الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فبعد أن انتهينا من المقدمات العشر المتعلقة بعلم الحديث رواية، نتكلم على قضية التصحيح والتضعيف، والتصحيح والتضعيف من الأمور الشديدة الصعبة، والتضعيف أشد وأصعب من التصحيح, ولذلك الذين يستطيعون الحكم بالتصحيح والتضعيف في الصدر الأول قلائل.
واليوم في زماننا هذا بثورة التخريج تجرأ الناس على التصحيح؛ لأنه أصبح صنعة لديه فيجعلونه بمثابة مكيال يكيلون به الأمور، يقولون: هذا صحيح، وهذا ضعيف، وهذا حسن، ويصدرون هذه الأحكام العشوائية, وكثيراً ما تتناقض وتختلف، وكثيراً ما تتناقض مع أحكام العلماء الكبار, مع أن كثيراً من قواعد السابقين في التصحيح والتضعيف ليست راجعة إلى هذه المكاييل والمقاييس المعينة، بل لو طبقتها ستجد كثيراً من الأئمة تواتروا على تصحيح حديث حتى لا يبقى شك لمسلم فيه, وإذا طبقت أنت عليها هذا القواعد ستجد فيها إشكالاً.
فبعض الأحاديث مخرجة في الصحيحين لكنها من رواية بعض المدلسين، أو من لم يصرح بالسماع، أو من رواية مضعف، أو متكلم فيه وهكذا, لكن أولئك الأئمة كانوا يختارون وينتقون, والبخاري لم يكتب في صحيحه كتاباً إلا بعد أن صلى ركعتين ودعا بدعاء الاستخارة، فاستخار الله أن يكتب هذا حديثاً صحيحاً أو لا, قد اعتنوا عناية فائقة بالدقة والاختيار, ولهذا فإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فقد تجاوز القنطرة، لا يبحث في إسناده ولا في صحته, والمشكلات التي تقع في بعض الأحيان من بحث في الأسانيد في الصحيحين كلها قد تجاوزت القنطرة، الذين تكلم فيهم من رجال البخاري ثمانية وستون رجلاً, والذين تكلم فيهم كذلك من رجال مسلم مائة وثلاثة عشر، هؤلاء منهم عدد مشترك، وكذلك الأحاديث التي تعقبت مثل الأحاديث التي تعقبها الدارقطني وهي ثمانية أحاديث في كتابه الإلزامات والتتبع وغير هذا، هذه كلها قد تجاوزت القنطرة ولم تعد محلاً للبحث؛ لأن هؤلاء يختارون، وإذا جزموا بصحته فإن الأمة قد رضيت بذلك وقلدتهم فيه.
والحافظ ابن الصلاح على تمرسه ومهارته في الحديث لم يصحح طيلة عمره إلا حديثاً واحداً, مع كل هذه المهارة وتسليم الناس في مشارق الأرض ومغاربها له بأنه محدث الدنيا ما صحح إلا حديثاً واحداً, والإمام النووي كذلك ما صحح إلا حديثاً واحداً، بل قال ابن الصلاح: التضعيف في زماننا متعذر، وذكر النووي أنه يمكن, لكن ابن الصلاح يقول: التضعيف ليس ممكناً في زماننا, قال النووي: ممكن.
وعنده التضعيف ليس يمكن في عصرنا وقال يحيى ممكن
يحيى النووي قال: يمكن.
لكن الحكم بالصحة والضعف كلاهما إنما يقصد به في الظاهر فقط لا جلية الأمر وواقعه إلا الله.
لهذا قال العراقي:
وبالصحيح والضعيف قصدوا في ظاهر لا القطع
فلا يقصد القطع بالتضعيف لو ضعفه ولا بالتصحيح صححه, ولهذا فالجراءة التي تراه اليوم بادية في الناس جراءة غير طبيعية وغير موافقة لما كان عليه السلف والأئمة, بل الأئمة الكبار الذين رووا هذه الكتب ما فيهم أحد كان يقول: نخرج من سنن أبي داود مثلاً ما ليس صحيحاً, أو نخرج من سنن الترمذي ما ليس صحيحاً وهكذا، ما فعلوا هذا قط, هذا متعذر جداً من الناحية العلمية، والذين يقعون فيه من المتأخرين ما منهم أحد إلا بالإمكان أن يستدرك عليه؛ لأن الموازين التي سلكوها غير منضبطة؛ ولأن الذي وصل إلى أيديهم من كتب الحديث محصور إذا ما قورن بالكتب غير الموجود لديهم، وأيضاً الغفلة ممكنة في هذا كثيراً, وأكثر الذين يشتغلون بالتخريج أيضاً ليسوا حفاظاً ولا من أهل الرواية، ولذلك إذا حصل خطأ في الكتابة في المخطوطة أو خطأ في المطبوعة حكموا على أساسه بالتضعيف والتصحيح، كما حصل للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في حديث عبيد الله عن عبد الله بن عباس من سنن البيهقي ضعفه؛ لأنه كتب في المطبوعة عبيد الله بن عبد الله بن عباس قال: لا يعرف عبيد الله بن عبد الله بن عباس، فالحديث ضعيف؛ لأن فيه مجهولاً, وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة وهو أثبت الناس في ابن عباس، هو الذي جاءته العلة هنا، القضية فقط قضية طباعة (ابن) بدل (عن), فالذي يجعل هذا مثالاً ويزن فيه دون تدقيق في الجزئيات هذه مشكلته، فمثال الأولين: من يأكل التمر تمرة تمرة، كل واحدة يقلبها ويعرف كل ما فيها, ومثال الآخرين: من يأكله بالمكيال ويزنه بميزان ويصبه دون أن ينظر إلى أفراده، فهذا الفرق.
