إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [34]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حاجتنا لعلم أصول الفقه في زماننا هذا أكثر من حاجتنا إليه في الماضي، فهو من أهم العلوم الشرعية الذي تعرف به مآخذ أهل العلم في أقوالهم، وبه تعرف مراتب الأدلة وطرق الاستنباط، وتحل المشكلات الطارئة التي ليس للفقهاء فيها نص.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    فعلم أصول الفقه من أهم العلوم الشرعية؛ لعدة أسباب:

    لأنه الذي تعرف به مآخذ أهل العلم، حتى لا يتعصب الإنسان لقول أحد منهم، ويعرف به مراتب الأدلة، حتى يتعين الراجح لدى الإنسان من الخلاف، ويعرف به كذلك طرق الاستنباط، حتى يندرج الإنسان في جملة المتدبرين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وبه تحل كذلك المشكلات الجديدة التي ليس للفقهاء فيها نص، ولهذا يمكن أن يطلق على أصول الفقه أنه علم اتصال الدنيا، فعلم الاتصال بعلوم الدنيا هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من الموارد المحصورة، فالموارد مثل الراتب فهو محصور، والحاجيات غير محصورة من النفقات اليومية، التي لا يمكن أن يعول الإنسان فيها على الحصار، بإمكانه أن يحل به ضيف أو يمرض له مريض، أو تأتيه نازلة أياً كانت، فالموارد محصورة والنوازل غير محصورة، وما تصرف فيه تلك الموارد والحاجيات غير محصورة.

    فعلم أصول الفقه هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية النوازل والوقائع غير المحصورة من النصوص المحصورة، فنصوص الشرع محصورة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، ولا يمكن أن يأتي دليل جديد اليوم، ولا أن يأتي وحي من عند الله بعد أن ختم الله الرسالة بموت محمد صلى الله عليه وسلم.

    ونصوص القرآن هي آياته، وهي غير منسوخة التلاوة، وعددها ستة آلاف ومئتان وأربع عشرة آية بالعدد الكوفي، وستة آلاف ومئتان وأربعة وثلاثون آية بالعدد المدني، وإذا أضيف إليها بعض الآيات منسوخة التلاوة، ولو بقي حكمها كآية الرجم مثلاً، فيزداد العدد بزيادة يسيرة جداً، بالإضافة إلى أن الكثير من هذه الآيات منسوخ الحكم على الراجح، وآيات الأحكام منه لا تتجاوز خمسمائة آية في الأصل، والمقصود بها الآيات المتخصصة في الأحكام، وإلا فآيات القصص والاعتبار تأخذ منها أحكام كثيرة، وبالأخص إذا اعتمدنا القول القائل بأن شرع من قبلنا شرع لنا فيما لم يرد فيه شيء في شرعنا؛ وهذا هو القول الراجح.

    وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المدونة في دواوين الحديث لا تتجاوز ثلاثمائة ألف حديث، بما فيها المكررات والضعيف والموضوع، بل وكثير من الآثار الموقوفة على بعض أصحابه التي تنسب إليهم في بعض الأحيان، أو حتى الآثار المقطوعة عن بعض التابعين، التي قد تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكل ذلك لا تصل إلى ثلاثمائة ألف حديث، وأحاديث الأحكام منها لا تتجاوز أحد عشر ألف حديث، وكثير منها أيضاً في الواقع آثار موقوفة أو مقطوعة.

    ومواقع الإجماع محصورة أيضاً، وبالأخص إذا قلنا: إن الإجماع لا يحكيه إلا من كان مطلعاً على أحوال علماء أحوال علماء المسلمين جميعاً، قد ينعقد الإجماع اليوم أو غداً، لكن لا يجد من يحكيه، ولا من يدونه؛ لأنه ليس كل أحد أهلاً لحكاية الإجماع؛ لأنه قد يخفى عليهم مخالف.

    مع أن زماننا هذا لو أراد الله بنا الخير سهل فيه الإجماع، لوفرة وسائل الاتصال، فانتشار أقوال أهل العلم وقلتهم وندرتهم، فأصبح المفتون في كل بلد معدودين مشهورين، وأصبحت فتاويهم أيضاً منقولة في وسائل الإعلام ووسائل الاتصال المختلفة، فكان بالإمكان أن يوجد من العلماء اليوم من يستطيع حكاية الإجماع، والذين أنكروا حكاية الإجماع في التاريخ الإسلامي قلائل جداً، الذين وصلوا إلى رتبة حكاية الإجماع، فدخلوا الأمصار التي فيها المفتون، وعرفوا أقوالهم، وجمعوها بعد موتهم.

    والإجماع أيضاً من شروطه على الراجح: انقراض العصر، وهذه المسألة محل خلاف عند الأصوليين: هل يشترط في الإجماع انقراض العصر دون مخالف، أو إذا حصل الإجماع ولو لحظة واحدة، ثم خولف بعد ذلك، هذه محل خلاف بين الأصوليين، ولعل الراجح أن انقراض العصر شرط لحجية الإجماع الحجية المطلقة، الحجية الكاملة، ولا منافاة بين ذلك وبين إثبات إجماع الأكثر، والاحتجاج به كإجماع أهل السنة مثلاً، مع أن كثيراً من أهل البدعة من العلماء كانوا من أهل الاجتهاد، سواء كانوا من الزيدية أو من الإباضية أو غيرهم.

    والوقائع والنوازل غير محصورة، فكل يوم تتجدد النوازل الكثيرة في الأمصار المختلفة، مما لا عهد لفقهاء الإسلام به.

    والغريب في الأمر أنني ما أذكر أنني سافرت سفراً في بلد من بلاد الله، إلا ووجدت سؤالاً محيراً لم أجد له حلاً، في نازلة جديدة غريبة.

    ومن أغرب ما عُرض علي من النوازل في حياتي، أنه جاءتني ذات يوم امرأة في بريطانيا تقود ولداً لها يمشي، وتحمل ولداً آخر أصغر منه، وتسأل عن نازلة؛ وهي أنها أسلمت وهي صغيرة، وتعلقت بدراسة الإسلام وتعلمته، وكانت تعمل على الإنترنت، فحصل تعارف بينها وبين شخص عبر الإنترنت، وهو أيضاً مسلم جديد، فحصلت بينهما صلة وتزوجها، وأنجبت له الولد الأول، ثم الثاني، ثم تبين لها أنه كان في الأصل امرأة، وعن طريق عملية جراحية حول إلى رجل، أي: بزراعة أعضاء تناسلية اشتراها من شخص آخر، فتسأل عن حكم هذا الزواج، وعن الأولاد، نسبهم؛ فلم أجد لها أي حل.

    ولا أعرف أن القضية قد طرحت من قبل على هيئة الإفتاء في الأزهر، لكن بصورة غير هذه، وذلك أن رجلاً مصرياً كان من الأغنياء الأثرياء، فلم يرزقه الله إلا بنتاً واحدة، وكان له إخوان بينه وبينهم شنآن، فأراد أن يحرمهم من الميراث، فأجرى عملية جراحية لابنته، فزرع لها هذه العملية الزراعية، فأفتى المفتون بأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، وأنها امرأة ترث ميراث النساء؛ معاملة له بنقيض قصده؛ فما أقدم عليه حرام بالإجماع، وتغيير لخلق الله، ولكن لا يترتب على تلك المسألة قضية نسب، وإنما يترتب عليها قضية مال، والمال أقل حرجاً من النسب، والآن القضية قضية نسب الأولاد، والمشكلة الأكبر: هل هم لصاحب الأعضاء التناسلية التي زرعت لهذه المرأة، ولمن ينتسبون، ولو كان ذلك كافراً، وهي امرأة مسلمة؛ كيف ستكون القضية؟ هذه من أشد المشكلات التي عرضت علي في الفقه قط.

    ونظيرها كثير، فكل يوم تعرض كثير من النوازل المحيرة، التي يحتار الإنسان فيها في الحكم الشرعي، إما لأنها بعيدة جداً عن مستوى العقل، ولا يتصورها الإنسان، أو لأنها فيها كثير من التركيب في المخالفات الشرعية، حتى تكون بعيدة عن البيئة الفقهية، وبنيت على كثير من المخالفات الشرعية؛ لأن الشرع جانبان: جانب منه هو الذي وضع لتنظيم أحوال الناس، ويفترض فيهم التكامل على أساس هذا الشرع.

    والجانب الثاني هو الحلول لمشكلات الناس، وهذه المشكلات قد يكون بعضها ناشئاً من غير بيئة صالحة، كما وضعت الحدود لعلاجه: حد القصاص، حد الزنا، حد السرقة، حد القذف، حد الحرابة.. إلخ.

    فهذه حدود وضعها الشارع لعلاج مشكلات ليست في الأصل وليدة للبيئة الإسلامية، ولا هي صادرة في الأصل للتربية الإسلامية، لكنها ممكنة الوقوع وكثيرة الانتشار في البشر، ولذلك وضعت لها هذه الحلول.

    أما المشكلات الناتجة عن تربية دين آخر أو ملة أخرى غير الإسلام، أو انحراف بعيد عن ديانات السماوية كلها، فهذه كثير منها لم توضع له حلول لذاته، ولا يفترض في المسلم أن يكون هكذا.

    ولذلك تجدون كثيراً من ذوي الجرأة في الاجتهاد من المعاصرين يفتون في بعض الفتاوى التي ينكرها عليهم من سواهم، وتثور ثائرتهم عليهم، فقد أفتى بعض المعاصرين مثلاً بصحة نكاح من أسلمت تحت كافر، وبقائها معه، مع كفره في بعض البيئات، ومن المعلوم أن الله تعالى يقول في كتابه: وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، ويقول: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10]، ويقول: وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، لكن مع هذا فإن لدى الفقهاء قاعدة ترددية مشهورة، وهي هل الاستمرار كالابتداء، فالحكم الواضح المذكور في الآيات هو استئناف النكاح، لكن استمراره هل هو باقٍ؟ هل يمكن أن يبقى؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب ابنته لـأبي العاص بن الربيع رضي الله عنهما بالنكاح الأول بعد عدد من السنوات، وهو باقٍ على كفره وهي مسلمة، فردها له بالنكاح الأول بدون عقد.

    والذين أفتوا باستمرار هذا النكاح ينظرون فيه إلى منظر المصلحة؛ حيث يرون أن بعض المسلمات الجدد رجعن عن إسلامهن، وفُتِنَّ في دينهن بسبب إخبائهن لهذا الحكم؛ لأن المرأة في كثير من البيئات إذا انفصلت عن زوجها ستبقى عليها نفقات الأولاد ومعاشهم، وكثير من الضرائب، والمشكلات الكبيرة التي لا تطيقها بوجه من الوجوه، فإذا أخبرت بأن ذلك كله سينصرف إليها هي، فسيكون ذلك فتنة عليها، فهذا الذي جعلهم يعدلون إلى المصلحة.

    ونظير هذا لدى السابقين أنه ما كان معروفاً فيمن يتولى أمر هذه الأمة، إلا الورع والعفة، والتزام حدود الله، لكن حصل في بعض البيئات في الأندلس أن أميراً من الأمراء جامع في نهار رمضان متعمداً، فاستفتى أهل العلم، فأفتاه يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك بأنه لا يجزئه في الكفارة إلا صيام شهرين متتابعين، وأنه لا يجزئه الإطعام ولا العتق، وخالفه جميع علماء الأندلس، فرأوا أنه خرق الإجماع، وخالف السنة الصريحة، ثم جاء بعده المتأخرون، فاعتذروا للشيخ يحيى فقالوا: لعل الشيخ يحيى كان يرى أن الكفارة زجر، وهذا الملك لا ينزجر بالإطعام ولا بالعتق، ولعله أيضاً كان ينظر إلى أن المال الذي تحت يد الملك ليس له، وأنه في الغالب من بيت مال المسلمين، فيكون فقيراً، فليس له الرقبة التي يعتقها ولا المال الذي يطعم منه، فليس له إلا أن يصوم كحال الفقير الذي لا يملك رقبة ولا إطعاماً، وهذا الذي يردع فعلاً، ولم ينزجر الملك إلا بذلك، حين صام شهرين متتابعين.

    وهذا النوع من الفتاوي يحتاج إلى جراءة في الاجتهاد، ومعرفة عميقة لمقاصد الشرعية، لكن أصحابه سيرميهم الناس عن قوس واحدة، وبالأخص أهل التعجل، والذين لا يدركون هذه النكت في أصول التشريع.

    ومن تعرض لهذا سيعلم أنه معرض لبلاء عظيم، وستتوجه إليه الألسنة الحداد، ويرميه الناس عن قوس واحدة، لكن مع ذلك قد يجد تفريجاً وحلاً لبعض المسلمين في ضائقة شديدة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088530210

    عدد مرات الحفظ

    777155070