إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [26]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اشتهر الشافعي بذكائه المفرط, وجودة حفظه, فطلب العلم على يد العديد من العلماء حتى نبغ فيه, وصار له مذهب يرجع الناس إليه, ونشره تلامذته من بعده, وألف علماء المذهب العديد من الكتب والمصنفات فيه. وكان من تلامذته أحمد بن حنبل الذي صار له مذهب فقهي مستقل, نشره أتباعه من بعده, وألفت العديد من الكتب والمصنفات فيه.

    1.   

    نبذة مختصرة عن الإمام الشافعي

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    بعد أن تكلمنا على المذهب الحنفي والمذهب المالكي نتكلم الآن عن المذهب الشافعي.

    اسمه ونشأته

    وإمام هذا المذهب طبعاً هو: محمد بن إدريس المطلبي الشافعي القرشي من ذرية المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وقد ظهرت عليه مخايل النباهة في صباه، واشتهر بالذكاء المفرط, وجودة الحفظ، وقد ولد بغزة، وذهبت به أمه إلى اليمن فأتم رضاعه، ثم ذهبت به إلى مكة عند أعمامه وذويه وهناك شبَّ، ثم أذهبته إلى البوادي وجلس في قبيلة بني هذيل يتعلم اللغة حتى حفظ عشرين ألفاً من قصائدهم.

    طلبه للعلم وأبرز مشايخه

    ثم رجع إلى مكة ولزم أبا بكر الحميدي، وروى عن أصحاب طاوس وأصحاب مجاهد وأصحاب عطاء بن أبي رباح، ثم ذهب إلى المدينة برسالة من والي مكة إلى مالك، وكان والي مكة ابن عمه من ذرية السائب بن يزيد، فلما أتاه لم يولِ مالك الكتاب أي اعتبار، وقال: متى احتاج العلم إلى الشفاعات؟

    ثم سرعان ما عرف مالك ذكاء الشافعي وجودته وقريحته فقربه وأدناه، وقاسمه ماله، حتى كان مالك يمسك النعل ويعطيه النعل، وكان الشافعي فقيراً قبل ذلك.

    وفي أول عهده في المدينة لم يقتصر على حلقة مالك؛ بل كان إذا قام مالك من حلقته ذهب الشافعي إلى غيرها من الحلقات، ولـمالك كراسي توضع بين يديه للمقربين من طلابه، وخصص إحدى هذه الكراسي للشافعي، وكان الناس يستملون بثلاثة مستملين في مجلس مالك، فيقف مستملٍ عند انقطاع صوت مالك، أو عند انقطاع صوت القارئ عليه، ويرفع صوته, ويقف مستملٍ عند نهاية صوت ذلك، ومستملٍ آخر عند نهاية صوت ذاك في الحلقة، وفي ذلك الوقت كانوا يقولون: من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك.

    وجاء الشافعي إلى مالك وقد حفظ الموطأ قبل أن يأتيه، فلزمه في تلك الفترة، وتلك الكراسي كان لأهلها مكانة في المدينة، فالذين يجلسون على الكراسي بين يدي مالك لهم مكانة في المدينة، فلذلك حين غضب مالك على عبد الملك بن الماجشون حلف عبد الملك ألا يجلس سنة على الكرسي، فهجر حلقة مالك سنة، فبقي الكرسي معطلاً لمدة سنة، فجاء رجل وأراد أن يجلس عليه فقال له مالك: ألا تستحي أن تجلس على كرسي قام عنه بالأمس عبد الملك بن الماجشون، فعطل ذلك الكرسي سنة في انتظار عبد الملك حتى رجع إليه.

    وعندما ذهب إلى العراق تتلمذ على محمد بن الحسن الشيباني، فأخذ عنه فقه أبي حنيفة، وتتلمذ عليه هو عدد من أئمة أهل العراق من أمثال أبي ثور وأبي عبد الرحمن الشافعي الذي اشتهر أيضاً باسم الشافعي، وعنه نقلا مذهبه القديم، فمذهب الشافعي القديم إنما نقله أبو ثور وأبو عبد الرحمن الشافعي في العراق، ثم ارتحل إلى مصر واستقر بها ونزل على عبد الله بن عبد الحكم صاحب مالك، وعاش في داره ومات فيها.

    أبرز طلاب الإمام الشافعي وأهم كتبه

    وقد عاش الشافعي رحمه الله أربعاً وخمسين سنة، فهو ولد سنة مائة وخمسين ومات سنة مائتين وأربع، وفي مصر نشر علمه، واشتهر من أصحابه إبراهيم المزني أبو إسحاق والبويطي والربيع بن سليمان المرادي، فهؤلاء أشهر أصحابه، وقد رووا عنه كتبه, ومن أهمها كتاب الأم، الذي جمع فيه علمه وعلم أشياخه، ويذكر معه أدلته بإسناده، ويذكر أيضاً مناوراته مع غيره في المسائل التي خولف فيها، فيذكر المناورة بكاملها، ومن أدبه ألا يذكر اسم مناظره، فيقول: وقد ناظر مثل هذه المسألة بعض أهل العلم، فقال كذا, فقلت كذا.. إلى آخر كلامه، وكذلك كتبه الأخرى التي منها بعض الكتب المتخصصة في أبواب مخصوصة من الفقه، في كتاب الطلاق، وكتاب الأيمان والنذور، وغيرها من كتب الشافعي المتخصصة في أبواب، وكذلك كتبه الحديثية، مثل: مختلف الحديث، وقد سبق ذكره في الكتب المتعلقة بمختلف الحديث، وكذلك اختلافات أشياخه، في كتاب: اختلاف مالك ومحمد بن الحسن، واختلاف مالك وابن أبي ذئب، واختلاف مالك والأوزاعي، فهذه يجمعها الشافعي، وتارة ينتصر لهذا وتارة ينتصر لهذا، ويروى أنه حصل بينه وبين محمد بن الحسن شيخه مناورة بشأن خلاف محمد بن الحسن مع مالك في بعض المسائل، فكان محمد يقول: قال صاحبي أبو حنيفة فيها كذا، وقد سمعت مالكاً فيها يقول غير ذلك، والحق مع أبي حنيفة، فقال له الشافعي حين سأله في مسألة قال: أيهما أعلم بكتاب الله أصحابي أو صاحبك؟ قال: بل صاحبك. قال: أيهما أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابي أم صاحبك؟ قال: بل صاحبك. قال: لم يبقَ إلا الرأي.

    1.   

    مؤلفات المذهب الشافعي وأبرز علمائه

    الإمام المزني ومختصره

    وعندما مات الشافعي ورث مكانته بعده في مصر المزني، وألف مختصراً لكتب الشافعي كلها سماه: المختصر؛ مختصر المزني, وهو أول مختصر في المذهب الشافعي، وقد طبع مع الأم، وعليه وضع الماوردي كتابه الكبير: الحاوي في شرح مختصر المزني، ثم من لدن المزني بدأ التاريخ في المذهب، فقد كان من أوائل الذين ألفوا في المذهب أيضاً أبو جعفر الطحاوي وقد سبق ذكره في المذهب الحنفي، وخاله هو المزني, وكان في البداية شافعياً، فحصل خلاف بينه وبين خاله عندما ألف هو كتاباً في مذهب الشافعي, وخالف فيه بعض نقول المزني, فأقسم المزني أن ابن أخته لا يصلح للعلم، فذهب هو إلى العراق وأخذ مذهب أبي حنيفة حتى ألف كتابه: مختصر الطحاوي في المذهب الحنفي, فلما أكمله قال: رحم الله خالي لو كان حياً لكفر عن يمينه.

    أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي وأبرز مؤلفاتهم

    ثم ظهر في المذهب بعض الأئمة أصحاب الوجوه من أمثال الأصم وأبي سعيد الإصطخري وابن كج، وهؤلاء تفرقوا في الأمصار، فانتشر من ذلك الوقت المذهب الشافعي في مصر واليمن، وانتقل إلى المشرق حيث استقر في بعض بلدانها، وما زال إلى الآن مستقراً في إندونيسيا وبعض ما جاورها من المناطق.

    ويعتبر كتاب الأم من أهم كتب المذهب عموماً، وكذلك مختصر المزني ثم شرحه الحاوي الكبير للإمام الماوردي، ثم بعد هذا فإن من مشاهير المجددين في المذهب الإمام البغوي الذي ألف التهذيب، وهو كتاب كبير حافل لفقه الشافعي وأدلته، ثم الشاشي الذي ألف حلية العلماء، فهو كتاب كذلك حافل، لكنه يذكر فيه المذاهب الأخرى نادراً، ويستدل للمذهب الشافعي، ثم جاء الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، فكان عمدة المذهب في زمانه؛ لأنه حوى مدرسة الجويني وكان أبرز أهلها، فـالجويني تلميذ للقاضي حسين، والقاضي حسين تلميذ لعدد من أصحاب الوجوه كـالأصم وغيره، والأصم تلميذ للربيع بن سليمان المرادي، والربيع تلميذ الشافعي، فلهذا كان إسناد الغزالي متصلاً بـالشافعي، وأبو المعالي كذلك قد أخذ عن والده أبي محمد الجويني, وهو من رءوس المذهب الشافعي، فألف الغزالي ثلاثة كتب في المذهب الشافعي أكبرها: البسيط، ولم يطبع منه إلى الآن إلا جزءان فقط فيهما الطهارة والصلاة، والوسيط، وقد طبع كاملاً، والوجيز وقد طبع طبعتين قديماً، لكن وضع الله القبول على الوجيز لاختصاره، ولأنه يشير بالرموز بالحروف في المذاهب الأخرى، وقد وضع الله عليه القبول فأقبل الناس عليه، فوضع عليه الرافعي كتابه: فتح العزيز في شرح الوجيز، وهذا الكتاب يسمى شرح الرافعي الكبير؛ لأن الرافعي له شرحان على الوجيز: فتح العزيز وهو الكبير, والثاني شرح المختصر، ووضع عليه الحافظ ابن حجر التلخيص الحبير لتخريج أحاديث الرافعي الكبير، أي: تخريج أحاديث فتح العزيز، ووضع عليه الفيومي كتابه: المصباح المنير في غريب لغة الرافعي الكبير، وهو معجم من معاجم اللغة المهمة, وبالأخص أنه يعتني بالتصريف، تصريف الأفعال وأوزانها، ولذلك معجم الفقهاء الذي يعتمد عليه في الفقه اسمه: المصباح المنير في غريب لغة الرافعي الكبير. وهذه الكتب كلها مطبوعة, ففتح العزيز طبع قديماً إلى الحج فقط مع طبعات المجموع القديمة ولم يكمل, حتى طبع في السنة الماضية كاملاً، وبالنسبة للتلخيص الحبير طبع عدة طبعات إحداها مخرجة في الهوامش هي أحسنها، وطبعة أخرى مع المجموع، وطبعات مستقلة، والمصباح المنير كذلك طبع عدداً من الطبعات أحسنها طبعة بولاق القديمة، ثم طبعات لاحقة، ومن آخرها طبعة دار لبنان التي يطبع فيها المسيحيون المعاجم، وهذه يحذفون منها بعض المواد عمداً، فمادة (نكح) يسقطونها من كل المعاجم التي يطبعونها، فأسقطوها عمداً من المصباح المنير، ومن مختار الصحاح، ومن المعتمد، ومن عدد من المعاجم التي طبعوها، وما أدري السر في ذلك، فهم يريدون أن يسقطوا هذه المادة بالخصوص بين نكث ونكد مادة نكح، فيحذفون هذه المادة كاملة.

    الإمام النووي وأبرز مؤلفاته

    ثم جاء الإمام النووي فكان شيخ المذهب بلا منازع، وهو المجدد لدى الشافعية, فهو مثل ابن قدامة عند الحنابلة.

    وقد ألف عدداً كبير من الكتب في المذهب من أهمها: كتاب روضة الطالبين، وهذا الكتاب يحوي أكثر فروع المذهب الشافعي؛ لأنه رجع إلى كثير من الكتب المعلومة الآن، مثل: كتاب الخادم، ومثل كتب بعض الأئمة الذين سبقوه وعلمت كتبهم وما رويت، وإن كان لم يكثر فيه من الاستدلال, فليس فيه كثير من الأحاديث, فهو نظير كتاب الفروع لدى الحنابلة، فكتاب الفروع لـابن مفلح كبير وخال من الدليل، فليس فيه أدلة، لكنه حاوٍ لكثير من الفروع، كذلك الروضة ليست خالية من الأدلة بالكلية لكنها قليلة الأدلة، وقد طبع طبعتين: طبعة المكتب الإسلامي، وطبعة الجديدة, وهذه المحققة.

    ثم كتابه منهاج الطالبين, وهو مختصر وضع الله عليه القبول، وهو في المذهب الشافعي مثل رسالة ابن أبي زيد عند المالكية، وحتى إنه يشبه الرسالة في الترتيب، وفي التبويب، فـابن أبي زيد عادة يفتتح كل باب بآية أو حديث يكون عليه مدار الباب، ثم يذكر بعده الأحكام، وكذلك النووي في المنهاج، قال: كتاب البيع: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] وهكذا، فكل باب يفتتحه بآية أو حديث يتعلق به، وهذا الكتاب وضع الله عليه القبول فكثرت شروحه والحواشي عليه، وأصبح مرجع المذهب، فالدارس في مذهب الشافعي أو المدرس له أو الباحث فيه أول كتاب يقع عليه نظره في هذا المنهج هو المنهاج.

    ومن أهم شروح المنهاج: مغني المحتاج للشربيني، ونهاية المحتاج للرملي، وكان الرملي يلقب بالشافعي الصغير؛ لجودة قريحته وذكائه.

    وتحفة المحتاج لـابن حجر الهيتمي، وعليها كثير من الحواشي، مثل: حواشي الشرواني، وحاشية القليوبي، وحاشية عميرة، وهذه كلها مطبوعة. ووضع عليها بعض الحواشي على بعض الأبواب فقط، مثل: (صوب الركام)، وهو حاشية على كتاب القضاء فقط، ومؤلفه عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف وهو من سادة اليمن من حضرموت, ومن كبار العلماء فيها، وكان يحفظ المنهاج وشروحه، والذي يقرأ كتابه هذا يعرف تمكنه في العلم، ولذلك يمدحه أحد الشعراء في قصيدة يقول فيها:

    يقف الكون عند عد صفاته حائراً لاجتماعها في ذاته

    ثم من كتب النووي: بعض الكتب التي تخدم كتب من سبق مثل: كتابه في غريب اللغة: التنبيه، والتنبيه أيضاً مختصره في المذهب الشافعي لسلطان العلماء العز بن عبد السلام، والتنبيه مطبوع، وشرح غريب التنبيه للنووي مطبوع أيضاً، ثم كتابه المشهور: تهذيب الأسماء واللغات، وهو يعتبر من المعاجم النافعة في المجال الفقهي؛ لأنه يذكر مصطلحات المذهب الشافعي, ويشرح الغريب في لغة الفقهاء، ويذكر التراجم للذين يذكرون في المذهب الشافعي، وعموماً هو كتاب دقيق جداً، يشبهه كتاب القاضي عياض الذي سبق ذكره وهو مشارق الأنوار، وللنووي كتب كثيرة أخرى، جمع فيها كثيراً من أقوال أئمة الشافعية, ومع هذا فلم يعش إلا ثلاثاً وأربعين سنة، وقد مكث للدراسة في دار الحديث بدمشق إحدى عشرة سنة ما نام فيها مضطجعاً، بل كان إذا أراد النوم استند إلى أسطوانة فيها واحتبى، فينام جالساً لئلا يتمكن منه النوم، وقد كان من الزهاد العباد، وظهر ذلك في تآليفه، فوضع الله عليها قبولاً وبركة عجيبة، فما من بيت من بيوت المسلمين فيه كتاب بعد كتاب الله إلا وفيها كتاب للنووي إما رياض الصالحين، وإما الأذكار، وإما شرح صحيح مسلم وإما أي كتاب من كتبه الأخرى، وكان مجاب الدعاء، وكان صاحب ورع يتورع حتى عن بعض الحلال؛ لأنه يترتب عليه بعض الانغماس في الشهوات، فمكث مدة مكثه بدمشق لم يأكل الخيار؛ لأنه يؤدي إلى فتح الشهية.

    مختصرات زكريا الأنصاري في المذهب الشافعي

    كذلك من الكتب المهمة في احتواء فروع المذهب: اختصارات زكريا الأنصاري الحافظ؛ تلميذ الحافظ ابن حجر، فله مختصران في المذهب الشافعي وضع الله عليهما القبول، فتلقاهما الناس بالقبول، ووضع عليهما كثير من الشروح، له كتاب منهج الطلاب، وله كتاب آخر اسمه إتحاف الطلاب، والمنهج شرحه الإمام سليمان الجمل، وهو صاحب الحاشية على الجلالين، وشرحه عليه مشهور، وعليه حاشية للباجوري أيضاً مشهورة، وهذه كتب مطبوعة كلها.

    مختصرات المذهب الشافعي

    كذلك من الكتب المختصرة في المذهب: كتاب مختصر أبي شامة، وهو من المختصرات القديمة التي هي للأطفال، وكذلك التقريب أيضاً في المذهب الشافعي, وهو مختصر صغير أيضاً للأطفال، فهذه أهم الكتب المطبوعة التي هي المرجع إليها في تفاصيل المذهب.

    1.   

    علاقة الإمام الشافعي مع علماء المذاهب الفقهية الأخرى

    يقول الشافعي في زيارة له إلى الإمام أحمد:

    قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله

    إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له

    فأجابه أحمد بقوله:

    إن زرتنا فلفضل منك تمنحنا أو نحن زرنا فللفضل الذي فيكا

    فلا عدمنا كلا الحالين منك ولا نال الذي يتمنى فيك شانيكا

    وقد كان الشافعي رحمه الله يأتي في العراق إلى أصحاب يحيى بن سعيد القطان كـأحمد بن محمد بن حنبل، و يحيى بن معين، وعلي بن المديني، فيقول لهم: أنتم الصيادلة ونحن الأطباء, فيعرض عليهم حديثه فيناقشون معه علله، ومن طعنوا فيه من الرواة إذا لم يكن الشافعي حسن الظن به أو كان يعرفه أكثر مما يعرفونه ترك الرواية عنه، وإن كان الشافعي يحسن به الظن أو يعرفه أكثر مما يعرفونه لم يصرح باسمه في الرواية، فلذلك كثيراً ما يقول الشافعي عن الثقة عنده، إذا ناقشوه فيه، فكان ظنه فيه سيئاً، وكان هو أدرى به أو ظنه فيه حسناً.

    وقد روى الإمام أحمد عن ثمانية عشر من أصحاب مالك الموطأ عن مالك، من هؤلاء: الشافعي، وقتيبة بن سعيد، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن يوسف التنيسي، ويحيى بن يحيى، وأبو المصعب الزهري وسويد بن سعيد، وإسماعيل بن أبي أويس، روى عنهم أحمد جميعاً الموطأ، عرضه عليهم جميعاً؛ وذلك أنه لم يدرك مالكاً، وكان يتمنى لو أدركه، وقال: إن فاتنا مالك عوضنا الله بـسفيان، فكان يحرص على السماع من سفيان؛ لأنه من ذلك الجيل الذي منه مالك , وسفيان الذي أقصده: سفيان بن عيينة أما الثوري فلم يدركه، فهو أدرك سفيان بن عيينة، لكن الثوري لم يدركه، لكنه أدرك تلميذه وكيعاً، فـأحمد تلميذ لـوكيع، ووكيع تلميذ للثوري من أخص الناس به. ولذلك روى أحمد كثيراً في المسند عن هؤلاء الثمانية عشر أحاديث الموطأ، لكن كانت لروايته عن الشافعي ميزة وهي تسلسل بالأئمة الأثبات، ولذلك قال العراقي في الألفية:

    وبالصحيح والضعيف قصدوا في ظاهر لا القطع والمعتمد

    إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقا وقد

    خاض به قوم فقيل مالك عن نافع بما رواه الناسك

    مولاه واختر حيث عنه يسند الشافعي قلت وعنه أحمد

    والمقصود بمولاه أي: عبد الله بن عمر.

    لأن ابن الصلاح ذكر أن أفضل المسانيد فقط: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن البخاري قال: أصح إسناد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: مالك عن نافع عن ابن عمر، فزاد ابن الصلاح قال: الشافعي عن مالك، فـالعراقي زاد أحمد: فقال: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد لم يروِ به أحمد في المسند إلا أحاديث قليلة عن طريق الشافعي، وإن كان روى عنه الموطأ كاملاً، وفيه أحاديث مالك من طريق نافع، فهذا الإسناد به تقريب الخمسة الأحاديث في المسند: حديث أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر.

    بالنسبة لتتبع التسلسل التاريخي للمؤلفات هكذا ما اعتنى به أحد، وحتى في المذهب الحنبلي ما يذكر ليس متصل الحلقات، وما ذكرناه نحن أيضاً هنا ليس متصل الحلقات، إنما يقصد به فقط ما ينير أمام الباحث والمدرس لهذا العلم الكتب التي في متناوله وبين يديه، إما أن تكون هذه الكتب مشهورة متداولة بين الناس، مثل: الكتب المطبوعة المتداولة، أو أن تكون كذلك مرجعاً للباحثين لا يستغنى عنه من المخطوطات غير المعدومة والمفقودة، هذا الذي أختاره أنا هنا في هذا التسلسل.

    ولا شك أن الذين يؤلفون في طبقات المذاهب -وكذلك الذين يؤلفون في تراجم الأئمة- يذكرون بعض مشاهير الكتب في المذهب، وكذلك يعتنون بتراجم مؤلفيها.

    1.   

    حفّاظ المذهب الشافعي وأسباب انتشارهم

    بالنسبة لسبب اشتهار حفاظ الحديث في المذهب الشافعي: أن كثيراً من الذين اعتنوا بحفظ الحديث هم المشارقة، الذين كانوا في البلاد التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لو كان هذا العلم مناط النجم لتناوله رجال من رهط هذا, وأشار إلى سلمان الفارسي ), فبلاد ما وراء النهر مثل: بلاد نيسابور وخراسان وبخارى وغيرها هذه الذي اشتهر فيها حفظ الحديث في أواخر القرن الثالث الهجري، والقرن الثالث كله، والقرن الرابع، قرنين ونصفاً تقريباً، اشتهر حفظ الحديث في هذه المنطقة، واستقر فيها، وكانت الرحلة إليها، وكان المذهب الشافعي سائداً في كثير من مناطقها، ولذلك يذكر الذين يترجمون للإمام البخاري أنه كان على مذهب الشافعي، مع أن الواقع أن للبخاري اجتهادات مخالفة للمذهب الشافعي مثل قوله بإجزاء القيمة في الزكاة وفي الكفارات، وهذا موافق لمذهب أبي حنيفة ومخالف لمذهب الشافعي، بل مخالف للمذاهب الثلاثة الأخرى كلها.

    وكان مسلم بن الحجاج على مذهب مالك تقريباً، في المدرسة البغدادية، وكان أبو داود على مذهب أحمد، فلذلك ليس الحفظ مختصاً بمذهب من المذاهب دون غيره، لكن اشتهر فقط هذا.

    وقد اشتهر من حفاظ الشافعية الكبار: أبو حاتم ابن حبان البستي، وكذلك أبو عبد الله الحاكم، وكذلك أبو بكر البيهقي، وغير هؤلاء من كبار الحفاظ، وحتى من المتأخرين من أمثال العراقي، والمزي والهيثمي والحافظ ابن حجر، وزكريا الأنصاري والسخاوي والذهبي وابن كثير، وأصحاب ابن حجر مثل الديمي، والسخاوي وزكريا الأنصاري، ثم تلا من بعدهم كـالسيوطي، وكذلك أبو زرعة ابن الإمام عبد الرحيم بن الحسين العراقي، فكان هؤلاء على مذهب الشافعي, وقبلهم ابن الصلاح، وابن دقيق العيد وابن الملقن كلاهما كانا مثل الحافظ ابن حجر تارة يميل إلى المذهب المالكي, وتارة يميل إلى المذهب الشافعي، فجمعا بين المذهبين، فلذلك يؤلفان على مقتضى المذهبين، ويفتيان على مقتضى المذهبين، وكتب المذهبين تروى عن طريقهما، فالمالكية الآن أكثر أسانيدهم في كتبهم من طريق الحافظ ابن حجر وابن دقيق العيد.

    بالنسبة لانتشار المذهب الشافعي فعلاً كان من ورائه وجود بعض القضاة والولاة على هذا المذاهب في مناطق مختلفة, وبالأخص في الشام والعراق، فقد اشتهر من قضاة الشافعية الكبار: الإمام الماوردي الذين يقلبونه بأقضى القضاة، وكذلك ابن أبي الدم الحموي قاضي حماة، وهكذا كان ذلك سبباً لانتشار المذهب إلى حد ما.

    1.   

    المذهب الحنبلي وأبرز المؤلفات فيه

    أما المذهب الحنبلي فهو آخر هذه المذاهب ظهوراً لتأخر إمامه من ناحية السن، وأيضاً ما ووجه به من المصائب في بداية شهرته واجتماع طلبة العلم عليه، وأيضاً لما شهر به من الحديث, فكان الناس يشغلون وقته بالحديث عن الاجتهاد في المسائل، ومع هذا فيعتبر هذا المذهب أوسع المذاهب من ناحية الاجتهاد؛ لأنه ما من قول في مذهب من المذاهب إلا وللإمام أحمد رواية توافقه، ثم يزيد عليها ببعض الروايات المنفردة.

    وكان هذا المذهب لو قامت عليه دولة لكان أحرى المذاهب بالانتشار لسعة رواياته؛ لأنه ما يستطيع الإنسان الخروج منه، فمن الممكن أن يعمل بأي مذهب من المذاهب ثم يقول: هذا مذهبي المذهب الحنبلي.

    مسائل الإمام أحمد ومن جمعها

    ومع هذا فالإمام أحمد لم يكتب في الفقه شيئاً، إنما كان يكتب الحديث, وكان يرغب عن كتابة المسائل، ومع هذا فقد كتب عنه بعض المسائل، فكتب عنه ابنه صالح مسائله، وكتب عنه ابنه عبد الله مسائله، وإن كانت مسائل صالح أكثر فقهاً, ومسائل عبد الله أكثر حديثاً، وكتب عنه أبو داود مسائله، وهي في الواقع أكثرها حديثاً، وكتب ابن هانئ مسائله، و الكوسج مسائله، و إبراهيم الحربي مسائله، و البغوي الصغير مسائله.

    نماذج من أبرز علماء المذهب الحنبلي

    وهذه التي اشتهرت من كتب المسائل عند الحنابلة، وقد جمعها الخلال في كتبه، والواقع أن الخلال هو الذي نخل المذهب، ومنه انطلق المذهب الحنبلي، وعن طريق تلامذته اشتهر، فمن تلامذته: غلامه عبد العزيز أبو بكر الذي اشتهر بـغلام الخلال، وكذلك البربهاري، ثم ظهر فيه بعض الأعلام الذين اشتغلوا بعلوم كثيرة، فكان لهم رسوخ في العلم في مختلف الميادين، من أمثال ابن عقيل الذي لم يترك علماً إلا ألف فيه، ويقال: إن كتابه الفنون من أوسع الكتب فهو أربعمائة وستون مجلداً.

    وكذلك أصحابه من أمثال التميمي وابن حامد.

    ثم جاء بعد هؤلاء أبو يعلى القاضي، وقد اشتهر بجودة قريحته وذكائه، وألف عدداً من الكتب

    التي تخدم المذهب، واعتنى بالروايات عن الإمام أحمد، فجمع القولين والوجهين، فكل ما فيه قولان أو وجهان في المذهب أو روايتان جمعه كله، ومع هذا فيقال: إنه في المذهب الحنبلي مثل اللخمي في المذهب المالكي، فإن كثيراً مما يعزى إلى المذهب من الروايات إنما هي روايات مخرجة، وليست مروية من قول الإمام أحمد؛ ولذلك يرد المتأخرون على هذا، فالشيرازي من أئمة الشافعية في الأصول يتكلم في نسبة الأقوال المخرجة إلى الأئمة، وهل يجوز نسبتها إليهم أو لا؟ وكذلك ابن قدامة، ومع هذا فكثير من الأقوال التي نسبت إلى الإمام أحمد إنما تخرج على قوله، وتارة تكون مخالفة لقوله الصريح، فمثلاً: يفتي في مسألة بحكم لا يعلم عنه رواية بخلافه، لكن يفتيه في مسألة تشبهها بحكم مخالف, فيخرج له أبو يعلى رواية تخالف الرواية الأولى في كل واحدة من المسألتين، فيخرج لها بفرع برواية موافقة للرواية التي توافق المسألة الأولى، وفي الأولى أيضاً رواية موافقة للحكم في المسألة الثانية، فيجعل في كل واحدة من المسألتين روايتين. هذه تسمى الروايات المخرجة عند الحنابلة.

    وعموماً فإن مذهب الحنابلة الذي استقر أنه يجوز نسبة الرواية المخرجة إلى الإمام، فتنسب إليه وتعد من أقواله.

    وظهر من الأعلام في هذا المذهب وهو الطوفي، وهو من الجهابذة في الأصول، لكن كانت لديه شطحات كبيرة في المجال العقدي، وفي الاجتهادات، وفي أمور كبيرة خالف فيها الجادة، مثل: نقده على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما قرأ حديث ابن عباس في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الخميس دعا فيه فقال: هاتوا اكتب لكم كتاباً لا تختلفون بعدي فيه، فكثر اللغط عنده, فقال عمر: يكفينا كتاب الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اخرجوا عني، ما كان ينبغي لنبي أن يختلف عنده )، فلم يكتب لهم ذلك الكتاب، فغضب الطوفي على عمر بن الخطاب, وجعل القضية كلها مشكلة جاءت من عمر بن الخطاب.

    وكذلك فإنه يرى أن المصلحة مقدمة على النص مطلقاً, وهذه من المسائل التي لا تفهم، وهو من المتأخرين من تلامذة ابن قدامة تقريباً.

    كذلك منهم أبو الخطاب محفوظ الخلوذاني له أيضاً عناية بجمع روايات المذهب.

    كتب ابن قدامة المقدسي وشروحاتها

    ولكن علم الحنابلة في الواقع خلص إلى موفق الملة: محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، وقد كان هذا العلم في أهل بيته من قبل، وفي المقادسة عموماً, فكثير من المقدسيين كانوا من علماء الحنابلة، وقد اشتهر إقرار المذهب الحنبلي في القدس وفي نابلس قديماً، ويذكر أن مشايخ الحنابلة في نابلس كانوا عمياناً، فأتاهم عالم من علماء الحنفية وأراد أن ينشر المذهب الحنفي في نابلس في الشام، فناظروه فغلبهم، فتمالئوا عليه فقالوا: إذا جلس في حلقته فكل واحد يأتي على عكازه حتى يقترب من الشيخ ويضرب بعصاه ثم يعتذر إليه إذا علم أنه ضربه، فأعملوا هذه الحيلة فخرج وترك لهم نابلس.

    والمقدسيون عندما احتل الصليبيون بيت المقدس خرجوا منه إلى دمشق، فاستقروا في ضاحية منها تسمى الصالحية، وبنى فيها ابن قدامة رحمه الله حصناً حصيناً لآل بيته لآل قدامة، وبنى لهم فيه بيوتاً، وقد كان هو مشهوراً بالتدبير وجودة الرأي، وإحكام التدبير في أمور الدين وأمور الدنيا، ولم يعلم آل بيته أنه يبني له بناء حتى كمل ثم أخرجهم إليه وأنزلهم فيه، وهذه كانت تحصل بيوت الشرف في الشام، فكانوا يبنون حصوناً ويبنون فيها قصوراً يجتمعون فيها، مثل: ما حصل لـشيزر وكانت حصناً لآل منقذ، بل كانت لهم ولاية فيها وإمارة، حتى أصابهم الله بالزلزال الذي دمرها عليهم ولم يبقَ منهم إلا الأمير أسامة بن منقذ هو وأخوه.

    لم ينج أحد من آل منقذ إلا زوجة أميرهم، استنقذت من بين الأنقاض، تهدمت المدينة بكاملها بالزلزال، وهذا النوع من الزلازل كثير في الشام.

    وقد ألف ابن قدامة رحمه الله عدداً كبيراً من كتبه في المذهب، ورتبها على طرق المناهج العلمية, فأصغرها كتاب العمدة، وهو مؤلف للصبيان، ثم فوقه كتاب المقنع، الذي فيه روايتان فقط لا يتعداهما، ثم فوقه كتاب الكافي، وهو أوسع منهم، ثم فوق ذلك المغني، وقد اعتنى الناس بكتاب المقنع عناية بالغة، فكان كتاب المذهب في الواقع، ولهذا كثرت شروحه عليه، والمختصرات التابعة له، فمن شروحه: المبدع بشرح المقنع لـابن مفلح الصغير وهو حفيد ابن مفلح الكبير الذي هو تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك منها: الشرح الكبير الذي هو في الواقع يخالف المغني، فإن ابن قدامة ألف المغني شرحاً لمختصر الخرقي، ومختصر الخرقي اختصر به كتب الخلال، ولكنه لم يكن محكماً ولا مبوباً تبويباً موافقاً للمعروف في التبويب الحنبلي، وكانت مسائله مشوشة، ولهذا يقال: لم يكن مختصر الخرقي يحتمل كتاب المغني، فكتاب المغني شرح على مختصر الخرقي، لكنه لم يكن يحتمله، فهو أكبره، فـأبو عمر وهو ابن أخي ابن قدامة استأذنه على أن يفرغ كتاب المغني ويكتبه على المقنع، فأذن له بذلك فسمي بالشرح الكبير على المقنع، وهو في الواقع نفس كلام ابن قدامة في المغني؛ لكنه رتبه على المقنع، ولم يغير فيه إلا نادراً، وكذلك من شروح المقنع المهمة: كتاب الإنصاف للمرداوي الذي يحاول فيه جمع الروايات في المذهب, ويبين ما هو المذهب منها، وقد اعتمد كتب الحنابلة القديمة من أمثال المحرر للمجد ابن تيمية عبد السلام، جد شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب الرعايتين، وكتاب الهداية، وكتاب ابن عبد الهادي، وغيرها من كتب الحنابلة القديمة كلها يذكر الأقوال المتعارضة فيها، والروايات المختلفة عن الإمام والأوجه المخرجة، والأوجه التي يقول بها الأصحاب في مذهبه، فيجمعها ويختار منها قولاً ويقول: هو المذهب، وإنما يعتمد في ذلك على النقل، فإذا بدأ به ابن تيمية في المحرر وصححه ابن قدامة واستدل له وقال: ولنا، فهو المذهب عند الحنابلة، فهو يجمع بين هذه القرائن، فيستخرج منها رواية واحدة تكون هي المذهب، أي: هي المعتمد في المذهب، وعموماً هذا الكتاب من أهم كتب الحنابلة في تحرير ما هو المذهب الدارس عندهم.

    كذلك من العناية بالمقنع: أنه اختصر أيضاً بالإقناع، وعلى الإقناع وضع البهوتي كتابه الشامل الذي يسمى بكشاف القناع عن متن الإقناع، ويسمونه مسحاة المذهب، يجمع كل الفروع التي لها تعلق بالمذهب, وترتيبه جيد, ويعتمد صاحبه على ترجيحات ابن قدامة أساساً.

    ومن العناية بالمقنع كذلك أنه اختصر بزاد المستقنع من متن المقنع للحجاوي, وقد وضع عليه منصور البهوتي أيضاً كتابه الروض المربع شرح زاد المستقنع، واشتهر هذا الكتاب بين متأخري الحنابلة, وعليه الحواشي النجدية حاشية العنقري، وحاشية ابن قاسم، فحاشية العنقري في ثلاثة أجزاء أي: ثلاثة مجلدات، وحاشية ابن قاسم في سبعة، وحاشية ابن قاسم أهم؛ لاحتوائها أيضاً على أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية واختياراته واختيارات تلامذته.

    وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الثناء على ابن قدامة: (ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه منه), وهذه تزكية كبيرة.

    ابن تيمية وأثره على المذهب الحنبلي

    ثم جاء بعد ابن قدامة عدد من الفقهاء وانتشر المذهب بسبب كتب ابن قدامة, حتى جاء الإمام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية فلم يجد وقتاً للتأليف في المذهب؛ لكنه صوب أخطاء الحنابلة في الرواية, وأصبح مجتهد ترجيح في المذهب, فما رجحه أو اختاره فهو المختار عند الحنابلة.

    ومع أنه لم يكتب كتاباً مختصاً في فروع الحنابلة إلا أن تلامذته كتبوا كتباً متعددة في ذلك، ومن أبرزها كتاب الفروع لـابن مفلح الكبير, وهذا الكتاب يحصر فيه الروايات والمسائل الفرعية في المذهب, ثم يعقب عليها بقوله: قال شيخنا يقصد به شيخ الإسلام ابن تيمية.

    وهذا الكتاب اعتمده عدد من المتأخرين عنه, وعليه اعتماد كثير من المختصرات المتأخرة مثل: منتهى الإرادات, ومثل النظم وهو قصيدة مفردات الحنابلة, مفردات المذهب الحنبلي, ومنتهى الإرادات وضع عليه أيضاً البهوتي شرحاً مهماً وهو شرح منتهى الإرادات.

    مختصرات المذهب الحنبلي

    وقد وضع المتأخرون مختصرات أيضاً اشتهرت في المذهب، فمنها: دليل الطالب, وقد وضع عليه عدد من الشروح، من أشهرها: منار السبيل في شرح الدليل لـابن ضويان النجدي, وكتاب نيل المآرب من شرح دليل الطالب.

    والدليل أصبح يقارن بزاد المستقنع, وقد جمعهما ابن بدران في كتابه: أخصر المختصرات, وبدران هو من علماء دمشق وما حولها من قرية قريبة من دمشق, وقد كان من مشاهير متأخري علماء الحنابلة.

    هذه تقريباً أهم كتب الحنابلة التي يحتاج إليها الباحث والمدرس للمذهب.

    1.   

    مكان انتشار المذهب الحنبلي

    بالنسبة للمذهب الحنبلي كان انتشاره في البداية في بغداد ثم تقوض منها حتى رده إليها القاضي الوزير ابن هبيرة عندما أخذ الوزارة كان له مكانة علمية كبيرة, وكان يجتمع عليه الفقهاء في زمانه, وفي الشام عندما انتشر المذهب بعمل ابن قدامة ثم الذين جاءوا بعده ومن مشاهيرهم: الإمام ابن الجوزي, وقد كان أخطب خطباء الشام على الإطلاق.

    ثم جاء بعده ابن تيمية ثم تلامذته من أمثال ابن رجب وابن مفلح وابن القيم, فهؤلاء أشهر تلامذة ابن تيمية من الحنابلة.

    واستقر المذهب بالشام زماناً؛ كان في فلسطين في البداية ثم انتقل إلى دمشق وما حولها, وبقيت منه بقية كذلك في البصرة في جنوب العراق, وكذلك استقر في نجد أزمنة.

    وما يزعمه بعض الناس: أن المذهب الحنبلي إنما جاء إلى نجد مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عندما أتى به من البصرة هذا غير صحيح, فقد كان المذهب موجوداً في نجد، لكن كانت في نجد المذاهب الأخرى, ولذلك فالكثير من الذين خالفوا الشيخ من الناحية الفقهية من أصحاب المذاهب الأخرى مثل: ابن خييمن الذي كان من المخالفين للشيخ وكان حنفي المذهب.

    وقد كان للمذهب وجود أيضاً في الإحساء قديماً قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب, ومع هذا فلا شك أنه من حسنات الشيخ عنايته بنشر المذهب في نجد، وبالأخص ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

    بالنسبة للمذهب لم تقم عليه دولة قبل الدولة السعودية الأولى, والمذاهب تحتاج في نشرها إلى السياسة, ولذلك لم ينتشر في كثير من المناطق الأخرى, ومع هذا لا ينكر وجود بعض الحنابلة في أماكن مختلفة من العالم كأفراد, لكن لم يكن لهم ذلك الانتشار في أماكن مختلفة من أنحاء العالم حتى في المغرب عندنا.

    وحتى عندنا من المتأثرين أساساً بشيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته ربما أخذوا بمذهبه, أما علاقة شيخ الإسلام ابن تيمية بالمذهب فهو لم يدَّع الاجتهاد المطلق, ولم يُدع له, بل كان تابعاً لمذهب الإمام أحمد, وكان يصرح بذلك فيقول: هذا قول أصحابنا, وهذا المذهب عندنا, وهذا الذي اختاره جدي، وهذا الذي قاله التميمي، وهذا الذي قاله ابن عقيل, وهذا الذي قاله أبو يعلى, وابن قدامة وهكذا, ونقوله طافحة بهذا.

    لكن مع هذا لا شك أن له اختيارات كثيرة غالباً توافق رواية من روايات المذهب، وقد تكون مفردةً من مفردات منفردة عن المذاهب الأخرى, فيشيعها هو وينصرها فيخالفه الناس بسببها, ويزعمون أنه خرق الإجماع, والإجماع عندهم إجماع المذاهب الأربعة فقط, والواقع أنه ما خرق الإجماع المطلق لمجتهدي الأمة, بل كان حريصاً على عدم خرقه، قال في مسألة: إذا لم تكن محل إجماع فأنا أرى فيها كذا, وقد نقل ذلك عنه ابن القيم في مختصر اختيارات ابن تيمية.

    وفي مسألة من العدد وهي مسألة المطلقة ثلاثاً أنها تعتد بحيضة واحدة، قال: إن لم يكن ذلك محل إجماع فأنا آخذ به, فكان يتحرز من المسائل التي ما درس هل فيها إجماع أو لا، فكان يخاف من الإجماع, وما اشتهر عنه في العالم كله أنه يخرق الإجماع غير صحيح، بل أنا أعتقد أنه لم يخرق، حتى المذهب الحنبلي نفسه إلا نادراً, لكن في روايات المذهب والمذهب أوسع المذاهب.

    ومع هذا فقد كان كثيراً ما يميل مثلاً إلى المذهب المالكي في المعاملات، ويصرح بترجيحه، لكن مع ميله له وترجيحه له يقول: وكان أحمد يأخذ به, وكذلك في الأطعمة كان يقول فيها: إنها أقوى الأصول أصول أهل المدينة وأصول مالك ولذلك كان أحمد لا يعدل عنها.

    فعموماً هو من مجتهدي المذهب الحنبلي, ولا يقتضي ذلك عدم رجوعه عما يراه مخالفاً للدليل، وما يراه مخالفاً للراجح عنده, فالعمل بالراجح واجب لا راجح.

    ومن أسباب انتصاره هو وانتشاره: أنه تسلط عليه أهل زمانه بالحسد والعداوة، وذلك سبب لعلو منزلته, فقديماً يقول أحد الحكماء:

    وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود

    كذلك جهاده التتار ووقوفه في وجههم, ووقوفه في وجه الدول الظالمة في زمانه، نصره الله به فأبقى له لسان صدق في الآخرين.

    1.   

    الشيخ محمد بن عبد الوهاب وارتباطه بالمذهب الحنبلي

    الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضاً لم يدِّع الخروج عن المذهب الحنبلي, ولا ادعى الاجتهاد ولا خرج عن فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية والمعتمد من المذهب الحنبلي, وفكرة اللامذهبية إنما جاءت في المتأخرين من أتباع الدعوة، ولم تكن عند الشيخ محمد ولا عند تلامذته، ولا عند الذين يلونهم, بل كانوا جميعاً يقولون: نحن حنابلة.

    1.   

    الأسئلة

    طريقة اجتهاد ابن تيمية في المذاهب الأخرى

    السؤال: طريقة اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية, واعتماده على المقاصد والمصالح, وجمع نصوص الشريعة المختلفة, والنظرة الشمولية فيها، هل له نظير في المذاهب الأخرى؟

    الجواب: نعم, هذا كثير في الأمة, وبالأخص الذين ألفوا في هذا, وعنهم أخذ هو هذه النظرة, من أمثال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في المذهب الشافعي, ومن أمثال الشاطبي والقرافي والتلمساني في المذهب المالكي, وكذلك في المذهب الحنفي عدد من الذين يهتمون بهذه الجوانب, وبالأخص أن الحنفية اهتموا بالجوانب السياسية قديماً، فـأبو يوسف ألف كتاب الخرائط, وفيه سياسة الدولة كلها في المجال المالي والاقتصادي, واعتنى كثير من الحنفية بهذه الجوانب.

    سبب انتشار مذاهب الفقهاء الأربعة دون غيرها

    السؤال: ما سر نسبة المذاهب إلى هؤلاء الأئمة فقط دون من سواهم؟

    الجواب: ذلك من تقدير الله سبحانه وتعالى واختياره: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68], لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23], وقد اختار هؤلاء الجهابذة الذين ارتضاهم الناس, وأجمعت الأمة على إمامتهم وعدالتهم, فكانوا أهلاً لأن تؤخذ عنهم الأحكام, ومع ذلك فكان في عصرهم من هو مثلهم ومن وراءهم كثر، بل قد يزيدون عليهم في بعض الجوانب، ومع هذا ما كانت لهم هذه الآثار والبقاء, وقد سئل مالك رحمه الله عندما ألف الموطأ، فكان كل سنة ينقص منه، فقيل: يا أبا عبد الله أنت تنقص منه والناس يزيدون في كتبهم وقد كثرت الموطآت فقال: ما كان لله فسيبقى, فلم يصل إلينا من كتب أتباع التابعين إلا موطأ مالك, فجميع الذين عاصروه والذين كانوا قبله ما وصل إلينا شيء من كتبهم إلا هذا الكتاب وحده, فهو أقدم كتاب لدى المسلمين بعد كتاب الله.

    أوجه التقارب بين المذاهب الفقهية

    السؤال: [هل هناك تقارب بين المذاهب الفقهية؟]

    الجواب: بالنسبة للتقارب بين هذه المذاهب لا شك أن المذهب المالكي والشافعي والحنبلي كلها سلالة واحدة، وهي مدرسة للآثار, أما المذهب الحنفي فهو مدرسة الرأي, والمذهب الزيدي كذلك قريب من المذهب الحنفي, وكذلك المذهب الجعفري متأثر به, أما المذهب الإباضي فكثير من مسائله قريبة من مسائل الحنابلة, فلذلك هذه تقاربات المذاهب.

    وقد سئل ابن قدامة رحمه الله: أنه إذا لم يجد الحنبلي فتوى على وفق مذهبه أي: لم يجد الحكم الواقع فيه في مذهبه فإلى أي مذهب يذهب؟ فقال: إلى مذهب الشافعي؛ لأنه شيخ الإمام أحمد، فإن لم يجد فإلى مذهب مالك، ويؤخر المذهب الحنفي, فهذه قضية السلالة المذهبية.

    التعصب في المذاهب الفقهية

    السؤال: [ما وجه التعصب في المذاهب الفقهية؟]

    الجواب: بالنسبة للتعصب ظاهرة ليست تابعة لنفس المذهب, فلذلك لا يمكن أن يقال: إن مذهباً أشد تعصباً من مذهب؛ لأنها ليست هي من إفراز المذهب نفسه, فهي راجعة كما ذكرنا للبيئات وشعور أقلية أو مذهب من المذاهب بتعصب الآخرين عليه من اضطهاد أو نحو ذلك, ومن هذا تبدأ ردة الفعل, وكذلك الانفراد، فإذا كان المذهب في بيئة أهلها جهلة لا يعرفون غير هذا المذهب اعتبروه دين الله, وكل من خالفه خارج على الدين, مثلما تعرفونه بين العوام: إذا خالف الإنسان سنةً من السنن أو مندوباً من المندوبات قاموا عليه كأنه أتى بمنكر من المنكرات؛ لأنهم ما عرفوا من الدين إلا هذه, مع أن في المسألة أقوالاً ومذاهب وأدلة؛ ولكنهم لا يعرفون إلا هذه الصورة فقط.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767974015