وما صححه الحاكم في مستدركه لم يدققه رحمه الله وبالأخص في الجزءين الثالث والرابع، الجزءين الأول والثاني لا بأس بتدقيقه؛ لأنه يبدو أنه راجعهما, أما في الجزءين الآخرين منه ففي كثير من الأحيان تنقصه الدقة, قد يكون ذلك إيجابياً وقد يكون سلبياً, فقد أخرج بعض الأحاديث التي غفل عن أنها في الصحيحين، وهو يستدرك عليهما، فكيف يخرج الشيء فيهما؟ هذا من باب الإيجاب؛ لأنها صحيحة على كل حال, وقد يكون من باب السلب، بأن يخرج حديثاً فيزعم أنه على شرطهما وليس على شرط واحد منهما، ويكون ضعيفاً في ذاته.
وقد حاول الذهبي رحمه الله تلخيص ذلك في كتابه التلخيص، ولكنه أيضاً صرح بأنه لم يستطع إتقان ذلك، وأنه يرجو أن يقيض الله له من طلبة العلم الجادين من يستطيع أن يتقنه, ولكن ما تحققت هذه الأمنية إلى الآن، ولا أظنها تتحقق بالقدر الذي يوصل إلى أن تكون خلاصة الكتاب ملحقة بالصحيحين في الدرجة, وعموماً إذا اتفق الحاكم والذهبي على تصحيح حديث فذلك يصل إلى درجة الظن بالصحة؛ لأنه إن شهد عدلان من أئمة الحديث الحفاظ الكبار بصحته أوكل إليهما الأمر, لا يقال: الجزم بذلك، وأن يصل إلى درجة القطع؛ لأن المقصود بالتصحيح أصلاً الظن لا القطع، هذا في أغلب الأحيان، وإذا تتبع الحديث فوجدت فيه ضعفاً في أحد الرجال أو جهالة فمعناه أنهم هم قد شعروا بتلك العلة وجبروها بوجه آخر وبالأخص دقة الإمام الذهبي وطول يده في الرجال، فلا يعرف في الدنيا أحد أدرى من الذهبي بالرجال, وانظر إلى كتبه التي ألفها، وكلها محفوظة لديه، كم تجد من كتاب؟ انظر تاريخ الإسلام الكبير أكبر كتاب في التاريخ الإسلامي، سير أعلام النبلاء أربعة وعشرون مجلداً, ميزان الاعتدال أربعة مجلدات ضخام أو سبعة بطبعات أخرى، العبر أربعة مجلدات ضخام، ذيل تاريخ بغداد مجلدان, المعجم المختص مجلدان، معجم الشيوخ مجلد, المجرد في رجال ابن ماجه، المعين، تبصير المنتبه بتحرير المشتبه, كتابه في الضعفاء, كتاب الكاشف أيضاً, كتاب تذهيب التهذيب, كتاب الذين تكلم فيهم بما لا يقدح, كتاب تذكرة الحفاظ, كتب لا نهاية لها في علم الرجال فقط، وهو يحفظها حفظاً, فلذلك هل تظن أنك تجد في الدنيا اليوم من يصل إلى عشر ما عند الذهبي في علم الرجال, لا يمكن أن تصل إليه اليوم, بل إن الحافظ ابن حجر على جلالته شرب ماء زمزم عدة مرات ليكون في حفظ الذهبي للحديث، ومع ذلك تجد من يتطاول عليه، هذا عجيب جداً.
بالنسبة لجامع الأصول ومجمع الزوائد لا شك أنهما جمعا كثيراً من الأحاديث الواردة في السنن وقد حاول التاودي رحمه الله جمعهما في كتابه جمع الفوائد الجامع بين جامع الأصول ومجمع الزوائد، فتضمن كتابه سبعة عشر كتاباً من كتب الحديث, لكن لا يمكن أن يكون هذا جمعاً لكل الأحاديث المروية في الكتب، بل السيوطي رحمه الله حاول أكثر من هذا في كتابه الجامع الكبير، وكان يريد فيه جمع جميع الأحاديث الواردة في كتب السنة التي وصلت إليها يده، وقد جمع في الكتاب فعلاً أحاديث مائة وثمانية وأربعين كتاباً من كتب الحديث، وبقي عليه عدد كبير من الكتب سماها وذكرها لمن يأتي بعده، يريد إكمال الكتاب، على نفس المخطط الذي أقدم عليه, ولكن لا أحد يستطيع هذا.
السيوطي رحمه الله أن توقعه أنه إذا أكمل الكتاب وصل إلى ثلاثمائة ألف حديث دون المكررة, طبعاً فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف، وفيها الموضوعات، وفيها كل شيء، لكن جميع ذلك جميع المرويات في كتب السنة تصل إلى ثلاثمائة ألف حديث ولا تتعدى ذلك.
بالنسبة للآثار: من أهم الكتب المؤلفة التي هي أكثر اشتمالاً عليها مصنف عبد الرزاق, ومصنف ابن أبي شيبة, وسنن سعيد بن منصور, وسنن البيهقي, وشرح معاني الآثار الطحاوي, والآثار لـأبي يوسف، والآثار لـمحمد بن الحسن, هذه مظنة الآثار الصحيحة, أما الآثار التي تجمع الغث والسمين فمن أكثر الكتب التي تعتني بها كتب الرجال كالطبقات لـمحمد بن سعد كاتب الواقدي، وكالكامل لـابن عدي فهذه التي تعتني بالآثار.
أما بالنسبة لسنن أبي داود فقد أراد رحمه الله أن يجردها مما ليس مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك في رسالته إلى أهل مكة، وإن كان قد أورد فيها بعض الآثار، وبالأخص آثار الخلفاء الراشدين، فإنه قد أورد بعضها نادراً، وقاعدة أبي داود أنه يريد أدلة الأحكام، فإذا وجد حديثاً صحيحاً أخرجه، وإذا لم يجد إلا الضعيف أخرجه، فهو أقوى عنده من الرأي، هذا الذي قاله ابن منده:
فذاك عنده من رأي أقوى قاله ابن منده.
كما قال العراقي رحمه الله.
