الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن علم الفقه من أشرف العلوم الشرعية وأجلها، فهو الذي ينظم علاقات العباد بربهم، وعلاقاتهم فيما بينهم، ويبين لهم أحكام ما يحتاجون إليه، ونبدأ أولاً -كما هي عادتنا- بتعريف الفقه.
وتعريف الفقه ينقسم إلى قسمين:
الأول: تعريفه بالمعنى الإضافي.
الثاني: تعريفه بالمعنى اللقبي.
فتعريفه بالمعنى الإضافي مركب من: (علم), و(فقه). والعلم: مصدر علم الشيء إذا أحاط به وأدركه.
والفقه في اللغة: الفهم، ومنه قوله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91] أي: لا نفهمه.
والفقه في الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
فقولنا: (العلم بالأحكام) الأحكام هي: جمع حكم، والحكم: هو إثبات أمر لأمر أو نفيه عن الحكم.
والأحكام ثلاثة أقسام؛ لأن الذي يثبت أمراً لأمر أو ينفيه عنه إما عقل, وإما شرع, وإما عادة.
فالحكم الشرعي هو: ما جاء في خطاب الله عز وجل موجهاً إلى عباده بقصد العمل.
والحكم العقلي هو: ما يقبل الصدق والكذب بغير توقف على شرع ولا على عبادة.
والحكم العادي هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرر مع صحة التخلف، كالعلوم الطبائعية كلها فإنما تؤخذ الأحكام منها من العادة والتكرار مع قبول التخلف.
وقولنا: (الشرعية) الشرع في اللغة: الإظهار، وشرع الشيء: إذا بينه وأظهره، ومنه: شراع السفينة الذي يظهر فوقها لشهرته. ويطلق كذلك على الورود فيقال: شرع في المشرع أي: دخله ليشرب منه. ويقال: هذا شارع أي: داخل في الماء ليشرب منه، ومنه المشرع والشريعة في الماء الذي يرده الناس والدواب وغيرها، فهذا يسمى المشرع, ويسمى الشريعة.
والشرع في الاصطلاح: ما بينه الله لعباده من أحكام دينه. وإنما سمي شرعاً للبيان أي: لأن الله أظهره وبينه، ولأنه أيضاً مرجعهم الذي ينهلون منه، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالمثل الذي ضربه في قوله: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً، كذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به )، أخرجه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
والأحكام الشرعية التي بينها الله لعباده تنقسم إلى قسمين: علمية, وعملية، فالعلمية هي التي لا يتعلق بها عمل، وإنما يعلمها العباد بما بين الله لهم مما يبنون عليه تصوراتهم ومعارفهم، وهذه منها العقائد, فهي لا يتعلق بها عمل بذاتها وإن كانت تقتضيه، فالأعمال كلها تقتضيها العقيدة؛ لكن العقيدة في ذاتها ليست بعمل، فهي من أعمال القلب التي تعلم, ولا تتعلق بالجوارح، وضدها وخلافها: ما يتعلق بالأعمال الفعلية أي: الجانب العملي من الدين، وهذا الذي يقصد بالفقه.
وقولنا: (العملية) بعضهم يقول: الفرعية؛ ليخرج الأصلية؛ وهي الأحكام العقدية، ولكن هذا يرجع إلى اصطلاح المعتزلة, فهم الذين يجعلون من الدين أصولاً وفروعاً، وقد درج مصطلحهم هذا وغزا أهل السنة, فاشتهر في كتب المتأخرين، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان من الذين لا يرون هذا التفريق؛ فيرى أن هذا التفريق في الأصل مأخوذ عن المعتزلة, وقد رتب الناس عليه أموراً كثيراً، فأصبحت الاجتهادات في الأمور العقدية مذمومة مردودة على أصحابها؛ بسبب أن الناس جعلوها أصولاً، وأصبحت الأخطاء فيها أكبر من الأخطاء في غيرها، وبالأخص في الأمور الاجتهادية منها، وهذا غلط، فالجميع دين الله, وكله من عند الله، فمنها ما يقتضي علماً ومنها ما يقتضي عملاً، ولذلك قال رحمه الله: فكل من اجتهد في طلب الحق فأصاب أو أخطأ فهو معذور، سواء كان ذلك في الأصول أو في الفروع؛ لأن كلاً من عند الله.
وأصل هذا التفريق: أن الأمور العقدية منها أصول لا يقبل من الإنسان العمل إلا بها، كأركان الإيمان الستة مثلاً، لكن يجاب عن هذا بأن الأمور العملية كالصلاة والزكاة وبقية أركان الإسلام كذلك لا يقبل من الإنسان إلا العمل بها، فمن لم ينطق بالشهادتين ومن لم يصلِّ ولم يزكِ ولم يصم ولم يحج لم يقبل منه كذلك، ومثل ذلك: الأعمال السلبية أي: المنفية، كتحريم الزنا والخمر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وغيرها من الموبقات، فهذه معلومة من الدين بالضرورة، ومن أنكر شيئاً منها فليس من المسلمين، فلا يمكن أن يعد الإنسان مسلماً إلا إذا عرف ضرورات الدين، سواء كانت علمية أو عملية، فالعلمية منها: كأركان الإيمان الستة، والعملية كأركان الإسلام الخمسة، وكالأمور المنفية أيضاً مما هي بمثابة الأركان، كتحريم قتل النفس وتحريم الزنا وتحريم شرب الخمر وتحريم لحم الخنزير، فهذه كبريات المنفيات في الدين، فلا يمكن أن يكون الإنسان من المسلمين وهو لا يعلم أن الدين يحرمها.
وقولنا: (المكتسب من أدلتها التفصيلية)، فالعلم بالأحكام الشرعية العملية قسمان: قسم منه موحى غير مكتسب, كما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالمباشرة، فهذا لم يكتسبه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبوة لا تكتسب؛ بل هي اختيار رباني: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، فما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام لا يسمى فقهاً؛ لأن الفقه بمعنى: الفهم؛ لأنه استنتجه، وهذا لم يستنتجه؛ لأنه أوحي إليه، فلابد أن يكون الفقه مكتسباً، فالفقه لا يطلق إلا على الأمور المكتسبة، ولهذا فمواقع الإجماع التي فيها نصوص صريحة من الشرع لا يطلق عليها أنها مذهب لأحد، فلا يقال: مذهب فلان وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الحج, ولذلك هذه الأمور -إن كانت تعرف بالفقه- هي ليست من الفقه بمعنى الاصطلاح؛ لأنها أكبر من ذلك، بل هي من الدين والإسلام.
وقولنا: (من أدلتها التفصيلية)، من المعلوم أن المشرع هو الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم الخبير، المطلع على سرائر الأمور ومصائرها، فهو الذي يستطيع أن يشرع لعباده، وعلى هذا فلا تشريع إلا من عنده، لكن التشريع من عنده ينقسم إلى قسمين: تشريع مبين، وتشريع مجمل، والتشريع المبين هو: ما جاءت التفصيلات فيه، والتشريع المجمل هو: ما بين فيه العلل الشرعية، فنقيس نحن على كل شبه ما يشبهه، وهذا كله من حكم الله، لكنه لم يأتِ تفصيلاً، ولم ينص عليه بالألقاب، وإنما جاء تشريعه بالإجمال.
وقولنا: (من أدلتها)، الأدلة: جميع دليل، والدليل يطلق على الحسي والمعنوي، فيطلق على الحسي والمقصود به: المرشد الذي يهدي الناس السبيل، ومنه قول الشاعر:
إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل
سيصبح فوقي أقتم الريش واقعا بقالي قلا أو من وراء دبيل
فقوله: (واستعن بدليل) أي: بالذي يرشدك الطريق.
والدليل المعنوي الغير الحسي هو: ما يفهم منه الإشارة إلى الشيء، كقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً [الفرقان:45-46]، فتكون الشمس دليلاً على الظل أي: ملازمة له, ويعرف بها الظل، فلو غربت الشمس لم يكن الظل معروفاً كحالنا في الليل مثلاً.
والدليل في الاصطلاح: هو ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري؛ فقولنا: (ما يتوصل بصحيح النظر فيه) أي: بالنظر الصحيح؛ وهو: حركة النفس في المعقولات، وخلافه: التخيل؛ وهو حركة النفس في المحسوسات.
والنظر قسمان: نظر صحيح، ونظر فاسد، فالنظر الصحيح هو: النظر إلى الدليل من حيث يأتي بالمدلول، والنظر الفاسد: النظر إلى الدليل من حيث لا يأتي بالمدلول، ومن حيث لا يؤخذ منه المقصود، وهذا يشمل الحسيات والمعنويات، فمثلاً: الذي يريد أن يعمل شيئاً خشبياً أي: من خشب، فجاء يبحث في الخشب من ناحية القدم والحدوث، أو من ناحية كون هذه الخشبة ملكاً لفلان أو ليست ملكاً له، فهل هذا يوصل إلى المقصود؟ لا، فهذا النظر في غير موضعه، فالنظر الذي يقتضي العمل هو النظر فيها من حيث الاستقامة والعوج، والطول والقصر، والقساوة واللين، فهذا الذي يمكنه من أن يعمل به، أما النظر الآخر فهو في غير موقعه، فالدليل يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالمطلوب الخبري.
وقولنا: (إلى العلم) المقصود به: الإدراك مطلقاً, فيشمل اليقين والظن؛ لأن من الأدلة ما يقتضي يقيناً، وهذا الذي يسميه المناطقة بالدليل، ومنه ما يؤدي إلى ظن فقط، وهو ما يسميه المناطقة بالأمارة، أي: أنه أمارة فقط على الشيء لا دليلاً عليه.
إذاً: الفرق بين الدليل والأمارة: أن الأمارة علامة ترشد إلى الشيء؛ لكنها لا تقتضي جزماً، والدليل يقتضي جزماً بحصوله.
والأدلة الشرعية تنقسم إلى قسمين: أدلة إجمالية، وأدلة تفصيلية، فالأدلة الإجمالية هي أجناس الأدلة كالكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، والأدلة التفصيلية كأجزائها، فكل آية من القرآن يؤخذ منها حكم فهي دليل تفصيلي على ذلك الحكم بخصوصه، والقرآن لا يمكن أن يقال: هو دليل تفصيلي؛ لأنه لا يمكن أن يؤخذ من جملة القرآن حكم واحد، ولا من جملة السنة، ولا من جملة الإجماع، ولا من جملة القياس، بل هذه أدلة إجمالية، لكن جزئياتها هي الأدلة التفصيلية.
فهذا هو حد تعريف العلم في حال إضافته.
أما تعريف الفقه بالمعنى اللقبي -أي: أنه اسم لعلم من العلوم- فيمكن أن نعرفه بالتعريف الاصطلاحي للفقه؛ لكننا نضيف إليه كلمة فنقول: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية، أو معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
أما واضع هذا العلم فلا يمكن أن يعين له واضع معين؛ لأن الراجح من أقوال الأصوليين أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد في ما لم ينزل إليه فيه حكم, والأمور التي اجتهد فيها هي من باب الفقه، إلا أن آخرين يعترضون فيقولون: بل إنه أُقرَّ عليها من الشرع، وإقراره عليها وحي، وعلى هذا فلا تعتبر اجتهاداته من الفقه؛ بل هي من الأدلة، فيكون عمل النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو كان باجتهاده دليلاً لا فقهاً، وقد تعدى قوم هذا حتى وصلوا إلى أن كل عمل في زمانه -حتى لو كان من اجتهادات الصحابة- فإنه لا يعتبر فقهاً وإنما هو دليل؛ لأن الله تعالى أقره عليه، واستدلوا بقول جابر رضي الله عنه: ( كنا نعزل والقرآن ينزل ). فهذا إقرار من الله، وتقرير الله أبلغ من تقرير رسوله صلى الله عليه وسلم، فتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم من الأدلة الذي هو قسم من أقسام السنة، وتقرير الله كذلك؛ لأن الفعل إذا وقع وقت نزول الشرع فلم ينه عنه الشارع دل ذلك على إباحته.
أما اجتهادات أصحابه بعد موته صلى الله عليه وسلم فهي من الفقه، ولكن نظراً لأن كثيراً من اجتهاداتهم لم تكن إلا تفصيلاً لما جاء أصله في الوحي، وأيضاً فهي قليلة إذا قورنت باجتهاد من سواهم، فلهذا لم يكن لهم فقه مستقل، بل إن كثيراً من الناس يرى أن فقه الصحابة حتى باجتهاداتهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر دليلاً ولا يعتبر من الفقه، فيقولون: قول الصحابي دليل مطلقاً، لكن من الأصوليين من يفرق؛ فيقول: قول الصحابي إذا عارض القياس دليل, وقوله في موافقة القياس ليس بدليل؛ لأنه من الفقه، فيمكن أن يكون اجتهد فيه دون توقيف.
وعموماً فدائرة الفقه في عمل الصحابة وأقوالهم ضيقة قليلة.
لكن بدأ الفقه من أيام التابعين, واشتهر في أيامهم مدرستان في الفقه: إحداهما سماها الناس فيما بعد بمدرسة الأثر، والأخرى سموها: بمدرسة الرأي، وكانت مدرسة الأثر بالحجاز، ومدرسة الرأي في العراق.
والمقصود بالأثر هنا: العناية بالنقل عن السابقين من الصحابة وكبار التابعين، وتقديم ذلك على إعمال العقول والاجتهاد فيما يتجدد أي: محاولة رد كل واقعة إلى ما يشبهها من عمل السابقين دون أن يتوسعوا في إعمال عقولهم في الحلول، والمقصود بالرأي: إعمال العقول والتوسع في ذلك فيما يتعلق بالحلول للقضايا الجديدة، وعلى هذا فالمدرستان معاً كلتاهما فيها جانب من الرأي، وفيها جانب من الأثر، فليست مدرسة الرأي معطلة عن الأثر، ولا مدرسة الأثر معطلة عن الرأي، وهذا الانقسام حصل حتى في العلوم فيما بعد، فأهل التفسير انقسموا إلى مدرسة رأي ومدرسة أثر كذلك، لكن قلنا: إن مدرسة الأثر ما تنقله كله من الرأي، فإذا قيل لك: هذا تفسير من التفاسير التي تعتني بالأثر -كتفسير ابن جرير الطبري مثلاً- فإنك تنظر إليه وتجد أكثر ما ينقله آراء، إما من آرائه هو، أو آراء شيوخه، أو آراء أتباع التابعين، أو آراء التابعين، أو آراء الصحابة.
وكذلك في الرأي: فإن مبناه على الأثر؛ لأنهم لا يمكن أن يرجعوا في استنباط الأحكام الشرعية إلى الفراغ أو إلى مجرد تحسينات العقول، بل لا يرجعون فيها إلا الأثر المروي.
وفي أيام التابعين كانت مدرسة الأثر تدور على فقهاء المدينة، وهم أئمة التابعين المشاهير، فبعضهم يحصرهم في سبعة, وبعضهم يجعلهم تسعة، وبعضهم يزيد على ذلك، لكن المهم أنها مدرسة واحدة متفقة، فمن فقهائها: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن عبد الله بن مخزوم بن يقظة بن مرة القرشي، وعروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بن أبي قحافة عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب القرشي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الذي هو من أحلاف بني زهرة من قريش، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي كذلك، وكذلك سليمان بن يسار الهلالي من بني عامر بن صعصعة بالولاء, وهو مولى لأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، وكذلك أبو بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي، ونافع مولى ابن عمر القرشي كذلك، وربيعة بن أبي عبد الرحمن بن فروخ الأنصاري مولاهم، وأبان بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، وزيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب القرشي العدوي، فهؤلاء تقريباً أئمة التابعين الذين كانت تدور عليهم الفتوى في المدينة، ومعهم غيرهم من فقهاء المدينة من التابعين أيضاً.
وكان في العراق أهل الرأي، وقد اشتهر منهم حماد بن أبي سليمان، وإبراهيم النخعي، وعلقمة بن قيس النخعي، وهؤلاء من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه.
ومع هذا فقد اشتهر بالعراق أيضاً من أئمة التابعين من تقيدوا بالأثر، وكانوا امتداداً لمدرسة الأثر كـمحمد بن سيرين مولى أنس بن مالك، وعبيدة السلماني وهو من كبار التابعين من أصحاب علي وابن مسعود وزر بن حبيش كذلك من كبارهم: طارق بن شهاب، وأبي وائل وقتادة بن دعامة السدوسي، واشتهر آخرون جمعوا بين الأمرين كـالحسن بن أبي الحسن البصري، وكـمعاوية بن قرة بن إلياس، فقد جمعوا جمعاً واضحاً بين الأثر والرأي، وتأثروا بالمدرستين.
ثم خلص علم مدرسة الأثر إلى أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح الحميري التيمي القرشي بالحلف والخئولة، واشتهر بعالم المدينة، وخلص علم مدرسة الرأي كذلك إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التميمي بالولاء, الفارسي بالأصل.
ثم في عصر هؤلاء ظهر بعض المجتهدين المتأثرين بالمدرستين معاً، أو الذين بقوا على إحدى المدرستين, فمن من كان في مدرسة الأثر مع مالك في المدينة أبو سلمة بن المجشون، ومن مدرسة العراق كذلك ابن أبي ذئب، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وسفيان الثوري، وكذلك في مكة سفيان بن عيينة، وفي مصر الليث بن سعد الفهمي، وفي الشام الأوزاعي.
ثم جاء بعد هؤلاء محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي، فابتدأ أولاً بمدرسة الأثر، حتى أحرز علومها، ثم ذهب إلى العراق فدرس أيضاً على مقتضى مدرسة الرأي، فجمع المدرستين أيضاً، وتأثر بهما تأثراً كبيراً.
ثم جاء بعده أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي البكري من بني بكر بن وائل من بني ربيعة، وقد كان من أئمة أهل الحديث المشتغلين بالرواية والنقل، ثم طال عمره وحسن عمله، فكان مرجعاً للناس أيضاً في الإفتاء في المسائل، ولكنه رحمه الله لم يكن يحب أن تنسب إليه تلك المسائل، ولم يؤلف فيها, ولم يجمع، لكن كان الناس يجمعون عنه المسائل التي يستفتى فيها فيفتي، فجمعت فيما بعد فكانت مذهب الحنابلة.
هذه المذاهب الفقهية إنما يبقى ما كان له أتباع وأشياع، أو ما قامت عليه الدول، ورعته الحكومات، وقد حضي المذهب الحنفي باعتماده في الدولة العباسية؛ عندما ولى هارون الرشيد أبا يوسف صاحب أبي حنيفة القضاء, وهو أول من تولى القضاء العام في الدولة الإسلامية، فسمي قاضي القضاة.
وكذلك اعتمدت الدول المختلفة في مصر وبلاد المغرب والأندلس على المذهب المالكي، فكان سحنون بن سعيد التنوخي -واسمه عبد السلام- قاضي تونس والقيروان، وكان عبد الملك بن حبيب قاضي الأندلس، وكان البهلول بن راشد وعبد الله بن فروخ وعبد الله بن غانم في برقة مرجعاً للإفتاء والقضاء، وهؤلاء من أصحاب مالك، إلا أن سحنوناً وعبد الملك بن حبيب لم يلقيا مالكاً, وإنما هما من أصحاب أصحابه، فهما تلميذا عبد الرحمن بن قاسم العتقي، وأشهب و الحارث بن مسكين من أصحاب مالك.
وكذلك حظي المذهب الشافعي بأخذ المتوكل بن المعتصم به، فهو أول خليفة للمسلمين يتمذهب؛ لأن من المعلوم أن خليفة المسلمين يشترط فيه أن يكون مجتهداً في الدين، ولا يكون مقلداً لأحد سواه؛ لأنه متبوع, فلا يمكن أن يكون تابعاً، فأول من قلد من خلفاء المسلمين هو المتوكل -وهو عاشر خلفاء بني العباس- قلد المذهب الشافعي.
أما المذهب الحنبلي فلم تكن في البداية صفة رسمية، لكنه مع هذا انتشر في بلاد فلسطين، وبالأخص في نابلس والقدس, واستمر فيهما قروناً من الزمن، ثم عُيِّن بعض علمائه في الوزارة في بعض الدول وكان لذلك صدى رفع المذهب وأعان على انتشاره.
أما المذاهب الأخرى غير هذه الأربعة فلم يبقَ لها أتباع, ولم تقم عليها دول، إلا أنه ظهرت بعض المذاهب في العصور المتأخرة عن هذه، ومنها: مذهب محمد بن جرير الطبري, وقد كان إمام أهل التفسير, ومن أئمة أهل الحديث, وقد سبق أيضاً أنه من أئمة أهل الأخبار والتاريخ, وقد كان له أتباع وأشياع في ببغداد إذ ذاك عاصمة المجتمع، وعاصمة الدولة الإسلامية، لكن نظراً للخلافات التي حصلت بينه وبين الحنابلة وتضيقهم عليه لم ينتشر مذهبه، وأصبح مذهبه من المذاهب المندرسة؛ بل إن بعض كتبه قد تلفت في بعض ما دار بينه وبينهم من الفتن، ومنها بعض كتبه في الحديث.
وكذلك داود بن علي الظاهري، فقد كان له أتباع في العراق، ثم انتشر مذهبه حتى وصل إلى الأندلس، فكان له أتباع هناك, ومنهم المنذر بن سعيد البلوطي، الذي كانت الدولة الأموية في الأندلس تعتمد عليه، ونصر مذهبه في الأندلس بعد ذلك أبو محمد علي بن حزم الظاهري، وبهذا انحصرت المذاهب الفقهية المعتبرة لأهل السنة في المذهب الحنفي, والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي, والمذهب الحنبلي, بالإضافة إلى بقايا المذهب الظاهري.
أما الشيعة فقد كان لهم عدد من المذاهب الفقهية، لكنها الآن راجعة إلى مذهبين كبيرين:
أحدهما: مذهب الجعفرية, والثاني: مذهب الزيدية، فالجعفرية الذين ينتسبون إلى جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وهناك عدد كبير من طوائف الشيعة كلها تنتسب إلى جعفر, فكل ما سوى المنتسبين إلى زيد بن محمد فهم ينتسبون إلى أخيه جعفر، فلم يختلف الشيعة في انتسابهم إلى محمد بن علي الباقر، فكل طوائفهم ترجع إليه، لكن إنما اختلفوا في أولاده، فقد خرج مع زيد عدد منهم اشتهروا بالزيدية, ورفضه الذين بقوا، وتمسكوا بمذهب أخيه جعفر, فسموا بالروافض، فهم الذين رفضوا زيداً.
فالشيعة إذاً قسمان: زيدية, وروافض، فالزيدية لهم مذاهب فقهية متعددة، وفي مذهبهم عدد من المجتهدين، وكذلك الرافضة الجعفرية لهم مذاهب متعددة، فيها عدد من المجتهدين.
والخوارج لم يبقَ شيء من مذاهبهم يذكر إلا المذهب الإباضي؛ وهو مذهب أتباع عبد الله بن إباض بن تميم الخارجي، الذي هو في الأصل من أتباع نافع بن الأزرق؛ من الأزارق الحرورية.
فكل هذه المذاهب التي بقيت إلى زماننا -ويوجد اليوم من يتمسك بها- هي ثمانية مذاهب؛ فمذاهب أهل السنة الأربعة المتبوعة، والظاهرية, والزيدية، والجعفرية, والإباضية.
وإنما تختلف هذه المذاهب كذلك في بناء بعض القواعد التي يرجع إليها في تفصيلات الفقه، فمثلاً: تختلف هذه المذاهب في العمل عند تعارض النصوص: هل نبدأ بالجمع أو بالترجيح.
وتختلف كذلك: هل السنة يمكن أن ينسخ بها القرآن أو لا ينسخ بها، وهل القرآن يمكن أن ينسخ السنة أم لا ينسخها.
وتختلف كذلك في دلالة العام على أفراده هل هي قطعية أو ظنية، وإذا عارضها دليل خاص هل يقدم عليها أو لا.
وتختلف كذلك في دلالة الأمر المطلق: هل هي الإيجاب أو الندب أو الإباحة.
وتختلف كذلك في دلالة الأمر المطلق من ناحية الوضع: هل هو يدل على الصحة أو لا يدل عليها. وكذلك في دلالة الأمر المطلق هل يدل على التكرار أو على الفورية.
فكل ذلك من القواعد التي حصل عليها الاختلاف, وعلى أساسها قامت هذه المذاهب المذكورة، وعموماً فهذه المذاهب كلها الخلافات بينها في أمور اجتهادية لا يمكن الحكم لواحد من هذه أنه معصوم مطلقاً, حتى لو كانت المذاهب لها انحرافات أخرى في غير الفقه، فحتى لو قلنا مثلاً: الروافض لهم مذهب عقدي منحرف؛ لكن لا يمنعنا ذلك من أن نعلم أن لهم مذهباً فقهياً له مآخذ لا يمكن أن ننكرها.
فعلى هذا الجانب الفقهي المنبني على فهم النصوص، وقواعد تطبيقها على الجزيئات؛ يقبل فيها تعدد وجهات النظر، ولا مانع فيها من التعدد، ولا يمكن ادعاء أن الصواب محصور في قول واحد أو في مذهب واحد من المذاهب، فهو تعصب مقيت، فاحتكار الحق في الأمور الاجتهادية الراجعة إلى العقل متعذر؛ لأنه ما من أحد يُعمل عقله إلا سيوصله عقله إلى وجهة نظر، وهذه الوجهة ينبغي أن تحترم ما دامت لم يمنعها شرع, ولا تتصادم مع أصول الآخرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر