إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [28]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد انتهينا من الكلام عن المذاهب الفقهية، وما تتميز به، وبقي الكلام عن الكتب الفقهية المقارنة بين المذاهب، وقبلها نستكمل الإجابة على بعض الأسئلة.

    السؤال: ما هي مصطلحات المذاهب؟

    الجواب: لا شك أن لكل مذهب مصطلحات تدور في كتب المذهب كله, ومصطلحات مختصة للمؤلفين في كتبهم، وهذا النوع الأخير يعتني به الشراح في كل كتاب, فمثلاً: في المذهب الحنبلي يعتني الناس ببعض المصطلحات التي يكثر دورانها في المذهب, وبالأخص في كلام ابن قدامة وشراح كتبه, فمثلاً: عند الحنابلة: الرويتان, والوجهان, والقولان, والرواية المخرجة، والشيخ مثلاً، ونحو ذلك من المصطلحات المعروفة لديهم.

    وكذلك عند الشافعية: أصحاب الوجوه، والقولان، والجديد والقديم, وكذلك عند الحنفية: وجه الرواية، والزيادات، والنوادر, وكذلك عند المالكية كثير جداً من المصطلحات من هذا النوع, والمصطلحات التي ما كان منها متعلقاً بالكتب ألف فيه بعض الكتب المختصة مثل: رفع نقاب الحاجب عن مصطلحات ابن الحاجب, مصطلحات فقط في مختصر ابن الحاجب في جامع الأمهات, فألف فيه ابن فرحون كتابه: رفع النقاب الحاجب عن مصطلحات ابن الحاجب, وكذلك فإن خليلاً رحمه الله في مقدمة المختصر ذكر مصطلحاته في الكتاب غالباً وأهمل بعضها، فإنه يقول فيه: يقول العبد الفقير المضطر لرحمة ربه، المنكسر خاطره لقله العمل والتقوى خليل بن إسحاق بن موسى المالكي رحمه الله تعالى: الحمد لله حمداً يوافي ما تزايد من النعم، والشكر له على ما أولانا من الفضل والكرم, لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه, ونسأله اللطف والإعانة في جميع الأحوال, وحال حلول الإنسان في رمسه, والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد العرب والعجم، والمبعوث لسائر الأمم, وعلى آله وأصحابه, وبعد:

    فقد سألني جماعة أبان الله لي ولهم معالم التحقيق، وسلك بنا وبهم أنفع طريق، مختصراً على مذهب الإمام مالك بن أنس، مبيناً لما به الفتوى، فأجبت سؤالهم بعد الاستخارة مشيراً بـ (فيها) للمدونة، وبـ (أول) إلى اختلاف شارحيها في فهمها, وبـ (الاختيار) لـلخمي؛ لكن إن كان بصيغة الفعل فذلك لاختياره هو في نفسه, وبالاسم فذلك لاختياره من الخلاف, وبـ (الترجيح) لـابن يونس كذلك, وبـ (الظهور) لـابن رشد كذلك، وبـ (القول) لـلمازري كذلك, وحيث قلت: (خلاف) فذلك للاختلاف في التشهير، وحيث ذكرت قولين أو أقوالاً فذلك لعدم اطلاعي في الفرع على أرجحية منصوصة, وأعتبر من المفاهيم مفهوم الشرط فقط, وأشير بـ (صحح) أو (استحسن) إلى أن شيخاً غير الذين قدمتهم قد صحح هذا أو استظهره، وب وبـ (التردد) لتردد المتأخرين في النقل أو لعدم نص المتقدمين, وبـ (لو) إلى خلاف مذهبي، والله أسأل أن ينفع به من كتبه وقرأه وحصله وسعى بشيء منه, ثم أعتذر لذوي الألباب، من التقصير الواقع في هذا الكتاب، فقلما يخلص مصنف من الهفوات أو ينجو مؤلف من العثرات.

    فهنا ذكر مصطلحه في الكتاب في الغالب, وأهمل بعض المصطلحات، مثل: إشارته بـ(إن) إلى خلاف خارج المذهب, ومثل: إشارته بطي الخلاف إلى أن القول غير المطوي هو الراجح عنده, وهكذا، فلديه بعض المصطلحات القليلة التي أهملها وهي موجودة في شراحه.

    لدى بعض المؤلفين مصطلحات أخرى بمثابة اختصار لأسماء بعض الكتب أو المؤلفين, وهذه المصطلحات مشكلة؛ لأنها رموز بالحروف فقط، فمثلاً: ابن عبد الهادي الحنبلي في كتابه الفقهي يشير للمذاهب بالحروف, فـ (الهاء) لـأبي حنيفة, و(الميم) لـمالك و(الشين) لـلشافعي, ويشير كذلك لبعض علماء الحنابلة ببعض الحروف, وهذا النوع من المصطلح أخذ عن الغزالي في كتابه الوجيز, ثم تبعه عليه عدد من المؤلفين في الفقه, وأصبح كثير من الكتب تختصر بإشارات, وقد سلك ذلك أيضاً بعض شراح الحديث فمثلاً: الأبي في شرحه لصحيح مسلم -المسمى: إكمال الإكمال, وهو إكمال لإكمال المعلم للقاضي عياض، الذي هو إكمال لشرح المازري المعلم- يشير فيه بالحروف إشارات، فـ (الميم) لـلمازري، و(العين) لـعياض.

    وكذلك فإن السنوسي الذي ألف تكملة إكمال الإكمال أيضاً يشير لكل شراح مسلم بحرف: فـ (النون) للنووي, و(الباء) للأُبي.. وهكذا, فكل شارح من الشراح يشير له بحرف من الحروف.

    وهذا النوع من المصطلحات يصعب الإحاطة به، لكن في المذهب المالكي مثلاً يشتهر إشارات بالحروف لدى المتأخرين لبعض المؤلفين، مثلاً (عج) لـعلي الأجهوري و(من) لـمحمد البناني و(صر) لـناصر الدين اللقاني, و(مس) لـمصطفى المسناوي, وكذلك (ق) للمواق و(ح) لـلحطاب, وهكذا, فكثير من الحروف هي إشارات رموز لبعض المؤلفين أو المؤلفات, واشتهرت حتى أصبح بعض الناس ينظمها في نظمه كما هي, مثل قول الناظم:

    وكل ما تشرع فيه البسمله فإنما كما لـ(بن) مكمله

    كما لـ (بن) أي: البناني, ومثل قول محمد مولود في آداب الصلاة يقول:

    وعج ومن تبعه قد اعتمد

    فـ (عج) يقصد به: علياً الأجهوري, وكذلك قوله: (سر) و(صر), فـ(سر): الميسر, و(صر): ناصر الدين اللقاني, وكذلك (ضح) إشارة للتوضيح، فهي اختصار للتوضيح لـخليل بن إسحاق شرح جامع الأمهات لـابن الحاجب.. وهكذا.

    فهذه مصطلحات يكثر دورانها في كتب المتأخرين, وهذه المصطلحات إذا لم يبينها المؤلف كثيراً ما تكون مشكلةً, فإن الإمام اليونيني لما حقق صحيح البخاري -وهو أول تحقيق عرف في الدنيا تحقيق اليونيني لصحيح البخاري - فإنه جمع ست عشرة نسخة لصحيح البخاري, وهي النسخ الصحيحة المعتمدة في الروايات, وكل نسخة سلمها إلى عالم من العلماء، وكان هو يقرأ عليهم فيجمع بين النسخ، ويكتب الرموز فوق الكلمات، فيكتب (لا) أي: أن هذا ليس في النسخة الفلانية، ثم يكتب بعدها رمز النسخة: (هاء) أو (كر) أو نحو ذلك, وهذه كلها إشارة للنسخ الصحيحة التي كانت لديه, وكانت لديه نسخة كريمة ونسخة الأصيلي وأبي ذر الهروي والكشميهني وابن عساكر ونسخ أخرى من النسخ المشهورة المروية, لكن مع الأسف بقي إلى الآن بعض رموز اليونينية غير معروفة, فقد طبعت عليها نسخة صحيح البخاري التي طبعتها الإسطنبولية النسخة العثمانية، وطبعت عنها طبعة دار الجيل لصحيح البخاري الآن في ثلاثة مجلدات وهي من أصح النسخ, وإلى الآن بعض الإشارات هذه غير معروفة, وقد اجتهد الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في فهمها؛ لكنه لم يوفق لفهم بعضها، فإلى الآن ما فهمت الإشارة لبعض النسخ التي كانت مشهورةً إذ ذاك ولم تعرف, ولهذا فإن القسطلاني لما أراد شرح صحيح البخاري بحث عن اليونينية, وكانت وقفاً على مكتبة الأزهر، فوجد نصفها فعمل عليه ثم فقد النصف الآخر ما وجده، فإذا هو قد نهبه الأعراب -أعراب بني هلال- في إحدى غزواتهم للقاهرة، فحزن حزناً شديداً على ذلك النصف, وهذا داخل فيما كنا نتحدث فيه عن حزن العلماء على الكتب، حتى ذهب ذات مرة -بعد أن أكمل كتابه- في سفر إلى بعض قرى الصعيد، فوجد رجلاً يبيع بعض البقول يحملها على حمار له، ومعه بعض المبيعات الأخرى فيبيع للناس البقول، فلما رأى الشيخ عرف أنه من أهل العلم، فقال: أما أنت فلدي بضاعة أخرى لك، فقال: ما هي؟ فقال: كتاب، قال: ما هو؟ قال: لا أدري، فأخذ له الكتاب فإذا هو نصف اليونينية المفقود, فاشتراه منه بثمن زهيد, ورده وقفاً في مكانه, ثم إن الخلافة العثمانية أخذت اليونينية كلها من مصر, وذهبت بها إلى إسطنبول لطباعة صحيح البخاري عليها, وهذا مثل ما حصل لـأبي علي القالي مع جمهرة ابن دريد؛ فإنه لما ذهب إلى الأندلس في طريقه افتقر ونفدت دراهمه، فباع جمهرة ابن دريد, وهي كتاب شيخه الذي هو من أحسن كتب اللغة وأدقها، وقد سلم له معاصروه, حتى إن أعداء ابن دريد سلموا لكتاب الجمهرة، فلما ألفه كان بينه وبين نفطويه هجاء, و نفطويه يقول:

    ابن دريد بقره وفيه عي وشره

    ويدعي من حمقه وضع كتاب الجمهره

    وهو كتاب العين إلا أنه قد غيره

    لكن مع هذا لا يستطيع الطعن في كتاب الجمهرة, وابن دريد يرد على نفطويه فيقول:

    أفٍ على النحو وأشياعه إذ صار من أشياعه نفطويه

    أحرقه الله بنصف اسمه وصير الباقي صراخاً عليه

    فهو (نفط) (ويه) فـأبو علي القالي روى الكتاب عن مؤلفه, وكان يحبه حباً شديداً، فلما افتقر باع الكتاب مكرهاً، وكتب على الصفحة الأولى منه هذه الأبيات:

    أنست بها عشرين عاماً وبعتها وقد طال وجدي بعدها وحنيني

    وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني

    ولكن لعجز وافتقار وصبية صغار عليهم تستهل شؤوني

    وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين

    ثم بعد ذلك عندما استغنى وجد الكتاب فاشتراه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088537489

    عدد مرات الحفظ

    777197208