إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [20]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • علم السيرة النبوية من العلوم الشرعية المهمة، لتعلقه بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته ونشأته، وبعثته ودعوته والوحي إليه، وهجرته، وإقامته للدولة الإسلامية، وموته صلى الله عليه وسلم، وغزواته، وبعوثه وسراياه، وسيرة أصحابه الذين آزروه ونصروه من المهاجرين والأنصار الذين جاءوا من بعدهم.

    1.   

    موضوع علم السيرة النبوية

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد: فإن من العلوم الشرعية المهمة علم السيرة النبوية، وهذا العلم أحبه؛ لأنه العلم الذي يبحث فيه عن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراحل حياته ودعوته.

    ثم موضوعه ما يتعلق بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته ونشأته، ثم ما يتعلق ببعثته ودعوته والوحي إليه، وهجرته، وإقامته للدولة الإسلامية، وموته صلى الله عليه وسلم، وغزواته، وبعوثه وسراياه، وما يتعلق كذلك بأصحابه الذين آزروه ونصروه من المهاجرين والأنصار الذين جاءوا من بعدهم، ويشمل كذلك أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الخَلقية والخُلقية، وهي التي تسمى بالشمائل النبوية.

    1.   

    واضع علم السيرة النبوية

    ثم واضع هذا العلم لا يمكن تحديده كالعلوم التاريخية كلها، إذ ليس للتاريخ واضع بعينه، لكن يمكن أن يحمل هذا على أول من ألف فيه.

    أول من ألف في علم السير

    وأول من ألف في علم السير كتابةً وجمعاً واعتنى بذلك هو الإمام عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، وهو من كبار التابعين ومن أئمة التابعين الذين اشتهروا بالفقهاء السبعة، فأبوه حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد، وجدته لأبيه صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهن، وخالته كذلك أم المؤمنين عائشة الصديقة ابنة الصديق رضي الله عن الجميع.

    وقد ولد عروة بن الزبير رضي الله عنه في أوائل خلافة عثمان بن عفان، وانفرد بالعلم، وحين اشتغل آل بيته كأخيه عبد الله وأخيه مصعب وغيرهما من إخوانه بالسياسة وأمر الدولة، لم يكن هو يشتغل بذلك، بل اقتصر على العلم جمعاً وتعليماً ودراسةً، ولكن مع هذا فإن تأليفه الذي جمعه في السير، وروى فيه عن كبار الصحابة كعائشة رضي الله عنها وغيرها من أمهات المؤمنين، كغيره من تآليف التابعين، لكنه لم يكن على طريقة التأليف التي جرت فيما بعد، بل كان جمعاً للقصص والأخبار، لكن روي من طريقه كثير من هذه القصص في الصحيحين وغيرهما، فكثير من قصص السير تروى من طريق عروة بن الزبير .

    سيرة ابن إسحاق واختصار ابن هشام لها

    ثم جاء تلامذة عروة، فاشتهر من الذين ألفوا منهم في هذا العلم محمد بن إسحاق، وكان فارس ميدان السير، ومع هذا فقد كان فيه لين، وقد كان مالك سيئ الرأي فيه، وقد جعله البخاري على شرطه، فأخرج له في الصحيح، ولم يجعله مسلم على شرطه فلم يخرج له شيئاً في الصحيح، وهذا النوع يحصل، فقد يكون الرجل على شرط البخاري وليس على شرط مسلم، وقد يكون كذلك على شرط مسلم وليس على شرط البخاري، فمثلاً سهيل بن أبي صالح السمان على شرط مسلم، وليس على شرط البخاري، فلم يخرج له البخاري شيئاً، وكذلك حماد بن سلمة على شرط مسلم، ولم يخرج له البخاري شيئاً، وفي المقابل محمد بن إسحاق وعبيد الله بن موسى وعمران بن حطان، وعدد من الذين انفرد بهم البخاري في الصحيح ليسوا على شرط مسلم، ولم يخرج لهم، ويمكن أن يعد مع هؤلاء محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري ومسلم، فقد أخرج له البخاري في الصحيح، ولم يخرج له مسلم شيئاً.

    ومحمد بن إسحاق بلا ريب من أوعية العلم، ومن الحفاظ الكبار وبالأخص في مجال السير، ولقد ألف كتابه (المنتقى في السير) كتاباً كبيراً اشتهر فيما بعد بسيرة ابن إسحاق، وإن كان لم يعتن فيه بالأسانيد، ولا بالتصحيح، وقد أورد فيه كثيراً من القصص التي يخالفها قصص أخرى صحيحة في الصحيحين وغيرهما، وأورد فيه كذلك كثيراً من الأشعار التي لو كانت صحيحة النسبة لاشتهرت روايتها كما اشتهرت رواية غيرها، ومع ذلك لم ترو، ولهذا احتاج العلماء فيما بعد إلى تهذيبه، فانبرى لذلك ابن هشام اللخمي الأندلسي فألف كتابه في تهذيب سيرة ابن إسحاق، وقد اشتهر هذا الكتاب بـ (سيرة ابن هشام)، وقد حذف كثيراً من القصص التي أوردها ابن إسحاق، والتي يرى هو أنها منقولة عن طريق أهل الكتاب كما رواه ابن إسحاق من طريق محمد بن كعب القرظي، أو ما رواه عن تلامذة كعب الأحبار، وعن غيرهما من مسلمة اليهود الذين كانوا بالمدينة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني قريظة سبى ذراريهم ونساءهم، فأسلموا وبقوا بالمدينة، ولقي محمد بن إسحاق عدداً كثيراً منهم، فمن أحاديثه في الأخبار ما يكون عن هؤلاء الذين كانوا يهوداً، وبالأخص ما يتعلق بالأنبياء السابقين، وبدء الخلق، وأحاديث الأنبياء وغير ذلك، فحذف ابن هشام أكثر هذه القصص التي يرى أنها أخذت عن طريق مسلمة أهل الكتاب، وأثبت كثيراً مما سواها، لكنه يعلق عليها، فإذا أثبت قصيدةً من الشعر من سيرة ابن إسحاق قال بعدها: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرونها له، أو لا يعرفونها له.

    وكذلك فإن سيرة ابن إسحاق أصبحت مرجعاً فيما بعد لدى كثير من الفقهاء والمؤرخين وغيرهم، فالذين يأخذون الأحكام من القصص السيرية في التاريخ يأخذونها عن طريق سيرة ابن إسحاق؛ لأنها أعلى كتاب في هذا الفن.

    كتابة الواقدي للسيرة

    ثم بعد ابن إسحاق الإمام الواقدي محمد بن عمر، وقد كان يجلس إلى مالك بن أنس ويحدثه، ويسمع منه مالك دون أن يرد عليه، لكن مالكاً لم يحدث عنه بشيء، وهو متروك عند أهل الحديث، ومع هذا فهو من أوعية العلم، ومن الأئمة الكبار في الحديث والتفسير والسير والتاريخ وغير ذلك، ويكفي لعلو كعبه أن كاتبه وتلميذه هو محمد بن سعد صاحب الطبقات الذي هو إمام وشيخ لأصحاب الكتب الستة، فقد ألف الواقدي كثيراً من الكتب في السير، منها كتاب السير الكبير ولم يصل إلينا، وكتاب السير الصغير ولم يصل إلينا كذلك، وكتاب (فتوح الشام) وقد طبع في عدة طبعات، وكتب أخرى له في هذا المجال.

    ومن هؤلاء الذين اشتهروا كذلك في ذلك العصر بالاشتغال بالسير موسى بن عقبة، وهو كذلك من أوعية العلم، وقد اشتهر برواية السير والمغازي، وألف في المغازي كتاباً جامعاً كبيراً، ولم يصل إلينا.

    واشتهر عموماً في زمان التابعين عدد من أئمة السير الذين كانوا يتناقلون في الأخبار، ومن هؤلاء المعتمر بن سليمان وأبوه قبله، وسليمان بن بلال، وأبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عم مالك بن أنس .

    إدخال علم السير في علم الحديث

    ثم فيما بعد هذا العصر أدخلت السير في علم الحديث كغيرها من العلوم، فقد جعل البخاري في صحيحه كتاباً لبدء الخلق، وكتاباً لأحاديث الأنبياء، وكتاباً لاستتابة المرتدين، وكتاباً للمغازي، وكتاباً للمناقب والفضائل، وذكر فيه مناقب آل البيت، ومناقب المهاجرين، ومناقب الأنصار، وكذلك في كتاب التفسير في الصحيح كثير من قصص السير التي تتعلق بتفسير القرآن، وهذا مثال فقط من اعتناء المحدثين بالسير في كتبهم.

    اختلاط علم السير بعلم الرجال

    وقد خالط هذا العلم علم الرجال الذي سبق التحدث عنه، فقد عددنا من كتب علم الرجال كتاب الطبقات الكبرى لـابن سعد، وقد افتتحه بجزءين كاملين في السيرة النبوية الجزء الأول والثاني، ثم الجزء الثالث عن أهل بدر، وذكر فيه كثيراً من أمور السيرة، وهكذا الكتب المؤلفة على الطبقات أو التواريخ في علم الرجال كثير منها يعتني بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    التأليف في السيرة النبوية على طريقة جمع القصص

    ثم بعد هذا بدأ التأليف في التاريخ الإسلامي على طريقة تختلف عن طريقة المحدثين، وهي طريقة جمع القصص دون الرجوع إلى الأسانيد سواءً رتبت على السنوات بحوادث السنين، أو كانت في تراجم الرجال وذكر المأثور عنهم، وفارس هذا الميدان وأول من ألف فيه تقريباً هو محمد بن جرير الطبري حيث ألف كتابه الكبير الحافل الذي اشتهر باسم تاريخ الطبري، لكن كثيراً من القصص فيه مروية عن المتروكين والضعفاء، وكان ذلك سنة أهل السير فيما بعد، فلم يعتنوا بالتمييز بين الخبيث والطيب من لدن ابن جرير الطبري إلى هلم جراً، ولهذا قال الإمام أحمد البدوي رحمه الله قال: وليعلم الناظر أن السيرة تضم ما صح وما قد ذكر، فيصعب فيها التمييز بين الخبيث والطيب. والعراقي في الألفية قال نظير هذا أيضاً.

    ومن الكتب المؤلفة على شاكلة كتاب الطبري الآخذة مما فيه من السير كتب الإمام الذهبي، فقد افتتح التاريخ الإسلامي بالسيرة النبوية، وبسيرة الخلفاء الراشدين، وكذلك في كتبه الأخرى في التاريخ ككتاب العبر وغيره.

    وكذلك الحافظ ابن كثير ألف كتابه المستقل في السيرة النبوية وهو مطبوع مشتهر، وقد اختار منه محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتاب (مختصر السيرة)، وكذلك كتابه في التاريخ الإسلامي الكبير الذي سماه (البداية والنهاية).

    ومن المؤلفين على هذه الشاكلة كذلك ابن الأثير الذي ألف كتابه الكامل في التاريخ، فاعتنى فيه بالسير والقصص، ثم جاء ابن سيد الناس اليعمري فألف كتابه (عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير)، فكان من أحسن هذه الكتب وأدقها تعبيراً وأحسن ترتيباً، واعتنى به من خلفه، وعليه تقريباً اعتمد القسطلاني في كتابه القيم (المواهب اللدنية في السيرة النبوية)، وهذا الكتاب هو الذي شرحه محمد بن عبد الباقي الزرقاني في كتابه الحافل الكبير (شرح المواهب اللدنية)، وهو من أوسع الكتب في علم السير، وكذلك اعتمد عليه صاحب سبل الهدى والرشاد، وهو أيضاً بعد شرح ابن عبد الباقي أوسع كتاب في السير، لكن صاحب (سبل الهدى والرشاد) حاول أن يميز كل باب من أبواب السيرة بما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة، فكان هذا تطويراً لعلم السير عموماً.

    وعلى كثرة المؤلفين من الحفاظ في علم السير فإنك تجد أن كثيراً مما يقصونه من القصص يعتمد على رواية ابن إسحاق والواقدي، ومن هؤلاء الدمياطي في كتابه (السيرة) مع أنه من الحفاظ النقال، وكذلك ابن عبد البر في كتابه (المختصر في السيرة النبوية)، وكذلك ابن قدامة في كتبه المتعددة التي خصص كتاباً منها في سيرة الصحابة من المهاجرين، وكتاباً في سيرة الصحابة من الأنصار، وكتاباً للسير، وكذلك الكلاعي الأندلسي الذي ألف كتابه الكبير الحافل في السير، وغير هذا من الكتب الكثيرة التي لا يمكن إحصاؤها، فما من قطر من الأقطار إلا واشتهر فيه عدد كبير من المؤلفات في السيرة النبوية، ولكن مرجعها واحد؛ لأنها تتناقل في الغالب القصص كما هي من رواية ابن إسحاق والواقدي، والكتب المتميزة في هذا العلم غير كتاب ابن عبد الباقي الذي امتاز بالجمع والإحاطة، وكتاب (سبل الهدى والرشاد) الذي امتاز بالتأصيل بالأحاديث الصحيحة.

    كتاب الشفاء وتميزه عن كتب علم السير

    ومن الكتب التي تميزت كذلك في هذا العلم كتاب الشفاء للقاضي عياض، وقد سماه (الشفاء بالتعريف بحقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب علمي عقد فيه أبواباً لم يتطرق لها أهل السير، مثل الكلام في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل الكلام في عصمة الأنبياء عموماً، ومثل الكلام في احترام السلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وأتى فيه بكثير من العلم، ومع ذلك فيه بعض الأحاديث الضعيفة، وفيه كذلك بعض القصص التي ليس لها إسناد، لكن ليست منسوبةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى أصحابه بل هي مقطوعة عمن دونهم.

    وعموماً كان كتاب القاضي عياض من أجل الكتب، وقد وضع الله له القبول، فكان أهل الحديث يروونه كما يروون غيره من الكتب، واشتهر في آفاق الأرض جميعاً، وإلى زماننا هذا لا يخلو إسناد من أثبات المحدثين من سند لكتاب الشفاء للقاضي عياض، وكذلك فإن العلماء في كل زمان في شهر ربيع الأول يقرءونه في مجالسهم على الطلاب، وقد سمعته ثلاث عشرة مرةً من جدي رحمه الله، كل واحدة كانت في شهر ربيع الأول.

    وهذا الكتاب على جلالة قدره ونفاسته اعتنى به الناس كذلك في الشروح والتعليقات، وكثرت شروحه والتعليقات عليه، واشتهر به صاحبه الإمام عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، وهو قاضي المرابطين من أئمة علماء المالكية، وله سوى الشفاء كثير من الكتب مثل كتاب التنبيهات على المدونة ولم يطبع بعد. ومن كتبه النافعة كتاب مشارق الأنوار، شرح فيه غريب لغة الصحيحين والموطأ، وعندما وصل هذا الكتاب إلى مصر نظر فيه أبو حيان فأعجب به إعجاباً بالغاً، وكتب عليه أبياته المشهورة:

    مشارق أنوار تبدت بسبتة فوا عجباً تبدو المشارق بالمغرب

    ومرعًى أنيق في جديب ربوعها ألا فاعجبوا للخصب في وضيع الجدب

    فما فضل الأرجاء إلا رجالها وإلا فلا فضل لترب على ترب

    لكن مع هذا أطت شهرة الشفاء على غيره من كتاب القاضي عياض، حتى أصبح الناس يقولون: لولا الشفاء لما عرف المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرفون حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا واقع في المسلمين.

    والمقصود من معرفة المصطفى صلى الله عليه وسلم معرفة ما له من حقوق على أمته، والإجابة عن كثير من الإشكالات العلمية المتعلقة بحياته صلى الله عليه وسلم.

    المنظومات في علم السيرة النبوية

    ثم جاء الإمام أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي فنظم ألفية في السيرة النبوية، ولم تلقَ هذه الألفية من العناية ما لقي غيرها كألفيته في الحديث مثلاً.

