بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد الله رب العلمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد عرفنا أن للإنسان خمسة أعمار، وأن العمر المركزي فيها هو عمره الدنيوي، وهو أقصر أعماره، وأنه لابد من استغلاله، وأن استغلاله لا يكون إلا بالتخطيط، وأن ذلك يكون في أربع مراحل، وأول مرحلة منها:
التعلم، ولذلك لابد أن نتعلم ما يتعلق باليوم الآخر، فهو مصير حتمي لكل واحد منا، ونحن صائرون إليه لا محالة، فنحتاج إلى أن تعلم شيئاً عنه، فالإنسان إذا أراد أن ينتقل إلى بلد من البلدان، لابد أن يأخذ معلومات عن البلد الذي سينتقل إليه، عن قوانينه، وعن منافذه، وعن عملته، وعن أنظمته، وعن غير ذلك، ونحن جميعاً منتقلون إلى الدار الآخرة، فنحتاج إلى التعرف على هذه الدار ومعرفتها، ولتعلم ما يتعلق باليوم الآخر فوائد كثيرة:
منها أولاً: زيادة الإيمان، فهذا الإيمان- الذي به شرف الإنسان، وهو شرط في دخوله الجنة- يزيد وينقص، وقد أثبت الله ذلك في كتابه، فقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125].
وقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وقال تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].
فالإيمان إذاً يزيد وينقص، وزيادة الإيمان تكون بثلاثة أمور:
الأمر الأول: زيادة رسوخه وثباته، أن يرسخ الإيمان في قلب الإنسان ويثبت بحيث تتنزل في قلبه السكينة، فلا يشك ولا يرتاب، فهذه زيادة في الإيمان.
الأمر الثاني: زيادة العمل، لدخول الأعمال في مسمى الإيمان، وقد ذكرنا أن العلم إنما فائدته العمل، فإذا ازداد الإنسان عملاً وتقوى وطاعة لله فقد ازداد إيماناً بذلك.
والأمر الثالث: زيادة أفراد ما يؤمن به الإنسان، فالإنسان كلما ازداد علماً ازدادت أفراد قناعته، ولذلك فقول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]، المقصود بها: أنه كلما نزلت سورة من القرآن من جديد، زاد عدد ما يؤمنون به من السور، فيزدادون إيماناً، أي: تزداد مفردات إيمانهم، وهذه الأمور الثلاثة التي تتحقق بها زيادة الإيمان كلها تتحقق بمعرفة شأن اليوم الآخر.
كذلك فإن من فوائد معرفة اليوم الآخر: أنه سبب لمعرفة الله عز وجل، فأول واجب على المكلفين معرفة الله جل جلاله، ومعرفة الله تقتضي محبته، وتمام الانقياد لحكمه، وتقتضي طاعته.
وإذا عرف الإنسان اليوم الآخر وعرف ما فيه، من العرض على الله سبحانه وتعالى، ومن الحساب، ومن دخول الجنة والنار، عرف عظمة الباري جل جلاله، فهو الديان وهو جبار السموات والأرض، فإذا عرف الإنسان عظمته وجلاله وكبرياءه وملكه، ازداد إيماناً به ومحبةً له ومعرفةً له.
كذلك من فوائد معرفة اليوم الآخر: زيادة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الشافع المشفع في الناس جميعاً في المحشر يوم القيامة، وهو الشافع لدخول الجنة، وهو الذي يرد الناس حوضه المورود، فيشرب منه من أراد الله بهم الخير شربة هنيئة لا يظمئون بعدها أبداً، فقد ادخر الله له المقام المحمود يوم القيامة، ولا شك أن معرفة ذلك تزيد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيماناً به، وتعلقاً به، لزيادة طاعته، والأخذ بشرعه.
وكذلك من فوائد معرفة اليوم الآخر: تغلب الإنسان على نفسه وانتصاره عليها، فالإنسان محتاج إلى الانتصار على النفس، وهي إحدى الجبهات الخمس -كما ذكرنا- ولا يمكن أن ينتصر على غيره ما لم ينتصر على نفسه، ولذلك قال الشيخ حسن الهضيبي رحمة الله عليه: إن من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح.
هذه قاعدة عظيمة: من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح، وضد هذه القاعدة صحيح، فمن انتصر على نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينتصر على غيره في معركة السلاح، فما ترونه من الهزائم يحل بهذه الأمة، سببه هزيمتها أمام نفوسها، لو انتصر الإنسان على نفسه لانتصر على غيرها من أعدائها، ومادام الإنسان مهزوماً أمام نفسه، لا يردها عن شهوة، ولا عن معصية، ولا عن مخالفة، لا يرجى أن ينتصر على غيره أصلاً، وإنما ينتصر الإنسان على نفسه بمعرفة اليوم الآخر وما اشتمل عليه، فهذه فائدة عظيمة يجنيها الإنسان من معرفته باليوم الآخر.
كذلك من فوائد معرفتنا باليوم الآخر: معرفتنا لدلالات النصوص الشرعية، فقد جاء في ذكر اليوم الآخر كثير من النصوص من القرآن والسنة، وقد جاء في ذكر البعث بعد الموت سبعمائة وسبع وستون آية في القرآن، وجاء في ذكر اليوم الآخر والجنة والنار أكثر من ألف آية، فهذه النصوص لا يمكن معرفتها وفهما إلا بمعرفة اليوم الآخر، وتفصيلات ما ورد فيه من النصوص.
كذلك من فوائد معرفتنا باليوم الآخر وما يتعلق به: معرفتنا بحكمة الباري جل جلاله، فهو الحكيم الخبير، فهو غني عن عباده، وغني عن تعذيب الظالمين، ومن تمام لطفه بعباده أنه يضاعف الحسنة الواحدة إلى عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ويعفو عن السيئات ويتجاوز عنها، وإذا عاقب بها فإن السيئة لا تكتب إلا سيئة واحدة، وإذا هم الإنسان بحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة أيضاً بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فيعرف الإنسان بذلك حكمة الباري جل جلاله.
كذلك من فوائد معرفتنا باليوم الآخر: رغبة الإنسان في الجنة، وخوفه من النار، فالإنسان محتاج إلى ما يزيده رغبة فيما عند الله عز وجل، ورهبة مما عنده، فالذي لا يعرف الجنة لا يرغب فيها، والذي لا يعرف النار لا يرهبها، وقد جاء في الأثر: ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، ولا مثل النار نام هاربها.
فلذلك يحتاج الإنسان إلا ما يرغبه في الجنة ويحدوه إليها، ويحتاج إلى ما يرهبه من النار ويخوفه منها.
وكلما ازداد الإنسان رغبة في الجنة ازداد طاعة لله واتباعاً لشرعه، وكلما ازداد خوفاً من النار كذلك ازداد طاعة لله، واتباعاً لشرعه.
وكذلك من فوائد معرفة اليوم الآخر: أن معرفته علاج للقسوة والغفلة، فنحن في هذه الدار نصاب بكثير من الأمراض، كثير منا يشعر فقط بالأمراض البدنية، وينسى الأمراض القلبية والنفسية والإيمانية، وهي أمراض تكون في بعض الأحيان أخطر وأكبر من أمراض البدن، ومن هذه الأمراض القسوة، فالقلوب تقسو، فيمر عليه القرآن كاملاً يسمعه من أوله إلى آخره، فلا تقطر له دمعة، ولا يرتعش رعشة، ولا يرتجف ارتجافة واحدة، وما ذلك إلا لقسوة القلب، وقد قال الله تعالى: الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله [الزمر:23].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ [الإسراء:107-109].
وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فكتبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:82-83].
وهذه القسوة أثرها بارز في عصرنا هذا وفي أمتنا، ففي هذا العصر قلّما تجد من هو خاشع، إذا سمع القرآن تأثر به، يتأثر الناس بأصوات القراء، فالقارئ الذي يعجبهم حسن صوته، يتأثرن ويتفاعلون مع قراءته، وليس ذلك بالخشوع؛ لأن الخشوع يتعلق بالمعنى لا باللفظ، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه في آخر الزمان يقدم القوم الرجل ليس بأفقههم، ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم )، ما قدموه إلا ليغني لهم، يعجبهم صوته فقط، فيقدمونه ليغني لهم، لذلك نحتاج إلى الخشوع، ونحتاج إلى رقة القلب، ولاشك أن رقة القلب من حياته.
أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
وكذلك فإن الناس في هذه الدار غافلون عن الدار الآخرة، فكم من إنسان يصبح ويمسي وقد نسج كفنه واستجلب في السوق، وهو موضوع في المحل التجاري جاهز، وهو لا يستشعر ذلك، وكم من إنسان يمر على البقعة التي سيقبر فيها ويرى قبره وهو لا يستشعر ذلك:
وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
فلذلك نحتاج إلى إزالة هذه الغفلة عن أنفسنا، فهي داء عضال، ومرض خطير، وإنما تزول عنا الغفلة بتذكر الدار الآخرة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزورها فإنها تذكركم الآخرة ).
تذكر الآخرة مهم جداً في مكافحة القسوة والغفلة.
كذلك من فوائد معرفتنا باليوم الآخر: أنه سبب لتوسعة ما نحن فيه من المشكلات، وللتضييق أيضاً على من أحس بالسعة في أمر الدنيا، فالناس في الدنيا بين قبض وبسط، فمن هو في قبض يشكو ضيق حاله وضيق معاشه، وينظر إلى من فوقه، فإذا تذكر الدار الآخرة، وتفاوت أهلها فيها، علم أن تزهده في الدنيا خير له، وأن ما فاته منها لا ينبغي أن يؤسف عليه، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].
وبذلك رغب فيما عند الله، وزهد فيما فاته من أمر الدنيا، وهذا الحال يقتضي منه المسارعة إلى الطاعات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها )، والراكب إذا استظل تحت الشجرة لا يريد البقاء والاستمرار تحتها أبداً، بل يتفيأ مع الظل، فإذا زالت الشمس انطلق في سفره، ونحن منطلقون إلى الدار الآخرة، وقد مر خلقنا بتسعة أطوار، هي المذكورة في نذارة نوح عليه السلام، في قوله تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:14].
وفي نذارة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: (( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ))[الآنشقاق:19]، فهذه الأطباق تسعة، قد مر بنا منها إلى الآن سبعة وبقي اثنان فقط، والإنسان إذا كان يقطع مسافة طولها تسعة كيلومترات، وقد قطع منها سبعة كيلومترات، ولم يبقَ إلا اثنان فقط، لاشك أن النهاية قريبة، هذه الأطوار التسعة هي مذكورة في قول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]، هذا الطور الأول، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13] هذا الثاني، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:14] هذا الثالث، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:14] هذا الرابع، فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا [المؤمنون:14] هذا الخامس، فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [المؤمنون:14] هذا السادس، ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] وهذا السابع.
والمقصود به في كلامه من الصبا إلى تمام الخلقة، ثم الرجوع إلى الكبر والشيب، فيبدأ أولا بضعف، ثم بعده القوة، ثم بعد ذلك الضعف والشيبة.
ثم قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون:15] وهذا الطور الثامن، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16] وهذا الطور التاسع، ولم يبق من مسيرتنا سوى هذين الطورين: الموت والبعث، فلذلك نحتاج إلى مراجعة ما أمامنا؛ لأنه توسعة للضيق الذي علينا، وتضييق لمن وسع عليه منا أيضاً، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت )، هاذم اللذات أي: قاطعها فجأة، الهذم هو القطع فجأة، ( أكثرو من ذكر هاذم اللذات الموت، فما ذكر في سعة إلا ضيقها، ولا في ضيق إلا وسعه )، إذا كان الإنسان في ضيق من شأن الدنيا، فذكر الجنة وما فيها من النعيم المقيم، وذكر النار وما فيها من العذب الأليم، لا شك أن ذلك سيزيل عنه التفكر فيما هو فيه من ضيق حاله، وإذا كان في سعة من الرزق، وتوسعة من الدنيا، فذكر ضيق جهنم على أهلها، وتذكر قول الله تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:12-14]، لاشك أن هذا يضيق عليه ما هو فيه من سعة الدنيا.
هذه الفوائد كلها نجنيها من معرفتنا باليوم الآخر.
وهذا اليوم الذي ننتظره أمامنا يوم عظيم، يدل على عظمته أسماؤه، فقد سماه الله في القرآن بأسماء مروعة مفظعة، فقد سماه بالقيامة، وسماه بالحاقة، وسماه بالقارعة، وسماه بالآزفة، وسماه بالصاخة، وسماه بالطامة الكبرى، وبغير ذلك من الأسماء المروعة المفظعة، كلها أسماء عظيمة جداً، وهي تدل على عظمة مسماها.
هذا الأمر العظيم كثير من الناس غافلون عنه، ولا يفكرون فيه، ولذلك يبغتهم فيأتيهم فجأة، فينشغلون عن كل ما كانوا فيه من أمر الدنيا، قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ [الحج:1-2].
وعظمة هذا اليوم، كذلك تؤخذ من علاماته وأشراطه، فالشيء العظيم يوضع بين يديه علامات تدل عليه، وقد جعل بين يدي الساعة أشراطاً، وهي جمع شرَط بالتحريك، وهو العلامة، وهذه الأشراط عظيمة جداً، فمنها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الفرقان بين الحق والباطل، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به علامة من علاماتها، هذا يدل على عظمتها، وعلاماتها وأشراطها تنقسم إلى قسمين:
إلى أشراط كبرى، وأشراط صغرى.
فالأشراط الصغرى: منها ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقع في هذه الأمة من الأمور، فقد بين أنه سيفيض المال على المسلمين، ويكثر فيهم، وبين أنه سيفشو العقوق في الناس، حتى تلد الأمة ربتها، وبين أنه سيتطاول الرعاة في البنيان، ( أن ترى الحفاة العراة، رعاء الشاة، يتطاولون في البنيان )، وبين كثرة النساء حتى يكون للخمسين امرأة القيم الواحد، يكون النساء أكثر من الرجال، وهذا يدل على البطالة، وعدم القيام بالأمور فيما يتعلق بالرجال، فيكون خمسون امرأة ليس لها إلا القيم الواحد.
وكذلك منها بعض الفتوحات التي ذكرها كفتح الشام والعراق، ومشارق الأرض ومغاربها، وبلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، فهذه كلها من الأشراط الصغرى، وقد بين منها بعض الصفات التي يجدها الناس في أنفسهم، ونحن نجدها اليوم، فمنها: ارتفاع الأمانة وانتقالها، فتقل الأمانة في الناس، وقد صح عن حذيفة في الصحيحين أنه قال: والله ما كنت أبالي من بايعت منكم، لئن كان مسلماً رده علي إسلامه، ولئن كان ذمياً رده علي ساعيه، ولقد أصبحت وأمسيت ولا أبايع إلا فلاناً وفلاناً.
وصح عنه رضي الله عنه في الصحيحين أنه قال: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لهم أن الأمانة سترفع، وأنها نزلت في جذر قلوب الرجال، فتعلموا من القرآن، وتعلموا من السنة، وأنها يسرى عليها فتنزع، فينام الرجل النومة فتنزع الأمانة من قلبه، فيبقى أثرها كالوكت، كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ، فتراه منتبراً وليس فيه شيء، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم قلتها، حتى يقال: في بني فلان رجل أمين )، في القبيلة بكاملها رجل أمين، مع أن الأمانة أخت الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا إيمان لمن لا أمانة له ).
ولكن مع ذلك ستقل في آخر الزمان قلة لافتة، وهذا ما نشهده اليوم.
وكذلك منها: إعجاب كل ذي رأي برأيه، أن يعجب كل إنسان برأيه، فيقع التعصب للرأي، ويقع احتكار الحق، ويكون كل إنسان يرى أن ما هو عليه هو الحق النهائي، الذي ليس فيه مفاوضة ولا نقاش، ولا يقبل تراجعاً عنه بوجه من الوجوه، وهذا ما نشهده اليوم، فكل صاحب رأي تراه معجباً برأيه ويجادل عنه، حتى لو كان رأياً بطالاً مردوداً بالقرآن والسنة.
وكذلك منها: ما يتعلق بانتشار الفساد، كانتشار الفاحشة، ومثل ذلك انتشار إضاعة الموازين والمكاييل ونقصها. وكذلك التفريط في أداء الزكاة، وكذلك نكث العهد، أي عدم الوفاء به، وكذلك عدم تحكيم السلاطين لكتاب الله، فيحكموا في الناس بغير كتاب الله.
فهذه خمسة أمور يترتب عليها خمس عقوبات من الله سبحانه وتعالى، كما أخرج ابن ماجه في السنن، وأحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً، فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها، إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم )، فأنتم الآن تسمعون بالإيدز، وأنواع السرطانات التي لم تكن معروفة في الماضي، وهي منشرة في زماننا، وسبب انتشار الفواحش.
قال: ( ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وعسف السلطان ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه، إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، الحروب الأهلية، والمشكلات، والتفجيرات، سببها تعطيل حكم الله سبحانه وتعالى في أرض الله، فهذه من أشراط الساعة الصغرى.
وكذلك من أشراط الساعة الصغرى: بعض الأمور التي تخرج تباعاً في هذه الأمة، كنقص بحيرة طبرية أو ذهاب مائها، ومثل ذلك: فتح روما، وفتح بيت المقدس، وخراب المدينة، يتركها أهلها على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي، قيل: وما العوفي يا أبا هريرة؟ قال: السباع، حتى يأتي ذئب أبيض فيغذي على المنبر- أي يبول عليه- لا يرده أحد، وآخر من يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما، وهذا الخراب؛ خراب المدينة، وفتح بيت المقدس، وفتح رومية، وبعد ثمان سنوات يخرج المسيح الدجال.
وكذلك تبدل الحكم وذمة المسلمين، ومن ذلك الفتنة التي بدأت بقتل عمر رضي الله عنه، فمن ذلك الوقت والفتنة قائمة، فقد كان عمر باباً دون الفتنه، كما قال له حذيفة: ما لك ولها، إن بينك وبينها باباً من حديد، فقال: أيفتح أم يكسر، قال: بل يكسر، قال: ذلك أقمن ألا يغلق أبداً، فكل هذه من أشراط الساعة الصغرى، وقد شاهدناها ورأيناها.
أما أشراطها الكبرى فهي كثيرة كذلك، فمنها: خروج الدابة، وهي دابة غير معهودة لا تشبه شيئاً من دواب الدنيا، أو هي ملفقة من عدد من الدواب، كل عضو منها يشبه عضواً من دابة، ( تخرج في رمضان من صدع خلف الصفا )، وفي رواية: ( من نفق خلف الصفا )، تخرج والناس في المسجد الحرام، في أعظم المسجدين حرمة، فتقف على الصفا وتكلم الناس، قال الله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهمْ دَابَّةً مِنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]، وفي هذه الآية قراءتان سبعيتان إحداهما: أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، أي: تقول لهم هذا القول، فـ(أنّ) بالفتح للتفسير، معناه: تفسير قولها: أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وحينئذٍ يكون التكليم، معناه: الكلام بلسان فصيح يسمعه الناس، تكلم الناس، وتقول لهم: الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
والقراءة الأخرى: (تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)، على الاستئناف، معناه: أنها آية يلزم التيقن بها وهي آتية لا محالة، و(تكلمهم) حينئذ محمولة على أحد المعنيين: إما أن يكون معناه الجرح؛ لأن الكلم هو الجرح، كلمه بمعنى جرحه، تجرح في وجه الإنسان جرحاً يعرف به الشقي من السعيد، وهذه الدابة تخرج كما ذكرنا من نفق خلف الصفا، وتغيب في شعب أجياد لا يفوتها هارب، ولا يدركها طالب، وهي لا تأتي على الأرض كلها، وإنما تكون في مكة فقط.
وكذلك من هذه العلامات الكبرى: طلوع الشمس من مغربها بعد أن تحبس ثلاثاً، والناس ينتظرونها فتطلع من مغربها، وحينئذٍ يغلق باب التوبة، وهو باب من قبل المغرب، فإذا أغلق لم تقبل من أحد توبة ما لم يكن محسناً من قبل، ولذلك قال الله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158].
والشمس كل ليلة تخر ساجدة تحت العرش، فتؤمر بالاستمرار فتستمر فتطلع من مشرقها، وفي تلك الليالي الثلاث تحبس ولا يؤذن لها بالانصراف، ثم يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها.
وكذلك من الأشراط الكبرى: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وظاهر الحديث أنها متقارنة أو متقاربة، أي: في وقت واحد، ثلاث خسوف كبيرة: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب.
وكذلك منها: الدخان الذي ينتشر فيراه الناس فيظنون أن السماء مظلله، بسبب دخان كثيف مستمر.
ومنها: نار تخرج من عدن، تسوق الناس إلى جهة الشام، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا.
ومنها كذلك رفع القرآن يسرى عليه في ليلة من الليالي فيمحى من القلوب والمصاحف، فلا يبقى له أثر بين الناس، وقد قال الله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86]، والذهاب به: هو محوه من القلوب والمصاحف، وقيل: ترفع معه السنة؛ لأن الناس حينئذ لا يبقى لهم أي متشبث ولا شيء يتمسكون به، ولا يمكن أن يكون ذلك إلى إذا محي القرآن والسنة معه.
ولن يكون ذلك إلى بعد موت العلماء، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً )، وفي رواية: ( رءوساً جهالاً، فاستفتوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )، فإذا اشتهر المفتون الذين يفتون بغير علم فيضلون ويضلون، وقلّ العلماء فذلك كله تهيئة لرفع القرآن ورفع العلم، ومن رفعه أن لا يعمل به بأن لا يحكم في النهار وأن لا يقام به في الليل.
وكذلك من أشراط الساعة الكبرى: خروج المسيح الدجال، وهو رجل من بني إسرائيل، وهو حي الآن محبوس في جزيرة من جزائر البحر إلى المشرق، وسيخرج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً، هو مفسد في الأرض، ومعه كثير من الفتن:
منها أنه يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، وأنه إذا مر بالقرية خربت تبعته كنوزها كيعاسيب النحل، ويمكث في الأض أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، وهو أعظم فتنة في الأرض منذ خلق آدم إلى قيام الساعة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من فتنة منذ خلق آدم إلى قيام الساعة أكبر من فتنة المسيح الدجال، وما من نبي إلا وقد حذره قومه، وإن نوحاً حذره قومه )، فإذا كان نوح عليه السلام هو أول رسل الله إلى أهل الأرض قد أنذره قومه، فهذا دليل على عظم شأن فتنته، وقد حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يخرج الدجال حتى يخرج دجاجلة آخرون، فيهم أربعون دجالاً كلهم يزعم أنه رسول الله، وكلهم يظهر على يديه بعض الخوارق التي تكون فتنة للناس، ولكن أكبر الخوارق هو ما يظهر على يد المسيح الدجال، وقد قال الله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، وأرجح شيء في التفسير أن الناس مقصود بهم هنا المسيح الدجال، وليس للمسيح الدجال ذكر في القرآن إلى في هذه الآية فقط، وهو يذبح الرجل فيناديه فيقوم فيكلمه، فهذه فتنة عظيمة، ويبعث للرجل أبويه الميتين فيكلمانه، ولا يدخل مكة ولا المدينة، يغزو المدينة فتنزل مسالحه أي: جيوشه بسباخ في جهة الغرب، وينزل هو على جبل من جبالها فيرى المسجد فيقول: ذلك القصر الأبيض قصر محمد، وترتجف له المدينة ثلاثاً، فيخرج إليه أهلها، وفيهم يومئذ رجل هو من أصلح الناس، فيقول: والله ما ازددنا فيك إلا يقيناً، ولأنت المسيح الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفلقه نصفين ويمشي بينهما ثم يناديه فيقوم، فيقول: ما ازددت فيك إلا يقينا، فيضجعه يريد أن يذبحه فيجعل الله ما بين ترقوته إلى حلقه نحاساً فلا يسلط عليه، وفتنته عظيمة جداً، وبلاء كبير على المسلمين، ويجتمع عليه فلول اليهود، فيكون في مسالحه سبعون ألفاً من يهود أصفهان على رءوسهم الطيالسة.
ويرجع إلى الشام، وفي آخر أيامه ينزل المسيح بن مريم عليه السلام، وهو شرط آخر من أشراط الساعة، كما قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَ [الزخرف:61]، (أنه) أي: المسيح بن مريم عليه السلام، (لعلم للساعة)، وفي القراءة الأخرى: (لعلم للساعة)، أي: علامة من علاماتها، والمسيح بن مريم عليه السلام قد رفعه الله إليه، وهو في السماء الثانية هو وابن خالته يحيى عليهما السلام، وقد لقيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وسينزل بعد أذان الصبح عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، يمينه على ملك وشماله على ملك كأنما خرج من ديماس، أي: من حمام، إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تقاطر، لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره.
معه أسلحة الدمار الشامل، وهي تنفسه، فنفسه يبلغ ما يبلغ بصره، ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، لا يمتري فيه الناس ولا يشكون فيه، فيدخل المسجد فيعرفه الناس، فيقولون: يا نبي الله تقدم فصل، فيقول: ما أقيمت لي، تكرمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصلي مأموماً وإمامكم يومئذ منكم، ويدرك المسيح الدجال بباب لدّ، وفي رواية: رملة لد، وهذا المكان هو الذي فيه مطار تل أبيب، يسمونه الآن الربت اللد، فهذا المكان الذي يقتل فيه المسيح الدجال، يقلته المسيح بن مريم عليه السلام.
ويقتل الخنزير فينفيه من الأرض، ويكسر الصلبان كلها، فيعرف النصارى أنه لم يصلب، ويسقط الجزية، فالجزية إنما كانت تضرب على الناس قبل مجيئه هو، أما بعد مجيئه فلن يقبل الجزية من أحد، وهو حكم عدل يحكم بملة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينزل بصفة الرسالة، بل ينزل بصفة التجديد والدعوة، فهو مجدد لملة محمد صلى الله عليه وسلم، وداعٍ إليها، كغيره من الأئمة والعلماء من هذه الأمة، أما رسالته فقد توفاه الله بها، أي: أنهاها، ولذلك قال: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، (متوفيك) أي: انتهت مهمته في الرسالة.
وبعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم قوم لا قبل لأحد بهم، يخرجون من جهة المشرق، لا يمرون على بلد إلا خربوه وأفسدوه، حتى يحاصر المسيح بن مريم ومن معه من المسلمين، فيدعو عليهم المسيح والمؤمنون معه، فيميتهم الله في ليلة واحدة، يأخذهم النغف في رقابهم، فيموتون موتة رجل واحد، فتمتلئ الأرض من زهمهم، وشحمهم، وأوساخهم، ونتن روائحهم، فيأمر الله السماء فتمطر فتذهب بجثثهم فتطهر الأرض منهم، فتبقى الأرض كالكرسفة البيضاء، وتؤمر بإخراج خيراتها، ومنافعها، ويبارك فيما فيها من الأرزاق، حتى تكون اللقحة الواحدة تروي القبلة، والبطيخة الواحدة يشبع منها الرهط ويستظلون بقشرتها، فتكون بركة عظيمة إذ ذاك في الأرض.
وقبل ذلك كانت الخلافة في الأرض، فستقوم خلافة على منهاج النبوة، وهو الطور الخامس من أطوار السياسة في هذه الأمة، كما في حديث حذيفة بن اليمان عند أحمد في المسند وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة وسكت )، وتلك الخلافة تكون في آخر الزمان، فيها اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، كما في حديث جابر بن سمرة بن جندب عند البخاري وغيره النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى يقوم اثنا عشر خليفة، وقال كلمة فأسر بها، فسألت أبي وكان بين وبينه: ماذا قال؟ فقال: قال: كلهم من قريش )، إي الاثنا عشر كلهم.
وعند موت أحد الخلفاء تقع فتنة تمتلئ معها الأرض جوراً، وفي هذه الفتنة يدعو الناس المهدي للبيعة، وهو رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن ذريته، يوافق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه اسم أبيه، وورد أنه يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخَلق، ويصلحه الله في ليلة، أي: أنه كان فاسداً مثل غيره، فيصلحه الله في ليلة واحدة، فيطلبه الناس للبيعة في المدينة، فيفر منهم إلى مكة فيدركونه بين الركن والمقام فيبايعونه، وفي أيامه ينزل المسيح بن مريم عليه السلام.
كذلك من هذا الأشراط الكبرى: موت المؤمنين جميعاً حتى لا يبقى على الأرض من يقول: الله، وذلك بريح باردة تأتيهم فتأخذهم في آباطهم فيموتون موتة واحدة، فلا يبقى على الأرض من يقول: الله، وتبقى حفالة أو حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله باله، يتهارجون كما تتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة، لا تقوم إلى على شرار الناس، وذلك بعد هجرة المسلمين إلى الشام، فالشام ستكون إليه هجرة بعد هجرة، فالهجرة الأولى إليه هجرة اليهود، فسيجتمعون إليه لفيفاً من أنحاء الأرض، كما قال الله تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104]، وكما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2]، إلى أول حشر اليهود إلى الشام.
والهجرة الثانية: هجرة المؤمنين، وقد قال فيها: ( يوشك أن يكون خير مهاجرهم مهاجر أبيهم إبراهيم )، مهاجر أبي المسلمين إبراهيم فهو أبوهم جميعاً، من كان منهم من ذريته فهو أبوه من الطين، ومن الدين أيضاً، ومن لم يكن من ذريته فهو أبوه بالنسب الديني لا بالنسب الطيني؛ لأن الله يقول: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، وهذا خطاب لكل المؤمنين.
فيهاجرون إلى الشام، فهو مهاجر أبيهم إبراهيم عليه السلام، وعندما يموت آخرهم بالشام من تلك الأرض يحشرون، فلذلك تسمى أرض المحشر؛ لأنهم يحشرون منها؛ لأن آخر المؤمنين حياة على الأرض هم الذين يعيشون في الشام، ولذلك أخرج الترمذي في السنن بإسناد حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ).
فإذاً هذه بعض أشراطها الكبرى، وهذه الأشراط الكبرى لم تأتِ بعد، ولا ينبغي تعجلها ولا لي أعناق النصوص وحملها على بعض الأمور التي حصلت، فذلك مخالف لفهم النصوص والتصديق بها والإيمان بها، بل علينا أن نؤمن أن هذا واقع لا محالة وأنه سيقع، وقد شاهدنا كثيراً من الأمور المستغربة في زماننا هذا، فمن كان يتصور سرعة ذهاب الاتحاد السوفيتي، وقد صار أثراً بعد عين، إذا قيل: الاتحاد السوفيتي الآن لا يعرفه أحد من الصبيان، ولا من الأطفال الجدد، لا يعرفون شيئاً اسمه الاتحاد السوفيتي، وقد كان بالأمس ملء السمع والبصر.
وكذلك ما يتجدد من الأمور الأخرى، فالاتصال الهاتفي الآن، وثورة المعلومات أو الاتصالات والنقل، وغيرها أمور عجيبة جداً لم تكن تخطر على بال أحد، وقد ورد بعض النصوص لحصولها، منها: ( أنه في آخر الزمان، تحدث الرجل شراك نعليه بما أحدث أهله بعده )، وفي رواية أخرى: ( يكلم الرجل أهله من مقبض سوطه، ومن شراك نعله )، من مقبض سوطه، الهاتف الجوال الآن قدره مقبض السوط فقط، قدر ما يقبضه الإنسان، بل يكون أصغر من ذلك، و(شراك نعله) السماعة التي تستعمل فيها مثل شراك النعل، فهذه الأمور التي جاءت في العموم يمكن أن نفهمها على بعض الوقائع التي في زماننا.
أما الأمور التي جاءت بالخصوص مثلما ذكرنا في الأشراط، فهي لا يمكن حملها إلى على وقوعها، ولم تقع بعد وستأتي، وليس لنا تعجلها، فما يحصل لدى بعض الناس من البحث عن المهدي، والظن أنه حي ومحاولة بيعته، ونحو ذلك، هذه الأمور التي هي من قبيل الخرافة، فـالمهدي إنما يصلح في ليلة واحدة، وإنما يأتي بعد اثني عشر خليفة، وبعد حصول الفتنة، فلا يخرج إلا بعد موت خليفة ووقوع فتنة.
وهكذا كثير من الأمور التي يتشبث بها الناس ويتعلقون بها من شأن الأشراط، كلها من الاستعجال لأمر سيأتي ولا داعي لاستعجاله يترك حتى يقع.
وأما ما يتعلق برفع القرآن، ورفع العلم عموماً، فعلينا أن نحاول نشره وتعليمه ما استطعنا؛ لأن الشرع هو الذي يجب العمل به، أما القدر فيجب الإيمان به ولا يجب العمل به، ولابد أن نعلم الفرق بين الأمرين، فالقدر من علم الله تعبدنا الله بجهله ولم يكلفنا به، والشرع من علم الله تعبدنا الله بعلمه وكلفنا به، فنحن مكلفون بالشرع، فأنت مكلف في الشرع بأن تصلي، لكن لا تدري في القدر هل صلاتك مقبولة أو غير مقبولة، فلذلك تنفذ الشرع وتعمل به ولو كنت لا تدري نتيجته وخلفياته وما وراءه، فذلك من القدر المستور وهو من سر الله جل جلاله.
ومن هنا فيجب علينا الحث على تعلم القرآن وتعليمه، وتعلم العلم النافع، والسعي في ذلك والحرص عليه، وأن نعلم أولادنا، وأن نسعى في تحفيظ القرآن على وجه العموم للناس جميعاً، ونحن نعلم أنه سيرفع لا محالة، لكن لا يجب علينا نحن السعي في ذلك، بل يجب علينا السعي لتعليمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).
وكذلك العلم عموماً، فيجب علينا الحرص عليه، والسعي في تحصيله وتعلمه، ونحن نعلم أنه سيرفع، وأن العلماء سيموتون، وهم طبقة مهددة بالانقراض قبل غيرها من الناس، لكن لا يقتضي ذلك الزهادة في العلم، ولا نقص تعلمه، بل يجب علينا الحرص عليه وأن نتعلمه ما استطعنا.
كذلك لابد أن ندرك أن أمر الساعة كلمح البصر أو هو أقرب، فهو أمر سريع جداً، فكثير من الناس يستغربون هذه الأمور، ويقولون: إذاً لا تأتي القيامة في هذا الزمان الذي نحن فيه؛ لأن هذه الأشراط قبلها ومنها قيام خلافة راشدة، ومنها كذا وكذا! من هذه الأمور التي ذكرناها، فيظن أن هذا الأمر لا يأتي إلا في أزمان متطاولة، ولكن الواقع أنه سريع جداً، فما أمر الساعة إلى كلمح البصر أو هو أقرب، هو سريع، وقد ورد في الحديث: ( أن بين يدي الساعة أياماً تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة )، وهذه السرعة العجيبة نشاهدها في أيامنا هذه، فقد نزعت البركة من أكثرها، فيتذكر الإنسان حدثاً حصل في العام الماضي فيظنه حصل في الأيام الماضية، أو في الشهر الماضي، أو نحو ذلك! فانتزعت البركة من الأيام، وما كان الإنسان يعمله في الزمان الماضي- مع أن وسائل السرعة الآن أكثر- لا يستطيع أن يعمله في الوقت الذي كان يعمله فيه، كان أسلافنا يسافرون المسافات، ويعملون أعمالاً كثيرة ويستغلون الأيام، وإذا أردنا استغلال مثل ذلك في زماننا، وجدنا البون شاسعاً بيننا وبينهم.
فمثلاً الإمام ابن عساكر رحمه الله، لما ألف كتابه تاريخ دمشق، هذا الكتاب حوالي مائة مجلد مخطوطة، فإذا وزعت ذلك على أيام حياته، فتجد أنه في كل يوم كان يكتب أكثر من أربعمائة صفحة، وهذا ما لا يمكن أن يتصور في حياتك الآن، حتى لو بالطباعة ولو بالكمبيوتر لا تستطيع أن تطبع أربعمائة صفحة في اليوم، فالبركة قد انتزعت من أيام الناس، وهذا مشاهد في كل الأمور.
فلذلك علينا أن نؤمن بهذه الأشراط وبالساعة وأنها آتية لا ريب فيها، وأن لا نكلف أنفسنا عناءً وتكلفاً لأمور لا نفهمها، فلا تطلب الكيفيات في أي أمر من أمور الآخرة، فأنت آمنت بالله بذاته وبصفاته، ولم تطلب الكيفيات في ذلك، وآمنت بنفسك التي بين جنبيك ولم تطلب كيفيتها.
عقلك لا يبحث في كيفية نفسك ولا في صورها ولا هيئتها، وأنت مؤمن بها، موقن بها، ومن طرق عليك الباب آمنت أن وراء هذا الباب إنساناً، لكن لا تعرف هل هو ذكر أو أنثى، كبير أو صغير، طويل أو قصير، أسود أو أبيض، لا تعرف شيئاً من صفاته، وهو يطرق عليك الباب وأنت تؤمن بأنه موجود.
فهذا يقتضي أن يكون الإيمان هكذا بيقين، وما لم يرد من الكيفيات والتفصيل يحال علمه إلى الله جل جلاله، فهو أعلم بكل ذلك.
نقف عند هذا الحد، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر