الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ولا زلنا في الآداب الشرعية، ونتناول هنا العادات، والعادات التي يتعود عليها أهل الأمصار وأهل المناطق تنقسم إلى قسمين: عادة مقبولة شرعاً، وهي التي لا تخالف أمراً شرعياً، وهذه لا حرج فيها لكنها غير ملزمة للناس، ولا ينبغي أن يؤسر بها الإنسان أسراً، فيكون عبداً لها مملوك بها، فذلك من تشريع ما لم يأذن به الله، وقد قال الله تعالى: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [الشورى:21].
القسم الثاني: ما خالف أصلاً شرعياً أياً كان، فهذا منبوذ مردود أصلاً، كما قال العلامة محمد مولود رحمه الله:
فالعرف إن صادم أمر الباري وجب أن ينبذ بالبراري
إذ ليس بالمفيد جري العبد بخلف أمر المبدئ المعيدي
فجريان العادة بما يخالف أمر المبدئ المعيد ليس بمفيد.
والنوع الأول الذي هو العادة الجائزة: منها ما يكون محكماً شرعاً، وهو ما يتعلق بالتعامل، فما جرت به عادة التجار من الشروط، وما يفعله البائع من تجهيز المبيع وحمله، أو أدائه، فذلك كالمشروط شرطاً، وهذا معنى القاعدة: العادة محكمة، ليس المقصود به كل عادة، ولا في كل الظروف إنما المقصود به فيما يتعلق بالتعامل بين التجار، بين الناس والبيع والشراء، فما كان يدخل في شبه الشرط أصبح معهوداً مألوفاً بين الناس يصبح كالشرط فيكون ملزماً، وهذا محله ما لم يخالف الشرع.
بالنسبة للإيغال في مثل هذا النوع هو بحسب النية إلا محالة، إذا كان الإنسان يغشى البيئات المترفة جداً، ويريد التأثير فيها، وكان يأتيها بشكل مقزز عندهم يعرضون عنه، هذه لا شك أنه من المنكرات التي لا تجوز هذا المقصود، وهذا الذي يتكلم عنه الدعاة فيما يتعلق بآداب الهيئة، ونحو ذلك مثل هيئة اللباس، وهيئة ترتيب الأمور، فإنما يتكلمون عن ذلك فيما يتعلق بتلك البيئات التي أسرفت في هذا النوع، ولو أتاها الإنسان بما هو مقزز عندهم ومخالف للسائد لديهم سيكون منفراً لهم، فلابد أن يغشاهم الإنسان في زيهم، وأن يأخذ لهم ذلك، ومن دخل وهو...، كما قال العرب، لكن مع ذلك لابد أن يعلم الإنسان أن هذه الأمور هي لأهل الدنيا المؤمنين فيها، الذين ما لهم في الآخرة من خلاق، ومن هنا فلا ينبغي أن يتساهل هو مع نفسه، فيما يتعلق باللون، ولون النظارة، ولون الساعة، ولون الجزمة، وانسجام الجميع.
فكل ذلك إلى زوال، أليس سيوضع في الأكفان يدرج فيها، ويوضع في الغبراء تحت الجنادل والتراب، فلذلك لابد أن ينظر الإنسان إلى الدينا بنظرة مقتصد، نعم لا شك أن الجمال والنظافة أمور محمودة شرعاً لكن بقدرها، فأجمل الناس وأنظفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرفون لباسه، وتعرفون فراشه، وحتى الغرف التي كان يسكن فيها إذا وقف الرجل لامست يده سقفها، وكان يضطجع على حصير يؤثر فيه في جنبه.
فلذلك لابد أن نعلم أن هذه الدنيا لابد فيها من اقتصاد، والإيغال فيها مضرته على القلوب، لا حصر لها ولا نهاية.
بالنسبة للذين يعملون في المكاتب ويعملون في التدريس ونحو ذلك من المهم جداً أن يستعملوا الآلات والوسائل التكنلوجية والآلات المبتكرة الحديثة التي تستغل، ومثل ذلك ترتيب المكاتب وهيئاتها، وهو داخل في جنس النظافة المحمودة شرعاً، فذلك لا يدخل فيما نتكلم فيه من الإيغال في الدنيا، ولهذا يقول أحد العلماء:
لا ألوم من لا يملك راحلة، لكني ألوم من لا يملك نعلاً لسهولة إدخال النعلين، ولا ألوم من لا يملك ثوباً جديداً، لكن ألوم من يدع ثوبه متوسخاً؛ لأنه يستطيع تغيير ذلك وإزالته، ومن هنا فالقدر الوسط من هذا هو المطلوب شرعاً، محمد مولود رحمه الله يقول في اللباس:
ثم لباس الشرع تعتريه الأحكام حتم منه ما يقيه.
إلى أن يقول:
لباس موسر لباس معسري شح
وضد سرف ثوب السري على الدري خيلاء
والضد مهانة والمستجاب القصد وسط
والعلماء يندب حسن زي لهم ليعظموا لكف الغي
وحسنه يندب للمصلي
أي للإمام
ولمؤذن وذات البعلي.
فهذه آداب مرعية شرعاً منصوصة.
بالنسبة للأخذ في الفتوى في التشدد في خاصة النفس هو من هدي السلف، فقد كانوا يأخذون بالرخصة لمن سواهم، ويأخذون بالعزيمة لأنفسهم، وما ذلك إلا اتهام للنفس ووضع لهم في قفص الاتهام؛ لئلا يترخص الإنسان في غير محل الترخص، ومن الأفضل للإنسان دائماً أن يكون معتدلاً في هذا الأمر أيضاً، أن لا يأخذ دائماً بالتشدد مع نفسه فلها عليه حقوق، فالوسطية محمودة دائماً في كل الأمور.
ما أظن أن كتاباً واحداً قد جمع الآداب الشرعية كلها، ولكن التوجه اليوم السائد، هو وضع الموسوعات العلمية، وضع الموسوعات العلمية في الفنون المختلفة، فلذلك من المفضل أن يبدأ أحدكم اليوم في وضع موسوعة فيما يتعلق بالآداب الشرعية، فحينئذٍ سيوزعها، فيبدأ بما ذكرنا من كتب أهل الحديث، كما أدرجه أصحاب السته في كتبهم، من كتب الحديث، ثم كتاب البخاري في الأدب المفرد، وكتاب البيهقي في الآداب، وكتب عمل اليوم والليلة، وكتب الفقهاء في الجامع، الجوامع للآداب، والكتب التي ذكرنا من المنظومات المتعلقة بالآداب المخصوصة، كآداب الأكل والشرب، والنوم والاستيقاظ، والعيادة، والزيارة، وآداب الاستطباب، والعلاج، وآداب السفر.. إلى آخره.
فيجمعها الإنسان ويرتبها فهذا من المهم جداً، وبالنسبة لمنظومة الشيخ محمد سالم خمسمائة بيت، فيها كثير من هذه الآداب لكنها غير حاوية لكلها، فالآداب البرور، كثير منها لم يتعرض له أصلاً، مثل بر الوالدين، وفيما يتعلق بالزوج والفراق، برهما فيما يتعلق بالجهاد، برهما فيما يتعلق بالسفر لطلب الدنيا، برهما فيما يتعلق بترك العمل والوظيفة، هذه أمور ما تعرض لها الشيخ، لكن تعرض لها العلامة محمد مولود في نظم البرور.
وكذلك آداب عيادة المريض ابن مولود رحمه الله نظم لتفصيل عيادة المريض مما يجب به الكل أن يطلب الأقارب، فإن تهونوا به فصاحب فإن بها استخف فالأجانب.. إلى آخر نظمه، وهكذا.
فالسؤال عما ينتشر في الأسوق الآن من الكتب التي تضع القواعد والضوابط لكسب الأصدقاء، والتأثير في الناس، ونحو ذلك، وأكثرها مترجمة من كتب الغربيين، كيف تتعامل مع المشكلات، كيف تتعامل مع الناس، كيف تدير اجتماعاً ناجحاً، كيف تكسب الأصدقاء.. إلى آخره، وهذا لا شك أن ترجمتها فيها فوائد، لكن مع ذلك لا ينبغي الإيغال فيها وتسليم كل ما فيها من الأمور، فلنا بدائل شرعية كثيرة عنها، وهي تنظر من منظار مادي، فتظن أن الناس لا يتأثرون إلا بأمور مادية، وتهمل كثيراً من الجوانب الخلقية، والجوانب المعنوية، فلذلك إذا أراد الإنسان الانتفاع منها، فليأخذ تلك الضوابط لا على أنها مسلمات، ولا على أنها مجرد قواعد دنيوية، وثم يؤصلها هو ويضيف إليه مما في الشرع، وقد اعتنى بهذا عدد من المؤلفين السابقين، فـالسمرقندي في كتابه تنبيه الغافلين عقد أبواباً كثيرة للتأثير في الآخرين والتعامل معهم، وكذلك صاحب المستطرف في كل فن مستظرف، عقد أبوباً كثيرة للتعامل مع الناس، التعامل مع الملوك، التعامل مع النساء، التعامل مع الكبار، التعامل مع الصغار.. إلى آخره.
وكذلك أهل الأدب فقد عقدوا في كتبهم الأدبية كثيراً من الأبواب لحسن التعامل وحسن العشرة، وإقناع الآخرين بالرأي، وكسب الأصدقاء، كـالجاحظ في كتبه، وكذلك أبو عمر بن عبد البر في كتاب بهجة المجالس، وابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار، عقدوا أبواباً لحسن التعامل مع الناس، وكيف تكسب الصداقات، وكيف تحافظ على هذا، نعم ألف بعض الناس كتباً غير مرضية فيما يتعلق بالصداقات المشبوهة غير شرعية، مثل كتاب طوق الحمامة لـابن حزم، في الألفة والصحبة، فإنما قصد به الصحبة كيف يؤثر الإنسان في جواريه ونسائه، واستغله الناس استغلالاً سيئاً فنقلوه إلى العلاقة غير الشرعية، نسأل الله السلامة والعافية.
والمتأخرون من الدعاة ألفوا كتباً كثيرة في هذا الباب، وفيها غنية وفيها تأصيل وقوة، بالنسبة لبعض العلوم التي يمكن أن تستغل في الخير وفي الشر، فإذا استغلت في الخير نفعت، وإذا استغلت في الشر ضرت، لا شك أن تعلمها والاستفادة منها إنما حكمه باعتبار نية صاحبها، ولا يمكن أن تترك لأهل الشر، مثل هذه الضوابط والقواعد في التعامل مع النفوس، مثل بوصلة التفكير، والهندسة النفسية، وغير ذلك من الأمور التي فيها مؤثرات واضحة جداً، لو تركت لأهل الشر لضروا، فلابد أن يتعلمها أهل الخير وأهل النجاح وأن يستغلوها، لكن كما ذكرنا يؤخذ منها ويرد وتضبط بالضوابط الشرعية.
بالنسبة الشيخ لا يشترط فيه أن يكون جامعاً لكل العلوم، بل إذا وجد الإنسان من هو أدرى منه في علم من العلوم فهو شيخه بذلك العلم، وحينئذٍ يبدأ الإنسان بالمتاح، إذا وجد من هو متخصص في مجال من المجالات العلمية، ولم يجد متخصصاً في مجال آخر يبدأ بالمتاح له، وهذه قاعدة إدارية، وهي إنما أمكن بعضه لا يترك.. ما لا يدرك كله لا يترك ما وجد منه، ما أمكن منه.
فلهذا يحاول الإنسان دائماً الزيادة كل يوم، وينوع المآخذ ولا يقتصر على شخص واحد للاستفادة، وكانت كثرة الشيوخ في الصدر الأول دليلاً على تنوع المعارف، فـمالك شيوخه الذين روى عنهم في الموطأ تسعمائة وثلاثون رجلاً، والبخاري روى في الصحيح عن ألفين يستشير أبي طالب قال: قد كتبت بأصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه يحتاج إليَّ لكتبت عن أكثر.
والذي يجد له شيخاً، ويجد له آلة يبدأ به، ولا ينتظر.
نعم، الهمة تنقسم إلى قسمين: همة موهوبة، وهمة مكتسبة، فالهمة الموهوبة من عنده سبحانه وتعالى لمن أراد بهم الخير، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قال: ( إنما أنا قاسم.. وما تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك )، فيهم الذين مكث معه سبعة عشر يوماً فولاه على مكة وأصبح إمام الحرم وخطيبه، وقاضي المسلمين، ولم يتعلم إلا مدة سبعة عشر يوم فقط، فالاستفادة العلمية من المسجد لا يعدلها ما سواه، ولهذا فهو منطلق النور ومكان الرحمات، والمكان الذي تستجاب فيه الدعوات، والجلسة التي يمكثها الإنسان فيه لابد أن تعود عليه بخير دنيوي وأخروي، ويدرك به الإنسان أيضاً أخوته للمؤمنين، وإحساسه بالولاء لهم، وإحساسه بشؤون أمته وهمومها، فالإنسان الذي ينعزل في بيته لن يحس إلا بهموم أسرته فقط، والإنسان الذي يذهب إلى الأسواق سيشعر من الناس أن كل أحد منهم يحرص على مهماته الخاصة، والذي يذهب إلى المكاتب كذلك سيستشعر أن كل أحد يحاول أن يستغل وظيفته بأكبر قدر ممكن، وأن يحصل على ما يريده هو وأقاربه، ويحاول نفع الأقرب فالأقرب فقط، لكنك في المسجد تتعرف على شؤون أمة بكاملها، وتجد الذين في المسجد لا يعتنون بأمورهم الخاصة وشؤونهم، وإنما يهتمون بأمور المسلمين والعناية بأمور الدين.
ومن هنا تستشعر أنك فرد من أمة ولست فرداً من أسرة، تستشعر كثرة المؤمنين، وأهمية الاعتناء بهم، وأن من لم يستشعر هذه الأخوة فليس أخاً للمؤمنين، إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، لا تستشعر ولاءك للمؤمنين إلا بالاجتماع معهم في مساجدهم التي تجمعهم، وهي أماكن التكلم في أمورهم العامة، ولا تستشعر أبداً أنك عضو من أمة ذات رسالة وهي التي تستحق أستاذية العالم وقيادته، وهي التي تقوم لله بالحجة على عباد الله إلا بانضمامك إلى جماعة المسجد وحضورك فيه، وملازمتك له، هذا بعض فوائد الصلاة في المجالات المختلفة، ولا شك أن لها فوئد كثيرة أخرى غير ما ذكر.
ففيها من الفوائد ما يتعلق بزيادة العقل وطمأنينته، وقد ألمحنا إلى هذا وأشرنا إليه، وفيها تقوية للأبدان كذلك، بما فيها من البركة، وإزالة ما على هذه الأجسام كل يوم من الصدقات، فكل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع في الشمس، وعدم النشاط، وكثير من الأمراض التي تحصله، هو تراكم تلك الصدقات ولم يخرجها الإنسان، كثير من الناس سبب الأمراض التي تصيبه، يصاب بالرومتيزم في ركبتيه، وظهره، ومفاصله، بسبب أنه ما أدى الصدقات التي عليه، ولو أدى تلك الصدقات لما أصابه الرومتيزم ولما أصابته الأمراض الأخرى، وبالصلاة يتخفف الإنسان من تلك الصدقات، ويتأهب للخدمة فيكون نشطاً قوياً، قادراً على أداء ما أمر به، وفيها كذلك من التقوية النفسية شيء عجيب، فالإنسان ما دام في أسرة خاصة يستشعر أن والده يتحمل عنه النفقات والأمور، أو أنه هو المسؤول عن هذه الأسرة عن أفرادها، فهو القائم بشؤنهم، محتاج إلى التدبير والتيسير لأمورهم الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك ما دام يحس بولائه لقبيلة فقط، فهو يسعى لمنافسة الخاصة بينه وبين فلان، وفلان من رؤساء القبيلة والمقدمين فيها، لكن إن استشعر الولاء للأمة بكاملها وكان عضواً في جماعة المسجد، فإنه ستزول عنه تلك النظرة الضيقة، وسيكون بهذا منتمياً لأمة بكاملها، محساً لمسؤولية جسيمة وأعباء عظيمة، ويستطيع بذلك أن تقوى شخصيته، وأن يكون أهلاً لتحامل الأمانة، إن كثيراً من الناس اليوم لا يستطيعون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر، وما ذاك إلا لضعف شخصياتهم، يظنون أنهم إذا خاطبوا أحداً بأمر معروف أو نهي عن منكر فستكون قارعة، وسيوجههم بما لا يستطيعون تحمله.
إن هذا من ضعف الشخصية، والإنسان الذي يحضر في المساجد ويسمع الحق ويقوله، ويسجد لله مع المسلمين، ويركع مع الراكعين، يستطيع بذلك أن يصمد ويصبر، وأن يقوي شخصيته، وأن يكون أهلاً لقول الحق، لا يرضى لنفسه أن يقول الباطل، إن استطاع أن يقول الحق قال وإلا سكت، ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ).
كذلك مما يقوي شخصية المسلم أن يستشعر مخالطة الناس، فالذي يعتزل الناس، الأولاد الصغار الذين يتعودون على أن ذويهم يطردونهم عن مجالسة الناس ولا يعرفون أخلاقيات المجلس، ولا الجلوس مع الكبار والصغار، ولا إحسان المخاطبة، ينشؤون وشخصياتهم مهزوزة ضعيفة، والذي يتعود على زيارة المسجد ولقاء الناس فيه ستقوى شخصيته ويقدر بذلك على التصرف ومخاطبة الناس والتعود على الكلام.
ومن هنا فالإنسان اليوم منكم إذا لم يتعود على مكالمة الناس، وإلقاء الدروس مثلاً أول درس سيلقيه ستأخذه الرعدة، ولن يطمئن قلبه وهو ينظر إلى عيون الناس ينظرون إليه، ولا يستطيع أن يقيم كلمة، ولا أن يعبر عن فكرة بسبب اهتزازه الداخلي عند مشاهدة الآخرين، وهذا ضعف شخصية يزول بالتعود والتدريج لحضور الإنسان للكلام، ومشاهدته للمتكلمين، وبممارسته بالفعل لذلك تزول عنه هذه الهناة من الضعف، وضعف الشخصية، ويتعود بذلك على أن ينظر إلى الناس على أنهم إخوانه وأصدقاؤه، وهم المؤمنون الذين يجتمعون معه في أشرف الأماكن وأحبها إلى الله، وبينه وبينهم من العلاقات والإخاء الشيء الكثير، والإنسان مما يقوي شخصيته زيادة أصدقائه، ولذلك يقول أحد الأدباء:
المرء من شقائه قلة أصدقائه وإنما ذلك يا أخي من تلقائه
بعض الورى أشبه يربوعاً بنافقائه أستغفر الله الذي لابد من لقائه
فالإنسان محتاج إلى أن يكثر من الأصدقاء، أصدقاء الخير الذين يعينونه على الطاعة، ويرشدونه إلى الالتزام بالحق، ويقومون سلوكه، فكثير منا لديه بعض المسلكيات غير المرضية، ولكنه لم يجد من يقوم تلك المسلكيات لديه لأنه ما خالط الصادقين، إذا خالط الصادقين فسيقومون له مسلكياته، كثير منا يلوم نفسه على عدم إحسانه للصلاة، إذا صلى نقر، ولم يستطع الاستقامة، ولا يعرف كيف يقف في الصلاة، يتقدم، ويتأخر، ولا يثبت في الصف، ولكنه إذا صلى في المسجد فواجهه هذه بنظراته وهذا بنظراته، وهذا يجذبه إلى الوراء، وهذا يجذبه إلى التقدم استطاع بذلك أن يقوم مسلكياته على وفق الشرع، وأن يستطيع التغلب على ما كان لديه من الأخلاقيات التي هي ناشئة عن الاعتزال، والغربة والانفراد، وبمخالطة الناس تقوى شخصيته، والصلاة من أهم ما يجتمع الناس عليه، بل هي أهم ما يجتمع عليه المسلمون في شؤونهم.
هذه بعض فوئد هذه الصلاة العظيمة، وآثارها الجسيمة في حياة المسلم، ولن نحيط بجميعها، ولن نأتي على كلها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المصلين الصادقين، الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، وأن يجعلنا من الخاشعين في الصلاة، الذين يدركون قيمتها، ويذوقون طعمها، ويجعلونها مناجاة لله سبحانه وتعالى، ولا يجعلونها كلاً وحسرةً وثقلا، وأن يوفقنا لما يحب ويرضا، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى.
.. وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
استقبل بعض الأسئلة.
السؤال: يقول: ما حكم الاستخارة التي يستخير بها بعض الناس عن الأمراض كاستخارة التسبيح، واستخارة الخيط؟
الجواب: أن الاستخارة مقصود بها طلب الخير؛ لأن الاستخارة استفعال من الخير، والمقصود بذلك أن يطلب الإنسان الخير ولن يطلبه إلا من الله وحده الذي يملكه، ولا يمكن أن ينال الإنسان الخير، ولا أن يطلبه من الله إلا بالوجه الذي بينه الله، والله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى الاستخارة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد بين لنا رسول صلى الله عليه وسلم الاستخارة الشرعية، فعلمنا هذه الاستخارة كما كان يعلمنا السورة من القرآن، بين لنا أن من شك في أمر عليه أن يصلي ركعتين من غير الفريضة ثم يدعو بهذا الدعاء، فيقول: ( اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه- خير لي في ديني ودنياي، وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي، ثم رضني به، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه باسمه- شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه وقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به).
فهذه هي الاستخارة الشرعية، وهي التي من فعلها اختار الله له الخير، أما الاستخارات الأخرى التي يدعيها بعض الناس من الضرب بالسبحة أو بالخيط أو بنحو ذلك، فهذه ليست استخارة شرعية، بل هي من استشارة الشياطين، ولا يحل الاعتناء بها ولا عملها وممارستها.
السؤال: هل يجوز مناقشة أمور الدنيا في المسجد، وهل يجب علي النهي عنها؟
الجواب: أن أمور الدنيا إذا كنت متعلقة بالدين كتجهيز جيش، أو إعانة المسلمين، أو جمع التبرعات لذلك، أو النصيحة بأمر عام يتعلق به حكم شرعي فيجوز الكلام فيها في المسجد، بل هو مما أريد له المسجد أصلاً وبني له، أما إن كان ذلك الأمر متعلقاً بأمور الدنيا المحضة كالبيع والشراء، ونشدان الضالة ونحو ذلك، فقد حرم الله ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال: ( إذا رأيتم الرجل يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم الرجل ينشد فيه ضالة في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك )، فلهذا لم يبن المسجد لمثل هذا، وقد بنى عمر البطيحاء حول المسجد، فأمر من تكلم في أمر الدنيا أن يذهب إليها، ولذلك لم يذهب إليها أحد، بل كان الناس إذا أرادوا التكلم في أمور الدنيا علموا أنهم سيخرجون من المسجد إلى البطيحاء فكفوا عن الكلام في أمور الدنيا.
هذا السؤال: بالنسبة لمن كان يسمع الكلام في أمور الدينا البعيدة من أمور الدين في المسجد، فإن عليه أن يذكر، لكن ليكن ذلك بلطف وبيان حق، أن يقول: تذكروا المسجد، أو تذكروا جلساءكم ومن معكم، فإن معكم الملائكة، والملائكة يتأذون بأمور الدينا والانشغال بها؛ لأنهم: لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
السؤال: هل الإعراض عن المحاضرات والأشرطة الدينية إعراض عن ذكر لله؟
الجواب نعم: لأنها هي وسائل التعلم ومن أعرض عن التعلم فإن الله سيحشره يوم القيامة أعمى، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك لا يحل للإنسان أن يعرض عنها، بل عليه أن يتعلم وأن يزداد علماً كلما ازداد عمراً.
السؤال: هل يجوز أن يعتقد أحد أن القرآن الذي نزل في المنافقين خاص بالذين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لا، بل القرآن ما نزل منه على سبب الخاص لا يقتضي ذلك خصوص حكمه، بل من القواعد الشرعية المسلمة أن ورود العام على سبب خاص لا يمنع عموم الحكم، والله تعالى لم يسمّ في القرآن أشخاصاً في التحذير من أفعالهم أو وعيدهم إلا أشخاص قلائل كـأبي لهب ونحوه، أما من سوهم فجاء الخطاب فيهم عاماً ليشمل ذلك كل من فعل الفعل الذي فعلوه، أو ارتكب ما ارتكبوه، ولذلك فالخطاب بالقرآن شامل للجميع، وإذا رأيت الذين يقولون حين يذكرون بالقرآن: لا تورد هذا القرآن في غير مورده، وتخاطبنا به ونحن مسلمون، فقل لهم: بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93]؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين صادقين لرجعوا عما يزعمون، ما يعرفون أنه مخالف للدين وهم يقبلون عليه وينسون أن هذا الخطاب خطاب لهم، فالله تعالى خاطبنا بالقرآن، وتشريع الذي فيه باقٍ إلى يوم القيامة، ولذلك فكل ما فيه من الوعد والوعيد وحتى من القصص هو للتنبيه لنا لئلا نسلك طريق أولئك.
السؤال: عن بيت كان مسجداً فنقل عنه المسجد فكان فيه تدريس للقرآن فبعد ذلك ترك، فهل يجوز للنساء أن يتعلمن فيه القرآن والحديث؟
الجواب نعم: لأن تعطيل هذا المكان ليس مقصداً شرعياً، بل قد أصبح هذا المكان وقفاً على الخير، فأولى ما ينفق فيه أن يكون مكاناً لتعلم العلم، فإذا لم يكن فيه الرجال فليستغله النساء لذلك، ولهن أن يصلين فيه، وأن يستمعن فيه لتعلم القرآن والعلم.
السؤال: ما تفسير قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]؟
الجواب: أن هذه الآية فيها خطاب للمؤمنين من الله سبحانه وتعالى ونداء لهم، ونداء الله لعبادة في القرآن إذا جاء ينبغي أن تشرئب له النفوس، وأن تتهيأ له كما قال ابن عباس: إذا سمعت الله يدعوك فعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه أو إلى شر يصرفك عنه، فإذا سمعت يا عبد الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، فقل: لبيك يا ربي وسعديك، وأقبل على الله فاعلم أنه يناديك لخير لا محال، ولذلك يقول: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105]، أي: الزموا أنفسكم واصلحوها، وبدأوا بها وحاولوا أن لا تتبعوها شهواتها، فمن لزم نفسه واستطاع أن ينتبه لها جعلها في قفص الاتهام دائماً، فإذا زينت له أي أمر نظره بميزان الشرع، وعرف هل هو موافق لما شرع الله، أو مخالف له، ومن أهمل نفسه فإنها ستقوده إلى مهاوي الردى، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك فعليكم أنفسكم فاجعلوها في قفص الاتهام، والزموها، وقوموها، وأصلحوها، ولا تهملوها، فهي من أعدائكم الخمسة، التي تحيط بكم.
ثم بعد هذا قال: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وهذا خطاب مستقل عن الخطاب السابق، فالخطاب السابق: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105] أمر بإصلاح النفوس، ومعالجتها ومحاسبتها.
والخطاب الثاني هو قوله: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، أي: أنك إذا أصلحت نفسك وانقادت لك وكانت طائعة منقادة لأمر الله سبحانه وتعالى، فإن آثام من سواك لا تكتب عليك ولا تضرك، ولهذا فمن أصلح نفسه واستطاع أن يتغلب على نوازعها فذنوب الآخرين عليهم ولا تضره ولا يتأثر بها، لكن ذلك مشروط بقوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، إذا اهتديتم معناه: سلكتم طريق الحق ومن معالم طريق الحق أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تكون مهتدياً إلا إذا أمرت غيرك بالمعروف ونهيته عن المنكر، ولذلك فإن الناس الذين يفهمون من هذا أن فيه أمراً بالانكفاء على النفوس والإعراض عن الآخرين، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خالفوا هذه الآية وفهموها على غير وجهها، وتجاهلوا قوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، فكيف تكون مهتدياً وأنت مفرط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أمرك الله بذلك، إنك لا تكون مهتدياً إلا إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وسلكت طريق الحق، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ).
السؤال: عن تفسير قول الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38]؟
الجواب: أن هذه الآية متعلقة بسابقتها فالظرف معلق بقول الله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:35-36]، وقد اختلف في متعلق الظرف من الآية السابقة فقيل: هو قوله: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35]، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، أي: أن مثل نور الله الذي ضرب له هذا المثل المذكور هو: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، وهي المساجد فهي محل نور الله في الأرض، فهي التي ينور الله بها قلوب عباده المؤمنين، وقيل: محل تعلق الجار والمجرور هو قوله: يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، أي: أن المساجد هي محل الهداية، فإذا أتاها الإنسان فذلك سبب لهدايته، وهذا ما صرح الله به في المسجد الحرام، فإنه قال في البيت الحرام: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، فالبيت نفسه هدىً للعالمين، وكل مسجد يأخذ من ذلك حظاً، فكل مسجد فيه هداية للعالمين بحسب ما فيه من إقامة الدين، وعمارته بذكر الله والصلاة، وعلى ذلك فهي متعلقة بما سبق (في بيوت) جمع بيت، والمقصود به المساجد (أذن الله أن ترفع)، أي شرع ذلك لعباده و(أذن) هنا بمعنى أمر والإذن يأتي بالأمر كقول الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:1-4]، أي: بأمر بهم، فهم لا يتنزلون إلا بأمر لله، كما قال تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، فالإذن يأتي بمعنى الأمر، وهنا معنى قوله: أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، أي: أمر أن ترفع، والمقصود برفعها تطهيرها من الأوساخ والأدران، ويشمل ذلك تطهيرها من الروائح الكريهة، والألوان الكريهة، فإن كل منفر يجب إبعاده عن المسجد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقرب مسجدنا يؤذينا بريح الثوم )، ومثل ذلك الألوان الكريهة والأوساخ، فمن كان مخالطاً للأوساخ مثل القصابين والجزارين، فلا ينبغي أن يأتوا بملابسهم إلى المساجد، بل لابد أن يغيروا تلك الملابس لئلا يشغلوا من يصلي إلى جنبهم في الصلاة، ولئلا يتركوا رائحة ملابسهم في المسجد، فالملائكة تتأثر بالروائح الكريهة، ومثل ذلك من كان مخالطاً للأوساخ، فيجب عليه أن لا يدخل تلك الأوساخ إلى المسجد، بل عليه أن يتطهر منها، أو أن يغير ملابسه كأصحاب إصلاح السيارة ونحو ذلك..
ونفس الشيء بالنسبة للتدخين من استعمله فإن ذلك كاستعمال الثوم أو أشد منه، فإنه يؤذي الناس، فلا يحل له إذا كان قد استخدمه أن يؤذي الناس في المسجد أو أن يؤذي الملائكة فيه، وهذا الرفع يشمل رفعها في بنائها، وفي فراشها وتطهيرها والعناية بها، وقد كانت امرأة سوداء، تقم المسجد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فماتت فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة بما كنت تفعله، أي: بأنها كانت تقم المسجد وتنظفه، ونحن نشهد في زماننا هذا كثيراً من عدم العناية بالمسجد التي أمر الله برفعها، فكثير من المساجد مع الأسف فراشها مغطىً بالتراب والغبار لا يعتني به أحد، وعلى شباب الحي الذي فيه ذلك المسجد أن يأخذوا ساعة في الأسبوع من أوقتهم يقدمونها لله سبحانه وتعالى، يرفعون فيها المسجد وينظفونه، وينوون بهذا الجهاد في سبيل لله، ويتذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل التراب على بطنه في بناء المسجد، وكان أصحابه يحملون إليه الحجارة وهو يبني، وكان عمار بن ياسر شاباً قوياً، فكان يحمل لبنتين لبنتين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراه ويشجعه على ذلك، وكان يقول: ( هذا الحمال لا حمال خيبر، هذا أعز ربنا وأطهر )، فلذلك علينا أن نشارك في تنظيف المساجد والعناية بها، وأن تعتني الجمعيات ذات النفع العام بنظافة المساجد وتطهيرها، وهذا من الأمور المهمة التي تنفق فيها الأموال والأوقات، وهي من القربات البالغة التي يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ومن المؤسف أن كثيراً من الناس يعتنون بنظافة بيوتهم وتحسين فرشهم، ويهملون بيت الله سبحانه وتعالى، إن هذا سوء معاملة لله وسوء أدب معه.
ثم قال: أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، أي: أمر أن يذكر فيه اسمه، أي جعلها محلاً لذلك، وهذا يشمل قراءة القرآن والصلاة، والذكر أياً كان، فالمساجد محل لذلك، ولهذا فهي محل حلقات الذكر، وقد قال ابن عباس في تفسير (حلق الذكر) حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر )، فقال ابن عباس: هي مجالس العلم، كيف تصوم، وكيف تنكح، وكيف تحج، فهذه المجالس التي يتعلم فيها، هذه حلق الذكر، والمقصود أنها منها كتفسيرات السلف كلها التي لا تقتضي الحصر.
ثم قال: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37]، (يسبح له) أي لله سبحانه وتعالى، (فيها) أي في المساجد، في الغدو والآصال أي بأطراف النهار، (رجال) والمقصود بهم الذين يعبدون الله عموماً فيشمل ذلك النساء، ولكن نظراً لأن الرجال أكثر حظاً في المساجد من النساء، ذكر الرجال هنا ولا يقتضي ذلك منع النساء من هذا، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات )، فلذلك يشملهن قوله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37].
ثم وصف هؤلاء الذين يعمرون المساجد ويسبحون فيها بالغدو الآصال بقوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ [النور:37]، تفلات معناه: غير متزينات ولا متعطرات.
وقوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ [النور:37]، ليس معناه أنهم لا يشتغلون بالتجارة والبيع، بل يشتغلون بالتجارة والبيع، لكن لا يلهيهم ذلك عن ذكر لله، فإذا جاء وقت الصلاة أغلقوا محلاتهم وجاءوا يصلون مع المسلمين، وإذا كانوا في محلاتهم يبيعون ويشترون لا يلهيهم ذلك عن ذكر لله وتعلم العلم، وقراءة القرآن، من كان منهم حافظاً للقرآن تعاهده، ومن لم يكن حافظاً له حاول تحفظه، ومن لم يكن قادراً على ذلك استمع إليه في الأشرطة، ومن كان قادراً على تعلم العلم من الكتب تعلمه، ومن لم يكن قادراً على ذلك لانشغاله بالتجارة أو نحو ذلك، سمع العلم في الأشرطة، وهكذا وقد يسر الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الجمع بين خيري الدنيا ولآخرة، فيكونون في مكتسباتهم وتجارتهم يستطيعون سماع الخير ومشاركة أهله في الأجر، ولهذا قال: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ [النور:37]، والتجارة أعم من البيع وخصوص البيع وبعدها، وهذا من ذكر الخاص بعد ذكر العام، الذي يفيد مزية في الخاص، كأن البيع هو من أعلى التجارات وأهمها؛ لأن البيع هو ما كان فيه عاجل بعاجل، أو ما كان فيه آجل بآجل فإما أن يكون الآجل سلعة، وإما أن يكون عيناً، فإن كان عيناً فهو السلم، وإن كان سلعة فهو بيع الأجل، ولذلك بدأ بالبيع فهو أهم هذه التجارات، وأهم أنواعها، أقصد خصصه بالذكر بالعطف الخاص على العام كقوله: وملائكته وجبريل، فعطف جبريل على الملائكة أقصد جبريل ومكيال على الملائكة، من عطف الخاص على العام الذي يفيد المزية في الخاص.
(وإقام الصلاة) أي: لا تشغلهم التجارة كذلك عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم وصفهم بقوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، أي: أنهم في إقامتهم للصلاة وإيتائهم للزكاة يخافون يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار، جزعاً وخوفاً من أهواله، وذلك حين ينادي الله آدم: أخرج بعث النار فيقول: من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذلك يوم: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
السؤال: هل يجب على المتعلمين أن يستأذنوا مؤسس المسجد أو إمامه للتعليم فيه، وهل لهم أن يمنعوهم إذا لم يستأذنوهم، وهل يجوز للنساء أن يشهدن ذلك إذا كن تفلات؟
الجواب: أن المتعلمين قد بني لهم المسجد أصلاً، وهم من العاكفين فيه الذين يجلسون للتعلم، وقد قال لله تعالى مخاطباً إبراهيم وإسماعيل: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، فقدم العاكفين على الركع السجود، فجعل القراءة في المسجد والجلوس فيه لتذكر العلم كل ذلك مقدم حتى على الصلاة فيه، فهم أولى من المصلين، وبهذا فلهم الحق أن يدرسوا فيه وأن يراجعوا دروسهم وأن يذاكروها، وأن يتعبدوا بذلك لله سبحانه وتعالى، ولكن لا ينبغي استغلال وسائل المسجد وكهربائه التي تدفع فيه النقود إلا بإذن الإمام؛ لأن ذلك أقطع للفوضى والنزاع فينبغي أن يستأذن الإمام في ذلك، وإذا استُئذن، فينبغي أن يأذن ولا يحل أن يمنع الخير، فإن الله تعالى يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، فالذين يمنعون الناس من التعلم والتعليم في المسجد، سيمنعون دخلوها، نسأل الله السلامة والعافية، وسيحشرون يوم القيامة خائفين خيابين، نعوذ بالله مما أصابهم.
والنساء لهن حظ في ذلك، فليشهدن كما كنا يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخير ويكثرن سواد المسلمين، ويستمعن إلى ما كلفهن الله بتعلمه في المساجد، وأما قول الله تعالى لأمهات المؤمنين: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] فإن ذلك أمر لهن دون سواهن، فبيوتهن فيها التعلم؛ لأن فيها رسول لله صلى الله عليه وسلم الذي يعلم الناس، وليس كذلك بيوت كل المسلمات، فإن الناس يتوهمون في هذه الآية أنها خطاب لكل المسلمات، وينسون أنها عطف على غيرها، فالله تعالى يقول: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34]، فإذا كان البيت يتلى فيه من آيات الله والحكمة، فحينئذٍ نعم قرن في بيوتكن، فالخطاب هنا لأمهات المؤمنين وبعضه مختص بهن لا يصلح لغيرهن، وبعضه يشمل غيرهن من النساء كقوله: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33]، فهذا وإن كان خطاباً لأمهات المؤمنين، لكنه لا يختص بهن، أما قوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، فهو مختص بهن، أو لمن كان مثلهن الذي يطلبه من العلم يجده في بيته، والذي يطلب من العمل يجده في بيته، أما من ليس كذلك فإن عليها أن تذهب إلى المسجد، كما كان النساء يذهبن إليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
السؤال: هل للرجال أن يمنعوا النساء الخروج إلى المسجد إذا لم يكن ذلك من عادتهم، والنساء يطلبن إحياء السنن المماتة ويطلبن النصيحة في الدين؟
الجواب: أنه ليس ذلك للرجال، بل قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الرجال من ذلك فقال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، وقد كن يشهدن الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيرجعن إلى بيوتهن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن لا ينصرفوا حتى ينصرف النساء، ويأمر النساء ألا يرفعن أبصارهن حتى يجلس الرجال، بأن لا ينكشف عليهن شيء من عورات الرجال، وهذا من التكفل والتكامل، ومن القيام لله بالحق والتكليف ومشترك بين الرجال والنساء، وعلى هذا فلا يحل للرجال أن يمنعوا النساء ذلك، وعلى النساء أن يتقين الله أيضاً، ولا يخرجن رياءً ولا سمعةً، وأن لا يخرجن إلى متأدبات بآداب المساجد، وألا يضيعن الحقوق في خرجهن، بل إذا شهدن الصلاة عليهن أن يقومن بحقوقهن أيضاً في البيت، وأن يرضين أزواجهن وآباءهن في المقابل، وأن يكون ذلك ابتغاءً لمرضات الله، فالذي خرجت المرأة من أجله هو رضوان الله، وقد افترض الله عليها حقوقاً أيضاً في بيتها فلا تفرط في شيء من الحقوق، لا في حقوق التعلم، والدعوة والعمل، ولا في حقوق البيت والزوج والوالد.
بالنسبة لشهود الصلاة الراجح فيه أن المرأة إذا كنت لا يضيع شيء من متاعها، أو ما في بيتها فإن الأفضل لها أن تشهد الصلاة في المسجد إلا إذا كنت متعطرة أو متزينة، فالأفضل لها قعر دارتها وهو أفضل لها من باحة بيتها، وباحة بيتها أفضل لها من مسجد قومها، ومسجد قومها أفضل له من مسجد الجامع، فالحديث الوارد في ذلك الجمع بينه وبين الأحاديث التي فيها، إرشادهن إلى الصلاة في المسجد أن ذلك في حق من تخشى ضياع شيء من متاعها أو بيتها، أو في حق المتعطرات المتزينات اللواتي تخشى منهن الفتنة، أما من ليست كذلك فالأفضل لها أن تشهد كما كن يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يمكن أن يتعارض فعله وقوله، ولا أقواله كذلك، فلابد من الجمع والجمع هو على ما بيناه، نعم، كل هذه الأحاديث صحيحة ولله الحمد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر