، وقبل نزول الآيات فيها كما كان حمزة بن عبد المطلب يشرب الخمر، ففي الصحيح نحره لناقتي علي اللتين كان يريد أن يصدق بهما فاطمة، وكغيره من الذين ماتوا قبل تحريم بعض المحرمات قد كانوا وقعوا فيها، فهؤلاء ليس عليهم إثم قطعاً مما وقعوا فيه للبراءة الأصلية؛ ولأن الإيمان يجب ما قبله، فما فعلوه قبل ذلك قطعاً لا يضرهم.
القول الثاني: أن المقصود بها أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن الإنسان إذا استزله الشيطان فوقع في معصية، ثم أحسن بعدها وأناب وتاب فإن حسنته تذهب سيئته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اتبع السيئة الحسنة تمحها )، وكما قال الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].
القول الثالث: أن المقصود بالآية أهل بدر وأهل بيعة الرضوان؛ لأن الله أحل عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده وقال: ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) في أهل بدر، وقال في أهل البيعة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18]، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنتم خير أهل الأرض )، وقال: ( والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، فهؤلاء ما وقعوا فيه بعد ذلك كالفتن التي دخلوها كمعركة الجمل وغيرها، فإنها لا تقع إلا مغفورةً أصلاً، لا يقع منهم ذنب إلا وهو مغفور من قبل؛ لأن المغفرة سبقت، فقد سبق رضوان الله عليهم قبل وقوعهم في مثل هذه الذنوب، فتقع ذنوبهم مغفورةً ليس عليهم منها أي إثم، وليس على الأمة منها وبال كذلك؛ لأنها وقعت مغفورةً أصلاً، كما يقع من الصبي من المخالفات قد رفع عنه القلم، وذلك تشريف لهم شرفهم الله به؛ لما علم من الإيمان في قلوبهم فزادهم سكينةً ويقيناً، فعلى القول الأول تصلح دليلاً في بابنا هذا ما يتعلق بزيادة الإيمان بزيادة الأعمال.
ثم المسائل التفصيلية في أركان الإيمان فأركان الإيمان مثلاً الإيمان بالله، وهذا يشمل ثلاثة أنواع: الإيمان بألوهيته، والإيمان بربوبيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، وكل واحد من هذه الأنواع يدخل تحته عدد كبير من المسائل، وكان مقتضى الكلام أيضاً أن يدخل في ذلك الإيمان بكتبه؛ لأنها من كلامه وهو من صفته، فيكون هذا الركن داخلاً في الركن السابق، ومثل ذلك الإيمان بالقدر خيره وشره فإنه من صفة الله أيضاً وعلمه، وعلمه من صفته، كان الأصل أن يدخل في الإيمان بالله، لكن الله أفرد هذين الركنين، وجعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ركنين مستقلين، وصرح الله بذلك في كتابه في عدد من المواضع في ذكر ما يؤمن به الناس، وذلك كما في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:136]، وغير هذا من الآيات التي فيها الكلام عن أركان الإيمان.
ومثل ذلك الإيمان بملائكته، وما يشمله هذا الركن من المسائل التفصيلية كالإيمان بأسماء المسمين منهم، والإيمان بعصمتهم، وما يتعلق بوظائف المعروف وظائفه منهم.
وكذلك الإيمان بكتب الله المنزلة إيماناً إجمالياً، ثم الإيمان التفصيلي بالأربعة المسماة هي القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم كذلك؛ لأنها ذكرت، لكن ذكرت بغير اسم.
ومثل ذلك الإيمان تفصيلاً بما أثبته القرآن، فما جاء في القرآن من الأمور العلمية يجب الإيمان به وتصديقه، ثم الإيمان باليوم الآخر وذلك يشمل الموت، ومسائل القبر، وعذاب القبر، والبعث بعد الموت، وما يتعلق بطيء السماء والأرض والبعث والحشر إلى الساهرة، وكذلك تجلي الباري سبحانه وتعالى بفصل الخصام، والإتيان بجهنم وما يتعلق ببروج حملة العرش وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وكذلك الشفاعة، ثم ما بعد ذلك من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ونصب الصراط، وما يتعلق بالإيمان بالجنة والنار تفصيلاً، ووزن الأعمال بالميزان، والشفاعات الأخرى غير الشفاعة الكبرى، فكل هذا من الأمور التفصيلية المتعلقة بهذا الركن من أركان الإيمان.
