الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين
أما بعد:
فالعلم الذي لدينا اليوم لا يبتعد كثيراً عن العلم الذي كان لدينا في الماضي، فقد كان لدينا علم الآداب الشرعية، ولدينا الليلة علم السلوك وعلم التصوف.
ومن المهم بين يدي الحديث أن أذكر أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر: هي الجسم الذي هو من تراب, والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله, والعقل الذي ميز الله به الإنسان على غيره من سائر الحيوانات.
وقد رتب الله على هذه العناصر عناصر الدين، فجعل الدين مؤلفاً من ثلاثة عناصر: هي الإيمان الذي هو لمصلحة العقل, والإسلام الذي هو لمصلحة البدن, والإحسان الذي هو لمصلحة الروح, فروح الإنسان غريبة في هذا العالم وافدة عليه فهي من أمر الله, ومن هنا فإن استقرارها في هذا العالم هو بمثابة حبس لها، فهي تعرج وتصعد، ومدة حبسها هي مدة الحياة، منذ نفخت الروح في الإنسان وهو جنين في بطن أمه إلى أن تنزع منه الروح، أي: مدة حبسها, ثم بعد ذلك تنطلق ولا تجد من التخفيف ومن التأنيس إلا فترات يسيرة، فمن هذه الفترات فترة النوم فهي راحة للنفوس, ولذلك عبر الله عن النوم بكونه سباتاً، أي: راحة للنفوس والأبدان.
ومنها كذلك بدايات الملذات، فملذات البدن والعقل في بداياتها راحة للروح، أما نهاياتها فليست كذلك, بل هي تعذيب للروح, وكذلك نهايات المآسي، فبداياتها ليست راحة للأرواح، لكن نهايتها راحة للأرواح.
ومنها كذلك الشعور بالسمو والتعالي عن هذا الكون والانحباس فيه, فإن روح الإنسان قابلة للسمو والانسفال، قد جعل الله لها خاصية يمكن بها أن تترقى في مدارج الكمال والسمو الممكن, وفي المقابل أيضاً بالإمكان أن تهوي وتتردى في دركات وأوحال الطغيان والزلل.
وما من نفس من النفوس إلا وفيها جانب من الطغيان، يزداد وينقص, فمن أسباب زيادة الطغيان:
شعور الإنسان بالاستغناء, فإذا شعر الإنسان بالاستغناء عن غيره من أي وجه كان ذلك الاستغناء، فلابد أن يصاب بطغيان، هذا الطغيان قد يصل إلى درجة التحريم، كما إذا كان فيه كبر أو عجب أو خيلاء, وقد يكون دون ذلك، كأن يشعر الإنسان بحوله وقوته، وبأن له شخصية ومكانة، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7], وهذا يشمل غناه بقوة عقله وتدبيره، وغناه بقوة بدنه وحركته وغناه بوسائله المادية، فكل ذلك يدخل في الاستغناء.
كذلك مما يزيد هذا الطغيان: الوقت الذي يسمى بوقت الغفلة، والوقت الذي يسمى بوقت النشوة, أما وقت الغفلة: فهو وقت استغراق النفس في أمور الدنيا، كمن رأى شيئاً يعجبه من زخارف الدنيا فشغل بالتفكير فيه, دخل قصراً لم يدخله من قبل فشغل بالتفكير فيه، فهذه لحظة طغيان وضرر وانسفال بالنسبة للروح, ومثل ذلك الاشتغال بملذات الدنيا، فإن الإنسان في وقت إقباله على الملذة هو على جانب من جوانب الطغيان.
وكذلك وقت إحساس الإنسان بالإنجاز، وهو وقت النشوة أن يحس الإنسان بإنجاز شيء ما, كمن أكمل عملاً أياً كان، فالغالب أن هذا الوقت يزداد فيه منسوب الطغيان في النفس, ولذلك كان كثير من السلف ينكسر بعد أداء العبادة خشية الإعجاب بها:
بعض الهداة يستحي إن يفرغ منها حياء حين فراغها البغي
كان بعضهم يشبه إذا فرغ من صلاته بحال البغي عند نهاية زناها، حياء من الله سبحانه وتعالى وخشية من هذا الطغيان.
ولذلك قال أحد الأئمة: وانظر أخي إلى كلامك فإنما هو كتاب تكتبه لربك وشغل تشغل به ملكيك, فالعمل أياً كان الذي تجده إنما هو كتاب ترسله لربك، خطاب ومعروض يعرض على ربك سبحانه وتعالى, وشغل تشغل به ملكيك، لذلك لابد أن ينظر الإنسان هذه النظرة, لهذا يقول أحدهم في اللغو من الكلام الذي لا نفع فيه: إنه شغل للكرام الكاتبين بالذي لا خير فيه.
ووقت النشوة يشمل وقت الانتصار؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحاً، في الوقت الذي يجري على عادة البشر فيه النشوة وارتفاع المعنويات، ألصق ذقنه بصدره حياءً من الله سبحانه وتعالى.
وكذلك الحال بالنسبة لأصحابه، فعندما تأتيهم الفتوح ويبشرون بها يخرون سجداً لله عز وجل, فذلك هو الذي يعالج هذا الطغيان الذي ينشأ في حال النشوة, وهذه النفس التي جبلت على هذه الأمور كلها لها أنواع منوعة ومرام كثيرة جداً، ومتاهات واسعة جداً، وهي في سيرها إلى السمو والرقي والتعلق بالله سبحانه وتعالى وتحقيق العبودية له، تمر بمزالق عظيمة جداً، يسهل على الإنسان فيها الوقوع في الزلل إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى من ذلك بإيمانه وباللجأ إلى الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه.
من هنا اشتدت حاجة الإنسان إلى معرفة نفسه, فالإنسان محتاج جداً لأن يتعرف على نفسه، وأن يعزل منها شخصاً مستقلاً حتى يكون هو بمثابة المتفرج على السلوك المقوم له, والنادر من الناس من يستطيع اكتشاف عيوبه, ولهذا يحتاج العقلاء إلى من يريهم عيوب أنفسهم، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي.
وقد دخل رجل رث الهيئة، لا يعرفه أحد ولا يؤبه به، فلما انتهى علي من درسه نظر إليه، وقال: أحسنت يا فتى، فاسألني عما بدا لك، فنظر إليه علي بنظرة ازدراء، كأنه في ذلك الوقت قد بقي في وقت النشوة بإنجاز الدرس، فقال: لا أسألك إلا عن الحجامة، يلمزه بأن مهنته الحجامة؛ لأن شكله كذلك، فجلس الرجل وتربع وحمد الله وأثنى عليه وبدأ يتحدث عن الحجامة، فذكر اشتقاق الكلمة ووزنها وصرفها، وتاريخ الحجامة لدى الأمم السابقة ولدى العرب، ومواضع الحجامة وما قيل فيها من الشعر، وما ورد فيها من الحديث، ذاكراً للأسانيد والمتون والعلل، وتكلم عن حكمها في الفقه، واختلاف أهل العلم في نقضها للوضوء، واختلافهم في إبطالها للصوم، وتكلم في حكم الحجامة والفصد والفرق بينهما، وتكلم كذلك في كسب الحجام، والذي ورد فيه الحديث: ( كسب الحجام خبيث )، والجمع بين ذلك، وبين حديث أبي طيبة حين حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له بصاعين من تمر، وأطال النفس في الحجامة حتى أسمعهم علماً لم يكونوا يتوقعونه.
فبكى علي وجلس عند قدميه، والتمس منه أن يسامحه، فقال: ما هو إلا أن رأيتك، قد أحسنت في درسك فخشيت أن يدخل عليك العجب، فقلت لك ما رأيت، وانطلق الشيخ لوجهه.
وقد كان كثير منهم إذا دعا دعوته استجيبت له، أيضاً يحاول إخفاءها وكتمانها، ويتواضع لله غاية التواضع خشية هذا الحال، ولذلك فإن أويساً عندما عرفه أهل العراق وكانوا يأتونه بحوائجهم ليلتمسون منه الدعاء، فهرب في الليل وأخفى مكانه، واختفى من الناس؛ لأنهم جربوا استجابة دعائه.
إن الله سبحانه وتعالى بين فلاح من زكى نفسه، وفي المقابل أيضاً خيبة من دساها وأهملها، مما يدلنا على عظيم العناية بهذه النفس، والخطر العظيم في إهمالها، وقد كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أغلبها تربية جامعة، تجمع بين التربية العقلية بزيادة العلم، والتربية الروحية بالسمو بمعاني الإيمان، والتربية البدنية بالأمور العملية والأحكام الشرعية.
ولم يكن التخصص معروفاً إذ ذاك في الصدر الأول، كما أن التخصص في العلوم الأخرى لم يكن موجوداً، فلم يكن علم الفقه مستقلاً عن علم الحديث عن علم التفسير.. إلى آخره، فإنما نشأت هذه التخصصات فيما بعد عندما احتاجت إليها الأمة.
وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم، استمروا على هذه التربية التي كانوا عليها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يشعرون بالحاجة إلى ما يتعلق بتزكية الأنفس وتربيتها، فكان معاذ يقول: اجلس بنا نؤمن ساعة، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه كذلك يغشى حلقات الفقراء والضيوف الغرباء في جامع بني أمية، فيستمع إلى أحاديثهم ويبكي، وكذلك كان علي رضي الله عنه يأكل مع الفقراء، فإذا وجد كسرة خرج يلتمس مكان وجود الفقراء فيضعها بينهم، ويجلس ويأكل معهم، وهذا الحال هو الذي استطاعوا به أن ينتصروا على أنفسهم، فكان ذلك بداية النصر على غيرهم، فالانتصار على النفس مهم جداً؛ لأنه الذي يقطع به الإنسان المراحل، فالمنتصر على نفسه لا يمكن أن يذل لمخلوق، ولا يمكن أن يأسف إذا أسف الناس، ولا أن يحزن إذا حزنوا؛ لأنه متصل بالله سبحانه وتعالى، فهو يشعر بالقرب عندما تنقطع الأسباب، فإذا أغلقت الأبواب جميعاً يشعر بأن باب الله سبحانه وتعالى مفتوح، وإذا انقطعت أسباب الدنيا شعر في ذلك الوقت بالاتصال المباشر بالله سبحانه وتعالى، فجاءه الفرج.
وهذا الحال ينال به المؤمن لذة عجيبة جداً، وهي لذة الأنس بالله سبحانه وتعالى، وهذه اللذة قد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستشعرونها عندما يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فإذا خرجوا من عنده ربما اشتغلوا بأمور الدنيا فجاء وقت الغفلة أو وقت الشعور بالإنجاز الذي ذكرناه، فلذلك في صحيح مسلم أنهم سألوه فقالوا: ( ما لنا إذا كان عندك نكون كما ترى، فإذا خرجنا عافسنا النساء على الفرش، فقال: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة ).
ومن هنا يتبين لنا أمر عظيم جداً، وهو أن النفس والبدن بينهما جانب من الضدية، فكلما أوغل الإنسان في ملذات البدن كلما كان ذلك مضرة على النفس، حتى لو كانت حلالاً، ولهذا فالنفوس والأرواح من العالم النوراني مثل عالم الملائكة، فإذا غلبت حصل الاتصال بالملائكة، وإذا غلب البدن انعكس الأمر.
ولهذا كان عدد من الصحابة يرون الملائكة، فكان عمران بن حصين رضي الله عنهما يرى صاحب اليمين وصاحب الشمال، وكان إذا خرج من الخلاء سلم عليهما فردا عليه السلام، فلما اكتوى احتجبا عنه شهراً، فحزن لذلك حزناً شديداً، فلما أتم الشهر عاود رؤيتهما، وكذلك فإن عدداً من الصحابة رأوا جبريل في صورة دحية، فمنهم عائشة وأبو هريرة وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله، كل هؤلاء شاهدوا جبريل في صورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه.
وقد كان كثير من السلف يسمعون كلام الملائكة، وسلامهم ليلة القدر، وغير ذلك من الأوقات، ومما يدل على أن مخالطة الملذات البدنية مؤثرة تأثيراً عكسياً في النفوس حديث موت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ( فعندما أراد إنزالها في قبرها، ولم يكن في أصحابه محرم لها، سألهم فقال: أيكم لم يقارف الليلة؟ أي: لم يقرب أهله، فقال أبو طلحة: أنا، فأمره أن ينزلها في قبرها )، فالذي لم يتصل بهذا النوع من الاتصالات لديه في ذلك الوقت سمو روحي، وارتفاع في منسوب الإيمان في روحه، وسمو عن أمور الدنيا الأخرى، فلذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم من لم يقرب أهله لهذه المهمة.
كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عقاب، وتردد أصحابه في وصف هؤلاء من هم، بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم المرتبة التي وصلوا إليها وهي من تمام التوكل على الله سبحانه وتعالى، وأنهم يتركون بعض الأسباب توكلاً على الله، وهذه الأسباب بعضها جائز، مثل: الكي والاكتواء والاسترقاء من الأورام، وبعضها محرم كالطيرة؛ لأنه قال: ( لا يكوون ولا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون )، فهذه الأسباب التي نفاها عنهم بعضها جائز، كالكي والاكتواء، وكذلك الاسترقاء.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاسترقاء في بعض الأحاديث في قصص محددة، كالاسترقاء لابني جعفر ( حين رآهما ضارعين، فقالوا: إن العين تسرع إليهما فقال: ألا تسترقون لهما )، وكذلك أمر بتعلم الرقية، وقال: ( اعرضوا علي رقاكم )، حديث حفصة قال: ( هلا علمتها رقية النملة )، وقال: ( لا رقية إلا من حمة أو عين ).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم رقى، فقال في حديث ثابت بن قيس: ( اكشف البأس رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك )، وقال: ( اكشف البأس رب الناس عن ثابت بن قيس بن شماس )، قال: ( تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا )، وكذلك فإن جبريل رقاه قال: ( بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك والله يشفيك )، وكذلك في حديث الملكين لما سحر النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قرأا عليه المعوذات ورقياه، فإذاً هذه الأسباب بعضها من الأمور الجائزة أصلاً، ولكن تركه أسمى للنفس وأرقى لها في حق جمهور الناس، وهذا الذي نتحدث فيه أمر روحي وليس أمراً راجعاً إلى الأبدان والمشاهدات، فلذلك لا يمكن أن يؤخذ قاعدة عامة لكل الناس، فإن كثيراً من الناس إذا ترك الأسباب أدى به ذلك إلى نقص الإيمان، وضعف النفس؛ لأنه يظن أن ترك الأسباب هو الذي قطع عنه الرزق مثلاً، أو قطع عنه الشفاء أو أخر شفاءه من المرض، فينقص ذلك إيمانه، فليس هذا لكل أحد، بل هو لأهل مرتبة من مراتب الإيمان.
ثم إن هذا السلوك المطلوب هنا تتداوله ثلاثة أمور:
الأول: ما يتعلق بالتعامل مع الله، بإحسان عبادته وإتقانها، وهذا الذي شرح به النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل قال: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
والثاني: في التعامل مع الناس وهو بحسن الخلق وأداء الحقوق إلى أهلها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أثر حسن الخلق وأهميته.
والثالث: في التعامل مع نفس الإنسان؛ لأنها خصم له، وهي: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، فهذه الجوانب الثلاثة في المعاملة، هي التي تسمى بالسلوك، وهو الذي يتعلق به هذا العلم الذي سنتحدث فيه هذه الليلة إن شاء الله.
لا شك أن الناظر لأول وهلة ربما عرض له إشكال من حيث إن هذه الأمور جائزة في الشرع، ومع ذلك فقد جاءت بعض النصوص التي تزهد فيها وترغب عنها.
والجواب عن ذلك: أن الأفضل في حق البشر جميعاً الأخذ بالرخص، والأخذ بالمباحات، ولكن ثمة استثناءات؛ فالسالك للطريق قد يمر بمضيق يؤمر فيه بالتخفيف حتى من ملابسه، فإذا تجاوز ذلك المضيق كان الأولى به أن يكمل زيه، وأن يلبس كل ملابسه، فالطريق ليس درجة واحدة، والسالكون أيضاً مراتبهم متفاوتة، فما يسعد بعضهم في وقت يشقى به غيره في الوقت الآخر، وهذا لا يمكن أن يطلق قاعدة دون تطبيق، بل هذا لا يمكن أن يفهم إلا في سياق السير في الطريق، والمراقبة الدائمة للسلوك؛ ولهذا فهذا النوع من العلوم هو من العلوم العملية، ولا يمكن أن يترك حسب الجوانب النظرية فقط، وإذا نظر الإنسان إلى نفسه، فسيجد أن الاشتغال ببعض المباحات في بعض الأحيان ضرره عليه واضح، وفي بعضها أيضاً تركه له مضر به، من لاحظ سلوك نفسه بعين تفحص وتدبر بدا له ذلك، ومراتب الناس ليست على درجة واحدة، فلابد من مراعاة الفروق الفردية بين الناس، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الرهبانية والتشدد في الدين، وعندما سمع عن أولئك الذين قال أحدهم: ( أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: وأنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا لا أتزوج النساء فقال: من رغب عن سنتي فليس مني )، وبين أن سنته فيها أنه يصوم ويفطر، ويقوم ويرقد، ويتزوج النساء، لكن ليس من سنته الإسراف في شيء من ذلك؛ بالنسبة للسرف فهو منفي عن الجميع، وبالنسبة للترك في بعض الأحيان لا شك أنه أيضاً يختلف فيه الأشخاص، ففي بعض الأحيان يكون الزواج مثلاً حابساً عن الجهاد، أو داعياً لتأخير بعض الأمور المهمة في طلب العلم أو في الازدياد من العبادة والخير، فيكون حينئذٍ مما ينبغي أن ينهى عنه السالك في ذلك الوقت، وهكذا في أمور الدنيا كلها، فلا يكون النهي نهياً مطلقاً، وإنما يكون مؤقتاً بحسب الحال والمرحلة التي يمر بها الإنسان، فتربية النفوس هي مثل تربية الأبدان تماماً، فالصبي الصغير أليس يحذر عليه في بعض الأطعمة، ويحال بينه وبين بعض ما يتناوله الكبار، وتقدر له الوجبات بأوقات محددة؟
فكذلك السالك في طريق تربية نفسه، فتربية النفس لا تقل خطراً ولا أهمية عن تربية البدن، فمن لديه مرض محدد يمنع عن أكل محدد، من لديه السكري سيمنع من المواد السكرية والنشوية، ومن لديه النقرس يمنع من المواد البروتينية، ومن لديه زيادة في الضغط يمنع من كل ما فيه أملاح وهكذا، فكذلك الأمراض الروحية توجد فيمنع من بعض الجائزات والمباحات علاجاً لذلك المرض، فلا يقال: إن التمر القاعدة فيه الإباحة فيكون مباحاً للجميع، فيقال: نعم القاعدة أنه يباح للجميع لكن من لديه مرض السكر فهو ممنوع عليه ومضر به، ونفس الشيء بالنسبة للصبي.
كذلك مما يدلك على هذا التفريق في المجال الروحي، أن الله تعالى حرم علينا المباحات في حال الصيام، لماذا يحرم الله علينا شرب الماء فيه وأكل المباحات؟ التربية الروحية يحتاج إليها، والصيام هو واجب مثل صيام شهر رمضان لمن شهد منكم الشهر، فهذا من أكل فيه أو شرب أو تناول مفطراً من المفطرات فقد بالغ في الإضرار بنفسه وروحه، فهذا وقت راحة الروح، هو وقت التخلق بصفات الملائكة، ثم ما زاد على ذلك من نوافل الصوم تمنع فيها أيضاً هذه المباحات في غير الصوم، فهكذا طريق السلوك في التربية الروحية يمنع الإنسان من الأمور الجائزة والمباحة لضررها عليه في ذلك الوقت، وإذا تجاوزت تلك المرحلة فسحت له.
فإذا قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يكره وينهى عن المبالغة في العبادة، ويقول: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وفي حديث الحولاء بنت تويت عندما دخلت على عائشة قال: ( من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صيامها وقيامها، فقال: مه، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وهكذا أحاديث كثيرة وردت عنه في هذا، إنما هي لبيان القاعدة العامة؛ لأن هذه مراحل يمر بها الإنسان ويتجاوزها، ولذلك في حديث عائشة في وصف صيام النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم )، هذا باختلاف الأحوال.
وكذلك قيامه ليلة بآية واحدة: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].
وكذلك اعتكافه في أوقات الاعتكاف، والأوقات التي كان يخصصها في بعض الأحيان لبعض العبادات.. أوقات البكاء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه كلها من الراحات الروحية، ومن الأمور المهمة للأرواح، ومن ذلك مثلاً: استشراف الإنسان لمصادفة ليلة القدر، أو مصادفة ساعة الجمعة، أو مصادفة وقت النزول في الدعاء ونحو هذا، فهذه من الأمور التي تتعلق بها الروح، وفي إخفائها فائدة روحية عجيبة؛ لأن النيل بعد اليأس أبلغ في النفس؛ ولأن الشيء الذي يتطلبه الإنسان بعناء سيحرص عليه حرصاً شديداً بخلاف غيره، إذاً: هذا مما يقتضي التفريق بين النظرية والتطبيق في مجال التربية الروحية.
ولخطر هذه التربية وسهولة الانزلاق فيها، وقرب ما يتعلق بتقويم أمورها من الخرافة أو التطلع على الغيبيات احتيج إلى وضع علم دقيق لها؛ ليكون فيصلاً بين الحق والباطل، وليكون الإنسان به على بصيرة واهتداء، وهذا العلم لم يكن الصحابة محتاجين إليه في زمانهم، ولا التابعون احتاجوا إليه، وإنما احتيج إليه من أواخر عصر التابعين وفي بداية عصر أتباع التابعين، وبدءوا يضعون بعض المصطلحات، وبدأ البعض يعتزل الناس، فشهر أولئك بالفقراء في ذلك الزمان، واشتهر بعض العباد والزهاد في أمصار كثيرة، وجرت الحكمة على ألسنة كثير منهم، فمن الذين اشتهروا بسريان الحكمة على ألسنتهم من أولئك المربين في أواخر عهد التابعين الحسن البصري ومحمد بن سيرين وإلياس بن معاوية بن قرة في البصرة، واشتهر كذلك محمد بن واسع بذلك، فقد كان مجاب الدعاء، عندما خرج قتيبة بن مسلم في جيش من الجيوش وعرض له تجمع رهيب من العدو، وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب، قال: أين محمد بن واسع؟ قيل: وما حاجتك إليه؟ هو ذاك في طرف الجيش يرفع إصبعه النحيلة إلى السماء، قال: تالله لإصبعه تلك أحب إلي من مائة ألف سيف، لما جرب فيه من استجابة الدعاء.
فبعد هذا اشتدت الحاجة إلى التفريق بين الخرافيين والمبتدعة، والذين أدخلوا إلى الإسلام ما ليس منه من علوم السابقين المترجمة، والذين حاولوا التطلع إلى الغيبيات للتلبيس بها من هذا الجانب، كالذين يأخذون بالجبر أو ببعض كتب بني إسرائيل وقصصهم، أو الذين يتطلعون إلى الغيبيات عن طريق الضرب بالرمل أو نحو ذلك، فما دام هذا الأمر معنوياً باطنياً، وما دامت التربية الروحية ليست كالتربية البدنية باطنية مختفية، وما دامت أحوال الروح بين القبض والبسط أمراً غير مشاهد سهل الانطلاق وسهل خفاء هذا الأمر، فاحتيج إلى وضع علم لهذا، هذا العلم هو الذي اصطلح على تسميته بعلم التصوف وبعلم السلوك.
وأما تسميته بالتصوف فهي مشتقة من لبس الصوف، فقد كان الزهاد في صدر الإسلام يلبسون الصوف الغليظ، بعد أن جاءت الملابس التي هي من القطن والملابس الرقيقة، كان أولئك يصرون على لبس الصوف الذي كان لبساً للعرب في جزيرتهم قبل أن يخالطوا الحضارات، وقد أصبح ذلك شعارهم في تلك الحقبة، ثم جاء من الأجيال الصوفية من ينكر ذلك، ويزعم أن التصوف مشتق من الصفاء، أو من الصفة، أو غير ذلك من الاشتقاقات الباطلة، فيزعمون أنه مشتق من الصفاء يعني: أن المطلب فيه صفاء النفس، أو أنه مشتق من الصفة، وهي المكان الذي كان يأوي إليه الفقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فهم ضيوف النبي صلى الله عليه وسلم، هذا كله باطل في الاشتقاق.
وقد قال أحدهم:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه ولا بكاءك إن غنى المغنون
ولا صراخاً ولا رقصاً ولا لعباً ولا تغاش كأن قد صرت مجنوناً
بل التصوف أن تصفو بلا كدر وتتبع الحق والقرآن والدينا
وأن ترى خاشعاً لله مجتهداً على ذنوبك طول الدهر محزونا
وأما تعريف هذا العلم وحده، فهو من أصعب ما يحد من العلوم، ولذلك ذكر أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ما يربو على ألفي تعريف للتصوف، ففي ترجمة كل إنسان من الذين ترجم لهم يقول في ترجمته يقال: أن التصوف هو كذا، فينزل ذلك على شخصية المترجم، فأتى بأكثر من ألفي تعريف للتصوف.
وهذه التعاريف في الغالب ترجع إلى بعض الأحوال أو المقامات السلوكية التي يصل إليها الإنسان في سلوكه، وتربيته الروحية، والفرق بين الأحوال والمقامات: أن الأحوال ما يعرض للنفس ويزول سريعاً ولا يثبت، مثل حال الخشوع حال الموعظة، هذا لا يمكن أن يكون دائماً مستمراً، وأما المقامات فهي ما يثبت فيه قدم الإنسان ويستقر فيه، كمقام الرضا، ومقام التوكل، ومقام الحب لله سبحانه وتعالى، ومقام الشكر، فهذه مقامات يمكن أن يعيش فيها الإنسان طيلة عمره، وأن يحيى فيها حياته ويموت عليها.
وإذا أردنا تعريفه بالمعنى الأشمل فنقول: إن علم السلوك هو العلم الذي تدرس فيه تربية النفوس، وتعرف فيه غوائلها، وأمراض القلوب ودواؤها، والفتن الباطنية والتترس منها، فهذه هي موضوع هذا العلم، ولذلك إنما يعرف العلم بموضوعه، والسلوك معناه السير على الطريق، يقال: سلك فلاناً الطريق، وانسلك في الطريق بمعنى: دخله واستمر عليه.
وكثير من الذين يتكلمون اليوم في علم النفس أو في التربية يغلطون في السلوك فيظنون أنه جمع سلك، فلذلك يؤنثون، يقولون: هذه سلوك غير مرضية وكذا؛ لأنهم لم يدركوا معنى الكلمة لغة في السلوك: هو السير في الطريق سلك الطريق، فاستمر على سلوكه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر