الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فبعد أن انتهينا من الكلام على شروح موطأ مالك، وكذلك شروح صحيح البخاري، نبدأ بالكلام على شروح صحيح مسلم، والذي عني به الناس كذلك، ومن أوائل الذين شرحوه الإمام محمد بن عمرو المازري، ولم يكن يريد أن يشرحه بكتاب وإنما شرحه بدروس، فكان الناس يكتبون بعض شرحه.
فكتاب المعلم هو دروس كان يلقيها في الجامع في فترة رمضان في شرح صحيح مسلم، فكان بعض الطلاب يكتب وراءه، فجمع ذلك في كتاب المعلم، وقد طبع بتحقيق الشيخ محمد سالم النيفر طبعة دار الغرب الإسلامي في ثلاثة مجلدات, وفيه فوائد كثيرة جداً مع ألفاظ دقيقة إذا قرأها الإنسان لم يظن أنها درس يكتب بالإملاء دون الرجوع إلى الكتب.
والذين لديهم هذه الملكة فيما يتعلق بالإملاء أن تكون ألفاظهم التي يملونها مثل الألفاظ التي يكتبونها بأيديهم قلائل جداً, كثير من الناس فصاحتهم في ألسنتهم وكثيرون كذلك فصاحتهم في أقلامهم, فالذين فصاحتهم تجمع بين الأمرين (القلم واللسان) قلائل، ومنهم الإمام المازري، ومنهم كذلك الإمام ابن دقيق العيد فشرحه على العمدة كان إلقاءً، أي: مجرد دروس يمليها من حفظه، وشرحه على الأربعين النووية كذلك كان إلقاءً، درس فقط, وإذا قرأه الإنسان يظن أنه تفكير إنسان يكتب بيده ويجتهد, وبالأخص تحريره البالغ في شرح العمدة, مع أنه مجرد إملاء يمليه من حفظه.
جاء بعد المازري الإمام أبو العباس القرطبي الأندلسي فاختصر صحيح مسلم، وجعل له أبواباً؛ لأن مسلماً جعل له كتباً ولم يجعله أبواباً بخلاف البخاري، البخاري كتب الكتب والأبواب, ومسلم كتب الكتب في الصحيح ولم يكتب أبواباً, فجاء الإمام أبو العباس فوضع أبواباً للصحيح تناسب الأحاديث التي يوردها مسلم، واختصره وشرح مختصره, ومختصره ليس على ترتيب الصحيح، يقدم بعض الأبواب في بعض الكتب ويؤخر بعضاً، على حسب المناسبات التي يراها هو, شرحه شرحاً سماه المفهم في شرح اختصار صحيح مسلم، وقد طبع.
ثم جاء القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، فألف إكمال المعلم، أكمل به كتاب المازري حتى كان محتوياً على جميع صحيح مسلم وكان شرحاً لجميع الصحيح, وهو كثير الفوائد وبالأخص في مجال الفقه, واعتنى فيه القاضي رحمه الله بروايات الصحيح, لكن المشكلة أن القاضي ليس صاحب رحلة, فالروايات الموجودة في المشرق لم يصل إليه بعضها فكان ينفي وجودها, ولكن ينفي ذلك في بلاده يقول: لا يوجد في بلادنا رواية للصحيح تثبت كذا.
وكان دقيقاً جداً في الرواية؛ لأنه كان يحفظ صحيح مسلم مثلما يحفظ الفاتحة, وقد كان رحمه الله يريد أن يزيد في شرحه حتى ذبح رحمة الله عليه فتوفي، ذبحه الموحدون، وقد كان هو قاضياً لدولة المرابطين, فكان يريد الزيادة في بعض المواطن من شرح صحيح مسلم، ولهذا فقد توسع في شرح بعض الأحاديث وجعلت كتباً مستقلة مثل كتابه بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، هذا في حديث أم زرع وحده، وهو مطبوع, وكان كذلك يريد إثبات أسانيده في مقدمة كتابه ولم تثبت، وهي موجودة في كتابه الغنية وهو مطبوع فيه أسانيد عياض كلها.