ثم الإيمان برسل الله عموماً إجمالاً وتفصيلاً بمن سمي منهم، والإيمان بأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خاتمة لما سبق، مهيمنة عليه، وأنه لا ينفع أحداً بعد بعثته إيمان إلا بتصديقه واتباعه، وما يتعلق بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتضى الشهادة أن محمداً رسول الله، وهي المقتضيات الثلاثة: أن يصدق في كل ما أخبر، وأن يطاع في كل ما أمر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، هذه مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.
وكذلك صفات الرسل من الصدق والأمانة والتبليغ والعصمة من الوقوع في الخطأ في التبليغ عن الله، ومن الإقرار على الخطأ في أفعال العباد كلها.
وكذلك الإيمان بالقدر خيره وشره، وما يسكن تحته من المسائل التفصيلية كمسألة الطيرة، والتنجيم، والعلاقة بالجن، والأسباب، وأفعال العباد، ونحو ذلك، مثل تسيير الأرزاق، والتوكل، فهذه الأمور داخلة في الإيمان بالقدر، فهذا هو موضوع علم العقائد، وقد يتوسع بعض الناس في ذلك فيدخل أيضاً ما يتعلق بالموقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وافتراق الأمة كثيراً حولهم، فإن من الإيمان به محبته صلى الله عليه وسلم، وقد شرط في محبته محبة أصحابه، فقد صح عنه أنه ذكر أن علامة الإيمان حب الأنصار، وأن علامة النفاق بغض الأنصار، وقال علي رضي الله عنه: ( لعهد إلي النبي الأمي أن لا يحبني إلا مؤمن، وألا يبغضني إلا منافق ).
وكذلك أخبر أن أربعةً أخبره الله أنه يحبهم، وأمره أن يحبهم من أصحابه.
وكذلك قوله في علي: ( اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه )، ومثل ذلك قوله: ( لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ).
ومثل ذلك أتباعهم التابعون ثم الذين يلونهم لقوله: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي بعد ذلك أقوام يشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن )، إلى غير ذلك مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله كما في صحيح البخاري: ( يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).
ومثل هذا محبة آل بيته، فقد قال الله في كتابه: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلتهم ومنقبتهم العظيمة إجمالاً وتفصيلاً، فمن التفصيل قوله في فاطمة رضي الله عنها: ( بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويريبها ما يريبني )، وقوله فيها: ( هي سيدة نساء العالمين ).
وكذلك قوله في الحسن والحسين: ( هما ريحانتاي من الدنيا )، وقوله فيهما: ( هما سيدا شباب أهل الجنة )، وقوله في الحسن رضي الله عنه: ( إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ).
ومثل ذلك في غير هؤلاء من آل بيته، وكذلك ما ورد بالتفصيل في بعض أصحابه كما جاء في أبي بكر في قوله: ( هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ )، وفي قوله: ( أبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ).
وكذلك في عمر بن الخطاب في إعطائه فضله من اللبن الذي أعطيه في المنام، وقوله: ( رأيت كأني واقف على بئر وبيدي دلو بكرة فنزعت منها ما شاء الله أن أنزع، ثم تناولها ابن أبي قحافة فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، أو والله يرحمه، ثم تناولها ابن الخطاب فاستحالت غرباً، فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ).
( وكذلك أن الناس عرضوا عليه وعليم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليه عمر وعليه قميص يجره، فقيل: ما أولته؟ قال: الإيمان ) وهكذا.
ومثل شهادته للعشرة المبشرين بالجنة بالتفصيل بأسمائهم، وشهادته لآخرين كذلك بالجنة بالتخصيص كـابن مسعود، وكـعبد الله بن سلام، ورجال من الأنصار كـأسيد بن حضير، وكشهادته لـسعد بن معاذ ( أنه اهتز له عرش الرحمن )، وغير هذا من المناقب العظيمة لأصحابه، ولمن جاء بعدهم من التابعين كشهادته لـأويس القرني، واستجابة دعائه كقوله: ( يقدم عليكم أويس القرني في أمداد اليمن، هو رجل كان به وضح -أي بياض- فشفاه الله إلا موضع إصبع، له أم وهو بها بر، فمن لقيه منكم فليسأله أن يستغفر له ).
ومثل ذلك حديثه عن أئمة الدين وتجديدهم للعلم، وأن الله قد ضمن أن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها.
وكذلك تبشيره بفتوحات الإسلام وقادته والمجاهدين الذين يعلون كلمة الله ويرفعون راياته، ومن ذلك إخباره بـالمهدي الذي يأتي آخر هذه الأمة، وهو رجل من آل بيته ومن ذرية فاطمة، يوافق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه اسم أبيه، يشبه خُلُقه ولا يشبه خَلْقه، يصلحه الله في ليلة، يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً.
ومثل ذلك اثنا عشر إماماً من قريش كلهم من قريش في هذه الأمة.
وكذلك ما يتعلق بإخوان النبي صلى الله عليه وسلم الذين يأتون في آخر الزمان، ( فقد خرج إلى المقبرة يوماً فقال: وددت لو رأيت إخواني، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم )، فمثل هذا النوع يجعل هذا الأمر تتواتر فيه النصوص العلمية التي تقتضي تصديقاً به وإيماناً فيدخل على سبيل التوسع في علم العقائد، وكل هذا من موضوعاته.
أما واضع هذا العلم فإنه من العلوم التي كانت كما ذكرنا داخلةً في علم الحديث، فكان المؤلفون في علم الحديث يجعلون له أبواباً مختصةً، كما عقد مالك رحمه الله في الموطأ أبواباً كثيرةً تتعلق بهذا العلم، كباب صفة الجنة وباب صفة النار، وكتاب القدر ما جاء فيه، وكتاب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ختم به موطأه، وكذلك مناقب الصحابة وما ذكر منها، وفضائل مكة والمدينة وما ذكر منها، ومثل ذلك ما فعل من دونه، فـالبخاري افتتح كتابه ببدء الوحي، ثم بكتاب الإيمان، وذكر في آخره أيضاً كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وكتاب التوحيد، ومثل ذلك مسلم أورد بعد المقدمة أيضاً كتاب الإيمان، وذكر كذلك صفة الجنة والنار، وصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بأشراط الساعة عقد له كتاباً كبيراً ذكر فيه نزول عيسى ابن مريم، وخروج الدجال، وغير ذلك من الأشراط التي هي داخلة في موضوع علم العقائد، والبخاري كذلك أتى في وسط كتابه بأحاديث الأنبياء، وبالفضائل والمناقب، وكذلك ببدء الخلق، فكل ذلك من الأمور العقدية، ومثل هذا أصحاب السنن، إلا أن أبا داود رحمه الله لم يتوسع في هذا الباب؛ لأن كتابه قد خصصه للأحكام، ولذلك قال في رسالته لأهل مكة: هذا كتاب السنن، جمعت لكم فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث كلها في الأحكام، فلذلك لم يذكر كتاب المناقب، ولم يتوسع في أحاديث الفتن والأشراط وغيرها، وإن كان ذكر بعض هذه الأحاديث. فله كتاب السنة مستقل، وفيه الكلام في المجال العقدي، لكن ما فصل تفصيلاً كبيراً في مسائل الاعتقاد في كتاب السنن، بينما تجد كثيراً من هذه الأبواب توسع فيها كثيراً بالأخص كتاب المناقب والفضائل، وكذلك عند ابن ماجه توسع في هذه الأبواب أبواب الإيمان، وكذلك النسائي رحمه الله، وبالأخص أن النسائي أفرد كتباً مستقلةً لهذا مثل مناقب آل البيت، وفضائل العشرة المبشرين بالجنة وغير ذلك من كتبه.
فإذا كان المقصود الإفراد بالتأليف فكل هؤلاء لم يفردوا العقائد في تأليف مستقل، وإن كان الحميدي روى عن سفيان بن عيينة أصول الاعتقاد، لكنه لم يفصل فيها ولم يذكر فيها نصوصاً شرعية، وإنما ذكر المبادئ العقدية فقط، وهي رسالة خفيفة مطبوعة مع مسند أحمد أصول الاعتقاد، اسمها أصول السنة، ومثل ذلك من عاصر الحميدي من الذين كتبوا في الردود على المعتزلة ومن سواهم من القدرية قد ألف ابن وهب كتاب الجامع أو كتاب القدر، وألف الإمام أحمد كتاب الرد على الجهمية، وكتاب السنة، وألف أبو خيثمة زهير بن حرب وهو شيخ مسلم كتاب الإيمان، وألف كذلك ابن أبي شيبة أبو بكر وهو شيخ مسلم كتاب الإيمان أيضاً، وألف عبد الله بن أحمد كتاب السنة، والخلال كذلك كتاب السنة، وأبو داود كتاب السنة، وجاء عدد من المتأخرين من المحدثين فأفردوا كتباً مستقلةً من أشهرها كتاب التوحيد لـابن خزيمة، وكتاب الإيمان لـابن منده، وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وكتاب الصفات للدارقطني، وكتاب الرؤية كذلك للدارقطني، بالإضافة إلى كتب الردود ككتاب الدارمي في الرد على بشر المريسي وعلى الجهمية عموماً، وكتاب البخاري في خلق أفعال العباد، والرد على المعطلة، وكتب الردود كثيرة في ذلك العصر، لكن مع هذا فلم توضع قواعد لهذا العلم، وإنما كانت الكتب عبارةً عن نقول وآثار فقط، إذا رجعت إلى كتاب الإيمان لـابن أبي شيبة، أو الإيمان لـأبي خيثمة زهير بن حرب، أو الإيمان لـابن منده، أو التوحيد لـابن خزيمة أو غيرها تجدها أحاديث وآثاراً ونقولاً، وقد ألف البيهقي كتاباً مستقلاً سماه الاعتقاد ولم يكثر فيه من النصوص وإنما ذكر فيه المبادئ وفصل فيها، ولكنه سلك في كثير منه طريق القواعد التي وضعها أبو الحسن الأشعري، فلذلك يمكن أن نقول: إن علم العقائد ليس له واضع مخصوص، ولكن أول من وضع له قواعد من أهل السنة هو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، هو من ذرية أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الأشعريين، وقد كان معتزلياً، فعرف العلوم العقلية وناظر عليها، ثم هداه الله تعالى للخروج من الفتنة والرجوع إلى السنة، فأراد أن يضع قواعد هي بمثابة أصول الفقه التي وضعها الأئمة المجتهدون في الأصول، وهي محاولة كغيرها من المحاولات لا بد أن يكون فيها الصواب والخطأ؛ لأنها اجتهادات في وضع قواعد، مثل القواعد التي وضعها الشافعي في أصول الفقه كثير منها لا يسلم له كقول الشافعي: إن السنة لا تنسخ بالقرآن مثلاً، وأن القرآن لا ينسخ بالسنة، لا يسلم له، لكنه قاعدة أصولية اجتهد فيها الشافعي نظراً للاستقراء، وهذه القواعد لا يقصد بها الاحتواء على كل النصوص، وإنما هي معايير تعرض عليها المسائل التي يتكلم الناس فيها، فتكون جامعةً لمقتضيات النصوص؛ وذلك أن المرجع في المناظرة إلى القطعيات لا إلى الظنيات، والنصوص القولية يصعب فيها القطع كما قال الشاطبي في الموافقات قال: القطع في القوليات متعذر، النصوص القطعية القطع فيها متعذر، ومثل لذلك قال: من سألك عن الدليل القطعي على وجوب الصلاة ماذا تقول له؟ لو قلت له: أقم الصلاة أو أقيموا الصلاة لقال لك: هذا أمر والأمر يمكن أن يحمل على الوجوب، ويمكن أن يحمل على الندب، ويمكن أن يحمل على الإباحة، وأيضاً يشمل هذا الفرض أو النفل، ومحتمل للنسخ كذلك والتخصيص، فلو قلت له: أي نص آخر ستعرض له هذه الاحتمالات، فيقول: إنما يحصل القطع في القوليات بجمعها حتى يحصل لديك مثل التواتر المعنوي، فقطعك الآن بشجاعة علي وجود حاتم، هذا في الأمور الخبرية، ليس راجعاً إلى نص من الوحي، ما عندك نص أن حاتماً ولا أن علياً شجاع بالوحي الذي لا يحتمل الشك، لكن توافر لديك كثير من القصص والحكايات التي جعلتك تحكم بشجاعة علي وجود حاتم، فكذلك هنا إذا جمعت النصوص التي فيها الأمر بأداء الصلاة كقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، والمدح بها في قوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [المائدة:55]، والذم بخلافها قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]، وكذلك عقوبة تاركها في النصوص، وكونها حداً بين المرء والكفر والشرك، ( إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة )، وغير ذلك جمعت كل هذه النصوص حصل لديك القطع بوجوب الصلاة، ولا يكفي نص واحد منها لتحصيل القطع، فلذلك لا بد من وضع قواعد في الأصول، ومنطلق أبي الحسن في وضعه لهذه القواعد بأن قال: لا فرق بين آيات العقائد وآيات الأحكام، كل من عند ربنا، آيات الأحكام وضعت لها قواعد هي أصول الفقه، وآيات العقائد ما وضع لها شيء واقتصر فيها على السماع والنقل عن التابعين وأتباعهم، وعن الصحابة، والوارد منها المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يسير، فيحتاج فيها إلى وضع قواعد كالقواعد الأصولية، ولم يتوسع كثيراً بما يتعلق بالأمور السمعية المحضة؛ لأن الإيمان بها يحصل بتوافر النصوص وتواردها، وذلك كأمور الآخرة كلها، ولا توسع كثيراً كذلك في جزئيات ما يتعلق بتوحيد الألوهية؛ لأن كثيراً مما يتعلق به قطعياً كذلك في النصوص من الوحي، فالآيات التي فيها ذم المشركين على عبادة غير الله أو قصده أو دعائه كثيرة جداً، تقتضي الجزم والقطع، وليست كذلك مثاراً للنقاش في زمانهم كبيراً، وإنما حصل التعلق بالأشخاص والأشجار والأحجار بعد زمانهم لم يكن ذلك معروفاً في الصدر الأول ما عرفه الناس في عصور هذه الأمة الأولى، وإنما عرفوا التشكيك في توحيد الربوبية، والخوض في توحيد الأسماء والصفات، فلذلك كثرت القواعد المتعلقة بهذين الجانبين من جوانب الإيمان، فالتشكيك في توحيد الربوبية ناشئ عن ترجمة كلام الإغريق والرومان، والفلاسفة عموماً، والتشكيك في مجال الأسماء والصفات راجع إلى خوض المعتزلة في هذا الباب، فلهذا اتجه إلى وضع قواعد لهذين الجانبين والتوسع فيهما، وقد ألف عدة كتب في هذا الباب من أهمها: كتابه رسالة الثغر، وكذلك كتابه اللمع، وكتابه التقريب وغيرها.
أما الأمور التفصيلية الخبرية فقد توسع في إيرادها في كتابه مقالات الإسلاميين وبالأخص في الجانب الأول من الجزء الأول منه، وهو ما يتعلق بالأمور الإجمالية، ثم تكلم في النواحي الكلامية في القسم الثاني منه وهو القسم الدقيق، المسائل الدقيقة، وكذلك في كتابه الآخر الذي هو الإبانة عن أصول الديانة، توسع فيه فيما يتعلق بنقل الآيات والأحاديث والآثار المتعلقة بمسائل الاعتقاد.
ثم جاء بعده أبو منصور الماتريدي فوضع قواعد تختلف عن قواعد أبي الحسن في بعض الجوانب، ولكنه وافقه في أكثرها، والمسائل التي خالفه فيها محصورةً، وأراد الانطلاق من المذهب الحنفي فارتبط بأصول الفقه ارتباطاً وثيقاً؛ لأنه هو حنفي، ولا شك أن أبا الحسن الأشعري أيضاً تأثر بأصول الفقه؛ لأنه بحث في القياس في العقائد، فقال: ما الفرق بين القياس في العبادات والقياس في الاعتقادات؟ كل من عند ربنا وليس للمكلف في الأصل الاعتماد على العقل في أي شيء، وهذا القياس هو الذي أوصله إلى التأويل في بعض الصفات التي أشكل عليه فهمها، فقاسها على ما استشكل الصحابة فهمه فأولوه كالمعية العامة.
ثم جاء بعد أبي منصور البربهاري من الحنابلة، ووضع أصول السنة، وخالف الأشعرية والماتريدية معاً، ورأى أن كثيراً من قواعدهما ينساق وراء بعض المذاهب الأخرى كالكلابية أو الكرامية أو غيرها، وفي كتابه بعض التحامل على هذه الطريقة المخالفة له، وكذلك التحامل على الدولة العباسية وأئمتها عموماً، قال: إن الناس لم يزالوا على مذهب واحد حتى ولي الحكم آل فلان أو بنوا فلان يقصد بنوا العباس.
فبرز هنا ثلاثة مذاهب لدى أهل السنة: مذهب أبي الحسن الأشعري وقد تمسك به كثير من الشافعية، ومذهب أبي منصور الماتريدي وقد تمسك به كثير من الحنفية، ومذهب البربهاري وقد تمسك به جمهور الحنابلة، وأصبح فيما بعد لا ينسب إلى البربهاري بل ينسب إلى الحنابلة عموماً، وقد وافق الحنابلة في أكثر قواعدهم الذين سبقوا من أهل الحديث الذين كانوا في العقائد لا يذكرون شيئاً من القواعد وإنما ينقلون النصوص فقط، والواقع أن ابن قدامة رحمه الله هو من المبرزين في المذهب الحنبلي مطلقاً في الاعتقاد وفي الفقه، فهو الذي نشر المذهب من الناحية الفقهية في مؤلفاته المتعددة، ومن الناحية العقدية كذلك في لمعة الاعتقاد التي وضع فيها ملخصاً لأقوال السابقين من الحنابلة.
ثم جاء بعد هذا عدد من المجددين في كل مذهب من هذه المذاهب، ومع الأسف توسع كثير من أتباع أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي في المسائل العقلية، حتى خرج كثير منهم بآراء غاية في الانحراف والبعد عن الصواب، كبعض الآراء التي طلع بها الفخر الرازي مثلاً، ومن وراءه من المتأثرين به، وكذلك حصل لدى بعض أتباع المذهب الحنبلي بعض التعصب الذي أدى لبعض الفتن كفتنة القشيري، وكفتنة الخطيب البغدادي الذي منعوه من الدفن فترةً، وكذلك أبي جعفر بن جرير الطبري الذي أغلقوا عليه بابه بالحجارة حتى كاد يموت من العطش، ثم جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فأراد أن يكون مصلحاً بين هذه الطوائف، مبيناً للصواب لدى كل طائفة وللخطأ لدى كل طائفة، وأقسم في مناظرته على الواسطية أنه من أشد الناس حرصاً على جمع الكلمة، ونبذ الفرقة، وأن الأشاعرة والحنابلة كانوا يداً واحدةً حتى جاءت فتنة القشيري، وأنهم قبل فتنة القشيري لم يكن أحد منهم يتميز عن أخيه بالانقسام المذهبي، والمشكلة أن كل داعياً إلى الحق قل أن يجد أنصاراً، شيخ الإسلام ابن تيمية لم يرض الحنابلة بما فعل، فلذلك لم يقفوا معه في محنته، لم يقف معه علماؤه في محنته، وإنما وقف معه تلامذته فقط، وكذلك كان من سواهم خصوماً له في أغلب الأحيان، فيمكن أن يقال: إن هؤلاء جميعاً يمثلون محطات في علم الاعتقاد:
المحطة الأولى: محطة أهل الحديث التي ذكرناها مالك والبخاري ومن ذكرنا.
المحطة الثانية: محطة الردود التي يمثلها كذلك البخاري والدارمي وأحمد ومن في تلك الطبقة.
المحطة الثالثة: محطة التقعيد، وبدايتها عند أبي الحسن الأشعري، ثم أبي منصور الماتريدي، ثم البربهاري، ثم من جاء بعده كـالبيهقي في كتاب الاعتقاد، وكـاللالكائي في كتاب شرح أصول السنة، وكـالآجري في الشريعة، وكـابن البنا في كتاب المختار.
ثم المحطة الأخرى: هي محطة المناظرات الداخلية وبطلها وفارسها شيخ الإسلام ابن تيمية، برز في هذا الباب، ويمكن أن تعد محطةً أخرى بين ذلك وذلك وهي محطة الانحراف والانسياق وراء الجدل والفلسفة والعلوم العقلية، وهذه فارسها الفخر الرازي.
فهذه محطات في هذا العلم علم العقائد، وبعض الناس يسعى للتمييز بين هذا العلم فيفرق بين علم العقائد وعلم التوحيد وعلم الكلام، وهذا التمييز خطأ؛ لأننا سنذكر في أسماء هذا العلم سبب تسميته لكل واحد منها، وهو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، تسمية علم بأي اسم اتفق الناس عليه، فهذا فيما يتعلق بالواضع.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر