الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير، والعلم كله من عنده فهو أعلم، وقد أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للناس ليعلموهم ما هم بحاجة إليه مما يصلح دينهم ودنياهم، فأنزل عليهم الكتب المتضمنة لما يحتاجه الناس من العلم، وهذا الذي أنزل إلى الناس لا يساوي إلا شيئاً يسيراً من علمه سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال في خطابه للناس: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
فعلى كثرة ما أنزل من العلم وتشعبه واستكثار الناس له وتوسعهم فيه لا ينقص شيئاً من علم الله سبحانه وتعالى ولا يساوي أي شيء منه.
وهذا العلم الذي أنزله لم ينزله ليكون ميدان مجاراة ومنافسة بين الناس، ولا ليكون كذلك مما يتزين به المتزينون ويفتخر به المفتخرون، ولم ينزله كذلك ليكون ملهاة للأوقات ومشغلة للنفوس، وإنما أنزله ليعمل به، فكل علم لا يترتب عليه عمل فالأصل أنه لا نفع فيه، ولا ينبغي أن يشتغل به العاقل؛ لأن العمر قصير، ووقت الإنسان أثمن من أن يضيعه فيما لا يصحبه عمل؛ لأن الذي يوزن يوم القيامة هو الأعمال لا العلوم، فالميزان يوم القيامة إنما توضع فيه الأعمال سواءً كانت صالحة أم سيئة وتوزن بمقاييس الذر، وإذا رأى الناس ذلك فإن ذلك اليوم الذي توزن فيه الأعمال يجعل الولدان شيباً، عندما يروون وزن الأعمال بمقاييس الذر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8].
وقد أعلى الله سبحانه وتعالى منزلة هذا الإنسان فجعله مدعاة للرفع في الدنيا والآخرة؛ ولذلك فإن منزلة أهل العلم عند الله سبحانه وتعالى عالية، فقد أشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18].
وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته فقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
وأخبر أنهم وحدهم هم المؤهلون للتلقي عنه وفهم كلامه، فقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].
وأخبر أنه يرفعهم درجات في الدنيا والآخرة فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وقد نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بمكانتهم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العلماء ورثة الأنبياء )، وصح عنه أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، وصح عنه من حديث عثمان في صحيح البخاري أنه قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).
وكذلك ضرب المثل للمتعلم المعلم وللمتعلم الذي لا يستطيع أن يعلم وللمعرض بما أخرجه البخاري من حديث أبي موسى: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً ).
وبين صلى الله عليه وسلم أن هذا العلم لا ينال إلا بالتعلم فيما أخرج عنه البخاري تعليقاً ووصله ابن أبي عاصم في كتاب السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ).
وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الله يختار لهذا العلم أقواماً من كل أهل زمان فهم شهوده الذين يشهدون على أهل زمانهم، وهم عدوله الذين يحملون وحيه، ولم يكن الله ليجعل وحيه بدار هوان، فهذا الوحي هو خيرة ما في هذه الأرض، ولم يكن الله ليختار عليه أمناء أهل تفريط لا يصلحون لهذا المستوى، بل يختار من الناس خيرهم لهذا الوحي الذي هو خير من في الأرض.
ومن اختاره الله لأن يكون من أمنائه على وحيه فقد شرفه تشريفاً عظيماً؛ ولذلك ذكر البخاري عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون: (ما ينبغي لمن معه شيئاً من هذا العلم أن يضيع نفسه)، والمقصود بتضييع نفسه أمور متعددة منها:
أن لا يعمل بعلمه؛ لأن ذلك الضياع في الدنيا والآخرة.
ومنها: أن يتذلل للآخرين، وأن يكون خادماً لهم فيسلبه لذلك مكانته وعلمه.
ومنها: أن يعتزل الناس ويدع تعليم العلم الذي اؤتمن عليه، فهذا تضييع لنفسه وما عنده من العلم.
وأمانة الله سبحانه وتعالى قد أخذ العهد والميثاق على من أتمنه عليها أن يبلغ ما أؤتمن عليه، وذلك الوعيد الشديد في حق من لم يفعل وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن من كتم علماً ألجم يوم القيامة بلجام من نار ).
وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبليغه، فقد صح عنه في الصحيحين أنه قال: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب ورب مبلغ أوعى من سامع )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم فيما أخرج أصحاب السنن من حديث ابن مسعود وذكر السيوطي وغيره من المتواترات أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ).
ومن استطاع أن يلتحق بهذا الركب وأن يسلك هذا الطريق فلم يفعل ذلك فهو أخسر الناس صفقة؛ لأنه مكن له في خير ما في الأرض فاشتغل بما دونه، وقد قال الله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، فخير ما في الأرض هو هذا الوحي المنزل من عند الله، ومن استطاع أن يكون من أهله وأن يكون من أمناء الله عليه ففرط في ذلك فقد خسر الصفقة؛ ولذلك فهو يغني عن ما سواه ولا يغني عنه ما سواه، فمن اشتغل بجمع العلم وخدمته فإن الله تكفل له بما يكفيه في الدنيا، وقد جاء في الحديث: ( إن لله تكفل لطالب العلم برزقه ).
وهو كذلك عبادة لله، هو عبادة لله حتى لو لم يعمل به الإنسان إذا نوى العمل به وحفظه على الناس؛ ولذلك سئل أبو عبد الله مالك بن أنس عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة في أي عبادة يصرفها؟ قال: علم يتعلمه، قيل: يا أبا عبد الله! إنه لا يعمل به، قال: تعلمه أفضل من العمل به.
وقال الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمه الله: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة) فكان يرى أن اشتغال المشتغلين بالعلم خير من اشتغال القائمين الذين يقومون الليل كله.
ولهذا قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:
والعلم خير من صلاة النافلة فقد غدا الله برزق كافله
وقد أخرج البيهقي في السنن، وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد، والحافظ البغدادي في شرف أصحاب الحديث من أحد عشر طريقاً وذكر عن الإمام أحمد تصحيحه من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ).
لكن هذا العلم الذي ذكرنا مزيته وشرفه ليس كل من اشتغل به أو أحرز بعضه ينال هذه المنزلة أو هذا الشرف، بل لابد لذلك من منهجية ومن طريقة تكون متزنة يوازن فيها الإنسان بين العلم والعمل، ويوازن فيها كذلك بين أنواع العلوم ومقاصدها ووسائلها، ويوازن فيها كذلك بين النتائج التي يتوخاها، والجهد الذي يبذله، فالتوازن مطلوب شرعاً في كل الأمور والاعتدال مطلوب فيها، والغلو في العلم بأن يكون الإنسان لا بغية له ولا هم إلا الاشتغال بتتبع شوارد العلم ونوادره هذا يجعل الإنسان غير متزن ولا بد أن يصاب بغلو والذي يصاب بالغلو فقد اتبع خطوة من خطوات الشيطان، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].
وكذلك من أعرض عن هذا العلم أو رأى غيره أفضل منه كالذي يشتغل بالدعوة عن العلم ويهمل العلم بالكلية، أو يشتغل بجمع المال عن العلم، ويكتفي منه بأقل القليل، فهذا أيضاً لديه تفريط والتفريط أيضاً من خطوات الشيطان وهو ضد الإفراط السابق.
وكذلك من اشتغل بعلم واحد من العلوم وركز اهتمامه كله بذلك العلم فسيصاب بإفراط فيه والتفريط فيما سواه، وسيفقد التوازن؛ لأن العلم كله من عند الله وبعضه يكمل بعضاً ويتممه؛ ولهذا فإن جناية المناهج في زماننا هذا على العلم هي بالتخصصات التي جعلت الإنسان يدرس جزئية واحدة يتعمق فيها ويهمل ما سواها فيكون بليداً في الأمور الأخرى التي هي من شروط الإنتاج لذلك الشكل الذي يشتغل به، فإذا لم يأت بالشرط لا يمكن أن يأتي بالمشروط.
وكذلك فإن من ما يحذر منه في هذا الباب أن كثيراً من الناس لا يأخذ في العلم الأدوات والشروط فيريد أن يكون عالماً وأن يقفز المسافات، ويسلك لذلك سبلاً غير موصلة إليه.
فالعلم يشترط للوصول إليه كما لدى أهل العلم سبعة شروط:
الشرط الأول: التغرب له، والمقصود بذلك أن يغترب الإنسان للعلم، وأن لا يكون مشغولاً بتدبير أمور الأهل والمعاش، فالذي هو بين أهله سيشغل بقضاياه وسيجد لنفسه مكانة وسؤددا يمنعه من التلقي؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب كما أخرج عنه البخاري في الصحيح: (تعلموا قبل أن تسودوا)، فالذي هو سيد في مكانه لا يستطيع أن يتواضع للعلم، ولذلك لابد أن ينفرد الإنسان عن أهله حتى ينال هذا العلم.
وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى قص علينا قصة موسى في طلبه للعلم حين ذهب إلى الخضر، فذكر أنه ما نال هذا العلم حتى قال: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الكهف:60]، فخرج من رئاسته لبني إسرائيل وقيادته لهم لجمع هذا العلم.
وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فلم ينل هذا العلم حتى حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه وهو تعبد الليالي ذوات العدد، ويرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق فجاءه الملك وهو بغار حراء.
والغربة تحقيقها في زماننا هذا يمكن أن تكون بالغربة الحقيقة ويمكن أن تكون بالغربة الشعورية، فالغربة الحقيقة هي أن يجد الإنسان وقتاً يختزله ويسرقه عن أهله وعمله ينفرد فيه فيخرج من مكانه كخرجتنا هذه، فهذا أولاً من ناحية التعبدية فيه خروج إلى الله سبحانه وتعالى، وترك لما خولنا وراء ظهورنا وتذكرة بذلك في الخروج إليه في الموت عندنا ينادي مناديه وبما هو أعظم من ذلك بالحشر والعرض عليه سبحانه وتعالى.
وكذلك تصحيح النية في المنزل وما يمر به الإنسان من الحصى أو الرمل وذرات الأكسجين كلها تكتب في ميزانه حسناته إذا أخلص النية لله في ذلك.
وكذلك دعاء الملائكة له: ( فإن الملائكة تبسط أجنحتها لطالب العلم رضاءً بما يصنع )، ( وأن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر ).
وكذلك في هذا أن الإنسان يتذكر بهذا أنه قد اجتزأ جزءاً من وقته لأفضل عمل يقربه من الله سبحانه ويدنيه إليه فيرجع منصرفاً بزيادة إيمان وصقل قلب وزهادة في الدنيا وتخلص منها، وقد عرف قدر الدنيا التي هو فيها وعرف أنها لا تساوي عند الله شيئاً وأن أفضل ما فيها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم هو هذا العلم حيث قال: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وإلا عالماً أو متعلماً ).
فيعرف أن الشيء الملعون الذي لا خير فيه هو هذه الدنيا التي يتنافس الناس عليها، وأن الذي شرفه الله وفضله هو الوحي الذي أنزله والعلم الذي جاء من عنده فيجتزئ من وقته جزءاً لذلك، وقد قال أحد الحكماء:
الأهل والجهل ساكناً في بلد فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني
وتعرفون تاريخ هذه الأمة في الغربة، وكيف كانت الرحلة في طلب العلم من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا فقد كانوا يفدون إليه كحديث مالك بن الحويرث والشببة الذين معه، وكانوا بعد ذلك يفد بعضهم إلى بعض كحديث عبد الله بن أنيس الذي سافر شهراً من أجل حديث واحد، وأنس بن مالك الذي سافر شهراً من أجل حديث واحد، وجابر بن عبد الله الذي سافر شهراً من أجل حديث واحد، وغير هؤلاء من الصحابة الذين سافروا من أجل حديث واحد.
كذلك فإن من بعدهم من التابعين اشتهرت فيهم الرحلة لطلب العلم وأكثروا منها، وكذلك اتباعهم من بعدهم والقرون المزكاة كلها ملأ بذلك، فهذا أحمد بن حنبل رحمة الله عليه يقول: (ما بقيت من الدنيا حاضرة اشتهر فيها الحديث إلا دخلتها)، كل حاضرة من حواضر الدنيا اشتهر أن فيها حديث، ناس يشتغلون بالحديث دخلها.
وهذا البخاري يذهب من نيسابور متجهاً إلى اليمن للرواية عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني مع أن كل حديث عبد الرزاق قد وصل إلى البخاري بنزول فذهب يقصده فلما وصل مكة قيل له: مات عبد الرزاق، فكر راجعاً إلى البصرة فلما وصلها قيل: إن عبد الرزاق حي باليمن، فرجع حتى وصل مكة فأتاه من نعى له عبد الرزاق.
وكذلك فإن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين سافرا من بغداد إلى صنعاء على أرجلهما لا يركبان شيئاً، على أرجلهما مشياً في طلب العلم، وعدد كبير من أهل العلم كذلك فعلوا، فهذا سحنون يخرج من القيروان إلى المدينة على رجليه لطلب العلم فيجلس بمصر ثلاث سنين يروي فيها عن ابن القاسم ما رواه عن مالك خلال عشرين سنة، فعندما أتى ابن القاسم قال له: أنا فقير لا أملك شيئاً وأهل بلدي بحاجة إليَّ ووقتي ضيق، وقد افترض الله عليَّ الحج وأنا قاصد الحج حج هذا البيت، فأريد أن تعطيني جزءاً من وقتك أختص به عن طلاب العلم، فأريد أن آخذ ما أخذته خلال عشرين سنة في أقل من ذلك، فخصص له وقتاً، فأكمل الرواية عنه في ثلاث سنين.
وكذلك عدد ممن بعدهم من الذين بذلوا الجهد العجيب في جمع هذا الحديث ومن مشاهرهم مثلاً: أبو زرعة الرازي وبعده الإمام الدارقطني وبعده الحافظ أبو نعيم، فهؤلاء من الذين بذلوا الجهد في سبيل جمع الحديث، وأحرزوا منه مالم يحرزه أحد بالعصور المشهورة.
واشتهر بعد هؤلاء الخطيب البغدادي وأبو عمر بن عبد البر، فهذا حافظ المشرق والآخر حافظ المغرب، وتوفيا في سنة واحدة، وقد جمعا بطول الرحلة من العلم الشيء الكثير، فهذا أبو عمر يجلس ثلاثين سنة في تأليف التمهيد وحده، يقول فيه:
سمير فؤادي مذ ثلاثين حجة وكاشف همي والمنفس عن كربي
جمعت لهم فيه كلام نبيهم
ومع ذلك نجد أن كثيراً من الناس اليوم يزعجون ويضجرون من أجل أوقات يسيرة يمكثها أحدهم في طلب العلم كجلسة واحدة في الأسبوع أو نحو ذلك، ويظنون الوقت طويلاً ومضى عليه سنوات، هل أنفقت هذه السنوات في طلب العلم، ما أنفقت، لقد كانت جلسة واحدة في الأسبوع تتقطع، بينما أعمار أولئك السالفين كانت هكذا كتاب واحد خلال ثلاثين سنة.
وعندما أتى الأوزاعي وزملائه إلى مالك بن أنس وقد حفظ الموطأ يريدون سماعه منه سمعوه خلال أربعين يوماً فقال: قلما تفقهون فيه، كتاب ألفته في أربعين سنة تأخذونه في أربعين يوماً! وهو يخاطب الإمام الأوزاعي الذي مات قبله مات قبل مالك، فعد من الطبقة السابقة عليه لموته قبله، لكنه روى عنه الموطأ.
أما العزلة الثانية وهي: عزلة الشعور، فهي: أن يحاول الإنسان وهو في منزله وفي بيته أن يقتطع جزءاً من الوقت للعلم ويجعله من أولوياته ويحاول أن يخصص له أشرف أوقاته وخيرها مثلما يفعل ذلك في العبادة وفي ورد المحاسبة، فهذه ثلاثة أمور وهي تغذية الروح التي لا يستغني عنها أحد في حياته:
الأولى: ساعة الخلوة التي يتعبد فيها لله سبحانه وتعالى ولا يطلع عليه إلا علام الغيوب يحاول فيها أن يعبد الله والناس نيام بما تيسر حتى لو كانت دقائق معدودة يتذكر أنه في هذه الدقائق يشارك جبريل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش في عبادة الله، وأنه بذلك ينفرد بربه ولا يطلع عليه سواه، وهذه يقطع بها الإنسان مراحل إيمانيه عجيبة إنما يحس بالصمت من حوله يحيط به من كل جانب، ويعلم أن الله مطلع على سريرة قلبه، وأنه يتعبد له الآن ويعبده بما يعبده به عباده الصالحون وينفرد له ويخلص له، فهذا مقام عال.
الثانية: ساعة المحاسبة التي يحاسب فيها الإنسان نفسه على ما مضى من وقته فيحاسب نفسه في كل أربع وعشرين ساعة يجعلها عمراً كاملاً فرأس المال ما آتاه الله من النعم من الإيمان والعلم والقوة، قوة الجوارح وقوة العقل والمعافاة في الأهل والسرب وغير ذلك، وما خطط لأن يعمله خلال أربعاً وعشرين ساعة، فيحاسب نفسه على ذلك، وينظر ما فرط فيه من جنب الله وما اقترفه وما استعان بنعمة الله فيه على معصيته فيبادر بتوبة منه ويستحيي من الله حين استعمل نعمته في معصيته.
وما أداه من الطاعات فليعلم أنه بفضل الله ورحمته وتوفيقه ومنه وتشريفه شرفه به وخصه به من بين من سواه فيحمد الله عليه ويشكره ويتذكر نعمته ولا ينسيه ولا يغفله عن ذكرها أي شيء؛ لأن نعمة الله لابد أن تذكر، وكثيراً من الناس يتناسون نعمة التوفيق للعبادة فقد قال الله عنه تعالى في حال من ارتضاه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، فليتذكر الإنسان هذه النعمة وليشكرها وليحاسب نفسه على وقته وعلى خطته اليومية التي أعدها، فلينظر ما قصر فيه ولينظر سبب ذلك.
وقد كان كثيراً من السلف لشدة مراقبتهم لأنفسهم يعرفون وجه الخطأ من أين دخل عليهم الخطأ، يقول أحدهم: إن اللقمة الواحدة يصدأ لها قلبي وأمكث زماناً وأنا أعالجه، اللقمة الواحدة مما لا يتحقق حله يصدأ لها القلب ويتسخ ويجد أوهاماً وظنوناً وشكوكاً وكثير من الاشتغالات في صلاته وغير ذلك، فيشتغل زماناً بعلاجها، لكنهم صفت خواطرهم وصحت نفوسهم فعرفوا تشخيص الأمراض، ونحن كثرت علينا الأمراض والأعراض حتى تكاثرت الضباع على خراش فما يدري خراش ما يصيد لم نعد ندري من أين أتينا ولا من أين وقع الخلل في تربيتنا وحياتنا.
الثالثة: ساعة العلم، وهي التي نريد، وينبغي أن يختار لها الإنسان الوقت الذي يجد فيه صفاءً في الذهن وراحة في البال وراحة في البدن وعدم نعاس وعدم انشغال وأفضل ذلك ما كان من آخر الليل أو أول النهار في الصباح وهو الوقت المبارك الذي بورك لهذه الأمة فيه ( اللهم بارك لأمتي في بكورها )، يحاول الإنسان أن يستغل ربع ساعة يومياً أو نحو ذلك فيما يزيده علماً، وإذا استطاع أن يجعل لنفسه برنامجاً من خلال تجاربه ومن خلال استشارة إخوانه وتجاربهم أو أن تتعاون مجموعة منهم على ذلك فهذا أفضل، وما استطاع غير هذه الساعة أن ينفقه وأن يأخذه من وقته لطلب العلم فهو خير له وأفضل.
الشرط الثاني: التواضع، فالعلم بضاعة غالية ومن أحرز بضاعة غالية وعرف حاجة الناس إليها وأيضاً تذكر الثمن أنفقه للحصول عليها، تذكر السهر الذي كان يسهره، والتعب الذي كان يتعبه من أجل الحصول عليها، والمشاق والمخاطر التي تجشمها من أجل الوصل إليها لا يمكن أن يسلمها إلا لمن يتواضع لها؛ فلذلك يحتاج طالب العلم إلى التواضع غاية حتى ينال مراده، وأصل ذلك قصة موسى مع الخضر فإنه قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66]، قال: (هل أتبعك) ولم يقل: سأتبعك، (على أن تعلمني) فجعل نفسه طالباً يعلم، (مما علمت) أي: بعض ما علمته، هو لم يرد أن يأخذ كل ما لديه وهذا غاية التواضع.
والإنسان محتاج إلى هذا التواضع دائماً، ( ومن تواضع لله رفعه )، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ( إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد )، والتواضع دليل على شرف النفس بخلاف التكبر فهو دليل على القرب من إبليس فإن أصل الكبر منه هو الذي قال: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )، وكلما تواضع الإنسان كلما ابتعد عن طريق إبليس.
الشرط الثالث: الورع، والإنسان محتاج إلى المبالغة فيه حتى يحرز العلم؛ لأن العلم نور نفور، فهو نور ينفر من الظلمة، والظلمة شرها ظلمة المعصية؛ فلذلك لا يمكن أن يستقر في قلب الفجرة من كان كافراً لا يبالي لا يمكن أن ينال نور العلم، قد يجري بعض العلم على لسانه لكن لا يتجاوز ترقوته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: ( فهم يقرأون القرآن لا يجاوز نحورهم ).
فلهذا يحتاج إلى الزيادة في الورع حتى يحرز هذا العلم، والورع مطلوب على كل حال لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )، وقوله: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله )، تنبيه على أن صلاح القلب وفساده إنما هو بقدر ما فيه من الورع فإذا ازداد الورع ازداد صلاح القلب وإذا نقص نقص صلاح القلب وزاد فساده.
ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
وأصل هذا أن من نقص ورعه اتبع هواه، ومن اتبع هواه قاده ذلك إلى خلاف العلم؛ لأن العلم جمعه شاق ومقتض لمخالفة الهوى؛ لأنه يقتضي من الإنسان السهر والتعب والنصب وكثيراً من المشقة والانعزال عن الشهوات فهو مخالف للهوى، وما كان مخالفاً للهوى فإنما يصبر عليه من كان ذا ورع؛ لأن من نقص ورعه لابد أن يكون من أتباع الشهوات.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في تربيته يحض على الورع في المآكل والمشارب وغيرها، فقد صح في الصحيحين: ( أنه حين رأى الحسن بن علي وهو طفل أخذ تمرة من تمر الصدقة أمسك بفيه وجعل يقول: كخ كخ حتى رماها، فقال: إننا أهل البيت لا تحل لنا الصدقة )، تمرة وحدة استخرجها منه، وفي حديث أنس في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني لأمر بالتمرة فأريد أن آكلها فأخشى أن تكون من تمر الصدقة فأتركها )، التمرة الواحدة يتورع عنها سيد البشر صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فيهما عن أبي بكر رضي الله عنه أن عبداً له أتاه بطعام على جوع فأكل منه أبو بكر فقال له العبد: أتدري من أين لي هذا؟ قال: لا. قال: كنت تكهنت لقوم في الجاهلية فرأوني فأهدوا إليَّ هذا الطعام، فأدخل أبو بكر أصبعه فما زال يقيء حتى قاء كل ما في بطنه تورعاً من ذلك.
والورع كذلك يشمل كف الجوارح ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلاً، فمحاولة تأديب الجوارح حتى تكف عن ما حرم الله عليها داخل في الورع: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
الشرط الرابع: الجوع، فإن الإنسان إذا شبع دعاه ذلك إلى الميل إلى الدنيا والازدياد منها، وقديماً يقوم الحكماء: البطنة تذهب الفطنة، البطنة وهي: امتلاء البطن تذهب الفطنة فتنقص القريحة والذكاء، قال الشافعي: ما رأيت سميناً عاقلاً إلا محمد بن الحسن الشيباني.
وأصل ذلك من القرآن قول الله تعالى في قصة موسى: قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً [الكهف:62]، فلم ينل هذا العلم حتى لقي من سفره نصباً وجوعاً، قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا [الكهف:62].
وتعلمون أن أحفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لحديثه هو أبو هريرة رضي الله عنه، وذلك أنه كان من أشدهم فقراً وحاجة وكان يصرع من الجوع فيمر عليه الشخص في طريق المسجد فيطأ عنقه يظنه مجنوناً وما يصرع إلا من الجوع، فلم يشغله شيء عن حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أحفظ الأمة له وهيأه الله لذلك.
ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه كان عندما أتت به أمه إلى مكة يقصد حلقات المسجد الحرام فيكتب عن المحدثين في المسجد كـسفيان بن عيينة وغيرهم، فكان يجمع حديثهم ويكتب عنهم حتى امتلأ عليه بيته من الرقاع التي كتب فيها فأغلق عليه بابه ولم يخرج حتى حفظ كل ما في البيت فخرج وهو في أشد مراتب الجوع لكنه خرج وقد حفظ كل ما في البيت فاستغنى بعد ذلك عن حمله.
والجوع في الواقع معين على الحفظ، فالفقراء أحفظ ممن سواهم والأغنياء أقل الناس حفظاً، والحفظ وسيلة من وسائل العلم مهمة لابد منها؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى تعهد لرسوله صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19].
وكذلك فقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على الحفظ عنه وحض عمر بن الخطاب عن الحفظ فيما يتناقله الناس وقد قال الشافعي رحمه الله: الأدب أن تكتب أحسن ما سمعت، وأن تحفظ أحسن ما كتبت، وأن تحدث بأحسن ما حفظت، فجعله ثلاث مراتب:
أولاً: أن تكتب أحسن ما سمعت.
ثانياً: أن تحفظ أحسن ما كتبت.
ثالثاً: أن تحدث بأحسن ما حفظت.
فكل مرتبة يختار لها من التي فوقها، وقد قال رحمه الله:
علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
ويقول أبو محمد علي بن حزم الظاهري رحمه الله:
فإن يحرقوا القرطاس لا يحرق الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري
وقد كان العلماء يقولون:
ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر
فالرفوف العريضة التي فيها الكثير من الكتب الملونة ليست بعلم إنما العلم ما حواه الصدر فقط؛ فلهذا يحتاج الإنسان إلى أدوات الحفظ وتقوية ذلك في ذهنه ليزيده هذا بصيرة ومهارة وجمعاً لشتات العلم وأطرافه ولا يتم ذلك إلا بالجوع في مرحلة الحفظ.
والمقصود بذلك الاقتصاد في الأمر فلا يقصد به تعذيب النفس وتجويعها ولا التقلل من المطاعم بحيث يكون ذلك ضرراً على الإنسان ونقصاً لقوته أو وسيلة لمرضه، بل المقصود أن يقتصد الإنسان في ذلك وأن لا يجعل هذا أكبر همه وأن لا ينفق خيرة وقته على تحصيل طعامه ونحو ذلك، فلابد أن يكون خير الوقت هو ما ينفقه لجمع العلم.
الشرط الخامس: إدراك أهمية العلم، وهو أن تهون على الإنسان نفسه في سبيل جمع العلم، فمن لم يدرك أهميه الشيء لا يمكن أن يشتغل به؛ لأن من جهل شيئاً عاداه؛ ولذلك تجدون أن كثيراً من الناس إذا ذاقوا طعم العلم انهمكوا فيه وأعجبهم حتى يعتبرهم كثيراً ممن سواهم ممن لم يذق طعم العلم أصحاب هوس قد أغرقوا في أمر كان ينبغي أن يتوسطوا فيه وأن لا يزيدوا، والواقع أنهم فقط ذاقوا هذا الطعم والآخرون لم يذوقوه، أو أنهم رأوا هذه البارقة ومن سواهم لم يراها، هذا الفرق؛ ولهذا فإن موسى عليه السلام هانت عليه نفسه في سبيل هذا العلم حتى ركب البحر في السفينة المخروقة في عرض البحر.
وقديماً يقول أحد العلماء:
قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصبرا
لا يدرك العلم بطال ولا كسل ولا ملول ولا من يألف البشرا
مسائل سحنون هي المدونة، وقد كان الناس يحفظونها مثلما يحفظون الفاتحة.
قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصبرا
أي: حتى تلعق المر شديد المرارة.
لا يدرك العلم بطال ولا كسل ولا ملول ولا من يألف البشر
ولكن مع ذلك فالصبر على التعب اليسير يؤدي بالإنسان بعد هذا إلى وصول المقامات التي لم يكن ليصلها من دون هذا كما قال الحكيم:
ما أبيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوده شحوب المطلب
فإذا رأيت من أبيض وجهه بأي كريمة فأعلم أن ذلك قد سبقه تعب ونصب.
الشرط السادس: معصية الهوى، فالذي يتبع نفسه هواها لابد أن يصاب بالتمني والظنون والذي لا يتبع الهوى إذا مالت نفسه إلى أي أمر حاسبها عليه واتهمها فيه هذا الذي يستطيع جمع العلم؛ ولذلك فإن أبا عاصم النبيل عندما كان يسمع الحديث من شعبة جاءت الفيلة بأرض الكوفة بسواد العراق فخرج طلاب الحديث ينظرون إلى الفيلة، فقال شعبة لـأبي عاصم: ما لك لا تخرج إلى الفيلة؟ قال: ما جئت لأرى الفيلة إنما جئت لأكتب الحديث، فلقبه النبيل من أجل ذلك، واشتهر بأنه أبو عاصم النبيل.
ويذكر السيوطي رحمه الله: أنه كانت له طاقة مطلة على النيل وكان الناس إذا سال النيل يأتون إليه من أراض قاصية لمشاهدة سيله، فمكث ستة عشر سنة لم يفتح الطاقة حتى يرى النيل كل سنة يسيل لاشتغاله بالعلم ستة عشر سنة؛ فلذلك لابد أن يحاول الإنسان عدم اتباع الهوى حتى في الأمور الجائزة لينال في مقابل ذلك علماً.
الشرط السابع: العمل به، فإن العلم كما قال ابن عيينة ينادي بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
فمن لم يعمل بما علم كان حجة عليه ومن عمل بما علم رزقه الله علم مالم يعلمه، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29]، والفرقان هو: ما يميز الإنسان به بين الحق والباطل، وهو علم لدني من عند الله؛ ولهذا أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه قال: ( قلنا لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء تقرؤونه غير كتاب الله؟ فقال: والذي فطر النسمة وبرأ الحبة ما عندنا شيء نقرأه غير كتاب الله وما في هذه الصحيفة أو فهماً يرزقه الله رجلاً من عباده، فأخرج صحيفة من قراب سيفه فإذا فيها: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، والمدينة حرم ما بين عير إلى كذا من أحدث فيها حدثاً أو أوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ومن تولى غير أبيه أو انتسب إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) إلى آخر ما في الصحيفة، ومحل الاستشهاد من الحديث قول علي: ( أو فهماً يرزقه الله رجلاً من عباده )، فهذا الفهم هم العلم اللدني وهو الطرف الثاني من العلم، فالعلم ينقسم إلى قسمين إلى:
علم بالجِد، وعلم بالجَد.
فالعلم الذي بالجِد، أي: الذي ينال بالاجتهاد والبذل.
وعلم بالجَد، أي: بالسعد يسعد الله به من شاء من عباده وهو نتيجة للأول، نتيجة للعمل.
والأنوار الربانية والنفحات التي ينالها العباد كثيراً ما تسد مسداً عظيماً في مجال العلم وقد قال الله تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:78-79]، فهذا التفهيم نفحة ربانية ونور إلهي قذفه الله في قلب سليمان ففهم به حكم الله.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (اللهم إني أعوذ بك من معضلة لا أبو الحسنين لها ) وأبو الحسنين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد كان يحل المعضلات.
ومن قرأ سيرته رضي الله عنه عرف أن ما لديه من العلم كثير منه ليس من العلوم المكتسبة التي يصل إليها البشر بالجد والاجتهاد والطلب بل لابد أن يكون علماً لدنياً ربانياً ناشئاً عن العمل بما تعلم وعن زيادة الإيمان والتقوى والورع، فإنه رضي الله عنه كان على المنبر ذات يوم فقام رجل فقال: (هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فقال علي وقد كان في خطبة عينية قال: صار ثمنها تسعاً، وبداية خطبته: الحمد لله الذي يجزئ كل نفس بما تسعى وإليه المآب والرجعى، فسأل السائل عن هذا فقال: صار ثمنها تسعاً)، وعرفت من ذلك الوقت بالفريضة المنبرية، وبين فيها عول أربعة وعشرين إلى سبعة وعشرين، فالأربعة والعشرين هي الأصل الثالث من الأصول التي تعول وعولته واحدة فإنه يعول إلى سبع وعشرين فقط ولا يعول إلى ما سواها، ولم يعرف ذلك قبل هذا الموقف، لم يعرف ذلك في الإسلام قبل هذا الموقف، فجاء بهذه البديهة وبهذه السرعة فقال: صار ثمنها تسعاً.
هذه الشروط السبعة نظمها أحد العلماء في بيت واحد فقال:
له تغرب وتواضع واترع وجع وهن وأعص هواك واتبع
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر