إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [43]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يمكن تعيين واضع لعلم التصوف والسلوك، وقد ظهر هذا العلم أيام التابعين على رأس المائة الثانية، كما أنه لم يفرد أحد هذا العلم بتأليف مستقل، لكن كثيراً من المحدثين ألفوا في الزهد والرقائق على خلاف الفقهاء فقد كانوا خصوماً للمتصوفة، وممن اهتم بالتأليف في هذ المجال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، كذلك اهتم به ابن الجوزي والهروي وغيرهم.

    1.   

    واضع علم السلوك والتصوف

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    بداية ظهور علم السلوك والتصوف

    بعد أن انتهينا من بيان حد وتعريف علم السلوك والتصوف، نأتي إلى واضع هذا العلم، فلا يمكن أن يعين له واضع بخصوصه، لكن أول ما ظهر كعلم كان في البصرة أيام التابعين على رأس المائة الثانية، وبداية العناية به كانت بأقوال الإمام الحسن البصري ومحمد بن سيرين ومن كان على شاكلتهما من أواسط التابعين، وقد توفي الحسن البصري ومحمد بن سيرين سنة مائة وعشرة للهجرة، توفيا في نفس السنة وبين وفاتهما مائة يوم تقريباً.

    وقد اشتهر كثير من المنقطعين للعبادة في البصرة إذ ذاك، وكان الناس يزورونهم لتذكيرهم بالله، كثير من أولئك المنقطعين للعبادة تظهر الحكمة وتجري على ألسنتهم، وتلك الحكمة لا تنسى إذا سمعت من أحدهم يتأثر بها سامعها، وينقلها وتبقى معه، ولهذا فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله عندما كان والياً على خناصرة بالشام مر به رجل كبير السن فرآه ضباً جميلاً، فقال: يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول، فأثرت هذه النصيحة في عمر تأثيراً بالغاً، فجعلها منهج حياته، فلقيه بعد ذلك فقال: عهدي بك بخناصرة ووجهك مضيء وفراشك وطيء، فقال: إني ذكرت تلك العقبة، ومنذ فارقتني وأنا أجتهد في قطعها.

    وقد كان الناس يرحلون إلى أولئك المنقطعين للعبادة كما يرحل في طلب الحديث، فكما كانت الرحلة في طلب الحديث كذلك كان كثير من الناس إذا شكوا قسوة، أو مرضاً من أمراض القلوب رحلوا إلى بعض المعروفين بالانقطاع للعبادة والزهد، فيسمعون منهم حكمة مؤثرة، وقد اشتهرت الثغور الشامية بوجود المنقطعين للعبادة، فقد كانت مكاناً مناسباً؛ لأن المستقر فيها أيضاً مرابط في سبيل الله في وجه العدو، والعبادة في الرباط أفضل بكثير من العبادة في الأماكن الأخرى، فاشتهرت ثغور ومنها جبل لبنان وما حوله، قد اشتهر قديماً بذلك، وكذلك بيت المقدس وما حوله ودمياط من مصر والإسكندرية، تلك المناطق اشتهرت بوجود هذا النوع من الناس في الزمان الأول.

    اعتناء المحدثين بجانب الرقائق والتأليف فيها

    ولم يفرد أحد من الأقدمين هذا العلم بتأليف مستقل، بل قد ألف كثير من المحدثين في الزهديات بعد هذا، فمنهم وكيع بن الجراح قد ألف كتاب الزهد وهو مطبوع، ومنهم هناد بن السري وقد ألف كتاب الزهد أيضاً وهو مطبوع، ومنهم عبد الله بن المبارك، وقد ألف كتاب الزهد والرقائق وهو مطبوع كذلك، ومنهم أسد السنة وقد ألف كتاب الزهد أيضاً، ومنهم أبو بكر بن أبي عاصم النبيل قد ألف كتاب الزهد، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل وقد ألف كتاب الزهد، ومنهم تلميذه أبو بكر الخلال وقد ألف كتاب الزهد، ومنهم أبو خيثمة زهير بن حرب شيخ مسلم وقد ألف كتاب الزهد، وكذلك أبو بكر بن أبي شيبة ألف كتاب الزهد أيضاً، ثم جاءت كتب ابن أبي الدنيا فجمعت كثيراً مما يتعلق بالرقائق، وهي كثيرة جداً، فمنها: كتاب العيال، وكتاب المنامات، وكتاب الكرامات، وكتاب الرؤى، وكتاب القناعة، وكتاب الخشوع، وكتب كثيرة جداً، لقد جمع بعضها الآن في موسوعة تسمى موسوعة ابن أبي الدنيا في خمسة مجلدات مطبوعة، وطبع بعضها مستقلاً ككتاب الخمول وكتاب العيال، وكتاب أهوال القيامة، وهذا الكتاب الذي كان سبب موته، قُرئ عليه كتاب الأهوال، فلما أسمعه القارئ بعض أهوال الساعة نشق وأغمي عليه ومات.

