الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن العلم دروبه كثيره ومن أعظمها: علم الخبرة؛ لأن العلم ينقسم إلى قسمين:
علم تلقي.
وعلم خبرة.
فعلم التلقي معناه: ما يتلقاه الإنسان من غيره وهذا أنواع منه ما يستمعه فيتلقاه عن طريق الإذن، ومنه ما يتلق عن طريق الكتابة، ومنه ما يتلق عن طريق النظر والملاحظة فقط، فكل ذلك من علم التلقي.
أما علم الخبرة وهو: علم الدربة فهو: ما يكتسبه الإنسان من التجارب ويستطيع به إيصال علمه إلى غيره، يستطيع به التعبير عما في صدره إلى غيره، فكم من شخص يحتوي صدره على كثير من العلوم لكنه عاجز عن التعبير عنها وكم من شخص هو ببغاء عرف العلم تلقيناً فيعيده كما أخذه: هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا [يوسف:65] وهذان الصنفان قاصران.
والصنف الثالث أولى: وهو الذي يطور ويزيد ويحسن، وقد رأى رجل ثلاث حمامات ابتلعت إحداهن جوهرة فأخرجتها كما هي، وابتلعتها الأخرى فأخرجتها أكبر مما كانت، وابتلعتها الأخرى فأخرجتها أصغر مما كانت، فسأل محمد بن سيرين رحمه الله عن تفسير رؤياه، فقال: تجلس في مجلسي وفي مجلس قتادة وفي مجلس الحسن، وهؤلاء أئمة التابعين في البصرة إذ ذاك؟ فقال: نعم. فقال: الحمامة التي ابتلعت الجوهرة فأخرجتها أكبر مما كانت الحسن البصري، فإنه حفظ الحديث ويزيد فيه بذكائه وفطنته وفهمه، يزيده علماً.
والتي أخرجتها كما هي. قتادة فقط حفظ الحديث ورواه كما هو دون زيادة ونقص.
والتي أخرجتها أصغر مما كانت أنا. يقصد نفسه محمد بن سيرين، فقد حفظت الحديث لكني أتورع أن آتي بكله خشية أن أزيد فيه ما ليس منه.
وعموماً فالذي يطور معلوماته ويستطيع أداءها كما يناسب لاشك أنه أولى وأكثر أجراً؛ لأنه يكتب له أجور من عمل بما علمه وأجور من وصل إليه شيء من علمه إلى قيام الساعة دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
وهذا هو الوجه الذي فضل منه السلف على الخلف، أن أجورهم لم تنقطع ولم تزل تزداد بحسب القرون، قال شيخي رحمه الله:
وكل أجر حاصل للشهدا أو غيرهم كالعلماء والزهدا
حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا
مع مزيد عدد ليس يحد وليس يحصي عده إلا الأحد
إذ كل مهتد وعامل إلى يوم الجزاء شيخه قد حصلا
له من الأجر كأجر العامل ومثل ذا من ناقص وكامل
وشيخ شيخه له مثلاه وأربع لثالث تلاه
وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة
ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف
فلذلك على الإنسان الذي يريد أن يتعلم أن يزيد مع ذلك نية أخرى وهي: أن يُعَلِّم ما تعلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).
ولا يتم ذلك إلا بعدة أمور وعدة وسائل أهمها:
أولاً: نية ذلك في البداية، فالذي يدرس ليتعلم ويتفهم فقط سيتخفف من كثير من الأمور ولن يعتني بالدربة والخبرة؛ لأنه إنما يريد الفهم فقط في الأمر ويتجاوز ذلك.
أما الذي يريد أن يتعلم ليعلم فيحرص على الهيئات والشروط والطرق وطرق أداء المعلومات، وطرق تطويرها، والجمع بينها وبين غيرها، وما يعرض لها من إشكالات، وإجابة تلك الإشكالات، ويطبق ذلك على واقع الناس ويأتي بالحلول لما يفكرون فيه ولما يعرض لهم من مشكلات ويستبطن نفوس الحاضرين والسامعين حتى يعرف من استوعب منهم الدرس ممن لم يستوعبه، وبهذا يستطيع أن يعيش معهم، أن يعيش مع الدرس وفي ظلاله.
إذاً نية التعليم المصاحبة لنية التعلم أمر هام في هذا المجال.
ثانياً: بعد هذا أن يكون الإنسان عالماً أن الذي سيعلمه لابد أن يكون أقل مما تعلمه، لا يؤدي إلى طلابه إلا جزء مما عنده؛ لأنه إذا نزح كل ما لديه لم يبق فيه شيء أصبح علبة فارغة، وبسبب ذلك سيختار مما لديه أسهله وألينه وأحكمه وهو الذي يقدمه ويحتفظ هو بمدد يمكن أن يطوره ويزيده؛ ولذلك يقول أهل العلم:
العلم بحر وأوعيته كآنيته، آنية الماء يغترف بها ولا يمكن أن يكون إناء يغترف البحر كله؛ فلهذا يحتاج الإنسان إلى أن يتعلم أكثر مما يعلم، الذي يريد أن يشرح كتاباً معيناً لابد أن يكون مطلعاً على كتاب أوسع منه في الفن الذي هو فيه فإذا لم تكن درست كتاباً أوسع من هذا فلن تستطيع تدريس هذا الكتاب، ومن هنا تسمعون كثيراً من البلهاء البلداء يتجاسرون على الموسوعات الكبرى والكتب العظيمة يريدون شرحها وهي آخر ما ألف في الفن مثلاً وكأنهم درسوا ما هو أوسع منها، والواقع خلاف ذلك.
فتجد أحدهم يتجاسر مثلاً على شرح كتاب سيبويه كأنه درس أوسع منه في علم النحو، أو يتجاسر على تدريس الموافقات للشاطبي كأنه درس كثيراً من كتب الأصول حتى وصل إلى هذه الزبدة النادرة، وهكذا، ولن يصل إلى هذا المستوى إلا نوادر الناس الذين جمعوا بين المعقول والمنقول وأخذوا بالـدربة وجمعوا كثيراً من الفنون والعلوم؛ ولذلك رحم الله من عرف قدره وجلس دونه، والعرب يقولون: (أطرق كرى إن النعام في القرى)، فعلى الإنسان أن لا يتزبب قبل أن يتحصرم، يحاول أولاً أن يأتي بالقليل قبل الكثير؛ لذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79]، قال: كونوا علماء حكماء، وفي رواية: (الربانيون) هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، يحاول أن يأتي بالصغار قبل الكبار، ومن أجل هذا فمناهج أهل العلم في العلوم كلها أنهم جعلوا كتباً متدرجة، لاحظوا أن مؤلفاً واحداً يؤلف عدة كتب متفاوتة الأحجام متفاوتة المادة يقصد بذلك تفاوت درجات الطلب.
فهذا ابن قدامة في الفقه الحنبلي وهو أبو هذ المذهب وجامعه الأكبر ألف مثلاً العمدة للصغار وفوقها المقنع وفوق ذلك الكافي وفوق ذلك المغني وكل كتاب ألف لمستوى من طلاب العلم، ومثل ذلك ابن هشام الأنصاري ألف في النحو قطر الندى للمبتدئين ثم فوقه شذور الذهب، ثم فوق ذلك إعراب الجمل وما يلحق بها، ثم فوق ذلك أوضح المسالك ثم فوق ذلك مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، فكل هذا بالتدريج، يتدرج فيه طالب العلم لئلا يأخذ العلم جزافاً غير مقصر.
فكثير من الناس لا يدرك هذه التجزئة فيهجم على أكبر ما وجد من الكتب ويرى أن الكتب الصغيرة لا فائدة فيها وأنها ضياع وقت فيتعداها.
ثالثاً: من وسائل الإنسان لهذا أن يعرف أن العلوم مترابطة متداخلة فالعلم كله بمثابة أجزاء البدن، فالدم الذي يضخ في المخ هو الدم الذي يضخ في الجسم نفس الدم دورة واحدة، ولذلك لابد أن يدرك الإنسان أسرار العلوم وترابطها، وليعلم الإنسان أنه لا يمكن أن يكون ماهراً بعلم من العلوم إلا إذا كان ملماً بالعلوم المكملة له.
رابعاً: أن يعلم الذي يريد أن يكون مدرساً أن التدريس كما ذكرنا خبرة تحتاج إلى تدريب فليبدأ أولاً بالتدريس خالياً، يتصور أن عنده إنساناً يدرسه، يمتحن نفسه بذلك ويعرف هل هو قادر على الشرح أو لا، وهل هو قد استوعب الكتاب أو لم يستوعبه، أو استوعب الدرس الفلاني أو لم يستوعبه، فيدرس خالياً كما كان الأعمش رحمه الله يربط تيساً عنده فيدرسه فيقول: أفهمت. وقد اشتهر تيس الأعمش بذلك.
وقد اشتهر هذا عن الإمام الدباس من أئمة الحنفية كان يغلق عليه مسجده فيراجع القواعد الفقهية وحده فجاء طالب وقد كان الدباس رحمه الله أعمى لا يبصر، فجاء رجل فعرف أنه إذا أغلق عليه الباب ردد شيئاً فأراد أن يسمعه فاختفى في زاوية من المسجد فسمعه يراجع القواعد الفقهية فذكر منها أربعاً وثلاثين قاعدة ثم جاءت سعلة فسعل فسكت الشيخ وقام إليه وضربه بعصاه وأخرجه من المسجد، لكنه قد سرق هذه القواعد فخرج بها.
ثم بعد هذا يحاول التطبيق على أهله كالزوجة أو الأولاد، فقد طبق في نفسه وحينئذٍ يستطيع أن يطبق على الآدميين الذين ليس بينه وبينهم كلفة؛ لأن العلم يحتاج إلى تدريب ووقع، فهو بمثابة ما قال زياد بن أبيه: (إن ظهر المنبر كظهر الفرس يحتاج إلى أدب)، فالفرس أول ما يركب لا يمكن أن يركبه إلا الأقوياء، ولا يستطيع تأديبه وترويضه إلا من كان من المهرة فكذلك ظهر المنبر الذي يقف عليه ويكلم الناس لابد أن يكون مستعداً لذلك؛ ولهذا فإن الإنسان في بداية تدريسه أو بداية خطبته سيرتعد ويرتجف وينقطع شريط المعلومات من ذاكرته في كثير من الأحيان، بل قد روي عن القباع رحمه الله وهو من خطباء قريش المشاهير أنه وقف على المنبر خطيباً، فلما دخل الخطبة صاح في الناس يريد ماءً فيقول: اسقوني اسقوني، لهول هذا الموقف حين رأى العيون تنظر إليه.
وقد اشتهر عدد من الخطباء الذين ارتج عليهم في بداية الأمر، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما وقف على المنبر في أول خطبة يوجهها للناس تذكر أنه يقف في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسد للأمه مسده، فحمد الله وأثنى عليه ثم لم يستطع أن يأتي بكلمة، فسكت طويلاً والناس ينظرون إليه ثم استعبر، أي: بكى، وقال: (أنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال، ولئن بقيت لتأتينكم الخطب على وجهها وسيجعل الله بعد عسر يسرى، واستغفر ونزل) فكانت أبلغ خطبة.
وكذلك فإن معاوية رضي الله عنه وقد كان حليماً حكيماً كان إذا أراد أن يخطب في أمر مهم يجلس ولا يقف على المنبر لهول الوقوف، وهو أول من خطب جالساً، من أولياته رضي الله عنه.
ثم على الإنسان أن يعلم كذلك أن التعليم ينسى فمن لم يشتغل به كان كالرماية، فالرماية يتعب الإنسان في تعلمها فإذا أغفلها زماناً انتقصت مهارته بها، ومثل ذلك السباحة يتعلمها الإنسان فإذا أغفلها نسيها، والتعليم كذلك وقد جاء الوعيد الشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تعلم الرماية فأهملها ونسيها.
فكذلك هذا العلم بمثابة الرماية إذا تعلمت التدريس فقد أصبح دربة لديك فحاول أن لا تنقطع عنه لوجه من الوجوه؛ ولهذا فإن كثيراً من أهل العلم كانوا إذا سجنوا حاولوا أن يدرسوا من وراء السجن، فهذا السرخسي سجن في بئر فكان الطلاب يجتمعون حتى يصل إليهم صوته فأملى عليهم كتابه المبسوط بطوله من قعر بئر إملاءً.
كذلك عليه في بداية تدريسه أن يعلم أن الطالب هو محور العملية، وأن لا يثقل ذهنه بما لا يفهمه وبما لا يصل إليه، وليعلم أن الأمر سيأتي بالتدريس فلا يحاول أن تكون نهايته هو هي بداية الطالب، بل يتذكر بدايته هو ويحاول أن يسير الطالب على ذلك الطريق، كثير من الناس يحال أن يأتيك بالزبدة والنهاية نهاية ما وصل إليه فيجعلها بدايتك أنت وهذا أمر لا تصل إليه إلا بعناء ومشقة؛ ولذلك فإن في الأثر: (حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله، وما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم)، فلذلك على الإنسان أن يحاول أن يتدرج بطلابه وأن لا يقفز بهم قفزات كما يفعله كثيراً من الناس فيؤدي ذلك إلى انفصام في شخصياتهم وتعالم من لديهم، يتعالمون ويظنون أنهم قد وصلوا إلى أعلى المستويات وهم ما زالوا في بداية الطريق فيكون قد شارك الشيطان في غرور هؤلاء وإفساد حياتهم.
كذلك عليه أن يرتب العلوم حسب الأهمية، وللناس أن تتفاوت نظراتهم في ترتيب العلوم فمنهم من يرى البداءة بالوسائل قبل المقاصد؛ لأن الوسائل هي ظروف المقاصد، فمن لم يعرف اللغة والنحو والصرف لا يمكن أن يتفهم كثيراً من آيات القرآن ولا أن يستوعب طرق الاستنباط، ومن لم يعرف أصول الفقه لا يمكن أن يستوعب المسائل الفقهية وطرق استنباطها، وهكذا.
ومنهم من يرى أن المهم هو ما يقبل الناس عليه في زمانه ويدخل في حياتهم؛ ولذلك فإن من العلوم ما هو مهم في كل زمان لا تتراجع أهميته في أي زمان ولا في أي مكان مثل الفقه فهذا العلم دائماً الناس بحاجة إليه مهما تغيرت الحضارات والظروف وجاءت الصيحات وتعالت في رفضه فالناس بحاجة إليه دائماً.
ومثل ذلك تفهم كتاب الله فالإنسان من المفروض أن يسمعه وأن يقرأه فإذا أشكل عليه شيء أو لم يفهمه فهو محتاج حينئذٍ إلى أن يسأل وإذا سأل ينبغي أن يجد جواباً وإذا لم يجد فيحصل الإثم على العموم؛ لأن إجابة السائل في كتاب الله فرض كفاية لابد أن يكون في أهل كل بلدة من يجيب السائل فيها.
لكن مع هذا لا يمكن أن نجبر الناس على ترتيب معين للعلوم، ونحن نعلم أنها تنقسم إلى هذين القسمين:
إلى مقاصد وهي: العلوم الأصلية التي يتعبد الله بتعلمها.
وإلى وسائل تتممها وتكون وسيلة إلى إكمالها وذريعة لتحقيقها.
وكان كثير من أهل العلم يحول الجمع بين الطرفين فينظم وقته لذلك ولكن هذا الجمع إنما هو للمتفردين للعلم الذين ليس لهم شغل سواه؛ ولهذا تجدون طلاب الكليات الذين يدرسون في الجلسة الواحدة مواد متنوعة وأموراً مختلفة لا يتقنون هذا ولا هذا فيصبحون عالة على من سواهم؛ ولذلك ينبغي للشخص إذا كان يدرس أن يختار علماً معيناً يحاول أن يفرد هذا الوقت له ثم ينوع بعد ذلك يدرس علماً آخر وعلماً آخر ويجعلها بالتسلسل لأنها متكاملة فيما بينها بعضها يكمل بعضاً، وقد قال السيوطي: (ما ناورت ذا علم إلا غلبني ولا ناورت ذا علوم إلا غلبته).
فالذي يشتغل بعلم معين سيكون واضحاً أمامه مطلعاً على تفاصيله أكثر من غيره، والذي يشتغل بعلوم شتى في وقت واحد سيتشتت قلبه وجهده بين هذه العلوم المتنوعة إلا إذا كان منفرداً لهذا أو كان يجعل درساً في علم معين في الصباح مثلاً ودرساً في علم آخر في المساء.
وليعلم الإنسان كذلك أن العلوم منها ما لابد فيه من التلقي والسماع، ومنها ما يمكن أن يؤخذ بالمطالعة بعد إعداد العدة لها، فيكون الإنسان قد وصل إلى مستوى علمي يصلح به للمطالعة، وليس كل الناس يصلح للمطالعة، ولذلك يقول أبو حيان رحمه الله:
يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ظللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى تكون أضل من توما الحكيم
فالعلوم التي تحتاج إلى التلقي من الناس والسماع منها مثلاً: علم الأداء والقراءات، فلابد أن تتلقى من أفواه الرجال، ومثل ذلك الحديث لابد فيه من إسناد، ومثل ذلك العلوم المعقدة التي تحتاج إلى شرح كعلم النحو والصرف والعروض وأصول الفقه وغير ذلك هذه لابد أن تشرح.
والعلوم التي يمكن أن تتلقى من بطون الكتب كالتاريخ والأدب فهذه يمكن أن تتلقى من بطون الكتب مطالعة، القصص التاريخية في الغالب تكون أحداثها متسلسلة ونتائجها مبينة في كتبها وكذلك كتب الأدب التي تعنى بالتعبير عن الأفكار وتسلسلها وبيان أوجه المروءات وما اشتهر من الأجوبة المسكتة أو من الأفعال الجميلة والتعبير عن ذلك فهذا سائر مع الفطرة؛ ولذلك يستطيع الإنسان أن يطالعه ويكتفي فيه بالمطالعة.
ومن الأجدى والأحسن أن يرجع فيه كذلك مع المطالعة إلى المذاكرة، والمذاكرة هي أن يسمع غيره ويسمعه منه في هذا المجال حتى تزداد معارفه وتتفتح فيه هذه الأمور التي تؤخذ عن طريق المطالعة.
أما ما يتلقى بطريقة التلقي عن المشايخ فيحتاج فيه الإنسان إلى الانتخاب، أي: الرجوع إلى شيخ قد مهر ودرس علوماً متعددة ليختار للإنسان ما يناسبه، فقد كان من سنة أهل الحديث قضية الانتخاب في الرواية ومثلها كذلك الانتخاب في المادية العلمية التي يدرسها الإنسان على حسب مستواه، ثم بعد هذا المهارات الخاصة بكل علم من هذه العلوم، فكل علم من هذه العلوم يحتاج إلى مهارات مرتبطة به لأدائه، ولنبدأ بها بالتدريج.
السؤال: كثير من الناس اليوم يعترضون على تنويع العلوم فيقولون: إن الصحابة رضوان الله عليهم وكذلك من بعدهم من التابعين وأتباعهم لم يكن لديهم ما لدينا نحن اليوم من أنواع العلوم كالنحو والصرف والأصول والبيان وغير ذلك من العلوم فيدعون إلى الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة فقط ونبذ ما سواه؟
الجواب: أن العلم إنما هو اختراع وهو وليد الحاجة ونحن اليوم ظروفنا كلها وحياتنا تختلف عن حياة الصحابة ولا يمكن أن تعود في دنياك وأمورك إلى ما كان عليه الصحابة فتعيش في مثل ما عاشوا فيه تماماً، ولو كان يمكن ذلك فلا تدرس إلا ما درسوه، لو عدت إلى المدينة كما كانت، وعادت ملابسك ومراكبك ومسكنك وكل ما لديك مثلما كان لديهم فنعم، أدرس ما كانوا يدرسونه، وإلا فلم تكن حاجتهم داعية إلى مثل هذا؛ لأنك في زمان الصفقات فيه بالملايين ولم يكن الصحابة يعرفون هذا، وفي زمان الاتصالات تجمع مشارق الأرض ومغاربها ولم يكن الصحابة يعرفون هذا، وفي زمان تتأثر فيه الأسعار بالسياسة وبالإشاعة فقط مجرد إشاعة يرتفع بها سعر الأسهم وينخفض ولم يكن هذا في زمان الصحابة، وفي زمان تتطور فيه وسائل عيش الناس تطوراً مذهلاً يومياً ولم يكن الصحابة يعرفون هذا.
وهؤلاء ما هم إلا أمثال الأعراب الذين عندما نشأ علم النحو في الأمصار الإسلامية جاءوا من بواديهم فرأوا اشتغال الناس بهذه العلوم الجديدة فاستغربوا ذلك فصار هذا الخصام لديهم حتى إن أحدهم يقول:
ماذا لقيت من المستغربين ومن قياس نحوهم هذا الّذي ابتدعوا
إن قلت قافيةً بكراً يكون لها معنىً يخالف ما قاسوا وما صنعوا
قالوا لحنت فهذا الحرف منخفضٌ وذاك نصبٌ وهذا ليس يرتفع
وحرّشوا بين عبد الله فاجتهدوا وبين زيدٍ وطال الضّرب والوجع
فقلت واحدةً فيها جوابهم وكثرة القول بالإيجاز تنقطع
ما كلّ قولي مشروحٌ لكم فخذوا ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
حتّى أعود إلى القوم الّذين غذوا بما غذيت به والقول يتّسع
إنّي ربيت بأرض لا يشبُّ بها نار المجوس ولا تبنى بها البيع
ولا يطا القرد والخنزير تربتها لكن بها الرّيم والرّئبال والضّبع
وهؤلاء مقولتهم هذه تقتضي أيضاً أن يرجع الناس إلى القتال بالسيوف بدل الدبابات والصواريخ والطائرات، وأن يرجعوا كذلك إلى ركوب الخيل والحمر الأهلية بدل السيارات والطائرات، وكذلك أن يتركوا صحيح البخاري وصحيح مسلم، بل أن يتركوا المصاحف؛ لأن الصحابة في الصدر الأول لم تكن لديهم فيؤدي هذا إلى هدم الجيل من أساسه والتخلص من كل تكاليفه وما وصل الناس إليه، فمن قال هذا نظير من يقول: إن كتابة الحديث بدعة، وأن هذه الكتب كلها ينبغي أن تحرق؛ لأنها من المثلات، وأن كل ما استكتب بغير كتاب الله ينبغي أن يحرق فيحرق هؤلاء الموطأ والصحيحين وغير ذلك من كتب الحديث.
ولا شك أن هذا من الضلال المبين والانحراف البين الواضح ومنه ما قال القذافي قال: بأن الأمة تركها النبي صلى الله عليه وسلم على قلب رجل واحد فجاء أهل السياسة ففرقوها، ويقصد بأهل السياسة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، ثم جاء بعد ذلك المتفقهون فزادوا الطين بلة، ويقصد بهم أصحاب المذاهب، فيقول: بدل أن كان الدين واحداً أصبح الدين أربعة أديان: مالكي، وشافعي، وحنفي، وحنبلي، وهو لم يفهم شيئاً في الأمر أصلاً، فأراد هدم الدين وعلى بلاهته وبلادته فأصبحت حيلته مفضوحة لدى كل الناس.
وما هؤلاء إلا قذافيون آخرون فهم يدندنون حول هذا، ولو عادوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى رشدهم لعرفوا أن دعوتهم تقتضي ترك المصحف وترك صحيح البخاري وترك صحيح مسلم وأن يرجعوا إلى تقلد السيوف وركوب الخيل، وأن يفتحوا البلاد فتحاً جديداً من جديد ليعودوا فيهاجروا إلى المدينة ثم منها يفتحون مكة مرة أخرى، ثم يعيدون حياة الصحابة كما كانت كاملة بجميع نواحيها.
والواقع أن كل هذه العلوم هي من الكتاب والسنة، لكن إنما جاء الكتاب ليكون دستوراً للمسلمين في كل زمان ومكان وأصلاً تشريعياً لديهم، ولم ينزل للصحابة وحدهم ولا يمكن أن يقتصر على فهم الصحابة فقط لو كان كذلك لكان القرآن مثل غيره من الكتب تنتهي مزيته، القرآن لم ينزل للصحابة فقط، ولا يمكن أن يقتصر في تفسيره على تفاسير الصحابة، لو أردت أنت اليوم أن تقصر القرآن على ما ورد تفسيره فقط عن الصحابة وجمعت الآثار ستكون نبذة قليلة يسيره، واقتصرت على هذا وقلت: هذا معنى القرآن ولا نفسره زيادة على هذا، هل هذا صواب؟ هذا غاية في الخطأ والدجل، ومثل ذلك العلوم الأخرى فما هي إلا تشعبات في علم الحديث ومن علوم القرآن المختلفة وهذه التشعبات تزداد كلما ازداد الناس حضارة وكلما تنوعت موارد حياتهم ولا يمكن أن يقتصر معنى القرآن على ما فهمه جيل معين؛ ولهذا كل عصر من العصور مطالبون بأن يفسروا القرآن تفسيراً جديداً يتلاءم مع واقعهم، والناس اليوم إذا جاء مفسر جديد وأبدع قام عليه هجوم من قبل هؤلاء المتخلفين سيقولون: لا هجرة بعد الفتح وقد كثرت التفاسير ويكفينا تفسير ابن جرير وتفسير فلان وتفسير ابن كثير وانتهينا، كأن القرآن قد حصرت معانيه بفهم جيل معين أو أجيال محددة.
الواقع أن كل عصر من العصور يفهمون من القرآن حظهم ويدخر لهم منه ما يسد حاجتهم ويبين أحكامهم التي تتجدد، والوقائع التي تتجدد لا حصر لها كل يوم يتجدد من الوقائع مالم يخطر للصحابة على بال حتى في حياة الصحابة أول ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أبو بكر بالأمر حصل للصحابة كثير من الأمور التي اجتهدوا فيها بما لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: الخلافة لم تكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن تخطر لهم ببال. بعدها ميراث الجدة ليس مذكوراً في الكتاب ولم يجدوه، ولم يجده أبو بكر فيما رواه من السنة فاحتاج إلى أن يسأل الناس عنه. ثم في خلافة عمر حصل له أمثال هذا ميراث الجد مع الإخوة حين بلي بها عمر في أسرته، مات أحد أولاده واسمه عبد الرحمن فترك ثلاثة أولاد فمات أحدهم، فأراد عمر أن يرثه دون أخويه، فقيل له: إن الثلاثة يرثون دون أخويه، قال: كيف أكون له أباً ولا يكون لي أبناً أليس إذا مت ورثني دون إخوتي؟ قالوا: بلى. فرفع القضية إلى المهاجرين والأنصار فجعلوه كأحدهم، وهذه القضية اشتهرت، فقال فيها علي بن أبي طالب: (من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في مسألة الجد والإخوة)، يريد أنها ليست نصية.
ومثل ذلك فإن عمر حصلت في زمانه مشكلة إرث القاتل خطأً، من قتل خطأً أو شبه عمد فهل يرث قتيله أو من ديته؟ أول ما وقعت في زمان عمر في رجل من مدلج رمى ولده بسيف فأعطب ساقه ومات، فابتلي بها عمر فاجتهد فيها هذا الاجتهاد.
ومثل ذلك المسألة العمرية المشهورة في التركة التي استوعب فيها أصحاب الفروض المال دون الإخوة الأشقاء، وكان من أصحاب الفروض إخوة لأمه، فحين تكررت وحصلت مرة أخرى؛ جاء الإخوة الأشقاء فقالوا لـعمر: أرأيت لو كان أبونا حماراً أو حجراً ملقى في اليم أليست الأم تجمعنا؟ فجعلهم مثل الإخوة لأم، فجاء الأولون يخاصمون، فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.
ومثل ذلك هل ترث المرأة من دية زوجها؟ وقد أشكلت هذه المسألة على عمر حتى نادى مناديه في الحج أشهد بالله من لديه علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميراث امرأة من دية زوجها أن يأتيني، فأتاه الضحاك بن سفيان فقال: ( كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ).
ولم تزل القضايا تتجدد من ذلك الوقت إلى زماننا هذا، ولو رجعنا فقط إلى ما كان عند الصحابة من العلوم لأهملنا هذه الوقائع كلها وأدى ذلك إلى التقوقع في الدين، وأن تكون أحكام الله محصورة في مسائل محدودة لا تتعداها أصلاً؛ ولذلك لام الناس أهل الظاهر فيما يتعلق بالعقود والمعاملات، فإن أهل الظاهر تحجروا في هذا الباب فحصروا الربا في الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت: ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد سواءً بسواء فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، فقالوا: لا ربا إلا في الأصناف الستة، فخالفهم عموم المسلمين وأقاموا عليهم دعوى عريضة؛ لأنهم حصروا الإسلام في زاوية ضيقة ومعاش الناس قد يخلوا من هذه الأصناف الستة بالكلية.
ومثل انحصار الزكاة في الأموال التي كانت تؤخذ منها الزكاة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي تعطيلها اليوم، فأملاك الناس أصبحت هذه العملات التي يتعاملون بها، فلو قلنا: لا زكاة إلا في الحبوب والثمار وبهيمة الأنعام والذهب والفضة فقط؛ لأنها التي تؤخذ منها الزكاة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لاقتضى ذلك منع الزكاة بالكلية؛ لأن أكثر الأغنياء اليوم لا يملك من النعم ما تجب فيه الزكاة ولا يملك ذهباً ولا فضة، ولا يملك حرثاً ولا زراعة وإنما يملك المليارات من الدولارات والجنيهات فلو تحجرت ووقفت عند هذا الحد لمنعت الزكاة، وعطلت مصالح الإسلام كلها، فالأمر إذاً واضح لا مرية فيه.
وهذه المسألة تدخل أيضاً حتى في باب الدعوة فقد لقيت بعض الفقهاء فاعترضوا على هذه الدعوة وقالوا: أرأيتم هذا الذي تعلمونه وتدعون الناس إليه وتجمعونهم عليه من أين لكم هو فقد أدركنا آبائنا وكانوا أهل علم وصلاح وورع وهم قطعاً أفضل منا ومنكم فلم يكونوا يفعلون هذا الذي تفعلونه.
هذا السؤال كثيراً ما يطرحونه على بعض الناس فمن لم يكن حكيماً بدأ بمسبة آبائهم وتسفيه أحلامهم وأنهم لم يقوموا بالواجب فكان هذا مدعاة لحصول الشحناء والبغضاء دون نتيجة.
فأجبتهم بأن آبائنا رحمهم الله لم تكن نعمة الله عليهم كنعمته علينا؛ ولذلك هل يستطيع أحد منكم أن يعيش اليوم على ما كان يعيش عليه جده قبل مائة سنة أو خمسين سنة؟ قالوا: لا. هل يستطيع أن يلبس ما كان يلبسه ويسكن ما كان يسكنه، ويعيش بما كان يعيش به ويركب بما كان يركب؟ قالوا: لا. قلت: إذاً لا ترضون ما كانوا فيه من الدنيا وترضون به في الدين، أليس هذا من التطفيف البين، وقد قال مالك في الموطأ: يقال لكل شيء وفاء وتطفيف، قالوا: بلى. قلت: مثالكم ومثال آبائكم هنا من أخذ ملابس طفل صغير فأراد أن يلبسها وهو رجل كبير ضخم الجثة وقال: هذه يلبسها هذا الشخص وهو شخص مثلي ليس لدي عضو زائد على أعضائه لكن أحجامكما متباينة؟
الجواب الثاني: أنكم لقيتم ورأيتم من أنواع المحدثات والبدع والمشكلات مالم يره آبائكم فقد كانوا بمنأى وسلامة من ذلك.
وسألتهم: هل كان آبائكم يتوقعون أن تعيش الأمة كلها بالربا؟ قالوا: لا. هل رأيتم أنتم ذلك؟ قالوا: نعم. هل كان آبائكم يتوقعون أن يعيش ابن المسلمين بين أبويه المسلمين فيبلغ عشرين سنة فإذا هو ملحد لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ويرى ما يراه ماركس وغيره من الملحدين؟ قالوا: لا. هل حصل ذلك في حياتكم أنتم؟ قالوا: نعم، نشهد بالله لقد حصل. ولم أزل بهم بالتدريج حتى أقروا بالواقع الذي هم فيه وبمخالفتهم لما كان عليه آباؤهم.
فقلت إذاً: ألا تذكرون أن مالكاً رحمه الله قال: (تحدث للناس أقضية على حسب ما أحدثوا من الفجور)؟ قالوا: بلى قال هذا، قلت: وقد حدث الفجور فأحدثوا له أقضية ولا يمكن أن يسده إلا ما نحن فيه، توافقون عليه؟ فقالوا: نعم نوافقكم الآن.
فقلت: هذا الذي أنتم فيه أيضاً له مثالاً آخر فمثالكم ومثال آبائكم في هذه المسألة كمثال قوم فوق جبل وقوم في مجرى السيل فأقبل السيل بهديره، فكان الذين في مجراه يخاطبهم الناس فيقولون: سدوا سداً لئلا يقتلع السيل بنيانكم، فيقولون: لا. الذين فوق الجبل نراهم لا يقومون بهذا العمل ولا يبنون سداً ونحن لن نفعل إلا ما فعلوا، فيقال: أولئك بمنأى عن السيل ولن يصل إليهم وأنتم في مجراه المباشر، فكذلك أنتم وآباؤكم، آبائكم كانوا في منأى عن هذه المحدثات وأنتم في مجراها فلا يمكن أن تقيسوا عليهم، فقنعوا بهذا ورضوا به.
فكذلك يقال لهؤلاء في مجالات العلوم كلها.
بالنسبة لاستحضار المعلومات في الوقت المناسب إنما يكون بأمرين:
الأمر الأول: أن يعيها الإنسان تماماً وأن يستوعبها فالذي يسمع المعلومة ويظن أنها قد لصقت بشغاف قلبه هذا مغرور فالمعلومات لا تثبت إلا بكثرة المراجعة والمذاكرة، وقصد استذكارها في غير وقت الحاجة ليستذكرها في وقت الحاجة فأنت أحوج ما تكون لتذكر كلمة الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله فإذا كان الإنسان في النزع كثيراً ما تخونه هذه المعلومة ولا يتذكرها إلا من رحم الله ووفقه وثبته، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، لكن من أكثر ذكر الله وأكثر ذلك في أوقات الصحة والفراغ سيتذكره في وقت الشدة، فإذاً لابد من الإكثار من تذكر المعلومات.
الأمر الثاني: لابد من التدريب على استحضار المعلومات ويكون ذلك بمذاكرة طلاب العلم، ومراجعة الإنسان لمعلوماته وتحصيل الترابط بينها لتنشيط الذهن حتى يستحضر أي شيء أودعه ويعرف مكانه مثل الذي يضع كثيراً من الأغراض في بيته إذا كانت أموره مرتبة فإذا جاء يريد غرضاً من هذه الأغراض لن يذهب إلى غرفة ليس فيها بل سيذهب إلى الغرفة التي وضعه فيها ويعرف مكانه منها، وكذلك إذا كنت أنت تأتي بالكتب تشتريها وتضعها على الرفوف ولا تطالع فيها ولا تدرسها فلن تهتدي إلى الكتاب في الوقت المناسب، لكن إذا كان هذا الكتاب دائماً بين يديك وتقرأه وتعرف موضوعه فهو ولو لم تره حاضر في ذهنك مرتسم فيه في مكانه.
ومثل ذلك المعلومات إذا ثبتت واستطاع الإنسان أن يعرف طريقة استحضارها يتذكرها كما لو رآها مرسومة أمامه فإذا أردت أن تقدم أي معلومة كأنك تراها وتقرأها بالصفحة والجزء بالكتاب، تستحضرها تمام الاستحضار؛ ولهذا قال البدوي رحمه الله في نظم عمود النسب:
وإن عرفت النسب الخطيرا وسيرة تكن بهم خبيرا
حتى كأنهم بعين النقس في الصك قد لاحوا لعين الحس
يقول: (إذا عرفت النسب الخطيرا): العظيم الشأن، نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(وسيرة)، أي: سيرهم، (تكن بهم خبيراً)، تكون خبيراً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(حتى كأنهم بعين النقس)، وهو المداد (في الصك)، وهو الورقة.
(قد لاحوا لعين الحس)، كأنك عرفتهم بألوانهم وذواتهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر