إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [34]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حاجتنا لعلم أصول الفقه في زماننا هذا أكثر من حاجتنا إليه في الماضي، فهو من أهم العلوم الشرعية الذي تعرف به مآخذ أهل العلم في أقوالهم، وبه تعرف مراتب الأدلة وطرق الاستنباط، وتحل المشكلات الطارئة التي ليس للفقهاء فيها نص.

    1.   

    أهمية علم أصول الفقه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    فعلم أصول الفقه من أهم العلوم الشرعية؛ لعدة أسباب:

    لأنه الذي تعرف به مآخذ أهل العلم، حتى لا يتعصب الإنسان لقول أحد منهم، ويعرف به مراتب الأدلة، حتى يتعين الراجح لدى الإنسان من الخلاف، ويعرف به كذلك طرق الاستنباط، حتى يندرج الإنسان في جملة المتدبرين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وبه تحل كذلك المشكلات الجديدة التي ليس للفقهاء فيها نص، ولهذا يمكن أن يطلق على أصول الفقه أنه علم اتصال الدنيا، فعلم الاتصال بعلوم الدنيا هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من الموارد المحصورة، فالموارد مثل الراتب فهو محصور، والحاجيات غير محصورة من النفقات اليومية، التي لا يمكن أن يعول الإنسان فيها على الحصار، بإمكانه أن يحل به ضيف أو يمرض له مريض، أو تأتيه نازلة أياً كانت، فالموارد محصورة والنوازل غير محصورة، وما تصرف فيه تلك الموارد والحاجيات غير محصورة.

    فعلم أصول الفقه هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية النوازل والوقائع غير المحصورة من النصوص المحصورة، فنصوص الشرع محصورة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، ولا يمكن أن يأتي دليل جديد اليوم، ولا أن يأتي وحي من عند الله بعد أن ختم الله الرسالة بموت محمد صلى الله عليه وسلم.

    ونصوص القرآن هي آياته، وهي غير منسوخة التلاوة، وعددها ستة آلاف ومئتان وأربع عشرة آية بالعدد الكوفي، وستة آلاف ومئتان وأربعة وثلاثون آية بالعدد المدني، وإذا أضيف إليها بعض الآيات منسوخة التلاوة، ولو بقي حكمها كآية الرجم مثلاً، فيزداد العدد بزيادة يسيرة جداً، بالإضافة إلى أن الكثير من هذه الآيات منسوخ الحكم على الراجح، وآيات الأحكام منه لا تتجاوز خمسمائة آية في الأصل، والمقصود بها الآيات المتخصصة في الأحكام، وإلا فآيات القصص والاعتبار تأخذ منها أحكام كثيرة، وبالأخص إذا اعتمدنا القول القائل بأن شرع من قبلنا شرع لنا فيما لم يرد فيه شيء في شرعنا؛ وهذا هو القول الراجح.

    وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المدونة في دواوين الحديث لا تتجاوز ثلاثمائة ألف حديث، بما فيها المكررات والضعيف والموضوع، بل وكثير من الآثار الموقوفة على بعض أصحابه التي تنسب إليهم في بعض الأحيان، أو حتى الآثار المقطوعة عن بعض التابعين، التي قد تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكل ذلك لا تصل إلى ثلاثمائة ألف حديث، وأحاديث الأحكام منها لا تتجاوز أحد عشر ألف حديث، وكثير منها أيضاً في الواقع آثار موقوفة أو مقطوعة.

    ومواقع الإجماع محصورة أيضاً، وبالأخص إذا قلنا: إن الإجماع لا يحكيه إلا من كان مطلعاً على أحوال علماء أحوال علماء المسلمين جميعاً، قد ينعقد الإجماع اليوم أو غداً، لكن لا يجد من يحكيه، ولا من يدونه؛ لأنه ليس كل أحد أهلاً لحكاية الإجماع؛ لأنه قد يخفى عليهم مخالف.

    مع أن زماننا هذا لو أراد الله بنا الخير سهل فيه الإجماع، لوفرة وسائل الاتصال، فانتشار أقوال أهل العلم وقلتهم وندرتهم، فأصبح المفتون في كل بلد معدودين مشهورين، وأصبحت فتاويهم أيضاً منقولة في وسائل الإعلام ووسائل الاتصال المختلفة، فكان بالإمكان أن يوجد من العلماء اليوم من يستطيع حكاية الإجماع، والذين أنكروا حكاية الإجماع في التاريخ الإسلامي قلائل جداً، الذين وصلوا إلى رتبة حكاية الإجماع، فدخلوا الأمصار التي فيها المفتون، وعرفوا أقوالهم، وجمعوها بعد موتهم.

    والإجماع أيضاً من شروطه على الراجح: انقراض العصر، وهذه المسألة محل خلاف عند الأصوليين: هل يشترط في الإجماع انقراض العصر دون مخالف، أو إذا حصل الإجماع ولو لحظة واحدة، ثم خولف بعد ذلك، هذه محل خلاف بين الأصوليين، ولعل الراجح أن انقراض العصر شرط لحجية الإجماع الحجية المطلقة، الحجية الكاملة، ولا منافاة بين ذلك وبين إثبات إجماع الأكثر، والاحتجاج به كإجماع أهل السنة مثلاً، مع أن كثيراً من أهل البدعة من العلماء كانوا من أهل الاجتهاد، سواء كانوا من الزيدية أو من الإباضية أو غيرهم.

    والوقائع والنوازل غير محصورة، فكل يوم تتجدد النوازل الكثيرة في الأمصار المختلفة، مما لا عهد لفقهاء الإسلام به.

    والغريب في الأمر أنني ما أذكر أنني سافرت سفراً في بلد من بلاد الله، إلا ووجدت سؤالاً محيراً لم أجد له حلاً، في نازلة جديدة غريبة.

    ومن أغرب ما عُرض علي من النوازل في حياتي، أنه جاءتني ذات يوم امرأة في بريطانيا تقود ولداً لها يمشي، وتحمل ولداً آخر أصغر منه، وتسأل عن نازلة؛ وهي أنها أسلمت وهي صغيرة، وتعلقت بدراسة الإسلام وتعلمته، وكانت تعمل على الإنترنت، فحصل تعارف بينها وبين شخص عبر الإنترنت، وهو أيضاً مسلم جديد، فحصلت بينهما صلة وتزوجها، وأنجبت له الولد الأول، ثم الثاني، ثم تبين لها أنه كان في الأصل امرأة، وعن طريق عملية جراحية حول إلى رجل، أي: بزراعة أعضاء تناسلية اشتراها من شخص آخر، فتسأل عن حكم هذا الزواج، وعن الأولاد، نسبهم؛ فلم أجد لها أي حل.

    ولا أعرف أن القضية قد طرحت من قبل على هيئة الإفتاء في الأزهر، لكن بصورة غير هذه، وذلك أن رجلاً مصرياً كان من الأغنياء الأثرياء، فلم يرزقه الله إلا بنتاً واحدة، وكان له إخوان بينه وبينهم شنآن، فأراد أن يحرمهم من الميراث، فأجرى عملية جراحية لابنته، فزرع لها هذه العملية الزراعية، فأفتى المفتون بأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، وأنها امرأة ترث ميراث النساء؛ معاملة له بنقيض قصده؛ فما أقدم عليه حرام بالإجماع، وتغيير لخلق الله، ولكن لا يترتب على تلك المسألة قضية نسب، وإنما يترتب عليها قضية مال، والمال أقل حرجاً من النسب، والآن القضية قضية نسب الأولاد، والمشكلة الأكبر: هل هم لصاحب الأعضاء التناسلية التي زرعت لهذه المرأة، ولمن ينتسبون، ولو كان ذلك كافراً، وهي امرأة مسلمة؛ كيف ستكون القضية؟ هذه من أشد المشكلات التي عرضت علي في الفقه قط.

    ونظيرها كثير، فكل يوم تعرض كثير من النوازل المحيرة، التي يحتار الإنسان فيها في الحكم الشرعي، إما لأنها بعيدة جداً عن مستوى العقل، ولا يتصورها الإنسان، أو لأنها فيها كثير من التركيب في المخالفات الشرعية، حتى تكون بعيدة عن البيئة الفقهية، وبنيت على كثير من المخالفات الشرعية؛ لأن الشرع جانبان: جانب منه هو الذي وضع لتنظيم أحوال الناس، ويفترض فيهم التكامل على أساس هذا الشرع.

    والجانب الثاني هو الحلول لمشكلات الناس، وهذه المشكلات قد يكون بعضها ناشئاً من غير بيئة صالحة، كما وضعت الحدود لعلاجه: حد القصاص، حد الزنا، حد السرقة، حد القذف، حد الحرابة.. إلخ.

    فهذه حدود وضعها الشارع لعلاج مشكلات ليست في الأصل وليدة للبيئة الإسلامية، ولا هي صادرة في الأصل للتربية الإسلامية، لكنها ممكنة الوقوع وكثيرة الانتشار في البشر، ولذلك وضعت لها هذه الحلول.

    أما المشكلات الناتجة عن تربية دين آخر أو ملة أخرى غير الإسلام، أو انحراف بعيد عن ديانات السماوية كلها، فهذه كثير منها لم توضع له حلول لذاته، ولا يفترض في المسلم أن يكون هكذا.

    ولذلك تجدون كثيراً من ذوي الجرأة في الاجتهاد من المعاصرين يفتون في بعض الفتاوى التي ينكرها عليهم من سواهم، وتثور ثائرتهم عليهم، فقد أفتى بعض المعاصرين مثلاً بصحة نكاح من أسلمت تحت كافر، وبقائها معه، مع كفره في بعض البيئات، ومن المعلوم أن الله تعالى يقول في كتابه: وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، ويقول: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10]، ويقول: وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، لكن مع هذا فإن لدى الفقهاء قاعدة ترددية مشهورة، وهي هل الاستمرار كالابتداء، فالحكم الواضح المذكور في الآيات هو استئناف النكاح، لكن استمراره هل هو باقٍ؟ هل يمكن أن يبقى؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب ابنته لـأبي العاص بن الربيع رضي الله عنهما بالنكاح الأول بعد عدد من السنوات، وهو باقٍ على كفره وهي مسلمة، فردها له بالنكاح الأول بدون عقد.

    والذين أفتوا باستمرار هذا النكاح ينظرون فيه إلى منظر المصلحة؛ حيث يرون أن بعض المسلمات الجدد رجعن عن إسلامهن، وفُتِنَّ في دينهن بسبب إخبائهن لهذا الحكم؛ لأن المرأة في كثير من البيئات إذا انفصلت عن زوجها ستبقى عليها نفقات الأولاد ومعاشهم، وكثير من الضرائب، والمشكلات الكبيرة التي لا تطيقها بوجه من الوجوه، فإذا أخبرت بأن ذلك كله سينصرف إليها هي، فسيكون ذلك فتنة عليها، فهذا الذي جعلهم يعدلون إلى المصلحة.

    ونظير هذا لدى السابقين أنه ما كان معروفاً فيمن يتولى أمر هذه الأمة، إلا الورع والعفة، والتزام حدود الله، لكن حصل في بعض البيئات في الأندلس أن أميراً من الأمراء جامع في نهار رمضان متعمداً، فاستفتى أهل العلم، فأفتاه يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك بأنه لا يجزئه في الكفارة إلا صيام شهرين متتابعين، وأنه لا يجزئه الإطعام ولا العتق، وخالفه جميع علماء الأندلس، فرأوا أنه خرق الإجماع، وخالف السنة الصريحة، ثم جاء بعده المتأخرون، فاعتذروا للشيخ يحيى فقالوا: لعل الشيخ يحيى كان يرى أن الكفارة زجر، وهذا الملك لا ينزجر بالإطعام ولا بالعتق، ولعله أيضاً كان ينظر إلى أن المال الذي تحت يد الملك ليس له، وأنه في الغالب من بيت مال المسلمين، فيكون فقيراً، فليس له الرقبة التي يعتقها ولا المال الذي يطعم منه، فليس له إلا أن يصوم كحال الفقير الذي لا يملك رقبة ولا إطعاماً، وهذا الذي يردع فعلاً، ولم ينزجر الملك إلا بذلك، حين صام شهرين متتابعين.

    وهذا النوع من الفتاوي يحتاج إلى جراءة في الاجتهاد، ومعرفة عميقة لمقاصد الشرعية، لكن أصحابه سيرميهم الناس عن قوس واحدة، وبالأخص أهل التعجل، والذين لا يدركون هذه النكت في أصول التشريع.

    ومن تعرض لهذا سيعلم أنه معرض لبلاء عظيم، وستتوجه إليه الألسنة الحداد، ويرميه الناس عن قوس واحدة، لكن مع ذلك قد يجد تفريجاً وحلاً لبعض المسلمين في ضائقة شديدة.

    1.   

    الحاجة إلى أصول الفقه في الزمن الحاضر

    وعلم أصول الفقه يحتاج إليه في زماننا هذا أكثر من الحاجة إليه في الأزمنة الماضية، بالإضافة إلى ما ذكرنا من نوازلنا الغريبة، التي لا عهد للسابقين بها.

    وكذلك حصل الانفجار الكبير في العلوم الأخرى، كالتكنولوجيا والمواصلات، والعلوم كلها لا بد أن تسير بموازاة، وبالأخص العلوم التي فيها حلول للمشكلات، فلا يمكن أن يكون بعضها محجراً ضيقاً، وبعضها قد انطلق في الآفاق الواسعة، وبلغ الفضاء الخارجي، فلا بد من توسيع أصول الفقه حتى يصل إلى الفضاء الخارجي.

    توسيع أصول الفقه

    والمقصود هنا بتوسيع أصول الفقه: الرجوع إليه بعدم التقيد، فمن يجتهد في مسألة لا يتقيد بظروفه المحيطة به، ولذلك قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، حين عاش مع العبيديين في تونس، وكانوا يغتالون علماء أهل السنة، فاتخذ كلباً للحراسة، فقيل له: قد كان مالك يحرم اتخاذ الكلب للحراسة، وقد نص على ذلك في المدونة وغيرها من كتبه، وورد فيه الأحاديث الصحيحة، فقال: رحم الله مالك لو كان في زماننا لاتخذ أسداً ضارياً، ولم يقتصر على اتخاذ الكلب فقط.

    ولهذا يقول الأصوليون: إن تقليد المجتهد الحي أولى من تقليد المجتهد الميت؛ لأن الحي يمكن أن تتغير الظروف من حوله، فيغير اجتهاده، وكم حصل للأئمة الذين طارت أعمارهم من تغيير الاجتهاد حين تتغير البيئات، حتى الذين لم تطل أعمارهم، لكن مروا ببيئات مختلفة؛ حصل لهم كثير من تغيير الاجتهاد، فالإمام الشافعي فقهه في العراق يختلف عن فقهه في مصر، له مذهب قديم ومذهب جديد، لاختلاف البيئة والأحوال، والإمام أحمد رحمه الله حين طال عمره مرت به كثير من الأطوار في هذه الحياة، فكان له في كثير من المسائل روايات كثيرة متنوعة، وكثيراً ما يرجع عن قوله في بعض المسائل.

    وكذلك الإمام مالك حين طال عمره كانت تأتيه النوازل من خراسان ومن الأندلس، ومن أماكن مختلفة من العالم؛ وكان يغير اجتهاده، وقد رجع في بضعة وتسعين موضعاً عن فتواه السابقة، وأمر بمحو ثمانٍ من فتاويه السابقة، وهي موجودة في المدونة وأمر بمحوها أيضاً، وسميت بالممحوات.

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الحكم يختلف باختلاف الحال والشخص والبلد والزمان والنية، وهي خمسة أمور، وقد ألف فيها أحد العلماء المتأخرين تأليفاً مختصاً، فيذكر أنواع تغيير الحكم باختلاف الأحوال والأشخاص الأمكنة، وقد نظمها شيخي رحمه الله في قوله:

    يختلف الحكم في خلف مقصدي والشخص والحال ووقت بلدِ

    ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما بأن رجلاً أتاه في مجلسه، فسأله: هل للقاتل عمداً من توبة؟ فقال: لا، فخرج وبقي ابن عباس في مجلسه، فجاء رجل آخر فقال: هل للقاتل عمداً من توبة؟ قال: نعم، قيل: سبحان الله! تقول في نفس المجلس: ليس للقاتل عمداً من توبة، ثم يأتيك سائل فتقول: له توبة؟! فقال: لقد رأيت السائل الأول والشر يتطاير من عينيه يريد أن يقدم على القتل، فيقول: أفتاني ابن عباس بأن لي توبة فأقتل وأتوب، ورأيت الثاني منكسراً خاضعاً قد اقترف هذا الذنب فجاء تائباً، وقد قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فهذا في اختلاف الأشخاص وأحوالهم.

    ومن أدلة هذا ما كثر من النبي صلى الله عليه وسلم في اختلاف الفتاوي، فكثيراً ما يأتيه رجل فيقول: (أي الإسلام خير)، فيفتيه على مقتضى حاله، ويأتيه آخر فيسأله كذلك، فيفتيه على مقتضى حاله.

    والأحاديث في هذا الباب متنوعة، وسأحدثكم بأحدها، بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ترويحاً للمجلس، فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود، عن يحظيه بن عبد الودود، عن محمد بن محمد سالم المجلسي، عن حامد بن عمر، عن الفقيه الخطاب عن القاضي ابن الإمام السباعي، عن شيخ الشيوخ الحسني عن علي الأجهوري، عن البرهاني العلقمي، عن الجلال السيوطي، عن زكريا الأنصاري، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي، عن الحسين بن المبارك، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله أحمد السرخسي، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم المغيرة البخاري، قال في صحيحه: حدثنا عمرو بن خالد، قال: أخبرنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ).

    وبالإسناد السابق إلى البخاري رحمه الله، قال في الصحيح: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: أخبرنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )، فهذا مثال فقط من هذه الأمثلة.

    ومما يقابل هذا فتواه لـأبي ذر عندما أخبره ( أن خير الإيمان جهاد في سبيل الله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور. قال: يا رسول الله! أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها على أهلها وأغلاها ثمناً )، وكذلك إخباره للآخر حين ( سأله عن أي الإسلام أفضل؟ فقال: بر الوالدين )، وكذلك الآخر الذي قال له: ( الصلاة على وقتها )، فهذا لاختلاف أحوال الناس، فكلٌّ يُفتى حسب حاله.

    تطور علم أصول الفقه

    وكذلك من حاجتنا اليوم إلى علم أصول الفقه؛ أن هذا الفقه -الذي هو تراث عصور مضت من هذه الأمة- مرت به كثير من الأطوار، فقد كان في العصور الأولى لهذه الأمة في نهاية القرن الأول، والقرن الثاني وبداية القرن الثالث كان مرتبطاً بالأدلة ارتباطاً كاملاً، بل كان جزءاً من علم الحديث إذ ذاك، ثم بدأ التدوين والتطوير من أواخر القرن الثاني والقرن الثالث والرابع، وفي نهايات القرن الرابع بدأ إفراد الفقه وترتيبه وعزله عن الأدلة، وأصبح علماً مستقلاً، لكن كان معتمداً على القواعد الأصولية والقواعد الفقهية، ثم بعد هذا أصبحت المذاهب متقاطعة فيما بينها، ولم يعد الجدل الفقهي الذي كان سائداً بينها موجوداً، وأصبح كل قوم ينكفئون على ما لديهم، على المذهب الموجود في دياريهم، فيخرجون على المسائل المروية فيهم، وتكون تلك المسائل خرجها على فتوى مقلد آخر، ما لها صلة بالمجتهد الأول صاحب المذهب، ولا صلة مباشرة للدليل.

    فاحتيج هنا إلى المراجعة، وبالأخص أن هذه المذهبيات الآن رسخت في نفوس الناس رسوخاً قوياً، حتى أصبح كثير من الناس يرى أن الخروج من المذهب بمثابة الخروج من الدين، وأصبحوا يرون أن المذاهب الأربعة حصل الإجماع عليها، وأن ما سواها لا يجوز العمل به، كما قال عدد من الفقهاء:

    وإن أجمعوا اليوم عليه الأربعة وقفوا غيره الجميع منعه

    كما قال سيدي عبد الله في مراقي السعود.

    وهذه المسألة كتب فيها أحد الفقهاء المعاصرين بحثاً جلب فيه كثيراً من نقول أهل العلم من المذاهب كلها، على أن الأمة أجمعت على أنه لا يجوز اليوم الخروج عن المذاهب الأربعة، فأرسله إلى شيخي رحمه الله، فلما عرض عليه وقرئ عليه الكتاب هذا، كتب عليه: الحمد لله، أما بعد.. فإن نسبة النقول المذكورة إلى مظانها صحيحة، ولكن هذا القول يتضمن إثباته رفعه كدفع العبد في صداقه.

    ومعنى كلام الشيخ: أن القائل بهذا القول ليس من الأربعة قطعاً، فلا يجوز تقليده، فيكون هذا كدفع العبد في صداقه، والعبد إذا تزوج يلزمه الصداق، والصداق لا يصلح النكاح دونه، فإذا دُفع هو في الصداق بطل النكاح؛ لأن الملك منافٍ للنكاح، وهذا يتضمن إثباته رفعه، كدفع العبد في صداقه.

    رمي الفقه الإسلامي بالجمود

    كذلك فإن كثيراً من الناس أصبحوا يرمون الفقه الإسلامي بالجمود، مما يحوج أيضاً للمراجعة؛ لأن كثيراً من الذين يدرسون الفقه يحصرون أنفسهم في الحواشي على الشروح على المختصرات، ويبقون في التردد بين تلك الحواشي والتقديرات، والتي في كثير من الأحيان لا تحيل على علم، بل تحيل إلى نظر أو تردد، أو بحث، فيه بحث، فيه نظر، فيه تردد، وتأمل، فلا يجد الإنسان شيئاً قاطعاً، مع أن الفقه في أصول الفقه تعريفه يقتضي أن يكون الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بفعل مكلف، وهذا ليس من خطاب الله، بل هو من خطاب الناس، وانقطعت صلته بخطاب الله في كثير من الأحيان.

    ومن هنا اشتدت الحاجة إلى الرجوع إلى أصول الفقه، لكن أيضاً لابد أن يكون ذلك على وجه صحيح، فإن كثيراً من الناس ما تركوا دراسة الأصول، لكن لم تغنِ عنهم دراسته شيئاً؛ لأنهم يدرسونه كمادة جدلية فقط، ولا يطبقونها على واقعهم، ولذلك يقول الشيخ محمد المامي رحمة الله عليه: لو أدرك الناس في زمانه فريقين، فريق يشتغل بالأصول، لكنه يرى أن باب الاجتهاد قد أغلق، فقصارى أمرهم المناطحة بين المذاهب، كمناطحة الثيران، والفريق الثاني: فريق يعرضون عن الأصول، ويهتمون بالفروع فقط، وينحصرون في المذاهب، ويزعمون أنهم مقلدون، ويقول بعضهم: نحن خليليون إن ضل ضللنا، ومع ذلك لا يمر على أحدهم سبعة أيام، إلا واجتهد في مسألة تعرض عليه ليس لـخليل بها أحد، ولا لشروحه.

    هذا التناقض العجيب كان حاصلاً في العصر السابق، وما زالت آثاره إلى الآن راسخة، والبحث عن التجديد إذا كان على قوام شرعي، وكان منطلقاً من الأدلة، وكان فيه إنصاف للسابقين وتقدير لهم ولجهودهم، ولم يكن فيه تجنٍّ على أحد منهم، وكان المرجع فيه إلى الدليل إلى قوة الحجة، دون أن نغمط أحداً حقه، فإذا ترجح لدينا نحن قول ليس معنى ذلك أننا قضينا على القول الآخر بالكلية، فيمكن أن يترجح لدى آخرين، فترجح قول من القولين لدينا هو مجرد زيادة إلى أصوات ذلك القول بصوت أو صوتين فقط، ولا يقتضي حسم النتيجة النهائية فيهما، فستبقى المذاهب موجودة، وتبقى الأقوال موجودة، لكن نحن فقط ندخلها، فلسنا ملزمين بأي مذهب من المذاهب، نحن ملزمون بما قوي لدينا دليله، والعمل بالراجح واجب لا راجح، باتفاق الجميع.

    1.   

    حد علم أصول الفقه

    وأول مقدمة من مقدمات هذا العلم هو حده، وحد أصول الفقه يحتاج فيه إلى مرحلتين:

    المرحلة الأولى: التعريف الإضافي، والمرحلة الثانية: التعريف اللقب.

    تعريف أصول الفقه بالمعنى الإضافي

    أما التعريف الإضافي؛ فإن أصول الفقه مركب إضافي، صدره أصول، وهو جمع أصل، والأصل ما يبنى عليه غيره أو ينبت عليه، ما يبنى عليه غيره، كأصل الجدار، أو ينبت كأصل الشجرة.

    والأصل في الاصطلاح يطلق على الدليل، فيقال: الأصل في وجوب الوضوء قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ [المائدة:6]، معناه دليل ذلك، ويطلق على الراجح، وذلك مثل قولهم: الأصل في الأشياء الطهارة، أي: الراجح في الأشياء الطهارة.

    وعجز هذا المركب الإضافي هو الفقه، والفقه في اللغة: الفهم، قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [هود:91].

    وهو في الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.

    (العلم) والمقصود به ما يشمل الظن، فلا يقصد به القطع، بل أكثر المسائل الفقهية ظنية لا قطعية.

    ولذلك فإن الجويني تشكك في مسائل الأصول قال: هل الأصول قطعية أو ظنية؟! وقد ناقشه في ذلك القرافي، وقد لخص ذلك الشاطبي في مقدمة من مقدمات الموافقات هي: هل الأصول قطعية أو ظنية؟!

    وسبب هذا التردد هو الخلاف في المصطلح أصلاً: ما هي الأصول؟! إذا كانت الأصول بمعنى أدلة الفقه الإجمالية؛ فهي في أصلها قطعية، فالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس الأصل قطعية، فإذا كان المقصود بالأصول علم مسمى اللقب، فهو علم من العلوم وأكثره من الأمور الاجتهادية غير القطعية.

    وقد كان مالك يقول في الأمور الاجتهادية: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32]، ولا بد أن يفرق الإنسان بين ما دليله قطعي واضح، وبين ما هو ظني؛ لأن الله ذكر من أكبر الكبائر: القول عليه بغير علم، فقال: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، ولذلك لا بد أن يتحرز الإنسان في هذا الباب، وبالأخص التحرز في الفتاوي، فإذا أراد أن يفتي في مسألة فلا بد أن يعرف الثبت فيها، أو أن ينطلق من دليل صريح، أو من شيء وجيه، ولذلك أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت؛ فإثمه على مفتيه ).

    وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتحرزون من الإفتاء، وحتى من الرواية؛ ففي الصحيح أن ابن الزبير قال للزبير بن العوام: ( لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، وما أراك تحدث عنه كما يحدث عنه فلان وفلان، قال: أما أني لم أفارقه، لكن يمنعني من كثرة الحديث عنه شيء سمعته يقوله، قلت: ما هو يا أبتي؟ فقال: سمعته يقول: من كذب علي متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار )، وكان هذا يقتضي منه تحرزاً جداً، وكذلك التابعون من بعدهم، فقد أخبر مالك أنه أدرك فقهاء المدينة تأتي النازلة فيتدافعونها فيما بينهم حتى ترجع إلى الأول، تأتي النازلة، ويسأل عنها القاسم بن محمد فيدفعها إلى عروة، فيدفعها إلى عبيد الله، فيدفعها إلى سعيد. وهكذا حتى تعود إلى الأول؛ لعدم حرصهم على الفتوى، ولإدراكهم لخطورة ما فيها.

    وكان مالك رحمه الله إذا سئل عن المسألة تحوج إلى اجتهاد؛ اشتد كربه وغشيه الرحضاء. أي: يتصبب وجهه عرقاً من شدة الهول؛ لأنه يعرف أنه في حرج شديد، وفي كثير من الأحيان يمتنع عن إجابة السائل، وقد أتاه رجل من أهل خراسان فقال: يا أبا عبد الله! أهل خراسان بعثوني يسألون عن كذا وكذا. فأطرق طويلاً، ثم قال: ارجع إلى أهل خراسان فقل لهم: أبو عبد الله يقول: لا أدري. فقال: سبحان الله! أرجع إلى خراسان دون أن تجيبهم، قال: قل لهم: أبو عبد الله يقول: لا أدري.

    وكان يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: (لا أدري)؛ ليكون أصلاً في أيديهم يرجعون إليه، ومن كان يهوى أن يُرى متصدراً، ويكره (لا أدري)؛ أصيبت مقاتله. وسئل عن اثنتين وأربعين مسألة؛ فقال في ثمانية وثلاثين منها: لا أدري، ويقول فيها عبد الملك بن المعلل:

    يأبى الجواب فلا يكلم هيبة والسائلون نواكس الأذقان

    شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان

    فالمقصود هنا بالعلم: الظن.

    (بالأحكام الشرعية) الأحكام: جمع حكم، والحكم هو إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنها.

    والذي يحكم، أي: يثبت أمراً لأمر، أو ينفيه عنه، أحد ثلاثة: إما وحي، وإما عقل، وإما تجربة، وهي العادة.

    فالحكم ينقسم إلى ثلاثة أقسام إلى: حكم شرعي، وحكم عقلي، وحكم عادي.

    أما الحكم العقلي فهو: قضية محتملة للصدق والكذب، والقضية معناها: أمر قول مركب من ركنين، جاء زيد، مات عمرو، محتمل للصدق والكذب، أي: أنه لا بد أن يكون خبراً، فالأمر لا يسمى (قضية)، ولا يسمى حكماً عقلياً، افعل، لا تفعل، ما اسمك؟ من أنت؟ هذا لا يسمى حكماً عقلياً، الحكم العقلي: قضية محتملة للصدق والكذب، لا تتوقف على شرع، ولا على عادة، بل المرجع فيها إلى العقل.

    والعقل: نور روحاني تدرك به النفس الأمور الضرورية والنظرية بواسطة الضرورية، فهو نور جعله الله تعالى في هذا الجنس البشري، روحاني: معناه تابع للروح، فالميت لا يبقى معه العقل بعد فراق روحه من بدنه، فهو إذاً من القوة الباطنية الراجعة للروح، تدرك به النفس والمقصود بها: الروح، والقوة الباطنية عموماً.

    الأمور الضرورية وهي: التي لا تحتاج إلى تفكير، فالضروري هو ما لا يحتاج إلى تأمل.

    والنظرية وهي: الأمور التي تحتاج إلى التأمل.

    بواسطة الضرورية، فالتأمل لا بد أن ينبني على مقدمات، وتلك المقدمات لا بد أن تصل إلى حد الضرورة، أي: تكون ضرورية.

    والحكم العادي هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرر، مع صحة التخلف، كالعلوم الطبيعية كلها، فلم ينزل بها وحي ولا العقل يوجبها، ولكن تكرارها أعطى نفس النتيجة؛ ولذلك سميناها حكماً عادياً، فمن ظمئ إذا شرب الماء البارد؛ زال عطشه، والشيء القابل للاحتراق إذا لامس النار احترق، هذا حكم عادي، لكنه يصح تخلفه، فإبراهيم رمي في النار ولم يحترق، ولم تحترق ثيابه، يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وأصحاب الكهف مكثوا ثلاثمائة وتسع سنين في الكهف وما ماتوا، دون أكل ولا شرب ولا حركة، والعزير كذلك مات مائة سنة؛ فهذه الأمور ليست عادية، بل الحكم العادي يقتضي أن الولد لا يكون إلا من والد، من أب، من اللقاء بين أب وأم، لكن ثبت وجود آدم من غير أب ولا أم، ووجود حواء من غير أم، إخراجها من آدم، ووجود عيسى ابن مريم من غير أب، فهذا مما يخالف العادة، وكذلك خرق العادة كله كناقة صالح، وخروجها من الصخرة؛ هذه خلاف لحكم العادة؛ لأن الحكم العادي الحي لا يخرج من الجماد، كما قال أحمد بن سليمان المعري:

    بان أمر الإله واختلف الناس فداعٍ إلى الضلال وهادي

    والذي حارت البرية فيه حيوان مستخرج من جمادِ

    هذه الأمور المخالفة للعادة.

    الحكم الثالث هو الحكم الشرعي، وهو إثبات أمر لأمر ونفيه عنه بواسطة الوحي، والمقصود به خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، بحيث إنهم مكلفون به.

    (خطاب الله) خطابه هو: توجيه الكلام إلى الفاهم، حقيقةً أو تقديراً، فخطاب الله يوجه إلى الفاهم حقيقة، كمن كان حياً حاضراً مكلفاً عاقلاً متصفاً بشروط وقت نزول الوحي، فيخاطب به من سواه على سبيل التقدير، فنحن عندما أنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] غير موجودين، ولا متصفين بشروط التكليف، التي منها: البلوغ، والعقل، وعدم الإكراه.. إلخ، لكن على تقدير أن من وجد وبلغ وكلف بالشروط الشرعية؛ فهو مخاطب بهذا الخطاب، وهذا الذي يقول فيه السيوطي رحمه الله:

    والأمر بالمعدوم والنهي اعتلق أي معنوياً وأبى بعض الفرق

    الأمر يتعلق بالمعدوم، معنوياً معناه على تقدير وجوده، متصفاً بالشروط الشرعية للتكليف.

    (المتعلق بأفعال المكلف) هذا الخطاب لا بد أن يكون له تعلق؛ لأن من الخطابات ما لا تعلق له أصلاً، صفات الله منها ما له تعلق بالمخلوق، ومنها ما لا تعلق له بالمخلوق، فمثلاً حياة الله لا تعلق لها بالمخلوقين، عظمته جلاله وكبريائه لا تعلق لهذه الصفات بالمخلوقين، ومنها ما هو متعلق بالمخلوقين كالخلق والرزق والإماتة والإحياء والكلام والتشريع والأمر والنهي والرضا والغضب.. وغيرها؛ لها تعلق بالمخلوقين، والعلم، فإذاً هذه هي الصفات التي لها تعلق بالمخلوقين ومنها العلم والكلام. فما كان خطاباً موجهاً إلى المكلفين فهو من كلامه المتعلق بهم.

    وكلام الله ينقسم إلى قسمين: كلمات كونية، وكلمات تشريعية، الكلمات الكونية يخاطب بها الله الشيء على وجه التكوين، ويخاطب بها المخلوق على وجه التكوين، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، هذه الكلمات الكونية، وهي التي لا تحصى، قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ [لقمان:27].

    لكن هذا التعلق قد يكون بذات المخلوق، سواء كان من جهة كونه مخلوقاً لله، مثل قوله تعالى: خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، أو من جهة تكوينه، كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، وقد يتعلق بأفعال المكلفين، وقد يتعلق بصفات المكلفين كالثناء عليهم، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، أو ذمهم، ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [المدثر:11-17]، أو ما يتعلق بأفعال المكلفين، وهذا منه ما يتعلق بأفعال المكلفين من حيث هي مخلوقة لله، كقول الله تعالى: وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، عطفاً على قوله: خَلَقَكُمْ [الصافات:96]، هذا خطاب من الله متعلق بفعل المكلف، لكن لا من حيث هو مكلف به، بل بحيث إثبات كونه مخلوقاً لله.

    وقد يتعلق بفعل المخلوق من حيث هو مأمور به، مكلف به، أمراً أو نهياً، أو اقتضاء لغير ذلك، وهذا المقصود هنا، وهذا الخطاب مختص بالمكلفين.

    والمكلف مختلف في تعريفه، فقيل هو: الملزم ما فيه كلفة، وقيل بل: المطلوب منه ما فيه كلفة، هذا من خلاف في تعريف التكليف ما هو، فقيل: طلب ما فيه كلفة، وقيل: إلزام ما فيه كلفة، وكلا القولين منتقد، فالقول بأن التكليف هو إلزام ما فيه كلفة يخرج المندوب والمكروه والمباح، فليست ملزمة. ويبقى التكليف مقصوراً على الإيجاب والتحريم، والقول بأن التكليف هو طلب ما فيه كلفة؛ يدخل الصبي أيضاً، فإنه مأمور بالمندوبات وبالواجبات على وجه النذر، ومنهي عن المحرمات والمكروهات، على وجه الكراهة فقط، فكلاهما منتقد.

    وينبغي أن يقال هو: خطاب الله المتعلق بأفعال العباد، ويسكت عن التكليف هنا، حتى ينضبط الحد.

    (بالأحكام الشرعية) الشرعية معناه: المنسوبة إلى الشرع، والشرع في اللغة يطلق على الإظهار، نقول: شرع شيئاً بمعنى أظهره، ومنه شراع السفينة، وذلك أنما كلف الله به العباد أظهره لهم وبينه، فلم يكلفهم بما يجهلونه.

    ويطلق أيضاً على المصدر الذي يشرب منه، فالشريعة المكان الذي تشرع منه البهائم، وهي تدخل فيه لشرب منه، وشرع بمعنى دخل في الماء ليشرب منه، فكأن الأدلة مشرع يتروى منه الإنسان فيتعلم أحكامه ليعمل بها، فسمي شريعة.

    قال: (العلم بالأحكام الشرعية العملية) العملية معناه: الفرعية، وهي مخرجة للأحكام العقدية أو العلمية التي يعلمها الإنسان دون أن يتعلق بها عمل، كمسائل الاعتقاد، فهي من خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، لكن الفعل هنا هو علم فقط لا عمل، وهذا معنى الفرعية أيضاً.

    (المكتسب) أي ذلك العلم، (من أدلتها) وهي: جمع دليل، والدليل فعيل بمعنى فاعل، يطلق على المرشد، سواءً كان حسياً أو معنوياً، فمن إطلاقه على الحسي، قول الشاعر:

    إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزادٍ واستعن بدليل

    سيصبح فوقي أقتم الريش واقعاً بقالي قلا أو من وراء دليل

    ومن إطلاقه على المعنوي قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [الفرقان:45-46].

    والأدلة في الاصطلاح: هي ما يوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب مخبري، فإن كان قاطعاً سمي دليلاً في الاصطلاح الخاص، وإن كان ظنياً سمي أمارة.

    والأدلة في الاصطلاح تنقسم إلى قسمين: أدلة إجمالية، وأدلة تفصيلية، فالأدلة الإجمالية هي ما جنسه دليله، كالكتاب فهو دليل من أدلة الفقه، والسنة وهي دليل من أدلة الفقه، والإجماع وهو دليل من أدلة الفقه، والقياس دليل من أدلة الفقه وهكذا، فهذه الأدلة هي التي تسمى بالأدلة الإجمالية.

    أما الأدلة التفصيلية فهي جزئياتها التي تختص بأحكام بأعيانها، كدليل وجوب الوضوء من قوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي.

    والأحكام الفقهية العملية إنما تكتسب من الأدلة التفصيلية التي هي جزء الإجمالية، لكن الأدلة الإجمالية بدون تلك التفصيلية لا يمكن أن تبحث في الفقه ولا أن تؤخذ من الأحكام، فالقرآن كله لا يدل على حكم واحد، والسنة كلها لا تدل على حكم واحد، والإجماع كله لا يدل على حكم واحد، والقياس كله لا يدل على حكم واحد، وهكذا.

    فإذاً هذا الفرق بين الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية، مكتسب من أدلتها التفصيلية، والمكتسب مخرج للموحى، فعلم الرسول بمقتضى ما أوحي إليه علم غير مكتسب، بل هو اختيار من عند الله سبحانه وتعالى، والرسالة والنبوة لا يمكن أن تكتسب، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، هذا اختيار رباني.

    وقد سبق بيان الفقه المقصود هنا، وهذا هو إذاً تعريف أصول الفقه بالمعنى الإضافي.

    تعريف أصول الفقه بالمعنى اللقبي

    أما تعريف أصول الفقه بالمعنى اللقبي، أي: لقباً لعلم من العلوم الشريعة، فهو العلم بأدلة الأحكام الإجمالية، وطرق الاستفادة منها، وحال المستفيد.

    طرق الاستفادة منها، كطرق الاستنباط، وحال المستفيد أي: ما يلزم للمجتهد من شروط، وللمقلد كذلك: معرفة اجتهاد التقليد، وشروط المجتهد، هذا هو حد أصول الفقه.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718756

    عدد مرات الحفظ

    768426476