إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أعلى الله منزلة العلم ومنزلة أهله وشرفهم، وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته وأنهم وحدهم المؤهلون للتلقي عنه وفهم كلامه، وطلبه عبادة من أفضل العبادات، ويشترط للوصول للعلم سبعة شروط: التغرب، والتواضع، والورع، والجوع، وإدراك أهمية العلم، ومعصية الهوى، والعمل به.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير، والعلم كله من عنده فهو أعلم، وقد أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للناس ليعلموهم ما هم بحاجة إليه مما يصلح دينهم ودنياهم، فأنزل عليهم الكتب المتضمنة لما يحتاجه الناس من العلم، وهذا الذي أنزل إلى الناس لا يساوي إلا شيئاً يسيراً من علمه سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال في خطابه للناس: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].

    فعلى كثرة ما أنزل من العلم وتشعبه واستكثار الناس له وتوسعهم فيه لا ينقص شيئاً من علم الله سبحانه وتعالى ولا يساوي أي شيء منه.

    وهذا العلم الذي أنزله لم ينزله ليكون ميدان مجاراة ومنافسة بين الناس، ولا ليكون كذلك مما يتزين به المتزينون ويفتخر به المفتخرون، ولم ينزله كذلك ليكون ملهاة للأوقات ومشغلة للنفوس، وإنما أنزله ليعمل به، فكل علم لا يترتب عليه عمل فالأصل أنه لا نفع فيه، ولا ينبغي أن يشتغل به العاقل؛ لأن العمر قصير، ووقت الإنسان أثمن من أن يضيعه فيما لا يصحبه عمل؛ لأن الذي يوزن يوم القيامة هو الأعمال لا العلوم، فالميزان يوم القيامة إنما توضع فيه الأعمال سواءً كانت صالحة أم سيئة وتوزن بمقاييس الذر، وإذا رأى الناس ذلك فإن ذلك اليوم الذي توزن فيه الأعمال يجعل الولدان شيباً، عندما يروون وزن الأعمال بمقاييس الذر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8].

    وقد أعلى الله سبحانه وتعالى منزلة هذا الإنسان فجعله مدعاة للرفع في الدنيا والآخرة؛ ولذلك فإن منزلة أهل العلم عند الله سبحانه وتعالى عالية، فقد أشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18].

    وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته فقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

    وأخبر أنهم وحدهم هم المؤهلون للتلقي عنه وفهم كلامه، فقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

    وأخبر أنه يرفعهم درجات في الدنيا والآخرة فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

    وقد نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بمكانتهم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العلماء ورثة الأنبياء )، وصح عنه أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، وصح عنه من حديث عثمان في صحيح البخاري أنه قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).

    وكذلك ضرب المثل للمتعلم المعلم وللمتعلم الذي لا يستطيع أن يعلم وللمعرض بما أخرجه البخاري من حديث أبي موسى: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً ).

    وبين صلى الله عليه وسلم أن هذا العلم لا ينال إلا بالتعلم فيما أخرج عنه البخاري تعليقاً ووصله ابن أبي عاصم في كتاب السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ).

    وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الله يختار لهذا العلم أقواماً من كل أهل زمان فهم شهوده الذين يشهدون على أهل زمانهم، وهم عدوله الذين يحملون وحيه، ولم يكن الله ليجعل وحيه بدار هوان، فهذا الوحي هو خيرة ما في هذه الأرض، ولم يكن الله ليختار عليه أمناء أهل تفريط لا يصلحون لهذا المستوى، بل يختار من الناس خيرهم لهذا الوحي الذي هو خير من في الأرض.

    ومن اختاره الله لأن يكون من أمنائه على وحيه فقد شرفه تشريفاً عظيماً؛ ولذلك ذكر البخاري عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون: (ما ينبغي لمن معه شيئاً من هذا العلم أن يضيع نفسه)، والمقصود بتضييع نفسه أمور متعددة منها:

    أن لا يعمل بعلمه؛ لأن ذلك الضياع في الدنيا والآخرة.

    ومنها: أن يتذلل للآخرين، وأن يكون خادماً لهم فيسلبه لذلك مكانته وعلمه.

    ومنها: أن يعتزل الناس ويدع تعليم العلم الذي اؤتمن عليه، فهذا تضييع لنفسه وما عنده من العلم.

    وأمانة الله سبحانه وتعالى قد أخذ العهد والميثاق على من أتمنه عليها أن يبلغ ما أؤتمن عليه، وذلك الوعيد الشديد في حق من لم يفعل وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن من كتم علماً ألجم يوم القيامة بلجام من نار ).

    وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبليغه، فقد صح عنه في الصحيحين أنه قال: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب ورب مبلغ أوعى من سامع )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم فيما أخرج أصحاب السنن من حديث ابن مسعود وذكر السيوطي وغيره من المتواترات أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ).

    ومن استطاع أن يلتحق بهذا الركب وأن يسلك هذا الطريق فلم يفعل ذلك فهو أخسر الناس صفقة؛ لأنه مكن له في خير ما في الأرض فاشتغل بما دونه، وقد قال الله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، فخير ما في الأرض هو هذا الوحي المنزل من عند الله، ومن استطاع أن يكون من أهله وأن يكون من أمناء الله عليه ففرط في ذلك فقد خسر الصفقة؛ ولذلك فهو يغني عن ما سواه ولا يغني عنه ما سواه، فمن اشتغل بجمع العلم وخدمته فإن الله تكفل له بما يكفيه في الدنيا، وقد جاء في الحديث: ( إن لله تكفل لطالب العلم برزقه ).

    وهو كذلك عبادة لله، هو عبادة لله حتى لو لم يعمل به الإنسان إذا نوى العمل به وحفظه على الناس؛ ولذلك سئل أبو عبد الله مالك بن أنس عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة في أي عبادة يصرفها؟ قال: علم يتعلمه، قيل: يا أبا عبد الله! إنه لا يعمل به، قال: تعلمه أفضل من العمل به.

    وقال الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمه الله: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة) فكان يرى أن اشتغال المشتغلين بالعلم خير من اشتغال القائمين الذين يقومون الليل كله.

    ولهذا قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:

    والعلم خير من صلاة النافلة فقد غدا الله برزق كافله

    وقد أخرج البيهقي في السنن، وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد، والحافظ البغدادي في شرف أصحاب الحديث من أحد عشر طريقاً وذكر عن الإمام أحمد تصحيحه من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ).

    لكن هذا العلم الذي ذكرنا مزيته وشرفه ليس كل من اشتغل به أو أحرز بعضه ينال هذه المنزلة أو هذا الشرف، بل لابد لذلك من منهجية ومن طريقة تكون متزنة يوازن فيها الإنسان بين العلم والعمل، ويوازن فيها كذلك بين أنواع العلوم ومقاصدها ووسائلها، ويوازن فيها كذلك بين النتائج التي يتوخاها، والجهد الذي يبذله، فالتوازن مطلوب شرعاً في كل الأمور والاعتدال مطلوب فيها، والغلو في العلم بأن يكون الإنسان لا بغية له ولا هم إلا الاشتغال بتتبع شوارد العلم ونوادره هذا يجعل الإنسان غير متزن ولا بد أن يصاب بغلو والذي يصاب بالغلو فقد اتبع خطوة من خطوات الشيطان، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].

    وكذلك من أعرض عن هذا العلم أو رأى غيره أفضل منه كالذي يشتغل بالدعوة عن العلم ويهمل العلم بالكلية، أو يشتغل بجمع المال عن العلم، ويكتفي منه بأقل القليل، فهذا أيضاً لديه تفريط والتفريط أيضاً من خطوات الشيطان وهو ضد الإفراط السابق.

    وكذلك من اشتغل بعلم واحد من العلوم وركز اهتمامه كله بذلك العلم فسيصاب بإفراط فيه والتفريط فيما سواه، وسيفقد التوازن؛ لأن العلم كله من عند الله وبعضه يكمل بعضاً ويتممه؛ ولهذا فإن جناية المناهج في زماننا هذا على العلم هي بالتخصصات التي جعلت الإنسان يدرس جزئية واحدة يتعمق فيها ويهمل ما سواها فيكون بليداً في الأمور الأخرى التي هي من شروط الإنتاج لذلك الشكل الذي يشتغل به، فإذا لم يأت بالشرط لا يمكن أن يأتي بالمشروط.

    وكذلك فإن من ما يحذر منه في هذا الباب أن كثيراً من الناس لا يأخذ في العلم الأدوات والشروط فيريد أن يكون عالماً وأن يقفز المسافات، ويسلك لذلك سبلاً غير موصلة إليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088540433

    عدد مرات الحفظ

    777218094