    والمنظومات في هذا العلم كذلك كثيرة، ومن أهمها: نظم الغزوات لـأحمد البدوي الأموي الشنقيطي، وهذا النظم يتحدث عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وشاركته فيه أخته، وقد وضع الله عليها القبول، فرواه الناس وحفظوه، وكثرت شروحه، واشتهرت، ومن شروحه المتداولة إنارة الدجى لـحسن المشاط المالكي، وكذلك روض النهى لابن أخيه حماد بن الأمير الأموي المجلسي، وكذلك شرح العلامة عبد القادر بن محمد بن محمد بن سالم البهي، وإن كان لم يطبع بعد إلا أنه من أوسع هذه الكتب.

    ومن المنظومات كذلك في هذا العلم: منظومة قرة الأبصار في سيرة المشفع المختار صلى الله عليه وسلم لـعبد العزيز اللمطي الجزائري، وهي نظم سهل هين يحفظه الصغار، وقد كثرت شروحه كذلك ووضع الله عليه القبول، فلم يزل الناس يحفظونه ويتداولونه فيما بينهم، على أن في آخره في خاتمته بعض المبالغات التي قد تدخل فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإطراء.

    التأليف في علم الشمائل النبوية

    ويدخل في علم السير علم الشمائل النبوية، ومن أهم الكتب المؤلفة فيه كتاب الترمذي أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الإمام، وهذا الكتاب فيه عدد كبير من الأحاديث الصحيحة، وفيه كذلك بعض الأحاديث الضعيفة، وقد اشتهر كذلك في مشارق الأرض ومغاربها، وكثرت المؤلفات والشروح عليه، ومن الشروح المطبوعة عليه شرح جسوس، وحاشية ابن نيس، وإن كان فيهما بعض ما اختلقه بعض المتصوفة.

    وكذلك كتاب الشمائل النبوية لـابن كثير، وقد جاء كتاب ابن القيم زاد المعاد حاوياً لأمور مهمة في هذا العلم، فلم يجعل كتابه مختصاً في السير، بل أتى فيه ببعض الأبحاث السيرية مربوطة بالأحكام الفقهية، وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه وتصرفه في الأمر، فكان كتابه متميزاً من هذا القبيل.

    وكذلك كتاب سفر السعادة لـمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي صاحب القاموس، فقد أتى فيه بأبحاث السيرة، وأضاف إليها بعض ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأذكار والأدعية.

    1.   

    مستمد علم السيرة

    أما مستمد هذا العلم: فهو من القرآن والسنة وقصص السلف، وقصص بني إسرائيل كذلك، فقد استمد كثير من سير الأنبياء السابقين، وممن كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار، من قصص بني إسرائيل.

    وكذلك علم الأنساب، فإنه يرتبط بهذا العلم ارتباطاً وثيقاً، ولذلك قال أحمد البدوي في مقدمة نظمه في الأنساب:

    وإن جمعت النسب الخطيرا وسيرة تكن بهم خبيرا

    حتى كأنهم بعين النقس في الصك قد لاحوا لعين الحس

    فقد جُرب هذا، فإنك إذا عرفت نسب الإنسان وعرفت سيرته وحياته، ازدادت معرفتك به حتى كأنك تراه بعين رأسك، ولذلك أذكر في الصغر أننا كنا إذا سئلنا عن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نعرف أنسابهم وسيرهم، نظن أننا قد لقيناه، وأنه قد أتانا قبل ذلك، ونصفه لما في المخيلة مما عرف من نسبه، وقد كنت في الصغر أظن أنني أعرف كثيراً منهم بأعيانهم.

    1.   

    فوائد علم السيرة النبوية

    كذلك فإن فائدة هذا العلم هي معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وآل بيته، مما يقتضي محبتهم، فإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط في الإيمان: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، ( لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك)، ولا يمكن أن يحب إلا إذا عرف؛ لأن الحكم على المجهول لا يفيد.

    وكذلك من فوائد هذا العلم: الاقتداء بهم فيما فعلوه، وبالأخص فيما يتعلق بنصرة الدين، والجهاد في سبيل الله، والتضحية في سبيله وإعلاء كلمته، ولولا هذا العلم لما حصل كثير من تضحيات المسلمين التي يجدونها في السير.

    وكذلك من فوائد هذا العلم: أنه تسلية للمؤمن فيما يصيبه من المصائب، فإذا قرأ مصائب هؤلاء الذين أكرمهم الله، فعرف أن الإنسان يبتلى على قدر مكانته عند الله عز وجل، (وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، فهان عليه ما يجده هو مما دون ذلك، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه النكتة بقوله: (رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).

    وكذلك فإن من فوائد علم السير أن كثيراً من الأمور لا يمكن أن تعرف أحكامها من تلقاء النصوص الشرعية أو اجتهادات المجتهدين فقط؛ لأنها أقرب إلى الواقعية، فلا يمكن أن تؤخذ أحكامها إلا من السيرة النبوية، ومن هذا أمور العمل الإسلامي، فإن كثيراً منها لا يمكن أن تعرف أحكامه وتفصيلاته وتحصل القناعة به إلا بدراسة السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين وأعمالهم.

    1.   

    فضل علم السيرة النبوية

    فضل هذا العلم إنما ينشأ عن فائدته، وفضل كل علم هو بحسب فائدته، ولا شك أن هذا العلم كبير الفائدة، فكل الفوائد السابقة هي بعض فوائده فقط، وإذا كان كذلك علم فضله من بين العلوم.

    1.   

    حكم تعلم علم السيرة النبوية

    أما حكمه: فإن القدر الذي يعرف به الإنسان منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يميزه فرض عين، وما زاد على ذلك فرض كفاية، وبعض أهل العلم يحجر واسعاً، فيذكر أنه يجب على كل إنسان فرض عين أن يعرف آباء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد مناف؛ لأنه لا يمكن أن يميز عن غيره إلا هكذا؛ لأن العادة أن الإنسان إذا ذكر باسمه واسم أبيه واسم جده فقط، لا يميزه هذا عمن سواه، ولكن إذا رفع في نسبه إلى الجد الذي يميزه، فمن الغالب ألا يختلط الأشخاص إذا ذكر في النسب أربعة أشخاص، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فإذا ذكر له أربعة آباء لا يشركه أحد في هذه النسبة.

    ومثل ذلك يقولون: في أمهاته صلى الله عليه وسلم.

    وقد اعتنى الناس بنسبه صلى الله عليه وسلم عناية بالغة، وأصلها ما أخذ عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه هذا، والمحفوظ من أمهاته صلى الله عليه وسلم خمسمائة وعشرون، وما من قبيلة من قبائل العرب إلا وله فيها خؤولة إلا بني تغلب وحدهم، فلا تعرف له خؤولة في تغلب، لكن ما من قبيلة أخرى إلا وله فيها خؤولة.

    وهذه الأمهات هي أمهاته من قبل أمه وأبيه معاً، وقد نظم البدوي رحمه الله أمهات السلك النبوي، سلك آباء النبي صلى الله عليه وسلم، فبين الأم المباشرة لكل واحد منهم.

    وبين النبي صلى الله عليه وسلم بعض ذلك في قوله: (أنا ابن العواتك من سليم)، العواتك من سليم ثلاث: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، وعاتكة بنت مرة بن هلال، وعاتكة بنت هلال، وهؤلاء العواتك أمهات النبي صلى الله عليه وسلم، فـعاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، هي أم وهب جده لأمه، وعاتكة بنت مرة بن هلال هي أم هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم الثاني من قبل أبيه، وعاتكة بنت هلال هي أم عبد مناف بن زهرة جد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى لأمه، وكذلك انتسابه صلى الله عليه وسلم لـخندف وهي زوجة إلياس أم مدركة جد النبي صلى الله عليه وسلم.

    وعموماً فإن من تفصيلات هذا العلم ما لا يمكن أن يحكم عليه بأنه فرض كفاية، بل قد يكون سنة أو مندوباً، مثل الرفع في نسبه صلى الله عليه وسلم إلى منتهاه: فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهذا المجمع عليه من نسبه، وعدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن نابت بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر بن ماخور بن فالغ بن عابر بن المتوشلح سام بن نوح بن لامك أو لمك، بن مهلائيل بن يرد بن أخنوخ بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليهما السلام.

    وكذلك فإن أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن قصي بن كلاب بن مرة.

    وأمها: برة بنت عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة.

    ويذكر أن سبب عناية البدوي رحمه الله بعلم الأنساب أنه خرج وهو صغير في قافلة، فمروا بحي من أحياء الأعراب البوادي، ومن عادة الناس عندنا إذا نزل عليهم ضيوف في سن الطلب أن يمتحنوهم. فسألت امرأة عن أم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفها، فقطع رحلته ورجع لطلب العلم حتى نظم اسمها في نظم الأنساب حيث قال:

    وأم أم المصطفى إذ تعزى برة بنت القرم عبد العزى

    1.   

    اسم العلم الخاص بالسيرة النبوية

    أما اسم هذا العلم فهو علم السير، أو علم السيرة النبوية، والسيرة جمع سيرة، والسيرة الطريقة، ومنه قول الله تعالى: سِيرَتَهَا الأُولَى[طه:21]، أي: طريقتها الأولى التي كانت عليها عندما كانت عصاً قبل أن تلقى، فتكون حية تسعى.

    والسير جمع، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم معناه: مسيرة حياته، لكن نظراً لكثرة ما فيها من الأعمال الصالحة جمعت، وكذلك إذا أضيف إليها ما يذكر معها من سير أصحابه، وآل بيته، ومن سير من قبله من الأنبياء، ومن سير أجداده، كان ذلك سيراً.

    ولتفصيلات هذا العلم أسماء، فعلم النسب الشريف، وعلم الشمائل المحمدية، وعلم المغازي، هذه كلها داخلة في علم السيرة بمعناه العام.

    1.   

    نسبة علم السيرة النبوية

    أما نسبته، نسبة هذا العلم إلى غيره من العلوم، فنسبته إلى العلوم الشرعية نسبة العموم والخصوص لوجهه لاشتراكه مع علم التفسير، وعلم الحديث وعلم التاريخ، وعلم الرجال، في كثير من الأبحاث، ولاختصاصه هو في بعض الأبحاث المختصة به كاختصاص كل علم من هذه العلوم بأبحاث تختص به.

    1.   

    مسائل علم السيرة النبوية

    أما مسائله: فهي تشتمل على بدء الخلق، وإهباط آدم وحواء إلى الأرض، وعمارة هذه الأرض والاستخلاف فيها، ثم بتاريخ مكة منذ بناء البيت الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس، وما تداول عليه من القبائل، ثم ذكر أجداد النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان لهم من الاختيار والاصطفاء الرباني، فإن الله اختارهم على من سواهم، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اصطفى من ذرية آدم إبراهيم، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ذرية إسماعيل بني كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسنى، فأنا خيار من خيار من خيار ولا فخر).

    وكذلك ما أكرمه الله به من الإرهاصات السابقة على مولده كقصة الفيل، وإهلاك الله للذين أتوا به، فما هي إلا إرهاصات من إرهاصات مبعث هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك انطفاء نار الفرس وتصدع الإيوان، ورؤيا الموبذان التي نسيها في النوم بعد أن أفزعته، فجمع كسرى العرافين والمنجمين، والكهان ليعبروا له هذه الرؤيا، فلم يعبرها أحد منهم، فأتاه رجل من العرب صاحب مغامراته، وهو عبد المسيح اليماني، فجعل له جعلاً على أن يأتيه بهذه الرؤيا، فسافر عبد المسيح إلى اليمن بكاهن لهم هناك من حمير كان يسمى (سطيحاً)، فوجده مغمًى عليه من ثلاث لا يتكلم، قد أشرف على الموت، فأنشد في أذنيه:

    أصم أم يسمع غطريف اليمن أم فاد فازلم به شأو العنن

    يا فاصل الخطة أعيت من ومن أتاك شيخ الحي من آل سنن

    وأمه من آل ذئب بن حجن أبيض فضفاض الرداء والبدن

    تحملني وجن وتهوي بي وجن رسول قيل الفرس في أرض اليمن

    فرفع رأسه وقال: عبد المسيح على جمل مشيح جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، أرسلك ملك بني ساسان لخمود النيران، وتصدع الإيوان، ورؤيا الموبذان، رأى خيلاً عرابا تقود إبلا صعاباً، قد قطعت دجلة وتفرقت فيما وراءها، يا عبد المسيح! إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، فليست الشام لسطيح شأما، يملك منهم ملوك وملكات، بعدد الشرفات، وكل ما هو آتٍ آت، ومات.

    فحفظها عبد المسيح وأتى بها هرقل، فتذكر الموبذان رؤياه، فجاءت على وفق ما أخبر به، أنه رأى أربع عشرة شرفة من شرفات الإيوان تساقطت، ورأى هذه الخيل العرابا التي تقود الإبل الصعاب، فكان ذلك كما أخبر: يملك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات التي سقطت، هي أربع عشرة، في المدة الوجيزة ما بين ذلك.. عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم وما بين فتح العراق ملك منهم في هذه المدة أربعة عشر ملكاً وملكة.

    وكذلك بعدها المعجزات النبوية، وقد ألف فيها عدد من المؤلفين في المعجزات وحدها، وهي كثيرة وأعظمها الوحي المنزل عليه صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن المعجز، والمعجزات سوى ذلك كثيرة، وقد تضمن القرآن كثيراً منها، كانشقاق القمر، وكعلم الأميين، وغير ذلك مما تضمنه القرآن.

    وتضمنت السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من المعجزات كالإخبار بفتح كنوز كسرى وقيصر وإنفاقهما في سبيل الله، وبلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، وغير ذلك من المعجزات العظيمة.

    وكذلك منها خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تشمل خصائص تشريعية وخصائص كونية.

    الخصائص الكونية: ما خصه الله سبحانه وتعالى به من الإجلال والتعظيم كما يتعلق بخلقته، فإنه ما رآه أحد قط إلا هابه، وما ساير أحداً قط إلا طاله، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحس بالجوع ولا بالعطش، لا في الصوم ولا في غيره، يطعمه الله ويسقيه، وكذلك فإن الغمامة تظله في مسيره في الصيف.

    والخصائص التشريعية كثيرة جداً، منها: ما يختص به وجوباً عليه، ومنها ما يختص به حرمة، ومنها ما يختص به إباحة.

    وكذلك من هذه الأبحاث وسائر ما يتعلق بنسب قريش ومكانتها، وكونهم أهل الحرم، وما يتعلق من بطونهم وما لهم من المآثر، وما حصل بينهم من قبل، وبين غيرهم من الحروب، وما أكرمهم الله به من الإيلاف والأمن من الجوع والخوف، كما قال الشاعر:

    زعمتم أن إخوتكم قريشا لهم إلف وليس لكم إلاف

    قريش أومنوا جوعاً وخوفاً وقد جاعت بنو أسد وخافوا

    وكذلك منها ما يتعلق ببعثته صلى الله عليه وسلم، ودعوته ثلاث عشرة سنة بمكة، وعرضه نفسه على القبائل، وكذلك ما يتعلق بالهجرة إلى الحبشة، ثم بالهجرة إلى المدينة، ثم بالمغازي والبعوث أي: السرايا، ثم بعد هذا الوفود التي وفدت عليه في العام التاسع، ثم في الكتب التي كتبها إلى الملوك والأمراء وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وبعد ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مصيبة هذه الأمة الكبرى، ثم بعد ذلك ما يتعلق ببيعة خليفته أبي بكر رضي الله عنه، وبرده العرب إلى دين الله بعد أن ارتدوا عنه، يعني: ما يتعلق بالردة عموماً، ثم بتجييشه الجيوش إلى الشام والعراق، ثم بخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والفتوح التي جاءته في خلافته، ثم في خلافة عثمان كذلك رضي الله عنه، والفتوح التي فتحها، ثم في خلافة علي رضي الله عنه، والحروب التي خاضها وما حصل في أيامه من الفتنة، وهكذا.

    فهذه هي أبحاث السيرة النبوية التي تتضمنها، وبهذا نكون قد أتينا على المقدمات العشر.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767945468