إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [47]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المزالق التي وقع فيها المتصوفة أنهم عندما رأو طول طريق الحق بحثوا عما هو أيسر من ذلك وأقصر طريق لرياضة النفوس، فترجموا بعض علوم الهنود كاليوجا واليازجا وغيرها، واشتغل كثير منهم بالسيمياء والكيمياء وأسرار الحروف، وخلطة الجن والتنجيم والكهانة؛ ليظهروا مخارق وخوارق العادات. ومن مزالقهم أنهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو مفتاح الكون كله فمنه يستمد كل التصرف وكل خير في الأرض. ومن مزالقهم ما يروجونه بوضع أحاديث وأسانيد باطلة واهية لا أساس لها مثل الخرقة، والأوراد فكل شيخ يستحسن ورداً وطريقة ومع ذلك ينسبه بالسلسلة والإسناد إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي أسانيد باطلة كلها.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فلا زلنا عند ذكر بعض المزالق التي يقع فيها المتصوفة، فنذكر هنا أن من المزالق العظيمة أن كثيراً منهم استعجلوا في الطريق فرأوا أن هذه العبادة والتمسك بالسنة والسير على طريق الحق ربما يحتاج إلى وقت طويل وجهد وعناء؛ فبحثوا عما هو أيسر من ذلك وأقصر طريقاً لرياضة النفوس فترجموا بعض علوم الهنود كاليوجا واليازجا وغيرها، واشتغل كثير منهم بالسيمياء والكيمياء وأسرار الحروف، وخلطة الجن والتنجيم والكهانة؛ ليظهروا مخارق وخوارق العادات، ويخبروا بمغيبات عن طريق الجن أو التنجيم أو الكهانة أو العرافة أو غير ذلك مباشرة دون أن يجهدوا أنفسهم في العناء في العبادة والمجاهدة، وقد كثر ذلك منهم؛ ففي الأزمنة المتأخرة يندر أن ترى شيخاً من شيوخ التصوف ليس لديه شيء من السحر أو من الدجل والكهانة، أو على الأقل من أسرار الحروف وعلم السيمياء والطلسمات، هذا لا يمكن أن يوجد لدى متأخرة المتصوفة من وصل إلى مقام الشيخ وليس لديه شيء من هذه العلوم.

    ولذلك انتقد عليهم كثير من المشايخ في هذه الوجهة فيقول الشيخ بابا ابن الشيخ سيدي رحمه الله:

    آكل مال الناس بالباطل مزخرف القول بلا طائل

    وميلهم عن سنة المصطفى إلى سبيل البدعة المائل

    محصل المال بلا فترة في جمعه المانع للحاصل

    عجلان في حظ له عاجل كسلان في منفعة الآجل

    هذا هو المعروف في دهرنا بين الورى بالعارف الكامل

    يزهو إلى زخرفه عاقل كأنه من ليس بالعاقل

    ووقعة العالم في فخه شبيهة بوقعة الجاهل

    اتسع الخرق على راقع واختلط الحابل بالنابل

    هذا وبالتوحيد عنوانه إسناده الفعل إلى الفاعل

    ويقول أيضاً، وهو النشيد الوطني لموريتانيا:

    كن للإله ناصراً وأنكر المناكرا

    وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائراً

    ولا تعد نافعاً سواءه أو ضائراً

    واسلك سبيل المصطفى ومت عليه سائراً

    فما كفى أولنا أليس يكفي الآخر

    وكن لقوم أحدثوا في أمره مهاجراً

    وزعموا مزاعماً وسودوا دفاتراً

    واحتنكوا أهل الفلا واحتنكوا الحواضر

    وإن دعا مجادل في أمرهم إلى مرا

    فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً

    وكذلك يقول:

    آمن أخي واستقم ونهج أحمد التزم

    واجتنب الطرق لا تغررك أضغاث الحلم

    لا خير في دين لدى خير القرون قد عدم

    حدثه من لم يجئ قطع بأنه عصم

    من بعد ما قد أنزلت اليوم أكملت لكم

    وبعد ما صح لدى جمع على غدير خم

    وادع إلى سبيله وخص في الناس وعم

    وقل إذا ما أعرضوا عليكم أنفسكم

    ويقول جدي محمد مولود رحمه الله:

    فعد وسل الهم عنها فإنما حمى السنة البيضاء همي ومقصدي

    تفسخ منها أهلها وتواكلوا رعايتها فاغتالها كل معتد

    تسمى لنا باسم الولي جهالة وإن تتفقد وصفه فيه تفقد

    غوي مبين يأتلي لعلى هدىً أما والهدايا إنه غير مهتد

    وأي ولي كان أطيب كسبه رشا نزوات بين آمٍ وأعبد

    يروح ويغدو في المحارم دائباً دءوب مغذ في الغواية مسئد

    يدور به ما يشتهي من نواعم ميامس وقح بين عون ونهد

    تمتع قليلاً ويك إنك مجرم فما لك من لذواء لدى المضجع الردي

    أفسقاً بواحاً وادعاء ولاية ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد

    ألم يعلموا أن الولي هو الذي تولاه مولاه بنصر مؤيد

    فقام بأمر الله يحمي ويحتمي ويهدي إلى قصد السبيل ويهتدي

    ولم يتخذ لهواً مدى الدهر دينه ولا لعباً بل عارف الحق من دد

    فباطنه سر مصون عن الورى وظاهره نور مبين لمقتد

    ولا كالأولى يغنيك إن جئت لحظهم عن اللفظ فانظر واصدق القصد تسعد

    وهم أصفياء الله من أصفيائه وهم جلساء الله في كل مقعد

    ألا وا أمير المؤمنين لأمة على أمة ليست بأمة أحمد

    هم وضعوا فيها أحاديث لم ترد عن الرسل إلا عن سجاح وأسود

    فليس ابن مسعود لهم بمساعد عليها ولا سهل بن سعد بمسعد

    وقد فرق الفاروق في الدين فرقه فأية دعوى يدعي الجاهل الردي

    فأغووا بها غوغاء تحسب غيهم من الرشد ما إن تعرف الأمس من غد

    خداعاً لهم عن مالهم فتفوقوا بها ما لديهم من طريف ومتلد

    وأيدهم من ليس يخشى من الذي بناها بأيد فوقه بطش أيد

    يريد وأنى للدني مرامه ليغلب دين اللات دين محمد

    أماني عند الزاهرات تسوقهم إلى الحتف فاردي شيعة الغي وابعدي

    وتبدي إليهم بالمودة فرقة رجاء لنصر منهم لم يؤيد

    وأدهن أهل الرشد أو غاب عنهم هداهم فهم في حيرة وتردد

    فذو الرشد يهديهم إليه كمبصر مع العمي أو مستيقظ بين هجد

    فلم تر منهم زاجراً عن غواية ولا مكفهر الوجه في وجه ملحد

    دعوت وغربت الدعاء لو أنني دعوت سميعاً أو مصيخاً لمرشد

    وأنذرتكم صماء إن لم تصبكم تحل قريباً منكم وكأن قد

    وقد كنت والمستغفر الله مدهناً فقدني من الإدهان في غيهم قد

    هم الرجس فاحذرهم مقالة معرب فصوب بها ما شئت عني وصعد

    وهبكم مجيريهم وبالعز جاره عزيز عزيزاً جاركم لم يصرد

    أترضون أن يلقى أخ الغي ضارباً لديكم بأعطان الخنا لم يقرد

    وما حقه إلا نكالاً ومن يزغ عن الرشد من أوزاغكم لا يفند

    وأن تجزروا المفتون عن هفواته ويطرد من باحاتكم كل مطرد

    فلو أدركوا خير الورى لأبادهم بضرب طلفح أو بطعن مشرد

    ولو أدركوا أصحابه لتجللوا سلاسل حدبار من الشر أنكد

    وأقسم براً ايمناً لو تنالهم يدي لأقرت عين أعدائهم يدي

    فمعذرة مني إلى الله إذ يرى هواني وعند الله غيبي ومشهدي

    وإني وربي ناصري إن نصرته على كل من يبغي علي ويعتدي

    لآوي إلى ركن شديد وإصرة فلا تحسبن الله مخلف موعد

    هذا لـمحمد بن عبد الودود بن أحمد بن عبد الله الحاج، الجد الرابع لي.

    وقد أنكر عليه كثير من معاصريه، بل رأى أحدهم إباحة دمه، وأفتى بذلك فرد عليهم بقصيدة مشهورة يقول فيها:

    نح عن مدرج الشباب المشيب وتجنب بها الصباء والنسيب

    وتعلم أن الصبابة والقهوة واللهو والغزال الربيب

    سبل سددت عليك إذا ما رحت من بردة الشباب سليباً

    يا عذيري من العذاراى دعتني عنها قد سمعت شيئاً عجيباً

    بل عذيري أمام من خصم سوء لا يراني إذا أصبت مصيباً

    عاب من غيه وأنكر أنا أنكرت مستنكراً وعبت معيباً

    خالني خلت مثله الخزز الضيغم ذا المحك والزئير الضغيب

    وأحاجيك والأريب يحاجى وعسى إن سئلت أن لا تجيب

    أي دين به بريت لنحري أسهم الطعن مشهداً ومغيباً

    إن تهيبتهم ترى ذاك حزناً فليكن حزم أن أكون مهيباً

    أو جهلت الصواب فاسأل حكيماً لب من لا يزال يقف لبيبا

    أو تفرست فالفراسات منها لو تأملت ما يكون كذوبا

    عبدت أمة بها الشمس والأوثان أخرى بها وأخرى الصليب

    كلهم إذ تفرسوا لم يصيبوا وتفرست تخشى أن لا تصيب

    فاحترس أن تصاب مني بداء لو تريه الطبيب أعيا الطبيب

    لا ترى للذي أروح وأغدوا فيه من محمل الصواب نصيب

    ورأيت الذين يسعون في الأرض فساداً يخادعون الرقيب

    كل طرد به عليهم تجلى ذو الجلال ادعوا به التقريب

    فرأوا قبحه جمالاً وشموا نتنة والعياذ بالله طيبا

    فتأولت واحترست وكنت الحازم الجند والأديب الأريب

    طلب الحق غربة لا أراني إن طلبت الصواب إلا غريب

    كذلك من مزالقهم الخطيرة أنهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو مفتاح الكون كله فمنه يستمد كل التصرف وكل خير في الأرض، وهذا على نظير ما كان لدى المجوس الأقدمين فكانوا يرون من عهد ماني أن العالم ينقسم إلى مرجعيتين إحداهما مرجعية الخير ويسمون إله الخير بالنور، والأخرى مرجعية الشر ويسمون إله الشر بالظلمة، وقد قال أبي الطيب المتنبي:

    وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب

    فهم يزعمون هذا في النبي صلى الله عليه وسلم ويغلون في شخصه، ويكثر شعراءهم من الغلو فيه الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر القصائد التي فيها بعض الغلو قصيدة البوصيري الميمية، فـالبوصيري من أكابر الشعراء النوادر في العالم الإسلامي، وهو مبدع جداً من الناحية الشعرية، وأيضاً مستواه اللغوي والعلمي حتى في علوم الشريعة مستوىً راق ولكنه مع ذلك أصيب بهذه اللوثة فحصل منه بعض الغلو في بعض الجوانب، وقد اشتهرت قصيدته هذه الميمية، التي تسمى بالبردة، فغيرت من مسار المدائح النبوية، فقد كان الناس في كل عصر يمدحون رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصحابة والتابعون وأتباعهم، كل عصر اشتهر فيه عدد من الشعراء الذين يثنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الشريعة الإسلامية، لكن لما جاء البوصيري أخذت المدائح منحىً آخر كان فيها كثير من الغلو، وتتفاوت قصائده هو في هذا الغلو لكنه اشتهر هو به، وتبعه عليه أبو مدين الجزائري الذي يشتهر عند الصوفية بـأبي مدين الغوث، والبرعي اليمني الذي اشتهر بذلك أيضاً، ومن أشهر قصائد أبي مدين الغوث في هذا المجال قصيدته التي يقول فيها:

    لا أرسل الرحمن أو يرسل من رحمة تصعد أو تنزل

    في ملكوت الله أو ملكه من كل ما يختص أو يشمل

    إلا وطه المصطفى عبده نبيه مختاره المرسل

    واسطة فيها وأصل لها يعلم هذا كل من يعقل

    ونظير هذا كثير في أشعارهم وأقوالهم؛ فهذا من مزالقهم العظيمة.

    وعموماً فإن الناس بعد أن حصل هذا الغلو في جانب، وأيضاً الخير الكثير في الجانب الآخر بقيت المواقف من التصوف ذات تجاذب؛ فمن رافض له مطلقاً أدى به رفضه إلى تعطيل جانب من جوانب الدين لا غنى للمسلم عنه، وهو جانب التزكية ومجاهدة النفس ومصابرتها على الحق؛ ولذلك فأصحاب هذه المنهج دائماً أهل قسوة وغلظة، وفي المقابل أيضاً الذي يريد أخذ التصوف بحذافيره بكل ما فيه من الصدق والكذب والحق والباطل سينزلق في هذه المتاهات العقدية العظيمة التي ذكرناها، وكلها باطلة فلابد من التوسط إذاً بين الجانبين، بأن يعرف أن هذا العلم الكبير الضخم والتراث العظيم فيه ما هو صواب وفيه ما هو خطأ ولابد من تنقية، وتصفية، فما كان موافقاً للشرع مقبولاً فيه فهو منه، وما كان مخالفاً له فهو مردود على صاحبه؛ ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ).

    كذلك من مزالقهم التي هي دون ما سبق ما يتعلق بالبدع العملية، وهي غير البدع العقدية، وهذه أقسام؛ فمنها ما يروجونه بوضع أحاديث وأسانيد باطلة واهية لا أساس لها مثل الخرقة، التي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبسها علياً وأن علياً ألبسها الحسن البصري والواقع أن الحسن البصري ما روى بالاتصال عن علي أي شيء، ثم لا يزال مشايخهم يتناقلونها فيما بينهم بالإسناد.

    ومنها كذلك الطرق نفسها والأوراد فكل شيخ يستحسن ورداً وطريقة ومع ذلك ينسبه بالسلسلة والإسناد إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي أسانيد باطلة كلها، وإن كانت هذه الأذكار في أصلها في جمهورها وأغلبها كانت مقبولة شرعاً، فالورد القادري والورد الشاذلي، حتى الورد التيجاني وغيرها من الأوراد أغلبها أذكار مقبولة شرعاً، ليس فيها ما لا يفهم، مثلاً الورد الشاذلي هو أن يبدأ الإنسان فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، ثلاثاً ثم يقول: لبيك اللهم وسعديك ثلاثاً، ثم يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله إلى يأتي بمائة، ثم يقول: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] ثلاثاً، ثم يقول: لبيك اللهم، وسعديك ثلاثاً، ثم يقول: اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مائة، ثم يقول بعد ذلك: اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41] ثلاثاً، ثم يقول: لبيك اللهم وسعديك ثلاثاً، ثم يقول: لا إله إلا الله حتى يكمل مائة فيقول: سيدنا محمد رسول الله إلى أن يكمل الألف، هذه هو أصل الورد الشاذلي، وقد زاده كثير من المشايخ بتحسينات وإضافات مثل لا إله إلا الله الملك الحق المبين مائة، (سبحان الله وبحمده) مائة، (يا باقي) مائة، (يا لطيف) مائة وتسعة وعشرين، على حساب جمل كلمة (لطيف) وهكذا.

    وهذه الأوراد يزيدها بعض المشايخ مما شاء مثل قراءة بعض السور من القرآن، عدد من الركعات كذلك، وكثيراً ما تؤتى تعتمد على أحاديث موضوعة، أو واهية ضعيفة جداً، ومع ذلك فهذا الجانب أقل ضرراً من سابقه، وإن كان فيه بدعة، لكنها بدعة إضافية في أغلبها، لا تصل إلى حد البدعة الحقيقية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088547435

    عدد مرات الحفظ

    777255459