من المؤلفين في الحديث من خصصوا كتباً للآداب، ومن هؤلاء الإمام البخاري، فقد ألف كتابه الأدب المفرد، واشتهر بهذه التسمية تمييزاً له عن كتاب الأدب من صحيح البخاري فليس مفرداً، وإنما هو داخل في الكتاب، ولم يشترط فيه شروطه في الصحيح مثل غيره من كتبه، وكذلك الإمام البيهقي الذي ألف كتابه: كتاب الآداب أفرده في هذا الباب كذلك.
ومنهم من أفرد كتاباً في الدعاء، ومن هؤلاء الإمام الطبراني، فقد ألف كتابه الدعاء، وهو من أهم الكتب المؤلفة في هذا الباب، وكذلك البيهقي ألف كتابيه: الدعوات الكبير والدعوات الصغير، الدعوات الكبير مطبوع، والدعوات الصغير غير مطبوع.
ومثل ذلك ابن السني أبو بكر، فقد ألف عمل اليوم والليلة، ومثل ذلك النسائي شيخه ألف أيضاً عمل اليوم والليلة، ويتعرض فيه للأدعية، وكذلك من المتأخرين الإمام النووي الذي ألف كتابه الأذكار، وقد اعتنى به العلماء كثيراً، وشاع في أقطار الدنيا لكثرة رواياته، واعتماده فيه على كتاب ابن السني بالإضافة إلى كتب السنة الأخرى ودواوينها، وقد شرحه ابن علان وشرحه عدد من الأئمة، وخرج أحاديثه الحافظ ابن حجر، واشتهرت رواية هذا الكتاب في مشارق الأرض ومغاربها، وهو من كتب النووي التي وضع عليه القبول كرياض الصالحين، فلم يبقَ مكاناً من الدنيا إلا بلغته هذه الكتب ونفع الله بها المسلمين، وهذا دليل على إخلاص صاحبها وإتقانه، قد تلقاها الناس بالقبول ورضوا بها، ولم يبق مكاناً من الدنيا إلا ودخلته واستفاد به أهلها.
ومثل ذلك الكتب المخصصة لمسائل علمية محدودة، ككتاب البخاري في رفع اليدين، وكذلك كتابه في القراءة خلف الإمام، وكذلك كتاب البيهقي في القراءة خلف الإمام، وكذلك كتاب الطبراني في الأحاديث الطوال، قد طبع في الجزء الخامس والعشرين من المعجم الكبير، وكذلك الكتب المخصوصة بأحاديث رجال ككتاب الزهريات للإمام محمد بن يحيى الذهلي خصصه لأحاديث الزهري، ومثل ذلك أفراد الإمام مالك للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث، ومثل ذلك أفراد مالك وغرائب مالك للدارقطني، ومثل ذلك الأحاديث الجياد أو العوالي للحارث بن أبي أسامة، وعوالي المؤمل ونحوها.
ثم من كتب الحديث ما ينسب إلى شخص فيشتهر بنسبته إليه كالغيلانيات، أو يشتهر باسم ناشئ عن قصة كجزء ألف دينار، لـأبي بكر القطيعي، فإنه بيع بألف دينار فاشتهر بهذا الاسم، هذه هي الكتب في متون الحديث.
أما شروح الحديث فلم تشتهر في الصدر الأول، بل لم يؤلف أحد من السابقين شرحاً مفصلاً لبعض الأحاديث، أو لكتاب من كتب الحديث، اللهم إلا الشروح المدمجة في الكتب، فقد أدمج مالك في موطئه بعض الشروح لبعض الأحاديث، وأدمج البخاري في صحيحه كثيراً من شرح الكلمات، وغريب اللغة، وكذلك الترمذي في سننه يفسر بعض الألفاظ من بعض الأحاديث، وربما روي ذلك مدرجاً في الحديث من كلام بعض الأئمة، فإن الزهري رحمه الله كان يعتني بالمتون، فربما شرح بعض الألفاظ فأدرجت في الحديث، فـالبخاري رحمه الله يقول في صحيحه: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه، -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد )، (وهو التعبد) هذا اللفظ مدرج وهو من كلام الإمام الزهري؛ لأنه كان يعتني بالمتون عناية بالغة، ولذلك فقد اشتهر من الأئمة قوم يعتنون بالمتون فيشرحونها ويجودونها، كما يذكر أهل الحديث، مثلاً يقولون: وجوّد حديث أبي هريرة هذا مالك؛ لأن الحديث روي عن أبي هريرة من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، ومن طريق سعيد بن المسيب ومن طريق غيرهما، ولكن اختلفت ألفاظه فجوده مالك، فجمع بروايته أوجه الاختلاف، ومثل ذلك عناية الإمام سليمان بن مهران الأعمش بالمتون، فقد اشتهرت روايته بها وعنايته بها.
وكذلك شعبة بن الحجاج الإمام المتقن الذي سنذكره من أئمة الجرح والتعديل، فقد اشتهر بعنايته بالمتون مع عدم عناية بالأسانيد في بعض الأحيان، واشتهر هذا حتى لدى المتأخرين، فالمتأخرون مثلاً اشتهر منهم عدد بإتقان المتون، وعدد بإتقان الأسانيد، فمثلاً: الإمام الدارقطني متقن للمتون والأسانيد معاً، والإمام أبو حاتم الرازي متقن للأسانيد، والإمام أبو زرعة متقن للمتون، وهذا في المتأخرين الذين بعدهم أيضاً كثير، فمثلاً: في طبقة تلامذة الحافظ ابن حجر اشتهر السخاوي بإتقان الأسانيد والمصطلح والعلل، واشتهر السيوطي بحفظ المتون، واشتهر الديمي كذلك بحفظ الأسانيد والعناية بها، وهم في طبقة تلامذة الحافظ ابن حجر، مع أن السيوطي لم يروِ عنه بالمباشرة إلا إذا كان سمع منه وهو صغير، لكنه روى عن عدد من أصحاب الحافظ ابن حجر، كـزكريا الأنصاري وابن فهد المكي وغيرهما من كبار أصحاب الحافظ ابن حجر.
بدأ شرح الحديث مع الإمام حمد الخطابي، فهو أول من اشتهر بشرحه للحديث، فأول من عرف أنه شرح كتاباً في الحديث هو الإمام حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي أبو سليمان، فقد شرح صحيح البخاري بكتابه أعلام الحديث، وشرح موطأ مالك شرحاً لم ينقل إلينا ولا يوجد الآن له أثر في الدنيا حسب علمي، وشرح كذلك سنن أبي داود بكتابه معالم السنن، الذي اشتهر بين الناس وكثرت رواته، واعتنى فيه بغريب الألفاظ وبجمع المختلف من الحديث.
ثم جاء بعد الخطابي عدد من الناس سلكوا طريقه، الخطابي متقدم؛ لأنه توفي سنة ثلاثمائة وثمانين تقريباً، ومن الذين جاءوا بعده الإمام البغوي الذي ألف كتابه شرح السنة، وهو في الأصل كتاب من كتب المتون كما ذكرنا من قبل، إلا أنه يعتني فيه كذلك بالاستنباطات، فيوردها مع الكتاب، وكذلك ابن جرير الطبري الذي ألف كتابه تهذيب الآثار، وهو بمثابة شرح لأحاديث يختارها، ولكن الكتاب لم يصل إلينا، فلم يصل إلينا منه إلا مسند علي بن أبي طالب، ومسند عمر بن الخطاب، وبعض مسند ابن عباس، وطريقته فيه طريقة استيعابية، يورد الحديث وما يستنبط منه وما يخالفه من أحاديث، وطرق الجمع بينها عند وجود التعارض، ولو وجد الكتاب لكان من دواوين الدنيا الحافلة، ولكن لا يوجد منه إلا مسند عمر ومسند علي وبعض مسند ابن عباس.
من الكتب التي جعلها الناس متوناً في الحديث وأكثروا الشروح عليها موطأ الإمام مالك، ولم يبلغ كتاب من عناية الناس به في هذه الأمة ما بلغ هذا الكتاب بعد كتاب الله؛ لأنه أول كتاب لدى المسلمين، ولذلك فشروحه اليوم المعروفة تربو على ثلاثمائة شرح، ما بين مطبوع ومخطوط، وهي على مختلف الروايات.
وأشهرها الشروح التي هي على رواية يحيى بن يحيى المصمودي الليثي الأندلسي، فقد اعتنى بها المغاربة والأندلسيون والقيروانيون وغيرهم، وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد: ينبغي لأهل كل أرض أن يحافظوا على ما لديهم من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن استطاعوا أن يزيدوا علوماً أخرى مما يليهم من الأرض فليفعلوا، فأهل كل رقعة من الأرض، قد استودعهم الله ما وصل إليهم من علم النبي صلى الله عليه وسلم، يجب عليهم أن يحفظوا أولاً ما استودعوا من هذا العلم، ثم إذا طالت أيديهم لتصل إلى علم بلدان أخرى فـبها ونعمت، يقول: وهذا الذي حملني على شرح الموطأ على رواية يحيى بن يحيى، فإنما حمله على ذلك أن هذه الرواية هي المشتهرة في بلاد الأندلس، وإلا فـأبو عمر يروي الموطأ من أوجه أخرى، له فيه أسانيد عالية، سواء منها ما كان من طريق محمد بن محمد بن وضاح أو ما كان من طريق غيره.
وأهم شروح الموطأ كتب أبي عمر بن عبد البر وهي ثلاثة، أعظمها التمهيد الذي مكث في تأليفه ثلاثين سنة، ورتب فيه الموطأ على طريقة المسانيد ولم يرتبه على ترتيب مالك، واعتنى فيه بالصناعة الحديثية وذكر العلل، واختلاف الحديث، والكلام على الرجال بما يكفي، والعناية كذلك بجمع المختلفات والشتات، وقد استفاد أبو عمر من طريقة مالك في الموطأ؛ لأن مالكاً رحمه الله ألف الموطأ على هندسة عجيبة، فإذا أراد حكماً من الأحكام يبدأ فيه أولاً بالحديث المرفوع، ثم يذكر ما ثبت لديه من الآثار عن الخلفاء الراشدين بعده، ثم ما جاء بعد ذلك عن الصحابة، ثم ما جاء عن التابعين ليدل هذا على أن الحديث غير منسوخ ولا معارض، وأنه صحبه العمل وهذا أقوى دليل عند مالك؛ لأن الدليل الشرعي إذا صحبه العمل دل هذا على عدم نسخه، وعدم تخصيصه، وعلى وضوح معناه ودلالته، فإذا كان العمل به واصلاً إلى عهد التابعين أشياخ مالك، فهذا دليل على أنه لم ينسخ ولم يخصص، ولذلك فإنه إذا وجد أحاديث في الباب الواحد يبدأ بحديث قديم الإسلام كالخلفاء وغيرهم، ثم يختم بأحاديث صغار الصحابة ليدل ذلك على أن هذا كان معروفاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا في التابعين أيضاً يبدأ بأحاديث الكبار إذا كان لديه حديث نافع يبدأ به ويؤخر حديث الزهري، ويقول: ويجعله في آخر الكتاب ليكون مصباحاً على ما سبقه، مضيء على ما سبقه، هذه الصنعة الحديثية التي صنعها مالك استفاد منها أبو عمر، فرتب كتابه هذا الترتيب واعتنى فيه بالآثار، فهو من مظان الآثار، وقد سبق أن ذكرنا أن من مظان الآثار المصنفين لـعبد الرزاق ولـأبي بكر بن أبي شيبة، وكتاب سنن النسائي لـابن منصور وكتاب السنن الكبرى للبيهقي، وكتاب شرح معاني الآثار للطحاوي، وكتاب الآثار لـمحمد بن الحسن، وكتاب الآثار لـأبي يوسف، ومثل ذلك كذلك كتاب التمهيد لـأبي عمر، فيورد فيه الآثار بأسانيده هو، وأكثرها من الكتب المفقودة التي لم تصل إلينا، وهذا وجه من أوجه أهمية الكتاب؛ لأن فيه كثيراً من الأحاديث والآثار التي هي من كتاب مسند بقي بن مخلد، الذي لم يصل إلينا شيء منه، وهو أكبر مسانيد الدنيا، لا يوجد في الدنيا مسند أكبر منه، وقد رواه أبو عمر بثلاث وسائط فقط، فإسناده فيه عال، ومع ذلك لم يصل إلينا، فما يورده في كتبه من أحاديث هذا المسند يعتبر ذا قيمة علمية كبيرة.
الكتاب الثاني: هو الاستذكار، فهو وإن لم يكن الجهد فيه كالجهد في التمهيد؛ لأن الجهد في التمهيد كما ذكرنا ثلاثين سنة، لهذا قال فيه:
سمير فؤادي مذ ثلاثين حجة وكاشف همي والمنفس عن كربي
جمعت لهم فيه أحاديث نبيهم..
صلى الله عليه وسلم.
فقد اعتنى به عناية كبيرة، لكن الاستذكار لم يبذل فيه مثلما بذل في التمهيد من الجهد، فقد رتبه على ترتيب الموطأ، واعتنى فيه من ناحية الفقه عناية كبيرة، ولهذا عد من كتب الدنيا الأربعة في مجال الفقه، كما سنذكره إن شاء الله إذا وصلنا إلى الفقه.
ولذلك سماه كتاب الاستذكار لما سطره الإمام مالك في موطئه من مذاهب أئمة الأمصار في جميع الأعصار، وأدلتها من الآيات والأخبار والآثار، فيحاول فيه استيعاب فقه العالم مع أدلته والترجيح عند التعارض، وهو ديوان حافل، كذلك بكثير من المسائل الحديثية، وإن كان يحيل في بعضها على التمهيد.
كتابه الثالث: هو التجريد، ويسمى أيضاً التقصي، وهذا كتاب مختصر، لخص فيه الموطأ على طريقة تيسر الكتاب للحفظ وتسهله، وتجمع أطراف أحاديث الرجال بطريقة مختصرة ميسرة.
هذه كتب أبي عمر، يليها في الأهمية كتب الإمام الباجي أبي الوليد بن سليمان بن خلف، وهو أحد أئمة المالكية في الأصول الفروع والحديث وغير ذلك، ومن كتبه الخادمة للموطأ كتاب الانتهاء في شرح الموطأ، وهو ديوان حافل، لكنه غير موجود، قد فقد، والظن به أنه من الكتب التي غرقها الأسبان في أنهار الأندلس، قد كان في سبعين مجلداً، وقد انتقى منه كتابه المنتقى، لكنه خصص المنتقى للفروع الفقهية، ولم يذكر فيه شيئاً من الأصول ولا من الحديث، مع أنه استوعب ذلك في كتابه الكبير.
ومع الأسف المنتقى أيضاً لم تصلنا منه نسخة صحيحة، فقد طبع قديماً في بولاق على نفقة ملك المغرب إذ ذاك مولاي حفيظ، وهذه الطبعة فيها أخطاء كثيرة جداً، وفيها سقط كثير، ومع ذلك فيها علم كثير، فرح الناس بطبعتها عندما طبعت حتى إن كثيراً من أهل العلم قالوا فيها أشعاراً، يقول فيها أحد العلماء عندنا:
..ونسرين روض في البلاد تفتقا
بنيل كتاب المنتقى غير أنه نتيجة إلى الملتقى لمن اتقى
وبعد كتب الباجي كتب أبي بكر العربي، خادمة للموطأ، ومن أهمها كتاب المدارك في شرح موطأ الإمام مالك، وهو شرح كبير كذلك توجد منه قطع مخطوطة، ولا أظنه يوجد كاملاً.
وكتابه الثاني: وهو القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس، وقد اعتنى فيه من جهة الأصول كما شرط ذلك، أي: يعتني فيه بأصول الفقه؛ لأن مالكاً أشار في كثير من المواضع في الموطأ إلى مسائل أصولية، وطرق الاستنباط والجمع بين النصوص، فأراد هو أن يركز على تلك الجهة، والكتاب مطبوع طبعتين محققاً في كلتيهما.
أظن أن طبعة دار الغرب التي حققها الدكتور محمد عبد الله كريم أجود من الجديدة، طبعة دار الغرب في ثلاثة مجلدات، الطبعة الجديدة في أربعة، لكن أظن أن طبعة دار الغرب أحسن، وما قرأت أنا الجديدة قراءة فاحصة؛ بل اطلعت على بعضها فقط.
كذلك من شروح الموطأ المهمة، شرح محمد بن عبد الباقي الزرقاني، وهذا رجل من أسرة علمية عريقة، فأبوه عبد الباقي شارح مختصر خليل بشرحه المشهور، وعم أبيه أحمد الزرقاني من مشاهير علماء المالكية، وجده كذلك من شراح مختصر خليل، ومحمد كان محدثاً وفقيهاً، وقد بدأ ذلك في كتابه فاعتنى بالجهتين الجهة الحديثية والجهة الفقهية، وكتابه مختصر ولكنه حاوٍ لكثير من العلوم.
ثم من شروح الموطأ التي كتبها المتأخرون شرح الموطأ للزقاني وما اشتهر باسم.
من كتب المتأخرين كذلك كتاب أوجز المسالك في شرح موطأ الإمام مالك للكاندهلوي الهندي، وهذا كتاب توسع فيه مؤلفه واعتنى كذلك بالمقارنة بين المذهب المالكي والحنفي، واعتمد في كثير مما ينقله على ابن عبد الباقي ونقل كذلك من التمهيد، واعتمد كذلك على كلام الشوكاني في نيل الأوطار في كثير من المواضع، الكتاب مطبوع كذلك في سبعة عشر مجلداً، للهنود كذلك شروح على رواية محمد بن الحسن للموطأ بالخصوص، وهي كثيرة جداً.
ومن الشروح المطبوعة للموطأ كذلك كتاب تنوير الحوالك السيوطي، ومختصر جداً، ولكن المؤلف اعتنى بمقدماته ألف كتابه إسعاف المبطأ برجال الموطأ، هو مقدمة لهذا الكتاب، وقد نظم كثيراً من كلام السيوطي، وأضاف إليه الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي في منظومته على الموطأ، وهي مطبوعة كذلك، هداية السالك لدراسة موطأ الإمام مالك.
بالنسبة لصحيح البخاري اعتنى الناس به عناية بالغة، وشروحه المعروفة في زماننا هذا تصل إلى ثمانية وثمانين شرحاً، أقدمها على الإطلاق شرح الخطابي الذي ذكرناه، قد طبعته جامعة أم القرى في أربعة مجلدات، والمطبوع من شروحه أهمها: فتح الباري للحافظ ابن حجر، وإرشاد الساري للقسطلاني، ويمتاز فتح الباري بسعة العلوم، واقتدار صاحبه واتساع مداركه في مختلف العلوم وعنايته بالصنعة الحديثية، ولكنه مع ذلك يبدو أن المؤلف لم يبدأه من شرح أول الكتاب، ولهذا فيطيل الكلام في حديث في مكان متأخر، ويحيل عليه إذا شرحه في الأجزاء الأولى من الكتاب، فيحتاج الكتاب إلى إعادة تصنيف وترتيب، ومع ذلك فقد وضع الله عليه القبول وانتشر في الأرض، وعندما ختم الحافظ تأليفه في مصر أقام دعوة لطلاب العلم والعلماء، أنفق فيها أربعين ألف درهم، وروى عنه الناس هذا الكتاب في حياته، وطبع كثيراً من الطبعات تصل الآن إلى ست عشرة طبعة في السوق، وفي كثير منها كثير من الأخطاء الفادحة، وبعض هذه الأخطاء وهي قليلة من الحافظ رحمه الله فيما يبدو، فمن ذلك مثلاً قوله عند قول البخاري رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه )، عند شرح الحافظ له قال: ( كان مما يعالج من التنزيل شدة )، وشرحه على أن مما قبل يعالج، والواقع أن لفظ الحديث: ( كان يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه )، فتزحلقت العبارة على الحافظ فشرحها على هذا الوجه، وتكلف الإجابة عن بعض الأسئلة التي ترد عليها كأنها مما يعالج.
وأما الأخطاء المطبعية فهي كثيرة جداً، في بعض الأحيان سقط من الأسانيد، كما في النسخة السلفية المشهورة بين الناس اليوم، فيها سقط في الأسانيد كثيرة، من أمثلته: قول البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال أخبرنا مالك، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتّبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن )، في الطبعة السلفية وطبعة الريان التي طبعت عنها سقط قوله: (عن مالك ) فأصبح الحديث منقطع الإسناد، وكذلك في كل الطبعات التي وقفت أنا عليها بعض الأخطاء المطبعية التي لا يدركها إلا من كان من أهل العلم، مثل قوله عند قول البخاري رحمه الله: حدثنا عمرو بن خالد، قال: أخبرنا الليث عن يزيد، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )، فقد قال الحافظ: رجاله كلهم مصريون، وفي جميع الطبعات كتبت بصريون بدلاً من مصريين، مع أن كل هؤلاء ما دخلوا البصرة، لا يعرف أنه دخل أحدهم البصرة، بل هم مصريون جميعاً، ونظير هذا كثير.
وبالنسبة لأقرب الطبعات إلى السلامة هي الطبعة القديمة التي ليس معها متن صحيح البخاري، التي طبعت في اسطنبول قديماً، وليس معها متن الصحيح.
يمتاز شرح القسطلاني بميزة مهمة وهي أن الإمام القسطلاني اعتنى برواية الصحيح؛ لأنه أعتمد على اليونينية، واليونينية: هي أول محاولة للتحقيق في الإسلام أو في العالم كله؛ لأن اليونيني رحمه الله عندما جمع علماء دمشق في الجامع الأموي رتب منهم ستة عشر شخصاً، كل شخص بيده نسخة من صحيح البخاري مروية، يقابلونها وهو يكتب الفروق على نسخته، ويشير لكل نسخة بحرف، ويكتبها على طريقة التدقيق التي ذكرها أهل المصطلح في كتابة السقط، والتحويك والتفويق وغير ذلك من مصطلحات الحديث فيما يتعلق بكتابة المتون وتحقيقها، وكان بحضرته محمد بن مالك الإمام، فكان إذا استشكل العلماء أمراً في اللغة يحله لهم محمد بن مالك، وقد جمعوا أجوبته في كتاب شواهد التوضيح والتصحيح لحل مشكلات الجامع الصحيح، وهو كتاب صغير لكنه حل هذه المشكلات التي عرضت لهم في صحيح البخاري، من الناحية اللغوية.
ونسخة اليونيني اشتهرت في مصر حين دخلتها، فاعتنى بها الناس، وكانوا يرحلون إليها لروايتها؛ للإتقان والتدقيق، والقسطلاني رحمه الله لما أراد شرح الصحيح لم يجد في مصر إلا الجزء الأول من نسخة اليونيني، وقد ضاع الجزء الثاني في نهب بني هلال لمكتبات القاهرة عند سقوط بعض الممالك، فحزن حزناً شديداً حين فاته النصف، فسافر إلى الصعيد فوجد رجلاً يبيع كتباً على حمار له، فجاء يساومه فيها، فنظر فإذا فيها الجزء الساقط من نصف نسخة اليونيني، فاشتراه منه على أنه وقف كما كان وأعاده إلى مكانه، ثم لما انتقلت الخلافة العثمانية إلى أرض تركيا، أخذوا النسخة اليونينية معهم، من الآثار الإسلامية العريقة التي أخذوها، وقد أخذوا كثيراً من الآثار جمعوها من الأقطار التي دخلت تحت أيديهم، وقد أمر بعض سلاطينهم المتأخرين بطباعة نسخة من صحيح البخاري على نسخة اليونيني، وجمع لها عدداً من العلماء، وهي الطبعة الاسطنبولية الموجودة التي عليها رموز اليونينية، وقد نفدت الآن من الأسواق تقريباً، وطبعت عليها دار الجيل اللبنانية نسخة في ثلاثة مجلدات ضخام، وهي الآن من أحسن النسخ من الصحيح، مع أنها غير مرقمة، وكتابتها متداخلة، لكنها من أصح النسخ الموجودة.
فـالقسطلاني رحمه الله اعتنى بضبط الألفاظ بالحروف، لم يضبطها فقط بالشكل، بل يضبطها بالكلمات، واعتنى بجمع روايات الصحيح؛ لأن الصحيح فيه كثير من الروايات المختلفة، فلذلك كان شرحه من أهم الشروح، وبالأخص لمن يريد حفظ الصحيح، أو مدارسته فمن أهم الشروح له كتاب القسطلاني، وقد طبع عدة طبعات مع شرح النووي على صحيح مسلم بالهامش، وأحسن هذه الطبعات وأصحها الطبعة القديمة جداً طبعة بولاق الأميرية.
ثم عمدة القاري للحافظ العيني، وهي شرح بدأه المؤلف بداية منهجية منظمة، ففيها تراجم الرجال، وشرح الغريب، وإعراب الكلمات، والنكت البلاغية، والأسئلة والأجوبة، ثم ما يستنبط من الحديث، وهذه المنهجية لو سار عليها المؤلف حتى أكمل الكتاب لكان رائعاً، لكن الواقع أنه ما استطاع أن يفي بشرطه في ذلك، وقد كان ينافس الحافظ ابن حجر في زمانه، بل كانت بينهما منافرة، وكان بعض طلاب العلم يذكي ذلك كحالنا اليوم، فيما يقع بين العلماء، حتى إن السلاطين أيضاً كان لهم دور في ذلك، كانوا يولون هذا، فإذا قال كلمة لا ترضيهم عزلوه وولوا الآخر مكانه، فإذا قال كلمة لا ترضيهم عزلوه وأعادوا الأول، ومسجد أحد السلاطين في القاهرة سقطت منارته حين ولي عليه العيني وأنزل عنه الحافظ ابن حجر، فقال الحافظ فيها أبياته التي يقول فيها: ما سقطت إلا من العين، كان يقصد العيني ويلمح إلى العين أن الناس عانوها من حسنها، فأجابه العيني بأبياته التي يقول فيها: ولكن خسة الحجر، أنها لم تسقط من العين ولكن من خسة الحجر، هذا ابن حجر.
ولذلك فـالعيني ينتقد الحافظ كثيراً ولا يسميه، ففي عمدة القارئ يقول: وقال بعضهم، وأعجب من قول بعضهم، ويقصد بذلك الحافظ ابن حجر، لهذا رد عليه الحافظ في كتابه انتقاض الاعتراض، وهو مطبوع كذلك.
وكتاب عمدة القارئ عموماً فيما يتعلق بلغة الحديث وإعرابه وبلاغته من أهم الكتب، قد طبع طبعتين وكلتاهما فيها أخطاء فادحة، كلتاهما تسقط منه صفحات متوالية، ويأتي فيها الطمس والقطع، فينبغي إعادة طبعه من جديد.
ثم من الشروح المهمة على صحيح البخاري كذلك كتاب الكرماني، وهو شرح نافع مختصر إلا أن صاحبه ليس من المتخصصين في الحديث، فلذلك وقعت له أخطاء حديثية فادحة، ويرد عليه الحافظ ابن حجر فيها، مع أنه يعتمد عليه في مجال اللغويات ونحوها إلا أنه يرد عليه في الأخطاء الحديثية، ومن ذلك أن البخاري رحمه الله من منهجه في الحديث الاختصار، والاختصار في الحديث نوعان: اختصار في المتون، واختصار في الأسانيد، فالاختصار في الأسانيد إذا وجده الكرماني يظن أن الحديث معلق، مثلاً في حديث بدءِ الوحي الذي ذكرناه في صحيح البخاري في نهايته يقول البخاري في نص الحديث: ولم ينشب ورقة أن هلك وفتر الوحي، بعد هذا قال: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله وهو يحدث في فترة الوحي، فظن الكرماني أن هذا الحديث معلق؛ لأن البخاري في ظاهر الإسناد اختصر فلم يذكر سنده هو إلى الزهري، قال أي: الزهري، والإسناد هو نفس السابق يحيى بن بكير، عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب الزهري، لكن اختصار الإسناد مصطلح لدى أهل الحديث وقد درجوا عليه، ولكن الكرماني ما عرفه فظن أن الحديث معلق.
كذلك الكرماني يعتني بالرجال، إذا ذكر حديثاً يذكر رجاله، إلا من تقدم منهم ويشير إلى موضع من تقدم.
ومن الفوائد المهمة التي اعتنى بها العيني كذلك في شرحه: العناية بتخريج المواضع التي أخرج فيها البخاري الحديث، يحيلك إلى الأبواب في بعض الأحيان، لكنه لم يف بشرطه ولم يكمل ذلك.
كذلك من الشروح المهمة على صحيح البخاري شرح زروق أحمد البرنسي المالكي، وهو فقيه، شرحه يعتني فيه من الناحية الفقهية وهو مطبوع كذلك.
وكذلك شرح النووي رحمه الله كتاب البيوع من صحيح البخاري شرحاً متوسعاً ويقال: إنه موجود لكنه لم يطبع إلى الآن.
وكذلك من الشروح المهمة على صحيح البخاري كتاب كوثر المعاني الدراري في شرح صحيح البخاري، للشيخ محمد الخضر بن سيدي عبد الله بن ميابا الشنقيطي، كان مفتياً للمدينة في زمانه في آخر أيام الدولة العثمانية، وهذا الكتاب أراد فيه مؤلفه في البداية تخريج أحاديث صحيح البخاري جميعاً؛ ليسهل حفظها وضبطها وليقع ضبط الروايات المختلفة في الألفاظ، فـالبخاري يأتي بالحديث في موضع، ثم يأتي به في موضع آخر والأكثر في الصحيح أن يغير إما في الإسناد وإما في المتن، ولا يأتي به كما هو إلا نادراً، فالشيخ حاول تقصي أحاديث الصحيح، فخرجها جميعاً وبين مواضعها والاختلاف بينها، وذكر كذلك ما خرجه مسلم منها والاختلاف في ألفاظها، ثم اعتنى كذلك بتبويب البخاري وتراجمه، وجمع كلام الحافظ ابن حجر وكلام العيني وكلام القسطلاني وأضاف إليه كثيراً من كلام المحدثين وكلام الفقهاء، والشيخ محدث من الحفاظ، ومن عجيب ما تميز به هذا الشرح أنه إذا ورد الحديث في معنى من المعاني، يحاول أن يحصر لك كل ما تذكر هو من الأحاديث التي في نفس المعنى، في أي كتاب من الكتب، لكنه توفي ولم يكمل من الكتاب إلا أقل من الثلث، توفي عند نهاية الحج، طبع الآن هذه القطعة منه في أربعة عشر مجلداً.
قد كان ابنه يريد إكماله، لكن ما أظن أنه فعل، والمؤلف قد أكمل التخريج للبخاري كله، صحيح البخاري خرجه جميعاً ولم يطبع ما بعد الحج منه، لكن لم يرد هو إخراجه؛ لأنه يريد أن يتم الشرح كما هو.
كذلك من الشروح المهمة على صحيح البخاري كتاب الحافظ ابن رجب الحنبلي، وهو كتاب متوسع جداً على طريقة ابن رجب، ابن رجب رحمه الله في شرح الحديث يتوسع في أغلب الأحيان، فيأتي بالفوائد الفقهية، والفوائد الحديثية، والفوائد السلوكية والأخلاقية، والرقائق والعبر، وكتابه اسمه فتح الباري، ولم يكمل كذلك ولا اقترب من ذلك، لكن الأجزاء الموجودة منه فيها علم غزير وفوائد جليلة جداً، والذي يعرف نفَس الرجل في كتابه جامع العلوم والحكم، يعرف طول باعه في الحديث، وكثرة استحضاره للفوائد الحديثية، مع أنه في جامع العلوم والحكم يقصر في شرح بعض الأحاديث، فبعض الأحاديث يكون شرحها قصيراً وغير مستوعب، لكن أكثر الأحاديث شرحت شرحاً وافياً، هو أحسن الشروح الموجودة له، هذه أهم شروح الصحيح المطبوعة.
بالنسبة لفتح الباري للحافظ كتاب كامل، والكتاب الكامل لا يمكن أن يقارن بقطعة واحدة من كتاب ناقص، وعموماً هذه الشروح لا يغني بعضها عن بعض، فالذي يريد دراسة الصحيح دراسة متأنية الأفضل له أن يطلع على كل هذه الشروح والأمر فيها ميسور، لكن يجعل كتاباً هو الأصل، ويهمش عليه بالفوائد الأخرى من غيره.
وكتاب المنير وكتاب ابن التين، وكتاب ابن بطال، هؤلاء من أئمة المالكية الذين شرحوا صحيح البخاري وكتبهم غير مطبوعة، طبع شرح السيوطي الذي هو التوشيح في شرح الجامع الصحيح، وهو على طريقة السيوطي في الاختصار والاقتصار على أقل ما يفهم به المتن.
وبالنسبة لـابن أبي جمرة لم يشرح صحيح البخاري وإنما شرح انتخابه هو منه، فقد انتقى منه ثلاثمائة وزيادة من الأحاديث سماها مختصر صحيح البخاري، وهي التي شرحها وتوسع في الشرح، ذكر فيه كثيراً من الفوائد النافعة، إلا أنه بالغ أيضاً في قضايا السلوك والتصوف ومثل هذا النوع، وقد ذكر بعض ما ذكره ابن أبي جمرة الشيخ محمد الخضر في كتابه كوثر المعاني الدراري.
بالنسبة للمتقدمين لدى أهل الحديث منهم من مات قبل نهاية القرن الرابع الهجري، والمتأخرون من دون القرن الرابع الهجري، ولهذا فالتآليف المفيدة في الحديث مثلاً جمع المتون ما تأخر منها شيء عن هذا القرن، إذا رجعت إلى المؤلفين الذين ذكرنا تآليفهم في دواوين الإسلام الحديث، ما تجد أحداً منهم متأخراً عن القرن الرابع الهجري إلا مثلاً البغوي والمقدسي فقط، وبالنسبة الكبار الذين ألفوا وجمعوا كلهم متقدمون عن هذا الوقت.
أما من دون هؤلاء وهم المتأخرون فهم شراح وجماع ومقارنون، فمثلاً: الخطيب البغدادي أكثر ما ذكره مسبوق إليه، الحافظ ابن عبد البر أكثر ما ذكره شروحه لم يأتِ بمتون جديدة لنسخته الموجودة، النووي، ابن الصلاح وغيرهم هكذا.
في أحاديث الصفات وآياتها في الصحيح في شرحه في أكثر الأحيان هو متقيد بمن سبقوه من الشراح، مثل: الكرماني وغيره، فلذلك التأويل الذي فيها ينقله عن أولئك السابقين، وبالأخص أنه هو في هذا المجال متأثر جداً بشيخه الحافظ البلقيني، وبـابن الملقن كذلك، وهما في طبقة واحدة، وكلاهما من الأئمة الكبار الضليعين في ذلك الوقت، ثم ابن دقيق العيد وهو في نفس الطبقة، طبقة الشيخ الحافظ ابن حجر، فلذلك إذا نقل عن بعض الذين لا يؤولون أتى بكلامهم كـابن بطلان وابن التين، وإذا نقل كلام الذين يؤولون أتى بكلامهم أيضاً كـالكرماني وابن الملقن والبلقيني، فهو بحسب مراجعه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر