إسلام ويب

اليوم الآخر حكم وأحكام [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإنسان في عمره الدنيوي ينبغي له أن يخطط التخطيط السليم لهذا العمر القصير، وهذا التخطيط قائم على أربع مراحل: الأولى منها تعلم ما أمر الله بتعلمه من أمر الدين، ثم العمل بهذا العلم، وإلا كان حجة على صاحبه يوم القيامة، ثم تأتي بعدها مرحلة دعوة الناس إلى تعلم العلم الشرعي والعمل به، ويترتب على هذه المرحلة مرحلة الصبر على هذا الطريق ومجابهة من يترصد له فيه، كالشيطان الرجيم والنفس الأمارة بالسوء.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد عرفنا أن الإنسان يتدرج في خمسة أعمار، العمر الأول ما كان في عالم الذر، والثاني ما كان على ظهر الأرض، والثالث ما كان في البرزخ، والرابع ما كان فوق الساهرة في المحشر، والخامس هو عمر البقاء الأبدي في الجنة أو النار.

    فإذا عرف الأنسان أن أعماره هذه الخمسة، وأن عمر العمل منها والامتحان هو العمر المركزي، وهو عمره فوق الأرض وهو أقصر أعماره، يحتاج إلى استغلال هذا العمر فيما ينجيه، ولاستثماره فيما يغنيه، واستثمار هذا العمر هو الرشد، فالرشيد هو الذي يستغل العمر لأن العمر هو رأس المال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، (كل الناس يغدو) الناس جميعاً تجار يغدون، (فبائع نفسه فمعتقها) أي معتقها من النار، (أو موبقها) أي مهلكها، نسأل الله السلامة والعافية.

    فلذلك يحتاج الإنسان إلى ترشيد هذا العمر واستغلاله استغلالاً حسناً، وقد قال أحد الحكماء:

    والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي بها حاجاته

    خُسر لذي عقل لبيب مؤمن وقت يمر ولم يزد حسناته

    واستغلال العمر وترشيده إنما يكون بالتخطيط القويم والتنفيذ لما خُطط له، وهذا التخطيط القويم يقوم على أربع مراحل:

    المرحلة الأولى: هي تعلم ما أمر الله به.

    والمرحلة الثانية: هي العمل بما تعلمه الإنسان.

    والمرحلة الثالثة: هي الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به.

    والمرحلة الرابعة: هي الصبر على طريق الحق حتى يلقى الله.

    فالمرحلة الأولى إذاً هي تعلم ما أمر الله به، وهي التي جمعتنا الآن هنا، فنحن ولله الحمد في هذه الساعة لم نجتمع لقصد أمر دنيوي ولا لرياء ولا سمعة، وإنما اجتمعنا لنتدارس شيئاً من أمر ديننا، في مسجد من مساجد ربنا جل جلاله، فإذاً بدأنا في المرحلة الأولى وهي تعلم ما أمر الله بتعلمه، فالله أقام علينا الحجة وأنار لنا المحجة، فأرسل لنا رسولاً كريماً مبيناً لما أمرنا به، وجاء بكتاب عزيز لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وأقام به الحجة على الجميع، فقد تحدى الله به الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، وهم لا يستطيعون، وهو حُجة باقية لله على عباده.

    فلما قامت علينا هذه الحُجة البالغة التي لا يستطيع أحد منا أن يرفضها ولا أن ينكرها، ولا يستطيع أن يقول: ما جاءنا من بشير ولا نذير، لا بد إذاً أن نتعلم هذا الذي جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب، وأن نستغل أعمارنا في ذلك، فهي مرحلة لا بد منها، وهذا التعلم هو الذي به شُرّفنا، فقد أقام الله تعالى مسابقة بين آدم والملائكة، وفاز في هذه المسابقة آدم وأخذ الجائزة، فقال الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:31-33]، فقد فاز أبونا آدم عليه السلام بهذه الجائزة، وهو مثل حسن لنا، وأسوة صالحة، فعلينا جميعاً أن نتنافس في تعلم ما يُرضي ربنا جل جلاله.

    وقد شرف الله سبحانه وتعالى أهل العلم، فقد استشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، وحكم لصالحهم على من سواهم، في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلامه فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشون الله حق خشيته، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

    وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم ومزيتهم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أيضاً من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد لله به خيراً يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).

    وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماءً ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم ينفعه هدى الله الذي أُرسلت به ).

    وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

    وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك في السنن والمستدرك وصحيح ابن حبان وابن خزيمة أنه قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع )، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها أنه قال: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وإلا عالماً أو متعلماً ).

    فكان هذا العلم مزية كبرى وفضلاً عظيماً، ولذلك لم يأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء من الدنيا إلا العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ولذلك فالاشتغال به ليس خسارة، بل الإنسان إذا طلب العلم وأخلص لله سبحانه وتعالى فذلك أفضل حتى من العمل، قال الإمام الشافعي: طلب العلم أفضل من قيام الليل ومن صلاة النافلة. قال السيوطي رحمه الله:

    والعلم خير من صلاة نافله وقد غدا الله برزقٍ كافله

    وقد سُئل مالك رحمه الله عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة في أية طاعة يصرفها؟ فقال: علم يتعلمه، قيل: يا أبا عبد الله إنه لا يعمل به، فقال: تعلمه أفضل من العمل به.

    فلذلك لا بد أن يجعل كل مؤمن ومؤمنة جزءاً من الوقت لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولا بد أن نعلم جميعاً أن الإعراض عن ذلك توعد الله عليه في كتابه بالوعيد الشديد، فقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].

    فإذاً لا بد في هذه الحياة الدنيا من استغلال المرحلة الأولى من مراحل تخطيطنا لهذا العمر واستغلالنا له، بأن نتعلم ما أمر الله بتعلمه، وأن نجعل ذلك أولوية من أولوياتنا، وهذا التعلم مستمر طيلة العمر يحتاج الإنسان إليه أبداً، قيل للشافعي: متى يحسن بالإنسان أن ينقطع عن طلب العلم؟ قال: متى يحسن به أن يجهله، إذا حسن الجهل حسن بالإنسان ترك الطلب، فلذلك يحتاج الإنسان أن يحرص على طلب العلم دائماً، وأن يعد نفسه في عداد الطلبة في كل الأوقات، في جميع أحواله لا بد أن يحرص على أن يستفيد كل يوم علماً يقربه من الله، وقد جاء في الحديث: ( أي يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم )، كل يوم لا يزداد فيه الإنسان علماً يقربه من الله ذلك اليوم منزوع البركة ليس فيه خير، فإذاً لا بد من الحرص على هذه المرحلة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088536974

    عدد مرات الحفظ

    777192525