    وألف كذلك قبل هذا عبد الله بن وهب تلميذ مالك كتاب الأهوال أيضاً، وألف عدد الناس بهذا العنوان الذي هو كتاب الأهوال، وقد كان المحدثون يدرجون بعض ذلك في كتبهم، فـالبخاري رحمه الله في الصحيح وضع كتاب الرقائق، واعتنى البيهقي أيضاً بهذا الجانب، فله أيضاً كتاب الزهد، وله كتاب الدعوات الصغير، وكتاب الدعوات الكبير، وكتب أخرى من كتب البيهقي رحمه الله.

    وكذلك أفرد اللالكائي جزءاً مستقلاً من كتابه شرح أصول السنة لكرامات الأولياء، وقد طبع مستقلاً عن الكتاب، لكن من أهم الكتب التي اعتنت كثيراً بالتربية والسلوك كتاب الحافظ أبي نعيم الأصبهاني حلية الأولياء، هو كتاب في التراجم في الأصل، لكن تلك التراجم يؤخذ منها هذا المنهج عموماً، وقد هذبه أو اختار منه ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة، فهذا عن عناية المحدثين بهذا الجانب.

    أما الفقهاء فقد كانوا قديماً خصوماً للمتصوفة، والخصومة بينهم قديمة، فلذلك لم يعتنِ كثير من الفقهاء بتربية النفوس في كتبهم الفقهية، واعتنى بها كثيراً أصحاب الفلسفة والكلام.

    تأليف بعض العلماء كتباً تتعلق بعلم السلوك والتصوف

    ومن الذين خدموا هذا الباب الإمام أبو حامد الغزالي، قد ألف عدداً كبيراً من الكتب المهمة في جوانب السلوك المختلفة، وأهمها كتاب إحياء علوم الدين، الذي يقال فيه: كل الصيد في جوف الفراء.

    وقد قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يستغني عنه طالب علم، مع أنه حذر من مواقع منه لما فيه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لكن عموماً هذا الكتاب وضع الله عليه قبولاً عجيباً، فاعتنت به الأمة منذ ألف إلى وقتنا هذا، ووضع عليه كثير من الكتب، فألف العراقي كتاب المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج أحاديث الإحياء، وألف الزركشي كذلك تخريج أحاديثه، وألف محمد بن يعقوب الفيروزآبادي صاحب القاموس تخريج أحاديثه، وألف محمد مرتضى الزبيدي كتاباً أيضاً في تخريج أحاديثه، وشرحه بكتاب مستقل، وهو كتاب إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين، والكتاب لا شك من الكتب العظيمة المحتوية على كثير من المباحث الجليلة، وإن كان بعضها يدرس في علوم أخرى، لكن طول باع الغزالي وكان اطلاعه جعله يبدع في كثير منها كالحلال والحرام، فكتاب الحلال والحرام من الأبواب المهمة جداً في كتاب الإحياء، وإن كان هذا الباب ألف فيه بعض الفقهاء، وقد اعتنى به المالكية وألف فيه عدد منهم كتباً مستقلة، لكن الغزالي أبدع فيه، وقد أفرد كتاب الحلال والحرام وحده من الإحياء وطبع في كتاب صغير.

    وكذلك اعتنى بهذا الجانب من المتأخرين بعد هذا ابن الجوزي، فألف عدداً كثيراً من الكتب المتعلقة به، فمنها مثلاً: كتاب تلبيس إبليس، وتعرض فيه للزهاد من المتصوفة والفقهاء والمحدثين والقراء وغيرهم، على غرار كتاب الذهبي زغل العلم، وإن كان هو توسع فيه وذكر فيه الفرق من الشيعة والخوارج والمعتزلة، وله كتب أخرى تعتني بهذا الجانب.

    ومن الكتب المهمة أيضاً في هذا الباب كتاب الهروي الحنبلي، وقد هذبه ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين ومنازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين، وهذا الكتاب من أهم كتب التصوف عموماً؛ لأن ابن القيم رحمه الله ذو أسلوب مؤثر أيضاً، وقد هذب كلام الهروي، ففي كلام الهروي كثير من الأمور التي قد يلتبس فيها الحق بالباطل وقد يقع فيها الإشكال، وقد أخذ ذلك ابن القيم فهذبه ورتبه ونفى أكثر ما فيه من الأخطاء، ثم كان الشيخ أبو عمار عبد المنعم العلي حفظه الله، موفقاً حين أخرج منه فقط هذه الملازم في كتابه تهذيب مدارج السالكين.

    وللكبار من السابقين كتب كثيرة جداً تعتني بهذا الباب، ومنها كتب الشيخ عبد القادر الجيلاني، ومن أشهرها كتاب الغنية، وفيه كثير من الإشكالات، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية حاول التماس العذر له وشرح الإشكالات التي فيه، وحاول أن يؤولها على وجه يقترب من الصواب، وإن كان الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه كثيراً ما يتكلم في حال المحو لا في حال الصحو، أو قل: في حال الشطح فيقع منه إشكالات كبيرة جداً، مثل قوله: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله في السماء أو في الأرض، وغير ذلك من كلامه الذي حاول شيخ الإسلام أن يجد له مخرجاً بتأويل أو بالتماس عذر.

    وكتب الغزالي كثيرة جداً في هذا الباب، فإنه من المبدعين فيه، وابن القيم كذلك له كتب كثيرة تتعلق بهذا مثل عدة الصابرين ومثل بدائع والفوائد، ومثل الفوائد، ومثل إغاثة اللهفان، كلها تتعلق بعلم التصوف والسلوك.

    إذا أردنا أن نفصل القول في موضوع هذا العلم فإننا بالإضافة إلى الوجه الناصع المشرق الذي تحدثنا عنه فيما يتعلق بتربية النفوس وتزكيتها، وأطرها على الطاعة، وموافقة الشرع، سنجد جوانب أخرى فيها بعض الغموض والخفاء ولا تخلو من بعض الإشكالات الشرعية، فمن تلك الجوانب أننا ذكرنا أن الأصل أن الإنسان يسعى لتخليص نفسه من الأدران والاجتهاد في إتقان العبادة لله سبحانه وتعالى، لكن كثيراً ما تكون النتيجة هي أن يصل الإنسان بتلك العبادة إلى صفاء، يستشعر به أخطار الطريق، ويدرك به أحوال نفسه، بل يستطيع به تقويم الآخرين أيضاً، فتقوى نفسه حتى يكون ذا تأثير فيمن حوله، وتقوى بصيرته حتى يطلع على بعض الغيوب النسبية، ونحن نعلم أن الغيب ينقسم إلى قسمين: غيب حقيقي وهو مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وغيب نسبي معناه ما يكون غيباً بالنسبة لبعض الناس، ليس غيباً بالنسبة لغيرهم، فما كان في مجلسنا هذا غيب عمن لم يحضر، لكنه غيب نسبي؛ لأننا نحن عرفناه، وما كان في بطن الشاة غيب نسبي؛ لأن من لم يسلخها ولم يطلع على ما في بطنها فهو مغيب عنه، لكن من سلخها ورأى ما في بطنها زال عنه ذلك، وكذلك الاستكشاف بالأجهزة فالأشعة وغيرها ينكشف بها بعض ما هو من الغيب النسبي وهكذا.

    فالغيوب النسبية كما تكشف عن طريق الأجهزة، اليوم تكشف أيضاً عن طريق الصفاء الروحي، وهذا الذي يسمى بالكشف، ويحلو لبعض الناس أن يسميه إشراقاً روحياً.

    فإن لله سبحانه وتعالى عوالم كثيرة جداً وما يعلمها إلا هو سبحانه، وهذه العوالم تنقسم في مجملها إلى عالم الملك وعالم الملكوت، فعالم الملك فيما هو واضح من الأمور، وعالم الملكوت في المخفيات، وعالم الملكوت له بوابتان: بوابة عليا، وبوابة سفلى، فالبوابة السفلى هي التطلع المذموم على الغيبيات عن طريق الجن أو عن طريق الكهانة، أو التنجيم، أو علوم الشر أو غير ذلك، وهذه البوابة ممنوعة شرعاً، وهي فتنة وضعها الله للناس ولو شاء لسدها، كما كان الشياطين يستمعون إلى الوحي ويرجمون، وبقي هذا القدر عند الكهان يأتون بالكلمة الواحدة مما التقطوا فيضيفون إليها تسعاً وتسعين كذبة كما في الحديث.

    وكذلك من هذه البوابات: بوابات القراءة في كتب السابقين، ومنها كتب الباطنية كالجبر وغيره، أما البوابة العلياء فهذه لا ينبغي التطلع إليها، ولا ينبغي للعابد أن يريد بإحسان عبادته لله وقربه منه تقوية بصيرته، أو إشراق روحه، فإذا فعل لم يكن مخلصاً لله، وربما عوقب بالطرد فترة محددة، والسالك يستوعب التقريب والطرد بما لا يستوعبه غيره، السائر في الطريق ربما أصابته نكبة، فأدرك أنها خير له، وأنها تنبيه له عن أمر، وربما أطلع على سر لا يحل له إفشاؤه، وربما نبه أيضاً على نقص في نفسه وضعف لديه ليحاول علاجه، أو ليدرك به عظمة ربه، فهذه البوابة العلياء إنما تدخل من قبيل ما يسمى بالكشف الذي المقصود به فتح الباب للاطلاع على بعض الغيوب النسبية، التي ليست هي من قبيل الوحي المنزل المعصوم الذي خص الله به الأنبياء، بل هي بمجرد قوة البصيرة، ولا تقتضي جزماً ولا إيماناً، ولا يلزم الإنسان بالإيمان بما أطلع عليه من ذلك، لكن يمكن التصرف على أساسها في بعض الأحيان، فـأبو بكر رضي الله عنه قال لـعائشة رضي الله عنها عند موته: إنما هما أخواكِ وأختاك، فقالت: أما أخواي فـعبد الرحمن ومحمد، وأما أختاي فهذه أسماء فمن الثانية؟ قال: أرى ذا بطن بنت خارجة أنثى، فأنجبت أم كلثوم بنت أبي بكر بعد موته رضي الله عنه.

    وكذلك قال عمر: يا سارية الجبل الجبل، وكذلك قال عثمان حين دخل عليه الرجل: وما بال أحدكم يدخل علي وفي عينيه أثر الزنا، فقال أنس رضي الله عنه: أوحي بعد رسول الله، قال: لا، ولكنها بصيرة المؤمن، وهكذا فعدد من الصحابة رضوان الله عليهم كان يصلون إلى هذا القبيل، ومن ذلك ما ذكرنا من رؤية الملائكة وسماع أصواتهم، وأيضاً ما يحصل لهم من الحوار مع الجن وغير ذلك، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه حصل له من ذلك بعض ما ثبت عنه، وكذلك غيره كـعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

    وقد كثر هذا فيمن دونهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية لذلك علة عجيبة قال: إن الآيات الكونية التي تأتي من عند الله إنما تظهر حيث نقص الإيمان، فإذا ازداد الإيمان اكتفي بالآيات التشريعية أي: الوحي، وإذا نقص الإيمان جاءت الآيات الأخرى، ومن أمثال هذا ما كان يحصل في الأمم السابقة، ففي حال الجاهلية لم يكن أحد يستطيع الاعتداء في الحرم إلا جاءته قارعة عاجلة، هذا في حال الجاهلية والكفر، كما قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57]، وكما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، وقد كان الرجل من قريش إذا أراد أن يعصي خرج من الحرم، ولذلك قالت امرأة منهم:

    أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور

    الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور والله آمن طيرها والعصم تأمن في ثبير

    ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحرير يمشي إليها راجلاً بفنائه ألفا بعير

    أي: يمشي إليها حافياً بفنائه ألفا بعير، وحصل لهم من القصص في هذا الشيء الكثير جداً، فلما جاء الإسلام أصبح كثير من فسقة المسلمين يمارسون فسوقهم في مكة، فلا يأتي ما كان يعهده أهل الجاهلية من ذلك، وكذلك ما كان في الأمم السابقة، فقد كان يأتيهم من الآيات البينات الشيء الكثير، فالمعجزات التي تجري على أيدي أنبيائهم، كميلاد عيسى من غير أب، وإحيائه للموتى وإبرائه للأكمه والأبرص، ونفخه في الطين فيكون طيراً بإذن الله، ونزول المائدة له، هذه الآيات ليست مثل آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وإن كان بعضها مادياً، لكن لم تصل لكثرتها وتواترها إلى هذا الحد.

    كذلك فإن خوارق العادات التي ظهرت على أيدي الصحابة، وإن كانت موجودة, إلا أنها فيمن بعدهم أكثر، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الخوارق في أيام التابعين أكثر منها في أيام الصحابة، وأنها في أيام أتباع التابعين أكثر منها في أيام التابعين، وهذا بالاستقراء، وما ذلك إلا للحاجة إليها، ومن المعلوم أن خرق العادة إنما يكون بعادة أخرى لله، فالله سبحانه وتعالى له عادات في هذا الكون هي سننه، فكل عادة خرقها إنما يخرقها بعادة أخرى، فالطوفان خارق للعادة التي هي عادة سير الكون، لكنه عادة أخرى وهي عادة الله في الانتصار للمظلومين من أوليائه، فكل خارق هو خارق لعادة وهو عادة أخرى من وجه آخر.

    1.   

    أقسام الخوارق

    والخوارق سبعة أقسام، أربعة منها للخير وثلاثة للشر:

    خوارق الخير

    أما الأربعة التي هي للخير فهي:

    أولاً: الإرهاصات، التي تظهر على أيدي الأنبياء قبل بعثتهم، كميلاد عيسى من غير أب، وكما حصل لأهل مكة من رد الفيل عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكاستسقاء عبد المطلب به، فسقوا بعد قحط شديد، وأشار إلى ذلك أبو طالب في قصيدته حيث يقول:

    كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل

    ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

    وأبيض يستسقى الغمام بوجه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

    يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

    وكذلك ما شاهدته حليمة السعدية من الخوارق العجيبة في تربيتها للنبي صلى الله عليه وسلم، كذلك شق صدره في ذلك الوقت، فهذا ليس من المعجزات وإنما هو من الإرهاصات.

    النوع الثاني: وهي ما يجري على أيدي الرسل، مما يكون مصدقاً لنذارتهم ودعوتهم عند التحدي، كنزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وانشقاق القمر، وتكلم الجمادات بين يديه، واستجابة الشجر له إذا دعاه، وحنين الجذع، وكلام النعامة وكلام الضب، وتسبيح الحصى، وتكثير القليل، وجريان الماء من بين أصابعه، وغير هذا من المعجزات الكثيرة التي جرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم.

    كذلك النوع الثالث: كرامات الأولياء، هو ما يكرم الله به عباده المتقين الذين قد سلكوا طريق الهداية واستقاموا عليه، من تيسير الثبات على الإيمان، بتثبيت الملائكة لهم، فإن الملائكة تتنزل بالثبات على أولئك، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]، فيتنزل عليهم الملائكة بهذه الولاية فيوالونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

    ومنها كذلك تقويتهم على العبادات الشاقة التي لا يطيقها أواسط الناس بل ولا أقوياؤهم في بعض الأحيان، فتجد الشيخ الكبير الضعيف يتوضأ في الشتاء ويغتسل ويشهد الصلوات لا تفوته تكبيرة الإحرام، ويوفق للطاعات العجيبة وتجد الضعيف الفقير أيضاً يصل إلى المقامات العلية في الجهاد في سبيل الله وهكذا، فهذه كلها من الكرامات.

    ومنها كذلك ما يعلمهم الله من العلوم اللّدنية، التي هي من لدنه سبحانه وتعالى دون أن يجهدوا أنفسهم في العناء في تعلمها.

    ومنها كذلك ما يحفظ الله به جوارحهم من المعصية، فإن نفوسهم قد تدعوهم إلى الوقوع في المعصية فيحال بينهم وبينها كرامة أكرمهم الله بها، وأعرف بعض من يحاول المعصية فيحال بينه وبينها، ولا يستطيع الوقوع فيها، مع أنه نفسه تدعوه إليها ويحاولها، لكن جرب أنه لا يستطيع الوقوع فيها.

    وكذلك من هذه الكرامات أيضاً ما يجري الله على أيديهم من الأرزاق غير المتوقعة، كحال ذلك الذي كان على راحلته وعليها زاده ومتاعه فنفرت منه، فتبعها حتى إذا أيس من نفسه أوى إلى شجرة وقال: لعلي أموت عندها، فبينما هو كذلك إذا راحلته عنده فأمسك بخطامها أو بزمامها.. إلى آخر الحديث.

    والرزق من غير سبب يدخل في هذا كما جرى لـخبيب بن عدي رضي الله عنه عندما حبسه قريش، فكانت الأرزاق تأتيه ويوضع بين يديه الطبق من العنب وليس بمكة عنب إذ ذاك، ويوضع له الرطب وليس الوقت وقت رطب وهكذا، ومكة ليس فيها رطب، ومثل هذا ما حصل لـمريم بنت عمران عليها السلام، فقد قال الله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].

    النوع الرابع: وهو الأخير من اللواتي للخير، وهو العون وما يناله العبد المؤمن لا بشرط الولاية والاستقامة، ولو لم يبالغ في العبادة، ولو لم يسلك طريق الاستقامة، فكثيراً ما ينعم الله عليه بأنواع النعم الخارقة للعادة، فيأتيه الفرج بعد الشدة من حيث لا يحتسب، يلهم أمراً فيكون مصلحة له، فهذا النوع أيضاً من العون الكثير، وأعرف بعض من ليس من الملتزمين ذكر أنه اشتدت حاجته ذات يوم إلى النقود، وكان فقيراً وهو من أواسط المسلمين وليس من الصالحين ولا من الفساق أيضاً، ففتح كتاباً كان يقرأ فيه وكان طالب علم فوجد فيه نقوداً سد بها حاجته من غير أن يتسبب بذلك.

    وهذه الكرامات أو العون قد تكون في ذات الشخص، وقد تكون في غيره، فقد بين الله سبحانه وتعالى في قصة موسى والخضر أن اليتيمين إنما نالا ذلك الإكرام بسبب صلاح أبويهما: كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، فقد لا يكون الإنسان مكرماً بذلك في نفسه، لكن يكرم به أبوه أو جده وهكذا.

    وأعرف طفلاً قد خرج مع الأطفال في يوم شديد الحر صائف فاشتد السموم وضاعوا ولم يعرف أين ذهبوا، والتمسوا شهراً والناس يبحثون عن أولئك الصبية، فوجد بعضهم موتى في أماكن مختلفة، وبعد شهر وجد هذا الصبي يعيش تحت الشجرة في وقت الصيف مدة شهر كامل، من أول يوم وهو تحت تلك الشجرة فلما سئل قال: كل ليلة تأتيني أمي بقدح من اللبن فعشت بهذا، فسألوا أمه، فإذا هي كل ليلة تتصدق عنه بذلك القدح في ذلك الوقت فيصل إليه مثله.

    خوارق الشر

    أما التي للشر فمنها السحر وما يشبهه من الكهانة والتنجيم، ومنها كذلك الاستدراج وهو ما يعجله الله لأعدائه مما ي

    غرهم ويستدرجهم به ويملي لهم، وذلك من كيد الله عز وجل: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183].

    ومنها كذلك الإهانة وهي ما يكون على عكس الدعوى، فمن ادعى الرسالة، فطلب معجزة من المعجزات جاءه خرق عادة على غير ما طلب، كـمسيلمة الكذاب فإنه سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق في بئر كانت ملحاً فصارت عذباً فبصق هو في بئر كانت ملحاً فيبست، وسمع أنه مسح على رأس صبي فلم يشب، فمسح هو على رأس صبي فقرع، فهذا النوع يسمى إهانة؛ لأنه عكس الدعوى وعكس المطلوب، وإن كان خارقاً للعادة، فالأصل أن المسح على رأس الصبي لا يؤدي قرعاً، والبصق في البئر لا يقتضي يبساً لها، لكنه خارق للعادة على وجه الإهانة نسأل الله السلامة والعافية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767956817