ثم جاء بعده الإمام النووي أبو زكريا يحيى بن شرف الدمشقي رحمه الله، فاعتنى بصحيح مسلم عناية بالغة وشرحه شرحاً وضع الله له القبول، فاشتهر وانتشر في البلاد ككتب النووي، كتب سبحان الله وضع الله عليها قبولاً عجيباً، رغم ما فيها من بعض الأحيان من الأخطاء، ورغم قصر عمر الرجل أنه لم يعش إلا إحدى وأربعين سنة, ومع ذلك وضع الله القبول على هذه الكتب فسارت بها الركبان في مشارق الأرض ومغاربها، كتابه هذا المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، كتاب جمع فيه ما ذكره المازري، وما ذكره القاضي عياض وأضاف إليه الكلام أيضاً على الروايات المشرقية في صحيح مسلم، فلذلك يرد على عياض فيما يتعلق بالرواية.
وقد اعتنى الحافظ ابن حجر فيما يتعلق بالروايات من الكتابين في فتح الباري في الأحاديث المشتركة التي أخرجها البخاري، يعتني الحافظ بكلام القاضي عياض وكلام النووي، فيما يتعلق بالروايات، مثل حديث جعفر بن مبشر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: ( أفلح وأبيه إن صدق ), فقد ذكر القاضي أن بعض الناس يرويه: ( أفلح والله إن صدق )، ويزعم أن أصل الكلمة والله كتبت هكذا فقصرت اللامان فقرأها بعض الناس: (وأبيه)؛ لأن النقاط لم تكن معتنى بها, وقال: هذا باطل؛ لأن الرواية الثابتة عندنا: ( أفلح وأبيه إن صدق ), ولا يوجد في بلادنا رواية لصحيح مسلم تروي: والله، وقد ذكر الحافظ أنه ربما وجدت رواية في صحيح مسلم فيها: (والله).
كذلك جاء الأبي وهو تلميذ ابن عرفة المشهور، بما يتعلق بالمنقول، وقد كان ابن عرفة الورغميّ إمام جامع عقبة بن نافع في تونس في القيروان، إماماً في المعقول والمنقول، وهو من أشهر محققي المالكية في ذلك الزمان، لكنه كان من تلامذته البرزلي والأبي، فكان لا ينام في الليل فقالت له جاريته: ما لك يا سيدي لا تنام؟ قال: كيف أنام وسأصبح بين هذين الأسدين الضاريين بين الأبي بنقله والبرزلي بعقله, فكانا يناقشانه في كل أمر، فكان يبيت يراجع معلوماته فيقول: إذا قلت في الدرس كذا سيعترض الأبي بكذا، فالجواب عنه كذا, ويعترض البرزلي بكذا فالجواب عنه كذا، والجواب عن ذلك الجواب يمكن أن يكون كذا، ويأتي بالاحتمالات كلها ويردها، يحضر الدرس تحضيراً محكماً.
وقد كان ابن عرفة رحمه الله رجاعاً إلى الحق، ويقال: إنه أصيب بمرض بسبب عدم النوم، وهذا المرض هو نقص الذاكرة, فكان إذا عرض عليه شيء من تقييداته لم يفهمه؛ لأنه كان مولعاً بدقة الأسلوب وصعوبته، ولذلك من قرأ مختصره في الفقه المالكي الآن لا يفهم منه إلا النوادر، ولا تكاد تفهم منه شيئاً, واعتنى بالحدود والتعريفات عناية بالغة حتى كان المالكية إذا أرادوا أن يعرفوا شيئاً قالوا: تعريف ابن عرفة، أو حد ابن عرفة له.
وقد جمعت حدوده فشرحها الرصاع في كتابه شرح حدود ابن عرفة مطبوع في مجلدين.
فـالأبي رحمه الله كمل كتاب القاضي عياض بإضافة كثير من الفوائد إليه كان القاضي عازماً على إضافتها، وبالأخص في المجال الفقهي والعقدي والسلوكي, وذكر فيه أبحاثاً أصولية كذلك, فكان كتابه من أهم الكتب، وكان يرمز للكتب السابقة، كل شرح من شروح مسلم يرمز له بحرف معين, وسمى كتابه إكمال إكمال المعلم، فالقاضي عياض سمى كتابه إكمال المعلم، وهذا سماه إكمال الإكمال.
ثم جاء بعده السنوسي وهو قد توفي سنة ألف وأربعين للهجرة متأخر، وقد ألف كتابه تكملة إكمال إكمال المعلم, جمع فيه الفوائد التي أضافها النووي وزاد عليها، واعتنى كذلك بأصول الفقه وعلم الكلام، فأضاف ذلك في كتابه, وقد ألف السيوطي كتاباً مختصراً على صحيح مسلم، سماه: الديباج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، موجود مخطوط في مجلد واحد صغير قد طبع الآن في أجزاء، مع أنه موجود مختصر بدفتر صغير مخطوط.
ومع هذا فقد بقي صحيح مسلم محتاج إلى الآن لبعض الخدمة، وقد شعر القدماء بحاجة صحيح مسلم للخدمة حتى إن ابن الصلاح ألف فيه كتاب صيانة صحيح مسلم عن الغلط والتحريف والتصحيف, وهذا الكتاب طبع وحده وطبع أيضاً مع صحيح مسلم في الطبعة هذه التي هي في مجلد واحد، وطبع معه كتاب صيانة صحيح مسلم.
كذلك الكتاب الرابع من الكتب الحديثية التي اعتني بها في الشرح كتاب سنن أبي داود، وقد سبق أن الخطابي شرحه، ولكنه لم يعتن بروايات السنن، وروايات السنن التي اشتهرت أشهرها روايتان رواية اللؤلؤي ورواية ابن داسة، فهذه هي أشهر الروايات في سنن أبي داود، وبينها اختلاف بيّن، حتى في تقديم الأحاديث وتأخيرها وتصحيحها وتضعيفها والأحكام التي يريدها أبو داود بعدها، فلذلك يحتاج للجمع بين هذه النسخ المختلفة, ولم يعتن بذلك الخطابي، بل لم يشرح كل الأحاديث في سنن أبي داود، وقد اختصر المنذري سنن أبي داود كما اختصر صحيح مسلم، فشرح ابن القيم مختصر المنذري، ولم يرد كذلك فيما يبدو شرح الكتاب كاملاً، وإنما أراد أن يكتب عليه تعليقات وفوائد، يتوسع في بعض الأبحاث، ويتجاوز ويضرب صفحاً عن كثير من الأحاديث ولم يتكلم عليها.
واعتنى بشرحه ولي الله الدهلوي، الذي هو صاحب النهضة الحديثية في الهند، فاعتنى بسنن أبي داود عناية بالغة، ولكن المؤسف أن ما كتبه عليه من الشروح ضاعت كلها، ولم يصل إلينا منها أي شيء ونهبت في أيام ولده إسماعيل، فقد أسف ولده على ضياع هذه الكتب، فأمر بعض طلابه بالعناية بجمع نسخ سنن أبي داود، فجمعوا منها عدداً كبيراً وقابلوها، فكانت النسخة التي لديهم مقابلة عليها اختلاف الروايات، وعليها شرح صاحب عون المعبود، فالطبعة الهندية القديمة من عون المعبود فيها اختلاف الروايات في سنن أبي داود، المشكلة أن المطابع استثقلت هذا الاختلاف في الروايات فحذفت الطبعات الجديدة؛ لأنهم ليسوا طلاب علم ولا يظنون في هذا فائدة فحذفوه, ولذلك هذه الطبعة الهندية نافدة الآن من الأسواق، تقريباً لا توجد في البلاد العربية للبيع، وهي فيها فوائد جليلة جداً في اختلاف النسخ, والهنود اعتنوا بسنن أبي داود فكتبوا عليها عدداً من الشروح، منها: بذل المجهود بالإضافة إلى عون المعبود، لكن عون المعبود أحسنها وأهمها.
السيوطي كذلك شرح سنن أبي داود شرحاً مقتضباً على عادته هو، ومثل ذلك السندي له حاشية عليه مثل ما له حواش على الكتب الستة كلها، حاشية على صحيح البخاري مطبوعة, وحاشية على صحيح مسلم غير مطبوعة, حاشية على سنن أبي داود مطبوعة, حاشية على سنن النسائي مطبوعة, حاشية على سنن الترمذي غير مطبوعة, حاشية على سنن ابن ماجه مطبوعة, طبعت حاشيته على صحيح البخاري وحاشيته على أبي داود، وحاشيته على النسائي، وحاشيته على ابن ماجه، ومازال سنن أبي داود محتاجاً للشروح والعناية, ولذلك فالطبعات الموجودة منه التي قد أشرنا من قبل إليها فيها كثير من الاختلاف البين، فأحسنها طبعة عزة عبيد الدعاس وزملائه، وفيه طبعة حققها أو صححها محيي الدين عبد الحميد بالضبط فقط؛ لأن محيي الدين عبد الحميد ليس محدثاً، وإنما هو لغوي ونحوي, فعمله بها لا يعدو ضبط الألفاظ وشكل الكلمات المحتاجة إلى الشكل.
ثم سنن الترمذي، وقد شرحه أبو بكر بن العربي بكتابه عارضة الأحوذي, والعارضة الجناح الخفي الخفيف, والأحوذي النسر الصغير الذي يبعد الطيران في الهواء, وجناح النسر يسمى كذلك أحوذية، الأحوذي النسر وجناحه كذلك, ومنه قول الشاعر:
على أحوذيين استقلت عشية فما هي إلا لمحة وتغيب
ومقصود ابن العربي رحمه الله أن كتابه مجرد عارضة ولا يقصد به تغطية الكتاب كاملاً, وأتى فيه بكثير من الفوائد والعلوم، ولكن المشكلة أنه لم يطبع طباعة كافية، فالطبعات كلها الموجودة منه فيها من الأخطاء ما لا يعلمه إلا الله، الحذف والسقط والتحريف البالغ جداً, فعندما يورد الحديث يقول: في هذا الحديث خمس مسائل فقهية، وثلاث مسائل عقدية، ومسألتان أصوليتان، فإذا راجعت المسائل لا تجد إلا مسألتين فقهيتين، مسألة واحدة عقدية ومسألة.. وهكذا.
ومع هذا ففي المطبوع منه فوائد جليلة جداً، وفيه كثير من المسائل لا توجد إلا فيه, وقد شرحه كذلك المباركفوري في كتابه تحفة الأحوذي، وهو كتاب جيد اعتنى فيه بالتخريج وبالفقه عناية جليلة, واعتمد في التخريج الفقهي على نصب الراية للزيلعي، وكذلك اعتنى بالطرق وبالأخص ما يورده الحاكم منها في المستدرك، وما يورده البيهقي في السنن الكبرى، وفي معرفة سنن الآثار, فكتابه عموماً مفيد, لكن سنن الترمذي بحر لا ساحل له لعدة جوانب، فالذي يريد تدريسه أو شرحه يحتاج إلى هذه الأمور:
أولاً: يحتاج إلى مقارنة النسخ لاختلافها في الحكم؛ لأن الترمذي في بعض النسخ يقول: صحيح، وفي بعضها: حسن، وفي بعضها: حسن صحيح، وفي بعضها: حسن صحيح غريب، في الحكم على الحديث الواحد, وهذا الاختلاف في تدقيق هذا الحكم وحده يستحق عملاً كبيراً.
الأمر الآخر: أن كتاب الترمذي مستخرج على الصحيحين, فلهذا إذا كان الحديث مشتهراً في الصحيحين يورده من طريق غير طريق الصحيحين, ثم يقول: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان من الصحابة, فيحتاج إلى أن تعرف الأحاديث المطوية التي يشير إليها, قد ألف فيها بعض السابقين اللباب في قول الترمذي في الباب، ألف فيها ابن الملقن وغيره, ولكن لا يوجد شيء منها بأيدينا اليوم, ولم يعتنِ بها المباركفوري بالقدر الكافي، والنسخ المطبوعة من سنن الترمذي كذلك متفاوتة، فقد كان الشيخ أحمد شاكر رحمة الله عليه يريد أن يخرج نسخة صحيحة من سنن الترمذي على عادته هو في التدقيق في الإخراج، لكنه لم يكتب منها إلى مجلدين ووافته المنية قبل إكماله.
فجاء بعده محمد فؤاد عبد الباقي فأراد أن يصحح جزءاً واحداً، فعلى الأقل رقم أحاديثه وأبوابه على الموجود في التحفة للمزي ولكنه لا يستطيع أن يحكم ولا أن يخرج مثلما فعل أبو الأشبال، وأيضاً لم يفعل ذلك إلا بمجلد واحد, والمشكلة أن دور النشر أرادت أن تكمل الكتاب فعهدت به إلى من ليس أهلاً لذلك، فطبع طبعتين إحداهما بإكمال عطية عوض عطوة، وهذا فيه من الجهل الشيء الكثير العجيب, ومن عجائب ما يكثر أنه مثلاً: عند قول الترمذي رحمه الله في الحديث، عند إيراد الحديث: ( ترث المرأة لقيطها وعتيقها وولدها الذي لاعنت عليه )، جعل عليه رقماً وكتب تحت: (العنت: المشقة)، وهو المشكلة أنه في المتن اللفظ صحيح، هو لم يكتب لا عنتَ عليه، إنما كتب لاعنتْ عليه، فهذا النوع من البلاهة عجيب جداً, وقد سار على أثره أيضاً الرجل الثاني الذي تبعه على هذا، وهو يوسف كمال الحوت، فأثبت الأخطاء كما هي، وزاد عليها أخطاءً أخرى.
وتحقيق عزة الدعاس أحسن من هذا وذاك، ويا ليته كان أتى بالفوائد التي أتى بها شاكر في الجزئين الأولين، لكنه لم يفعل, وقد جاء بشار عواد فأخرج نسخة منه، ترك فيها الرجوع إلى كثير من المخطوطات، وأهمل فيها الرجوع أيضاً إلى المطبوعات، لكن على الأقل هي نسخة سليمة في ذاتها وشكلها، والأخطاء التي وجدت لدى الحوت ولدى عطية عطوة لم يوردها هو، لكنه أهمل كثيراً مما أورده الدعاس، مثلاً: مقارنة النسخ الخطية.
بعد هذا كتاب سنن النسائي، وهذا الكتاب العناية به قليلة من ناحية الشرح، فلا أعرف للمتقدمين شرحاً عليه, أول من وصلنا شرحه عليه السيوطي، ثم السندي الذي له حاشية عليه مطبوعة مع شرح السيوطي، وقد كان الشيخ محمد المختار بن أحمد مزيد يريد شرحه وكان يدرسه في الحرم المدني, فشرح منه أحاديث يسيرة في ثلاثة أجزاء؛ لأنه يتوسع في التخريج من الناحية الفقهية، ثم عاجلته المنية قبل إكماله.
وهو والد محمد بن محمد المختار المدرس الآن في الحرم، ولم يعط الكتاب من العناية ما يكفي أيضاً، فهو ما زال محتاج إلى أن يشرح وأن يعتنى به.
أما سنن ابن ماجه فقد اعتنى به قديماً البوصيري، لكن عنايته به تعلقت بزوائده فقط، أي: بالأحاديث التي زادها على الكتب الخمسة الأخرى.
ونسيت أن من شروح سنن الترمذي الجيدة كتاب النفح الشذي للحافظ ابن سيد الناس، وهو موجود مخطوط متكامل، وقد حقق منه الدكتور أحمد معبد ثلاثة مجلدات، فيها الظاهر ثلاثة عشر حديثاً فقط؛ لأنه يطيل في التخريج إطالة عجيبة.
بالنسبة لسنن ابن ماجه كما ذكرنا طبع مصباح الزجاجة للبوصيري، وقد اختصر محمد فؤاد عبد الباقي في نسخته من سنن ابن ماجه حكم البوصيري على الزوائد، فيكتب في الزوائد كذا في ذيل الحديث, وكذلك عليه حاشية السندي وشرح السيوطي، ولم يعتن به بالقدر الكافي.
وكذلك شرح ابن قطلوبغا لكنه مختصر كذلك وما فيه الكفاية والكتاب محتاج أيضاً للعناية, ولهذا فالنسخ الموجودة الآن مطبوعة منه كلها فيها أخطاء، وأحسنها نسخة فؤاد عبد الباقي، وفي نسخة الأعظمي وفيها أخطاء فادحة، والآن فيه هذا حسين بن ناصر الحكمي يحاول خدمة الكتاب، قد جمع كثيراً من المعلومات عن الكتاب وراجع كثيراً من النسخ، ولكن لم يخرج شيئاً مطبوعاً إلى الآن.
بالنسبة لمسند الإمام أحمد لم يحظَ بكثير من الشروح؛ لأنه في حياة المؤلف وحياة ابنه وحياة أبي بكر القطيعي كان محصوراً في الرواية على شخص واحد لكل طبقة, فلذلك لم يعتن به بالقدر الكافي، وإن كان ألف أقوام كتباً تتعلق به وتخدم بعض الجوانب مثل ترتيب الصحابة في المسند لــابن الجوزي، ومثل: القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، فالرد على ابن الجوزي نفسه حين ذكر بعض الأحاديث التي زعم أنها موضوعة، وهي في المسند فذب عنه الحافظ ابن حجر بهذا الكتاب.
وكذلك السيوطي يذب عنه في كتابه الذي سماه: القول الحسن في الذب عن جميع السنن, تعرض فيه أيضاً لكل ما زعم ابن الجوزي أنه موضوع وهو في السنن أو في المسند أو في المستدرك.
وقد حاول الشيخ أحمد شاكر رحمة الله عليه أن يخرج الكتاب في صورة مرضية، وطبع منه اثنين وعشرين مجلداً، فيها تقريباً ربع الكتاب، وصل تقريباً منتصف الجزء الثاني أو أكثر قليلاً، فتوفي قبل إكماله، وعموماً ما خدمه هو من المسند كانت خدمة فيه جليلة وواضحة, وما خدم الكتاب خدمة أخرى تكفيه، فقد كان الشيخ الساعاتي البنا رحمة الله عليه رتب كتاب على ترتيب العلم، وأخرجه عن طريقة المسند كعادته، فقد فعل هذا أيضاً بكتاب مسند الطيالسي في منحة المعبود، رتب مسند الإمام أحمد كذلك في كتابه الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني، وحاول شرح بعض الأحاديث فيه ولكن لم يستوعب شرح الكتاب, وأيضاً شرح يورد فيه إسناد أحمد؛ لأنه يأتي بالأحاديث أولاً مجردة عن الأسانيد ثم يورد الأسانيد في الشرح, وعموماً الكتاب ما زال محتاجاً إلى خدمة جليلة، وقد بدأ مشروع تحقيقه، و هذا الذي طبع منه الآن ثلاثون مجلداً، تحت إشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط وعسى الله أن يتم على خير.
كذلك مستدرك الحاكم ولم يعتن به في زمان المؤلف، وأول من اعتنى به تقريباً عناية بالغة الإمام الذهبي، وقد لخصه تلخيصاً ينتقد فيه حكم الحاكم على الأحاديث، وطريقته في التلخيص لم تكن منضبطة، فيسكت عن كثير من الأحاديث والأحكام وهو لا يوافق الحاكم في الحكم عليها, وكذلك يحذف إسناد الحاكم من أوله ويذكر الإسناد من الوسط، أي: يجتزئ في الإسناد على طريقة المزي في التحفة تقريباً, وقد طبع بهامش المستدرك.
والمستدرك ما عليه شرح، فقط العناية التي فعلها الذهبي في التلخيص.
وأيضاً حتى الذهبي نفسه قال: وأرجو أن يقيض الله لهذا الكتاب من طلبة العلم البارعين من يكمل هذا العمل، وإلى الآن ما وجد ذلك.
بالنسبة لسنن البيهقي اعتنى به ابن قطلوبغا فألف كتابه الجوهر النقي على سنن البيهقي، فهو حاشية مختصرة جداً ويعتني فيها بالرد على البيهقي إذا خالف أبا حنيفة، عندما يخالف الحنفية يهجم عليه فقط، ولذلك فلا يكفي هذا في خدمة الكتاب, والكتاب من الذين اعتنوا به الإمام النووي حفظاً ودراسة وتدريساً, وكنا نود لو أن النووي رحمه الله شرحه, ولذلك فقد ذكر في التقريب أنه مما ينبغي أن يعتني به طالب العلم ويبذل فيه جهده كتاب البيهقي، ويذكر هذا أهل المصطلح كلهم, إذا ذكر مكتبة المحدث يختمونها بكتاب البيهقي ويثنون عليه ثناءً عطراً، لذلك ما زال الكتاب محتاجاً إلى خدمة.
من الكتب التي شرحت واعتنى بها الناس في الشرح: كتاب مشكاة المصابيح للتبريزي، وهو اختصار لمصابيح البغوي، وقد اعتنى بها المتأخرون فوضعوا عليها عدة شروح، منها: ملقاة المفاتيح، ومرعاة المفاتيح، كلاهما على مشكاة المصابيح, وشرح الطيبي قبل هذا على المشكاة مطبوع.
وكذلك من الكتب الحديثية التي اعتنى الناس بها شرحاً: كتب الأحكام، فمثلاً: كتاب منتقى الأخبار لـعبد السلام بن تيمية شرحه الإمام الشوكاني شرحاً بارعاً، هو نيل الإطار، وأبدع فيه وأحسن، إلا أن في الكتاب كثيراً من الأخطاء تعود إما إلى نقص المراجع أو للتحريف فيها، وقد يكون بعضها مطبعياً ليس من الشوكاني رحمه الله، فكثيراً ما يلتبس فيها سليمان النخعي بـسليمان التيمي مثلاً، أو مالك بن أنس بـمالك بن دينار، والكتاب محتاج إلى عناية، لكنه مع ذلك قد بذل فيه جهد كبير, والآن مرجع من مراجع شروح كتب الأحكام وهو أهمها على الإطلاق تقريباً.
وكذلك كتاب العمدة للحافظ المقدسي وقد شرحه ابن دقيق العيد إملاء، وشرحه مطبوع موجود.
وشرحه أحد المغاربة كذلك شرحاً مستفيضاً وهذا الشرح غير موجود، لكنه لخصه الأمير الصنعاني في حاشيته على شرح العمدة.
وكذلك بلوغ المرام فقد شرحه عدد من الشراح، والذي انتشر واشتهر كتاب الأمير الصنعاني عليه الذي هو سبل السلام، وهو كتاب أراد فيه عزو المذاهب دون التوسع في الناحية الحديثية، اعتنى به من ناحية فقهية دون التوسع من ناحية حديثية، يتمم تخريج الحديث زيادة على ما قال الحافظ ابن حجر، لكن إذا أشار الحافظ لعلة أو نحو هذا لا يستقصيها.
واعتنى في الفقه بمذاهب الزيدية.
وهو اختصار لشرح المغربي عليه بما يتعلق بفقه المذاهب السنية، لكنه أضاف إليه كثيراً مما لم يأت به المغربي من فقه الزيدية، وفيه بعض الأخطاء كذلك، التي قد تنشأ عن عدم اطلاع على كثير من مذاهب أهل السنة في مجال الفقه.
كذلك كتاب الأحكام الوسطى للحافظ عبد الحق الأشبيلي، ألف عليه الإمام أبو الحسن بن القطان كتابه: بيان دفع الوهم والإيهام, وهذا الكتاب حديثي بحت يتكلم بالصنعة الحديثية، يلاحظ فيها على عبد الحق بن الخراط الأشبيلي رحمه الله في أحكامه، وانتقائه، وتعليله، فهو كتاب علل وتخريج، ومقارنات بين الأحاديث وجمع بين المختلفات، وفيه أبحاث اصطلاحية كبيرة، ولذلك اعتمد عليه الحافظ ابن حجر في كثير من المواقف، يعتمد على ابن القطان الفاسي في كثير من الأمور المتعلقة بالعلل أو المتعلقة بالمصطلح، والذهبي كذلك.
أما الكتب الجامعة في الحديث فمنها مثلاً رياض الصالحين للإمام النووي، شرحه عدد من الناس شروحاً متوسطة، ليس فيها شرح متميز، هذا عن شروح الحديث، وهو يدلنا على أهمية هذا العلم والعناية به؛ لأنه على من يريد الاشتغال بالعلم أن يكن له إطلاع على هذه الشروح ومحاولة الجمع بينها، وبالأخص في الأحاديث التي يخرجها عدد من المؤلفين في كتبهم فيتعدد شرحها.
ونسينا من الكتب المهمة في شروح الحديث في مجال الأحكام طرح التثريب في شرح التقريب، بدأه الحافظ العراقي ثم توفي قبل إكماله فأكمله ولده أبو زرعة، وهو كتاب حافل كذلك، الجزء الأول منه خصصه لشرح حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، جزء كامل في شرح هذا الحديث، وهذا الحديث شرحه آخرون بشروح مطولة من أهمها كتاب السيوطي: منتهى الأمال في شرح حديث: إنما الأعمال, فـالعراقي ذكر في الشرح مائة وثلاثين مسألة مستنبطة من هذا الحديث والسيوطي أورد فيها أكثر من مائتين مسألة مستنبطة من هذا الحديث.
وكتاب السيوطي كتاب مطبوع، وكذلك طرح التثريب مطبوع متداول.
كذلك فتح القدير في شرح الجامع الصغير للمناوي، وهو غير متوسع ولا مستوعب كذلك، وإنما يعتني بالمسائل الفقهية والمسائل السلوكية، وليس فيه كبير عناية بالاستدراك على أحكام السيوطي، فإن كثيراً من أحكام السيوطي لم تكن معطياتها بالقدر الكافي، وبالأخص عند تصحيحه لبعض الأحاديث التي لا تستحق تلك المنزلة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر