بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن المذهب الظاهري قد اندرست كتبه، ولم يبقَ منها إلا بعض كتب الإمام ابن حزم رحمه الله, وأهمهما كتاب المحلى بالآثار, وهو اختصار لكتابه الكبير المجلى, وقد وجد أكثره مسوَّداً في صحفه ولم يروَ عنه, ولذلك حصل فيه بعض الأخطاء عن المؤلف رحمه الله, وسقط منه بعض الأبواب فوصلت، فإما أن يكون ولده اختصرها من كتاب المجلى فأضافها تحت عنوان إيصال, أي: إضافة على ما كتبه ابن حزم, أو أن يكون أحد طلابه فعل ذلك.
وقد تعرض ابن حزم في كتبه الأخرى لكثير من المباحث للمذهب الظاهرية, ومن أهم ذلك: أبحاثه في كتابه الإحكام في أصول الأحكام، وهو في أصول الفقه, والكتاب الصغير الذي اسمه النبذ في الأصول, وكذلك كتابه في العموم والخصوص في الأصول أيضاً, وبعض آراء الظاهرية تعرض لها في ردوده على اليهود والنصارى من أهل الكتاب عموماً, فله معهم مساجلات طويلة.
وقد ألف عدداً من الكتب لكن لأنه كان شديداً على المالكية في الأندلس تعصب عليه بعضهم، فأمر أحد السلاطين بإحراق كتبه, فأُحرق ما ليس فيه حديث من كتبه, فالكتب التي ليس فيها الحديث أحرقوها, مثل: الكتب الفلسفية والكلامية ونحو هذا, فأحرقوها ولم ينجُ منها إلا الفصل في الملل والنحل, وبعض كتبه الأدبية أحرقت أيضاً فلم ينجُ من كتبه الأدبية تقريباً إلا طوق الحمامة, وكذلك المفاضلة بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المسمى: المفاضلة بين الصحابة. وما سوى ذلك من كتبه أحرق, وفيه يقول هو رحمه الله:
فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري
ولا شك أن كتابه المجلى من كتب أهل العلم البارزة النافعة, لكن الإسبان وضعوه في النهر لما احتلوا قرطبة، فكان من الكتب التي وضعت في النهر فضاعت, وقد تلف في فعلتهم تلك الكثير من أمهات كتب الإسلام العظيمة جداً, ولم يبقَ منها إلا بقايا قليلة وضعوها في مكتبتهم الموجودة الآن باسم لوسكريال في مدريد.
أما ظاهرية المشرق فقد كان حظهم من التعصب أكثر؛ لمعايشتهم الحنفية, وهم أولو دولة وسلطان, فلذلك لم يبقَ لكتبهم باقية, مع أن كثيراً منهم قد كان لهم مكانة علمية كبيرة، فـابن داود كان يجلس في مجلسه سبعون صاحب طيلسان، أي: سبعون عالماً يحضرون درسه, وحصلت له قصة عظيمة عجيبة جداً مع أحد الصوفية, وهي أنه دخل عليه في مجلسه وهو شاب صغير ما في وجهه لحية، وهو يدرس حوله سبعون صاحب طيلسان من مشاهير العلماء يكتبون عنه, وهو على كرسيه والناس مطرقون من حوله, فجلس الصوفي في ثيابه المتقشفة فسمع الدرس فأعجب به؛ لكنه خشي العجب على صاحبه, فأراد أن يعالج عنه ذلك، فلما انتهى قال له: أحسنت يا غلام, اسأل عما بدا لك, فضحك من حوله في المجلس فقال له هو: لا أسألك إلا عن الحجامة؟ يريد الاستهزاء به أن لباسه وشكله على هيئة حجام، فلا يسأل إلا عن الحجامة, فقال الصوفي: بسم الله, والحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فإن الحجامة فعالة للمصدر من حجم، وبدأ يتكلم عن اشتقاقها اللغوي ثم بعد ذلك عن تاريخ الحجامة، ثم عن مواضعها في البدن ثم عن الأمراض التي تعالجها ثم عن فوائدها وتنشيطها للبدن, ثم عن ما ورد فيها من النصوص الشرعية, ثم عن الخلاف الفقهي في الحجامة، هل تفطر الصائم, وهل تنقض الوضوء أم لا، وذكر أقوال أهل العلم وأدلتهم في المسألة, ثم عن الاشتغال بها وحكمه, وذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود: ( وكسب الحجام خبيث )، وذكر علله وما يتعلق بإسناده وتراجم أهله, ثم ذكر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعاً من تمر أو صاعين من تمر ). فجمع بين الحديثين بجمع بديع جداً، وعليه يعتمد الناس اليوم في الجمع بين الحديثين, وأتى بأشياء عجيبة جداً في الحجامة, ثم ذكر ما في التاريخ من الحجامين في الإسلام وقصصهم ومشاهيرهم, وذكر ما يتعلق بأدوات الحجامة ومشارطها، ثم الخلاف فيما يعفى عنه الدم بين الشرطات والشرطات, وما يمسح عليه من القرطاس الذي يوضع عليها, والفرق بين الحجامة والفصد, والآثار التي ترتب على الفصد, وما يعفى عنه من النجاسة من الدم عموماً, من دم الحجامة مطلقاً للحاجم والمحجوم.
وأطال الكلام في هذا الأمر والناس يتعجبون منه, ثم لما انتهى فإذا ابن داود مشدوه ينظر إليه بتعجب, وأتى بأشياء عجيبة كأنه حضرها من قبل وما حضر شيئاً، مع هذا أحاط بالموضوع من كل جوانبه, فسأله: من أين أنت؟ فقال: ما أنا إلا عبيد من عباد الله، لكني حضرت الدرس فوجدت به أي: أعجبت به, فخشيت عليك أن يحصل في نفسك ما حصل في نفسي. وأستغفر الله لي ولك, وانصرف وما رأوه، ورجع إلى مكانه.
أما المذهب الإباضي فإن اعتمادهم في الحديث على مسند أبي الشعثاء جابر بن زيد, وهو من كبار التابعين من أصحاب ابن عباس, ومستندهم في الفقه على كتاب النيل وشروحه، فهو أهم كتاب في مذهبهم, وعليه شروح كثيرة, وله كتب مختصة يكتبونها عمن سواهم, ويدسونها في مخابئ لم تطبع إلى الآن، فلم يخرج من كتبهم المطبوعة التي تباع في الأسواق إلا كتاب النيل وشروحه, لكنهم في الجزائر وليبيا وتونس لهم كتب مخطوطة يتداولونها، ولا تعطى إلا لمن وصل مقاماً معيناً عندهم، فهو الذي يمكن أن يدرس تلك الكتب, وأن يطلع عليها.
وأما المذهب الجعفري فللإمامية عدد كبير من الكتب، من أشهرها كتاب شرائع الإسلام للحلي, وهم يعتمدون في الحديث على كتاب الكافي للكليني, وعلى بعض مروياتهم من كتب السابقين, واليوم يعتمدون على مؤلفات المتأخرين منهم، وهذه المؤلفات كثير منها بغير العربية؛ إما بالتركية وإما بالفارسية أو بغير ذلك, وقد طبع منها عدد من الكتب بالفارسية والتركية, ومن مراجعهم المشهورة الآن كتاب تحرير الوسيلة لآية الله العظمى الإمام الخميني, وقد ألف كتاباً آخر سماه: الحكومة الإسلامية, وتعرض فيه للأحكام العامة، كالولاية والإمامة وما يتعلق بها, وأتى فيه بنظريته المشهورة: ولاية الفقيه, وقد أصبح مجدداً في مذهبهم، ومع هذا لا يتفقون عليه، فليس هو المرجع الوحيد من مراجع الشيعة الإمامية، بل لهم مراجع كثيرة سواه.
وقد أدى التقارب في العراق بينهم وبين بعض أهل السنة إلى رجوعهم إلى بعض مراجع أهل السنة, فقد أصبحوا يعتمدون بعضها, وبالأخص كتب المفكرين المتأخرين، فأصبحوا يعتمدون عليها, ولهم كتب في التفسير تحوي أحكام القرآن، ومن أشهرها: تفسير الكشي وتفسير القمي وغيرهما من المفسرين.
أما المذهب الزيدي فإن أصل اعتماده على مسند الإمام زيد, وهذا المسند ليس من تأليف زيد نفسه، وإنما هو من تأليف بعض الذين جمعوا مروياته, ثم كان لأئمة الزيدية كتب كثيرة اشتهر منها كتاب الأزهار، وهو المختصر الذين يعولون عليه في فقههم كله، وعليه وضع الإمام الشوكاني كتابه المشهور: السيل الجرار على حدائق الأزهار, فأتى بالسيل لينسف هذه الحدائق, وأصل ذلك: أن أباه كان إماماً من أئمتهم، عالماً من علمائهم وقاضياً، فدرس عليه الشوكاني وهو صغير كتاب الأزهار، فلما بلغ فرائض الوضوء ذكر أن من فرائض الوضوء: غسل المخرجين، ودليل فرائض الوضوء قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6], فقال الشوكاني: إما أن يكون هذا ليس فرضاً من فرائض الوضوء, وإما أن يكون أسقط من الآية, فبهت أبوه، وقال له: يا بني عندما تكبر ستعرف دليل ذلك, فمن ذلك الوقت اهتم الشوكاني بكتاب الأزهار حتى وضع عليه هذا السيل الذي جرفه.
ومن الملاحظ في المذهب الزيدي أن كل مؤلف من المؤلفين عندهم لابد أن يأتي بابتكارات ومخالفات للمذهب، فيكون كتابه بمثابة مذهب مستقل, وتنتسب إليه طائفة، فكل طائفة تدرس كتاباً من كتبهم تنتسب إلى ذلك الكتاب وتجعله مذهباً مستقلاً, ولذلك فأئمتهم -أئمة الدولة اليمنية- ألفوا كتباً فكانت لهم طوائف تنتسب إلى تلك الكتب، كالهادوية والمهدوية والناصرية؛ الذين ينتسبون إلى الهادي والمهدي والناصر، من أئمة الدولة الزيدية في اليمن.
وقد وضعوا كتباً كثيرةً وبالأخص أئمة العترة؛ فعترة النبي صلى الله عليه وسلم آل البيت لهم كتب كثيرة جداً في المسائل الفقهية، وقد جددوا فيها فعلاً؛ لأن مذهبهم مذهب اجتهاد وليس مذهب تقليد, فالمذهب الزيدي مذهب يدعو إلى الاجتهاد ولا يدعو إلى التقليد، بخلاف كثير من المذاهب حتى مذاهب أهل السنة, ولذلك فإن كثيراً من أئمتهم إذا قرأت في كتبهم تجدهم يدعون إلى الخلاف الصارخ لما عليه مثل الزيدية؛ للاستدلال بحديث صححوه أو صححه غيرهم من أهل العلم, وليس لديهم من التعصب ما يمنعهم من قبول رواية من سواهم من أهل السنة, ولذلك رجع كثير من أئمتهم الكبار إلى الأحاديث الصحيحة لدى أهل السنة في مقابل بعض مروياتهم عنهم.
وبالأخص أن بعضهم قد تبحر في علم الرواية، فأصبحوا ينقدون روايات الشيعة ويبطلونهم, ومن مشاهير هؤلاء الإمام الأمير الصنعاني, وقد خرج من عقيدتهم بالكلية، فهم يعتقدون عقيدة المعتزلة, فهو خرج من عقيدتهم ورد عليهم, وكذلك ابن الوزير اليماني وقد خرج من عقيدتهم كذلك ورد عليهم, ونفس الشيء يمكن أن نصف الإمام الشوكاني مع أنه ينكر التقليد جملةً وتفصيلاً وألف في ذلك كتاباً, ويرى أنه لابد لكل طالب علم أو كل مهتم بالعلم أن يجتهد في دين الله، وألا يقلد أحداً إلا في الرواية فقط, فالدراية لا تقليد فيها, والرواية نحن مضطرون للتقليد فيها.
وعموماً فإن المذهب الزيدي على هذا يصعب وقفه بأنه مذهب واحد, بل يمكن أن ترى المذهب عبارةً عن طائفة من الكتب, وكل كتاب يخالف غيره من الكتب في بعض المسائل والجزيئات, ولهذا يكون لهم في المسألة الواحدة في بعض الأحيان خمسة مذاهب, مثل: طهارة الجلد بالدباغ؛ فللزيدية في هذه المسألة خمسة مذاهب, والمسألة فيها أحد عشر مذهباً لأهل العلم, وكذلك المسائل الأخرى التي فيها خلاف كثير، كالمسح على القدمين في الوضوء والمسح على الخفين, للزيدية في هذه المسائل أقوال كثيرة جداً. هذا عن هذه المذاهب الموجودة الآن وكتبها.
أما المذاهب المندرسة فلم يبقَ لها كتب تذكر، اللهم إلا ما يروى من جامع سفيان, وكتاب جامع سفيان الثوري هو جامع في الفقه, وقد تداوله الناس ونقلوه حتى وصل إلى بدايات القرن الثالث الهجري، وكان يروى في القيروان وتونس ثم ذهبت أخباره بعد ذلك, ولا نعلم عنه الآن أي شيء.
وكذلك كتب الليث بن سعد كانت تتداول في مصر زماناً حتى استقر بها الشافعي, فذهبت كتب الليث ولا يعرف لها أثر.
وكذلك كتب الأوزاعي فقد كانت تتداول في الشام وبالأخص في لبنان، ثم انتقلت إلى الأندلس واستقرت فيها زماناً، ثم ذهبت بالكلية من مجيء عبد الملك بن حبيب المالكي.
هذا عن الكتب المختصة المؤلفة في مذهب واحد.
وسنصل الآن إلى الكتب المقارنة التي تجمع مذاهب شتى, وتقارن بينها, وتذكر أدلتها وتناقش, وهذه الكتب هي التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بدراستها بعد دراسته للمذهب الذي نشأ عليه أو تربى عليه من البداية, فمن المفضل أن يطلع على الكتب التي تحكي الخلاف العالي وتناقش الأدلة؛ ليذهب عنه التعصب وليعرف مآخذ أهل العلم, وقد روي عن عدد من العلماء أنهم قالوا: لا ينبغي الإفتاء إلا لمن كان بحوزته أربعة كتب اشتهرت هذه الكتب بكتب الدنيا الأربعة, وهذه الكتب هي: كتاب المحلى لـابن حزم، وهو يتعرض للخلاف العالي، ويذكر مذاهب أهل السنة ويرد عليها ويناقش أدلتها, وتارةً يوفق كثيراً فيما يتعلق بالصناعة الحديثية لقوته في هذا الباب وتارةً يخفق, وبالأخص إذا تعرض لمؤلفات المتأخرين التي لم يراها, فإنه لم يروِ جامع الترمذي, وفي كلامه عن تحريم القينات والمعازف ومذهب الجمهور هو يرد عليهم, وذكر الأحاديث التي يستدلون بها على تحريم المعازف وهي واحد وعشرون حديثاً, ثم كرَّ عليها بالطعن يضعفها جميعاً, حتى وصل إلى واحد من هذه الأحاديث في سنن الترمذي لم يجد له علةً فقال: محمد بن عيسى بن سؤرة مجهول، ومحمد بن عيسى بن سؤرة هو الإمام الترمذي, فراوي الحديث مجهول عنده؛ لأنه لم يروِ سنن الترمذي وليس له به علم, بينما نجده في الكتب الأخرى التي يحفظها يرويها بأسانيده، بأسانيد محمد بن وضاح, وأسانيد بقي بن مخلد, فهو يروي من هذه الأسانيد للصحيحين وسنن أبي داود وغيرها من دواوين الإسلام الكبيرة.
السؤال: عرف عن ابن حزم رحمه الله أنه من أذكياء العالم، ومع هذا يروى عنه بعض المسائل التي يقول فيها قولاً مخالفاً لمقتضيات العقول فكيف ذلك؟
الجواب: تقيده بمذهبه الظاهري الذي يقتضي نفي القياس بالكلية ورده جملةً وتفصيلاً جعله ينطلق من أن الأصل في الأحكام كلها أن تكون تعبديةً لا تعليلية, وعلى هذا فالأحكام كلها بمثابة العقائد، يستسلم الإنسان لما ورد به النص أياً كان, ولا يبحث عن علته ولا عن سبب ورود الحكم, ولهذا فإن الظاهرية يرون أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد الذي لا يجري قالوا: لو بال الإنسان في قدح فصبه فيه لا يضره؛ لأن النجس اليسير إذا وقع في الماء الكثير ولم يغيره لم يتنجس عندهم، فيرون أن ذلك لم يرد به نهي, وأن الأصل التعبد، فيتعبد بموضع النص ولا يتعدى, ومع هذا فهذا النوع لا يمكن أن نسميه سذاجة ولا سطحيةً؛ لأنه يروى عن بعض الأئمة أيضاً من أهل السنة الذين يثبتون القياس بعض ما يشبه هذا, وقد ذكر عن بعض الحنابلة أنهم يرون أن النهي يتعلق بالبول فقط, ولا يتعلق بالغائط في الماء الراكد, وظاهريتهم في الموضع أشد من ظاهرية الظاهرية.
السؤال الكتب التي أحرقت وفقدها المسلمون، هل يمكن أن يعتبر ما فقد منها نقصاً في الدين أو نقصاً في العلم أو يمكن أن يعوض بالموجود؟
الجواب: الله سبحانه وتعالى تولى حفظ دينه بنفسه, وأن ما يحتاج إليه المسلمون في أمر دينهم لابد أن يوجد, فالقدر الذي وجدوه فيه ما يكفيهم؛ ولذلك إذا احتاجوا يظهر بعض الكتب الجديدة التي كانت مفقودةً, وفي كل عام يظهر بعض الكتب التي كانت مفقودةً من قبل لم يطلع عليها كثير ممن سبق, وهذا كله دليل على حفظ الله تعالى لدينه ورعايته له, ومع هذا فلا شك أن المسلمين خسروا في بعض مواقعهم ثروات كثيرة جداً من الكتب النادرة العجيبة, وهذه الكتب كان يعيش الناس عليها, بل إن كثيراً من العلماء كانوا يعدون بعض مؤلفاتهم بأعمارهم, فالإمام الطبراني كان يسمي الجامع الأوسط: كتاب العمر، ويعتبره ذخيرة عمره الذي أنفق فيه جهده, وكذلك الإمام ابن عبد البر يقول في التمهيد:
سمير فؤادي مذ ثلاثين حجةً وكاشف همي والمنفس عن كربي
جمعت لهم فيه كلام نبيهم
فهم يتعبون عن الكتب تعباً شديداً, ولذلك يصفها أحد العلماء يقول:
لنا جلساء ما يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم من مضى عقلاً وتأديباً ورأياً مسدداً
فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يداً
فإن قلت أحياء فلست بكاذب وإن قلت أموات فلست مفنداً
ولذلك فإن المصيبة التي لحقت بالوزير العباس المشهورة عندما ألف له الخليل بن أحمد الفراهيدي كتاب العين, فجمع له فيه لغة العرب, فاشتغل به يبيت يتحفظه ويحفظه، قالت زوجته: هذه الكتاب أعظم لدي من مائة ضرة, فتركته حتى خرج فأحرقت الكتاب، وكان قد حفظ نصفه فضاع النصف الآخر بعد موت الخليل, فحزن عليه حزناً شديداً، حتى جاء بعض اللغويين فألف له النصف الآخر ولم يكن كالنصف الذي ألفه الخليل.
السؤال: [ورد أن العلماء كانوا كثير الاعتناء بالكتب والمؤلفات العلمية ويتمنون الحصول عليها, فهلاً ذكرت لنا نماذج من ذلك؟]
الجواب: عناية العلماء ببعض المؤلفات العظيمة التي يتمنون وجودها كثيرة جداً، وقد كثر هذا من العلماء, فاشتهر عن عدد كبير من أهل العلم تمنيهم للحصول على بعض الكتب، بل إن رسالة ابن أبي زيد القيرواني لما أتت إلى بغداد في عام تأليفها اشتريت بوزنها من الذهب, وضع الكتاب في كفة ووضع الذهب في كفة حتى شريت بوزنها من الذهب, وكان عدد كبير من الناس يتمنون هذه الكتب تمنياً عجيباً حتى إن الخليفة الأموي الثالث المستنصر عندما أتى أبو علي القاري للأندلس ألف له كتابه الأماني، فجعل أبا علي في كفة والذهب في كفة, فوزنه وأعطاه وزنه هو من الذهب بدل هذا الكتاب, وعكف الخليفة على الكتاب حتى حفظ كل ما فيه هو وغلمانه وجواريه.
وكذلك كانت الكتب تهدى إليه من بعيد, فقد كان الناس إذا ألفوا كتاباً في خرسان وفي المشرق أو في بغداد أو في أي مكان جلبوه إليه, ولذلك قيل في ترجمته: لم يجتمع في مكتبة من مكتبات الإسلام من الكتب ما اجتمع في مكتبته, وكان الناس يهدون الكتب إلى الملوك، وإلى الذين يجلون أهل العلم، فمن ذلك أن الإمام البيضاوي رحمه الله لما ألف تفسيره في بلاد الترك -وكانت إذ ذاك تسمى بلاد الروم- ذهب يقصد به أحد الملوك؛ يريد إهداءه إليه, فنزل ضيفاً على رجل من المتزهدة الصوفية، فبات عنده فسأله: إلى أين تتجه بسفرك هذا؟ قال: أذهب بكتابي هذا إلى هذا الملك لعله يثيبني عليه, فسكت الصوفي، فلما كان من الصباح سأله فقال: ماذا قلت في تفسير قول الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟ ففهم البيضاوي مقصد الرجل فقطع سفره ورجع إلى بلده, فلحقته عطية الملك في بلده أي: أدركته حيث رجع, وهذا نظير ما حصل لـأبي عثمان المازني رحمه الله عندما طلب منه رجل من اليهود أن يكتب له كتاب سيبويه بثلاثمائة دينار، فتذكر أن في كتاب سيبويه ثلاثمائة آية، فقال: لا أجعل ثلاثمائة آية من كتاب الله في يد يهودي، وكان فقيراً معدماً, فبينما هو على ذلك الحال وبناته يلمنه على هذه الصفقة إذا خيل البريد تسأل عنه، فركب خيل البريد إلى الخليفة الواثق بن المعتصم، فأدخل عليه فوجده وعنده جارية تغني فأنشدت بين يديه:
أغليم إن مصابكم رجلاً أهدى السلام تحيةً ظلم
فقال لها الخليفة ووزيره الفتح بن خاقان: أغليم إن مصابكم رجل, على أنها (خبر إن)، فقالت: لا, أنا رويتها عن شيخي أبي عثمان المازني بالبصرة هكذا:
أغليم إن مصابكم رجلاً أهدى السلام تحيةً ظلم
فأرسلوا خيل البريد في ذلك الوقت حتى جيء بـأبي عثمان المازني فسأله الخليفة، فقال: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الكلام مغلق إلى قوله: (ظلم), فظلم هي خبر إن, ورجلاً: مفعول المصدر؛ وهو مصابكم, فرحب به وأعطاه ثلاثة آلاف دينار, ثم خيره قال: إن شئت رددتك إلى أهلك, وإن شئت أقمت عندي مكرماً، فقال: أريد الرجوع إلى أهلي، فسأله ما قال أهلك عندما خرجت؟ فقال: قالت إحدى بناتي:
أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم ترم
فإنا إذا أضمرتك البلاد نجفا تقطع منا الرحم
فقال: فماذا قلت أنت؟ قال: قلت قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: نعم من نجاح إن شاء الله, وأجرى عليه ثلاثة آلاف كل سنة, فأخبره بالقصة وما حصل ثم أجازه الفتح بن خاقان بألفين قال: لولا أن الخليفة أجازك بثلاثة آلاف لأجزتك بها, ولكن تأدباً مع الخليفة أنقص عن عطيته, ثم أجاز الخليفة الجارية بثلاثة آلاف فأهدتها إلى الشيخ, فرجع مكرماً إلى أهله بكل هذه العطايا.
وكذلك من حرصهم على الكتب وعنايتهم بها أن عدداً من الذين اشتهروا بالفتوحات والغزو مثل: صلاح الدين الأيوبي وغيرهم كانوا يجلسون مجالس لنقد الكتب الجديدة التي ألفت في زمانهم, وكانت تهدى إليه الكتب, وصلاح الدين كان لا يشغله الجهاد وتدبير أمر الدولة عن أن يجعل يوماً لمناقشة الكتب الجديدة, ولذلك أهدى إليه ابن مالك كتابه المثلث: الإعلام بتثليث الكلام, يقول في مقدمته:
اتباع حمد الملك الوهاب صلاته على الرضى الأوابِ
محمد وآله الأنجاب به ابتهاج النطق في الكتاب
وبعد فالأولى بأن تجلى له بنات فكر ناسبت إجلاله
ملك يباري فضله إفضاله في نصر أهل العلم والآداب
الناصر الذي له تأييد من ربه بأسعد تزيد
فمن عداه لهم مبيد مستأصل يغني عن احتراب
من جنده الأقدار فهي منجدة لمن يواليه بجود وجده
ومن يناويه يجدها مقصدة بأسهم لم تخلو من اكساب
إلى صلاح الدين الابتداء من سمت بعزهم العلياء
ومن نوى إدراك ما يشاء من مبتغى المربوب والأربابِ
يمناه فيها للنهى معين منه على نيل العلى معين
فلم ير لسؤدد تعيين إلا لقرب منه وانتسابِ
قد لجأت له الملوك الصيد طوعاً وكرهاً هم له عبدُ
إذ ليس لهم عنه محيد إلا لأحرى الخلق بالعقابِ
لما علمت أنه ذو أرب إلى اتساع في كلام العربِ
أردت أن أجعل بعض قربي له كتاباً فيه ذا احتسابِ
أحوي به أكثر تثليث الكلم نحو حلمَت وحلمِت وحلُم
فحوز هذا الفن محمود مهم به اعتنى قدماً أولو الألبابِ
وها أنا آتي به مبوباً على الحروف بيناً مرتباً
ملخصاً مخلصاً مهذباً ينساق معناه بلا استصعاب
وكذلك لدى المتأخرين ولع بالكتب التي تظهر وتشتهر, وقد حصل لبعض العلماء في هذا الزمان شيء من ذلك فكانوا يفرحون بالكتب إذا وجدوها حتى يقولون الشعر في الفرح بها, فالشيخ بابا بن الشيخ سيديا رحمه الله لما طبع كتاب المنتقى للباجي على الموطأ سمع أنه طبع في تركيا، فأوفد موفداً من بلاده بلاد شنقيط إلى تركيا ليأتيه بنسخة منه, وتكلف في ذلك مالاً طائلاً يقول فيه في قصيدة:
ونسرين روض في البلاد تفتقا
بنيل كتاب المنتقى غير أنه نتيجة نيل المنتقى لمن اتقى
وكذلك جدي رحمه الله عند لما طبع التقصي -وهو تجريد التمهيد لـابن عبد البر- أتاه به أحد السفراء, وكان مسافراً عن البلد سفراً طويلاً فقال فيه:
تقصيت آثار المحامد تسرح وهذا التقصي شاهد ليس يجرح
فو الله ما أدري وإن كنت دارياً بأيكما إذ جئتما كنت أفرح
وكذلك رغب في وجود نسخة مخطوطة من الذخيرة للإمام القرافي، وكانت في الخزانة الملكية في الرباط، فصورها له أحد الوزراء وأتاه بها، فقال له أبياتاً يقول فيها:
ذخيرتنا أتانا بالذخيرة
وهناك قصص عجيبة في حرص بعض العلماء على بعض الكتب النادرة وعنايتهم بها, وذكر قصةً جرت له هو: أنه كان يبحث عن كتاب فبحث عنه في كل مكتبات مصر ومكتبات الشام ومكتبات الهند وما وجده, وذكر له رجل أنه في مكتبة بمكة, فطار فرحاً بذلك فذهب إلى المكتبة فوجد صاحب المكتبة، فقال: هذا الكتاب كانت عندي منه نسخة واحدة واشتراها رجل شنقيطي معمم أتى بالأمس فاشتراها، فحزن حزناً شديداً فما نام حزناً لذلك، ثم ذهب إلى الكعبة وطاف وهو يدعو أن يجد هذا الرجل الذي لا يعرف له اسماً ولا صفةً إلا أنه شنقيطي معمم, فكان كلما رأى من عليه عمامة سأله, حتى وجد الرجل ووجد الكتاب عنده، فاستعاره منه، وكانوا يحرصون أيضاً على استعارة الكتب من الناس, وكثير من العلماء كانوا يكرهون إعارة الكتب لتعرضها للضياع بذلك, ولهذا فإن المختار بن بونه رحمه الله لما كان يؤلف الجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة لم يصل عنده شرح الدماميني على التفسير، وهو من أهم الكتب له, فذهب يطلبه فأتى قوماً من أهل المكتبات في البلاد من قبيلة العلويين, فأنشدهم أبياتاً يقول فيها:
أتيتكم يا حماة العلم والدين وليس لي غرض سوى الدماميني
فقالوا: أعطوه الكتاب على ركاكة أبياته, وكذلك آخر سافر سفراً طويلاً من أجل استعارة كتاب التبصرة لـابن فرحون في القضاء، وقال له الذي طلب منه إعارة الكتاب:
يا ابن المشايخ والأشياخ أسلافه جزاء من يسعف الساعين إسعافه
ها إن تبصرة الحكام مبخلة ولؤلؤ وسواد القلب أصدافه
ومن أعار سواد القلب أتلفه لكن يهون علينا فيك إتلافه
وقد ذكرنا أن أسد بن الفرات امتنع من إعارة مدونته لـسحنون حتى يقابل عليها, فأعاره إياها ليلةً واحدة فوزعها سحنون على الطلاب فكتبوها كلها في تلك الليلة. فهذه نماذج من حرص العلماء على الكتب العلمية.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر