بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وصلنا إلى الكتب الفقهية المقارنة بين المذاهب, وأغلبها تنطلق من مذهب واحد هو مذهب صاحب الكتاب, ثم تقارن به المذاهب الأخرى مع الاستدلال, والغالب أن يبدأ بمذهب صاحب الكتاب والاستدلال له.
لكن منها ما لا ينطلق من هذه المبدأ، فمثلاً: كتب ابن المنذر لم ينطلق فيها صاحبها من مذهب, حتى إن الناس اختلفوا هل هو مقلد شافعي فعلاً أم هو مستقل, ومن كتبه: الأوسط, والإشراف وغيرهما, وبالنسبة للأوسط فلم تكمل طباعته بعد.
وكذلك: كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لـأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد، وهو من علماء المالكية, ومن الأطباء المشاهير, والفلاسفة الأندلسيين من أهل قرطبة, وقد ألف هذا الكتاب لأسباب الخلاف؛ ففكرة الكتاب ليست فكرةً فقهيةً، بل هي في الأصل فكرة أصولية، فهو يبين فيها أسباب خلاف الفقه, ولذلك فكل المسائل التي لا خلاف فيها لم يتعرض لها, بل يذكر في الباب رءوس المسائل المختلف فيها فقط, ويذكر أسباب خلاف أهل العلم فيها, ويرجع أسباب الخلاف إلى اختلاف في الدليل أو اختلاف في الدلالة, فكل أسباب الخلاف عنده إما اختلاف في الدلالة أو اختلاف في الدليل.
والاختلاف في الدليل أنواع: إما اختلاف في صحته, وإما اختلاف في أصل الاستدلال به, وإما اختلاف في معارضته وترجيحه, وإما اختلاف في فهمه.
والاختلاف في الدلالة أنواع: إما أن يرجع إلى أن دلالة العام قطعية أم ظنية, أو أن الأمر للوجوب, أو أن الأمر يقتضي الصحة, أو أن النهي يقتضي الفساد, أو النهي للتحريم.. وهكذا.
وكتابه في أصل فكرته يمنع التعصب؛ لأنه يبين مآخذ أهل العلم من المسائل، وإن كان غير مستوعب لجميع أبواب الفقه، فقد سقط منه بعض الأبواب التي لم يذكر فيها شيئاً، كباب الوقف, فهذا الباب لم يعقد له باباً في كتابه ولم يذكره, لكن أغلب الأبواب الفقهية الأخرى مغطاة في الكتاب.
وباب الوقف يمكن ألا يكون فيه اختلافات كبيرة مثل ما يراه هو في اجتهاده، وإلا ففيه بعض المسائل الخلافية, فمثلاً: مسألة الخلاف في وقف المنقولات, فجمهور العلماء على أن المنقول يوقف كالعقار، وفي مسائل كثيرة الخلاف فيها كبير, وأسباب الخلاف واضحة, لكن لعله رأى أن أكثر المسائل فيه محصور بالأدلة أو نحو هذا.
أما الكتب التي تنطلق من المذاهب فمنها في المذهب الحنفي: كتاب الحجة على أهل المدينة لـمحمد بن الحسن, وكذلك: كتاب المبسوط للسرخسي؛ فإنه يقارن فيه المذاهب الأخرى بمذهب الحنفية, ويستدل لها ويناقش.
ثم في المذهب المالكي: كتاب الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي, وكذلك بعض كتبه الأخرى مثل: المعونة في فقه مالك.
ومثل: كتاب أبي عمر بن عبد البر؛ لكن هذا الكتاب يمكن أن نلحقه بالقسم الأول الذي لا ينطلق من مذهب، وإن كان هو في الغالب يرجح مذهب مالك ويذكر أدلته, وكتابه الاستذكار سماه: الاستذكار لمذاهب أئمة الأمصار في جميع الأعصار وأدلتها من الآيات والأخبار والآثار, فأراد بهذا أن يكون جامعاً لمذاهب أئمة الأمصار في جميع الأعصار إلى عصره هو, وأن يجمع معها أدلتها من القرآن والسنة وعمل السلف, وهذا الكتاب في الواقع من كتب الدنيا الأربعة التي كان الأقدمون يقولون: لا يمكن أن يتمكن في الفقه إلا من قرأها, ويذكرون منها كتابين لـابن عبد البر هما: التمهيد, والاستذكار, لكن الواقع أن أحدهما يغني عن الآخر, فمثلاً: التمهيد تغلب الصنعة الحديثية فيه, والاستذكار يغلب الفقه فيه؛ لكنه يحيل في الاستذكار على بعض المسائل التي استقصاصها في التمهيد, والعكس أيضاً فيضيف مسائل جديدةً في الاستذكار لم يذكرها في التمهيد.
الكتاب الثالث من كتب الدنيا الأربعة: كتاب المغني لـابن قدامة , وهو كتاب حافل في الواقع، وقد جعله ابن قدامة رحمه الله شرحاً لمختصر الخرقي كما أشرنا من قبل, لكنه التزم فيه أن يذكر مذاهب مشاهير أهل العلم, وبالأخص الذين يذكر مذاهبهم ابن المنذر؛ لأن جل اعتماده في نقل المذاهب على ابن المنذر.
والكتاب مستوعب لأبواب الفقه ولكثير من دقائق مسائله, ويستحق أن يكون فعلاً من كتب الدنيا الأربعة, لكن يذكرون عليه ثلاث ملحوظات:
الملحوظة الأولى: عدم الدقة في نقل الإجماع, وهذه تجمعه وكتب ابن عبد البر كذلك, فإجماعيات ابن عبد البر وإجماعيات ابن قدامة إنما يقصدون بها إجماع جمهور العلماء فقط، ولا يقصدون بها الإجماع المطلق.
الملحوظة الثانية: عدم الدقة في نقل المذاهب، فكثيراً ما يقول: وذهب الحنفية إلى كذا، أو المالكية إلى كذا، أو الشافعية إلى كذا, ويكون هذا قولاً ضعيفاً في مذهبهم أو ليس قولاً في المذهب أصلاً, وهذ المسألة إلى الآن ما دققت وحققت، ونحن نقترح في موضوع رسائل الدكتوراه أن تكون في تدقيق عزو ابن قدامة, ويمكن أن تتوزع على المذاهب, فيتم تدقيق عزو المسائل للمذهب الحنفي، وتدقيق عزو المسائل للمذهب الشافعي، وتدقيق عزو المسائل للمذهب المالكي, وتكون في رسائل.
الملحوظة الثالثة: عدم الدقة في عزو بعض الأحاديث, فإنه في بعض الأحاديث قد يخطئ في التخريج, فمثلاً: حديث النهي عن بيع الثنيا حديث جابر, قال: أخرجه ابن ماجه، وهو في صحيح مسلم وغيره, فنسبه فقط لـابن ماجه، وإذا كان من مفردات ابن ماجه فإن الغالب في زوائده الضعف, ومن قرأ هذا ظن أن الحديث فيه شيء من الضعف.
وكذلك قد ينسب إلى صحيح البخاري ما هو في مسلم وليس في البخاري, ولا ينقص هذا من قدر الكتاب وجلالته، فهو عموماً من أهم الكتب الأربعة في التاريخ.
ثم الكتاب الرابع: كتاب المجموع للإمام النووي, وقد وضعه شرحاً على كتاب المهذب للشيرازي, وكتاب المهذب للشيرازي من أهم كتب الشافعية, ولم نذكره من قبل اعتماداً على أننا سنذكره هنا, وقد رتبه ترتيباً دقيقاً محكماً، وعبارته مختصرة مهذبة, فهو كما يقال: مهذب كاسمه, والإمام أبو إسحاق الشيرازي من أئمة المتكلمين من الأصوليين, ومن أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي كذلك, وكتابه يستحق مثل هذا الشرح، لكن المشكلة أن الإمام النووي رحمه الله مات قبل أن يكمل الشرح, فقد توفي في وسط أبواب الحج, فأكمل منه تسعة أجزاء، وهذه الأجزاء التسعة جمع بها فأوعى، وذكر كثيراً من المسائل, وخرج وفرع واستدل للمذاهب، وهو دقيق في النقل في الغالب, ودقيق في نقل الإجماع, ودقيق في الحديث, فيستحق الكتاب أن يكون من كتب الدنيا الأربعة، لكنه لم يكمل, وقد حاول السبكي أن يكمله فأضاف إلى المجلدات السابقة مجلدين، حتى وصل إلى وسط كتاب الأنكحة؛ لكنه أيضاً توفي قبل الإكمال, وطبعاً ليس السبكي كـالنووي في مجال الحديث, وإن كان من الناحية الفقهية وبالأخص في تدقيق المذهب الشافعي قوي جداً, ومن الأعلام الكبار, لكنه لا يساوي النووي في الأدلة الحديثية والآثار.
وقد تصدى لإكماله أحد المتأخرين وهو محمد نجيب المطيعي، ويبدو أنه ليس أهلاً بما اشتغل به, فقد سلك أسلوباً غريباً غير معهود لأهل العلم؛ فإنه يورد في شرح الكتاب نصوصاً من التوراة والإنجيل، ويذكر نصوص القانون الوضعي المصري، وأشياء كثيرة مثل هذه, وفي بعض الأحيان يأخذ خمس صفحات متوالية لكتاب من الكتب فلا يعزو إليه, ففي كتاب السلم نقل خمس صفحات من تفسير القرطبي بالحرف، ثم لم يعزها إلى القرطبي، فجعلها كأنها من كلامه هو, وقد حاول إكمال الكتاب حتى أضاف على الأجزاء الأحد عشر السابقة تسعة مجلدات فصارت جميعاً عشرين مجلداً.
وكان من اللازم أن يضاف إلى هذه الكتب كذلك المحلى لـابن حزم؛ لكن نظراً لشدته على الأئمة وتعصبه الواضح لم يلحق بها، وإن كان مع ذلك فعلاً على ما وصفه مؤلفه: محلاً بالآثار، ويسوق أدلته بكل وضوح, ولذلك بقي هذا الكتاب على رغم عداوة الناس للمذهب الظاهري، وعلى رغم أن المذهب الظاهري في الأصل لا يمكن أن يغطي الفقه كله؛ لأنه ينبذ القياس أصلاً, وأكثر المسائل الفقهية لا تغطى إلا بالأقيسة, لكن مع هذا لطول باع ابن حزم في الآثار, وفي المذاهب الفقهية وبالأخص في المذهب المالكي الذي هو ضليع فيه فهو تلميذ لـابن عبد البر، وقد قال: ما ألف في شرح الحديث مثل كتاب صاحبنا أبي عمر. يقصد به: التمهيد.
وقد سبق أن بينا بعض الملحوظات عليه, وهذ الملحوظات مع الأسف تأثر بها بعض المالكية من أهل الأندلس الذين تتلمذوا على ابن حزم أيضاً, مع أنهم تتلمذوا على مشايخ المالكية المضادين له, فـأبو بكر بن العربي أخذ لهجة ابن حزم في النقد, ففي شرحه للموطأ المسمى: القبس في شرح موطأ مالك بن أنس -وهو مطبوع الآن- إذا قال مالك: لا أرى ذلك. يقول هو: قلت: ولم؟ قلت: ثم ماذا؟ وإلا لم تره؟
ويقول: قال الشافعي وهو عند أصحابه سحبان وائل، يتندر بلغة الشافعي عندما تكون المسألة لغوية, فيرى هو أن الشافعي أخطأ فيها, ويقول: وقد أخطأ مالك في هذه المسألة, وزلات العلماء على قدرهم, يعني: هذا الخطأ على قدر مالك، وهذه لغة ابن حزم في الواقع, فـابن حزم سليط جداً في لغته على أهل العلم، وبالأخص إذا دخل ميدان الجرح والتعديل في الحديث، فينقد نقداً لاذعاً، وهو الذي ادعى الكذب على عبد الملك بن حبيب, وهو أحد أعلام المالكية الكبار, وأعلام أهل الحديث, فقد نسب إليه الكذب فقال: هذا الحديث لا أدري من أين علته، فإن كانت من عبد الملك بن حبيب فهي ثالثة الأثافي, والأثافي هي: الأحجار التي يوضع عليها الموقد, وأصل: ثالثة الأثافي أنها تقال للجبل الكبير يعني: أنها كذبة كبيرة جداً مثل: ثالثة الأثافي, ويقال: رماه الله بثالثة الأثافي.
ثم من هذه الكتب التي تجمع وتقارن: بعض الكتب المختصة بشروح أحاديث الأحكام, وبعض كتب تفسير المعتنية كذلك بآيات الأحكام, وقد عرجنا على بعض كتب آيات الأحكام مثل: كتاب الجامع لأحكام القرآن لـلقرطبي, وهو من أهم هذه الكتب المقارنة للأدلة والمذاهب, وأحكام القرآن لـابن الفرس, وأحكام القرآن لـأبي بكر بن العربي, وأحكام القرآن للكيا الهراسي, وأحكام القرآن لـلجصاص.
ثم من شروح الحديث التي تعتني كذلك بالمقارنة بين المذاهب وذكر أدلتها: فتح الباري للحافظ ابن حجر, وشرح ابن بطال على صحيح البخاري أيضاً, وكذلك شروح أدلة الأحكام، مثل: شروح سنن أبي داود؛ كشرح الخطابي معالم السنن, وتهذيب ابن القيم كذلك, ومثل: شرح ابن العربي على سنن الترمذي المسمى: بعارضة الأحوذي، وإن كان الكتاب إلى الآن ما طبع مع الأسف طبعةً صحيحة, فـابن العربي ابتلي بأن كتبه إلى الآن ما خرج منها كتاب كما تركه المؤلف، مع فائدتها وأهميتها وذيوعها وشيوع ذكرها إلا أن أغلبها في سقط وخرم كثير من تصرف الطابعين, فأحكام القرآن يسقط منه الكثير من المسائل, والعارضة يقول فيها: يؤخذ من هذا الحديث ثمان مسائل: مسألتان عقديتان، وأربع مسائل أصولية, ومسألتان فقهيتان، فإذا رجعت إلى المسائل تجدها خمساً بدل ثمان.. وهكذا.
وكذلك في كتبه الأخرى مثل: كتاب العواصم من القواصم، فهو لم يطبع طبعةً كاملةً إلا الطبعة القديمة التي طبعها عبد الحميد بن باديس, وطبع محب الدين الخطيب منه ما يتعلق بالصحابة فقط، فاختاره منه, وهو الذي شاع الآن باسم العواصم من القواصم، وهو نبذة صغيرة من الكتاب.
كذلك من كتب المتأخرين في هذا المجال: كتاب الإمام الشوكاني: نيل الأوطار، فقد جمع فيه فأوعى, واعتمد على تفسير القرطبي وعلى فتح الباري، وكتب أبي عمر بن عبد البر وغيرها, ويحاول استيعاب المذاهب، ففي بعض المسائل يذكر ثلاثة عشر مذهباً, وفي كثير منها يستدل لبعض المذاهب التي ينقلها مع عدم التعصب, فـالشوكاني أسلوبه ليس فيه تعصب, إلا أنه قد يشتد في رد بعض الأقوال التي لا يرى لها دليلاً، فيقول: هذا القول مظلم ليس عليه أثارة من علم, فيكون هو مذهباً من المذاهب المعتبرة؛ لكنه لم يعرف دليله، فيقول: هو مظلم ليس عليه أثارة من علم.
وعموماً فكتابه من الكتب التي لا يستغني عنها الدارس في الفقه الذي يريد مقارنة المذاهب ومعرفة أدلتها والترجيح فيها, وقد أخذ منه من جاء بعده عموماً, وكان من المفضل للدارسين في هذا الزمان أن يعتنوا بإخراج الكتاب بصيغة جديدة؛ بأن يحذفوا منه المسائل الضعيفة، والأقوال التي ليس لها مستند, ومذاهب الفرق الأخرى, ولو اقتصر فيه فقط على المقارنة بين المذاهب الأربعة وأدلتها لكان كتاباً ممتازاً في الواقع.
وقد تصدى لذلك بعض القضاة من أهل المملكة, فأحد القضاة اختصر كتاب نيل الأوطار؛ لكن كان اختصاره مخلاً جداً, فالمهم في المسألة -وهو مذاهب أهل العلم فيها- لا يذكرها, فهو يذكر فقط كلمات شرح الحديث, وبعض الأحيان يذكر الكلام في تخريجه، وقد سمى كتابه: اختصار نيل الأوطار, وهذا في الواقع يزيد المسئولية على الباحثين في هذا الزمان أن يعيدوا اختصار الكتاب بصيغة غير هذه.
كذلك كتاب الإمام أبي زرعة ابن الإمام العراقي المسمى: طرح التثريب بشرح التقريب، وهو شرح لكتاب والده: تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد, والشرح بعضه للشيخ نفسه؛ أملاه العراقي على ولده فكتبه ثم كمله الولد, والكتاب وإن كان منطلقاً من أصل المذهب الشافعي، ويذكر فيه كثيراً من مسائل الفقه الشافعي التي لا يذكر أدلتها، لكن مع ذلك ففيه مقارنة للمذاهب, وفيه ذكر لأدلتها.
ثم من كتب المتأخرين في هذا الباب: كتاب فقه السنة للسيد سابق رحمه الله, فهو من الكتب التي تقارن المذاهب مع الاختيار، فهو بمثابة ما يسمى بفقه التلفيق أي: التلفيق بين المذاهب في مسائل, وليس في مسألة واحدة، فالتلفيق أنواع: منه التلفيق في مسألة واحدة؛ بأن يتتبع الإنسان رخص المذاهب فيها حتى يخرجها بصورة مشوهة، كالنكاح بلا ولي وبلا صداق وبلا شهود، فيقول: قلدت في نفي الولي أبا حنيفة، وفي نفي الشهود مالكاً، وفي نفي الصداق الشافعي, فهذا النكاح غير صحيح بالإجماع, وتتبع رخص المذاهب في المسألة الواحدة يخرج الإنسان من ربقة التكليف, وهو اتباع للهوى، وهو محرم, لكن التلفيق في مسائل بأن يختار الإنسان للناس الأسهل -وبالأخص في حال الإفتاء- فهذا مذهب لبعض السلف، وقد أخذ به سفيان بن عيينة, فكان يأخذ بالأسهل في الإفتاء, وكان يقول: ليس الفقه بالتشديد، فالتشديد يحسنه كل أحد، إنما الفقه بالترخص للناس.
وهذا المذهب يأخذ به في زماننا هذا الشيخ يوسف القرضاوي, ويسميه فقه التيسير, فيأخذ بالأسهل من أقوال أهل العلم في المسألة إذا كان الخلاف فيها غير محسوم أي: قابل للاجتهاد، فحتى لو كان المتشدد أقوى دليلاً؛ لكن دليله لا يحسم الخلاف في المسألة فإنه يأخذ للناس بالأخف, وهذا القول يأخذ به كثير من الحنفية، بل قد ذكر بعض الأصوليين من الحنفية: أنه محل اتفاق بين أهل السنة, وما أدري ما يقصد هنا, وهذه قالها ابن أمير شاه في شرحه للمنار في أصول الحنفية.
وكذلك فإن الكمال بن الهمام يذهب إلى هذا المذهب، فيقول في الترجيح في المذهب الحنفي: يختار من أقوال أئمتنا أسهلها؛ لأن الشريعة سمحة، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78], وإذا كانت كلها يقبلها الاجتهاد وتقبلها النصوص والأدلة فنأخذ للناس بالأسهل فالأسهل.
وعموماً هذه المسألة محل خلاف، لكن مع كونها محل خلاف لا إنكار في مسائل الخلاف الاجتهادية في مثل هذا, وكثير من أهل العلم ومنهم الإمام الغزالي وغيره يرون: أن الإنسان في خاصة نفسه ينبغي أن يأخذ بالعزيمة, ويأخذ للناس بالرخصة، أي: أن يتشدد في جانب نفسه؛ ورعاً وانتقاءً للشبهة، ويأخذ للناس بالرخصة؛ لأنه سيتحمل المسئولية على كل حال في الإفتاء, فإما أن يتحمل الجانب المختص بجانب الله سبحانه وتعالى، فالله غني عن حقوقه, وإما أن يتحمل الغلط في جانب المخلوق, فالمخلوق مفتقر إلى حقوقه، فهذا الفرق: المخلوق محتاج إلى حقوقه, والله غني عن حقوقه, وقد ورد ما يدل على هذا من هدي عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما، فقد قال علي رضي الله عنه: لأن أخطئ في العفو أحب إليَّ من أن أخطئ في العقوبة. فالخطأ في العفو -كعدم إقامة حد- أحب إليه من الخطأ بالعقوبة بالزيادة فيها, وعموماً فإن هذا المذهب اليوم يتصدى له كثير من الناس بالطعن, ويرون أنه مذهب انبهار بالحضارة المعاصرة أو الرضوخ لسياسة الأمر الواقع، وأنه يقتضي نفي التكليف؛ لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة، وهذا سيسقط الكلفة، لكن الواقع أنه لا يسقط الكلفة بالكلية, وإنما هو يبين أخف المذاهب في المسألة القابلة لاختلاف وجهات النظر, ولا يأتي فيها بقول جديد للتخفيف, بل كلها أقوال سابقة لأهل العلم وعليها أدلة, و السيد سابق رحمه الله في كتابه هذا أخذ بهذا المنحى بإيعاز من الإمام البنا رحمه الله, وإن كان هو في كثير من الأحيان يختار قولاً مرجوحاً؛ إما من جهة ضعف دليله، أو من جهة أن للقول الآخر أدلة أخرى تعضده غير الدليل الذي يجلبه هو.
وقد وقع رحمه الله كذلك في آخر الكتاب في نفس الخطأ الذي وقع فيه المطيعي؛ ففي الوصية آخر باب منه: الوصية الواجبة أتى فيها بالقانون الوضعي، فمسألة فقط من القانون الوضعي صرفاً ليس فيها شيء في الفقه, فالشرع ليس فيه وصية واجبة, فقد كان وجوب الوصية في صدر الإسلام ثم نسخت، فقد أنزل في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ [البقرة:180], لكن نسخ ذلك قطعاً بآية التركة.
وهو ما ذكر في هذا الباب إلا القانون المصري: أن من مات أحد أولاده في حياته وترك أولاداً، فإنه يجب عليه أن يوصي لأولاد ولده الميت؛ لأنه لو كان أبوهم حياً لورث من ماله كإخوته, وقد مات وهم يستحقون نصيباً من تركة جدهم، لكن الواقع أن هذه المسألة لم يكن اللازم أن يأتي بها.
وكتاب الألباني الذي تعقبه فيه تعقبه من جهة الجانب الأول؛ لكن الواقع أنه رحمه الله أيضاً لم يستكمل مسائل الكتاب, وهذه ظاهرة أيضاً في كتب الشيخ الألباني رحمه الله في عدم الاستيعاب, فمثلاً: في تخريجه لكتاب السنة لـابن أبي عاصم إذا قرأتم فيه تجدون أنه خرج الجزء الأول فقط، والجزء الثاني ليس فيه تخريج, والمكتوب عليها أنه تخريج الألباني جميعاً، لكن الواقع أنه ما خرجها.
كذلك تخريجه لمشكاة المصابيح, ففي كثير من الأحاديث أهملها لم يخرجها, وكذلك تخريجه لأدلة منار السبيل: إرواء الغليل، وإن كان كتاباً مهماً إلا أنه أسقط كثيراً من الأدلة ولم يخرجها, وبعض الأدلة يخطئ في تخريجها من جهة عدم قراءتها، مثل: أن تكون خطأً مطبعياً أو خطأً في الأصل فيخطئ في التخريج, فمثلاً: الأثر الذي أتى به في الخيار في الطلاق من حديث علي رضي الله عنه: إذا خير الرجل زوجته فلها الخيار ما لم ينكث, هذا المكتوب في منار السبيل، فالشيخ قال: لم أجده, وهذا الأثر عن علي موجود في مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، لكن الصحيح: لها الخيار ما لم تتكلم, فحرفت في الكتاب وطبعت: ما لم ينكث, فلم يجد الشيخ هذا. فسقطت الميم من الطباعة وتغير اللفظ.
ومثل ذلك: أنه في منار السبيل بعض الأحيان يأتي خطأ في الأسماء, فمثلاً: عن عبيد الله عن عبد الله بن عباس فتكتب: عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس فيقول الشيخ: عبيد الله بن عبد الله بن عباس مجهول لا أعرفه، وهذا صحيح ما في أحد اشتهر بهذا الاسم، لكن الحديث: عن عبيد الله عن عبد الله بن عباس وعبيد الله هو ابن عبد الله بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة, وأحد الأئمة الأعلام, وهو من أشهر الرواة عن ابن عباس، ومن أكثر الناس ملازمةً له، ومن أوثق الناس فيه وأثبتهم, فيقول: الحديث ضعيف، والسبب فقط إبدال لفظة: (ابن) بدل (عن)، فأدى إلى التباس بينهما في الكتابة.
ومن هذا القبيل: المحاولات التي سميت بالمحاولات الموسوعية في زماننا هذا، مثل: الموسوعة الكويتية, وهي أمثلها وأحسنها, وقد أعدتها وزارة الأوقاف الكويتية, وهي لم تنتهِ بعد؛ لكن بقي منها القليل, وهذه الموسوعة الآن رتبت الفقه على حروف المعجم في المصطلحات، وإن كانت في كثير من الأحيان لا تتبع أسلوباً عربياً أصيلاً؛ لأن الأصل في المعاجم أن تكون على الأسلوب العربي في اعتبار ميزان الصرف, فالحروف الزوائد لا تعبر، والحروف الأصلية هي التي تعتبر, لكنهم رأوا أن أكثر المسلمين اليوم عوام في مجال الصرف، ولا يفرقون بين الأصلي والزائد، فكتبوا الموسوعة على ما يتيسر.
وقد اتضح فيها أن كثيراً من الباحثين الذين كتبوها هم من الأحناف, فكثير من المسائل التي يستقصونها وتكون مسائل جياد صحاح هي من المذهب الحنفي، ومقابلها في المذاهب الأخرى لا يهتدون إلى موضعها في بعض الأحيان.
وكذلك فإن العناية فيها في الاستدلال وإنه كانت موجودةً إلا أنها أنقص من اللازم, وأيضاً فإن طريقتهم في الرجوع إلى المراجع طريقة ضعيفة؛ لأن المسألة تكون مثلاً مشهورة جداً في المذهب المالكي وموجودة في المدونة وفي العتبية، فيرجعون فيها إلى حاشية الدسوقي، والدسوقي من علماء القرن الثالث عشر الهجري، فهو فقيه مصري متأخر مقلد, ويخطئ أخطاء فادحة في حاشيته، مثل قوله: إن شقيقة الزوجة محرم. وهذا غلط فادح، ومخالف للمذهب المالكي ولغيره من المذاهب، بل مخالف للإجماع.
فكان اللازم يستغنى عن حواشي المتأخرين بالكتب الأصيلة القوية, وما مثال هذا الرجوع إلى هذه الكتب المتأخرة إلا مثال من يخرج الحديث من رياض الصالحين أو من نيل الأوطار، كما يفعله كثير من الباحثين مع الأسف, فتخريج المسائل ينبغي أن يرجع فيه إلى الكتب الأصلية, وهذه فائدة كلامنا هذا, ففائدة كلامنا هذا: وضع ميزان المذاهب بحيث نعرف الكتب الأصلية فيها، والتي تستحق أن يرجع إليها في الواقع.
والحواشي ما وضعت أصلاً لتكون مرجعاً لأخذ الأحكام، وإنما وضعت لتفهيم متن من المتون فقط أي: لتفهم أنت هذا المتن, أما ما عدا ذلك فليس للحواشي به كبير شأن.
وعموماً فالموسوعة أفادت وأجادت وغطت أغلب الفقه, وأيضاً طبعت كتباً أخرى من الكتب المهمة, جعلت تابعةً لهذا المشروع، مثل: كتاب البحر المحيط في الأصول للزركشي, مثل كتاب المنثور في القواعد الفقهية للزركشي, ومثل أصول الجصاص, وغيرها من الكتب التي طبعتها الموسوعة.
كذلك منها: موسوعة المصريين التي تسمى موسوعة عبد الناصر, وهذه الموسوعة فيها الكثير من كلام القانونين الذي لا يسمن ولا يغني من جوع, وقليل من كلام الفقهاء، ففيها خلط جيد برديء.
وكذلك من هذه الموسوعات: كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للشيخ وهبة الزحيلي, ومن سمع اسم الكتاب ظن أنه موسوعة عالمية كبيرة؛ ولكن في الواقع أن الأدلة ذكرها في العنوان لغو, وكان اللازم ألا يذكرها؛ لأنه في الواقع ما اعتنى بالأدلة.
الأمر الآخر: أنه في كثير من المسائل ما يتعدى المذهب الحنفي، وقد يصرح بذلك فيقول: لأن هذه المسألة مستقصاة في المذهب الحنفي نقتصر عليه، ومع هذا يسميه الفقه الإسلامي وأدلته.
وعموماً فإن الكتاب يمتاز بميزة جيدة؛ وهي التقسيمات, فالذي يريد مثلاً تقسم دقائق المسائل مثل: ما يرجع منها للأركان, وما يرجع للشروط؛ يمكن أن يجد فيه بغيته, وقد اعتمد كثيراً على حاشية ابن عابدين في المذهب الحنفي, وإن كان صاحبها متأخراً إلا أنه عالم ضليع خبير بالتقسيمات الفقهية.
كذلك من هذه الكتب التي هي للمتأخرين: كتاب الفقه على المذاهب الأربعة عبد الرحمن الجزيري, وهذا الكتاب اعتمد فيه صاحبه على بعض كتب المذاهب المتأخرين, ولم يستوعب المسائل الفقهية كلها فيه، ومع ذلك ففي كثير من المسائل هو أحسن من بعض الكتب السابقة الذكر من ناحية العزو, وقد اعتمد في كثيرٍ من مسائله التي أوردها على كتاب القوانين الفقهية لـابن جزي الكلبي، والقوانين الفقهية كان اللازم أن نثبته في كتب الفقه المقارن التي ألفها المالكيون, فالقوانين كتاب مختصر جداً يذكر المسائل دون ذكر أدلة، لكنه يقارن المذاهب, ويتقن التقسيمات, ويتقن وضع العناوين والرءوس في المسائل, وهذا الذي يسمى اليوم في علم المكتبات وعلم التوثيق بالتكشيف، فيضع الكشاف الواضح للمسائل, وابن جزي رحمه الله من المتقنين في هذا, وقد فعله في الأصول في كتابه التقريب, وفي الفقه في القوانين الفقهية.
ولا يبتعد عن هذا المنهج عمل الباحثين المعاصرين في الرسائل العلمية الفقهية المتخصصة, فأكثرها تكون فقهاً مقارناً بين المذاهب، وأغلبها كذلك يعتمد الاستدلال, فبحوث المتأخرين داخلة في هذا الباب, وبحوث المتأخرين لابد أن ينظر الإنسان إلى اسم الباحث فيها، فبعض الباحثين هداهم الله! لا يعتمدون أسلوباً علمياً في بحوثهم، فلا يوثق بنقولهم, وقد يشتهر بعض هذه الكتب؛ لأنه سبق إلى الميدان وإلا ففيه من العوار والخراب الشيء الكثير, ولهذا فمن الكتب المشهورة في هذا النوع: كتاب العوارض الأهلية، وهو رسالة دكتوراه, لكن صاحبه يلتبس عليه المتن بالشرح دائماً، فإذا رجع إلى كتب الأقدمين يلتبس عليه المتن بالشرح، فيعزو إلى صاحب المتن ما هو في الشرح، ويعزو إلى صاحب الشرح ما هو في المتن, وفي بعض الأحيان يسلط لسانه على من سبقه، فمثلاً: في تعريف الذمة قد نقل أكثر أهل العلم كلام البزدوي في تعريفها، فالباحث فتح كشف الأسرار عن أصول البزدوي لـعلاء الدين البخاري، فوجد تعريف البخاري للذمة مخالفاً لما نسب إلى البزدوي, فنقل تعريف البخاري ونسبه للبزدوي, ثم قال: وقد أخطأ كل الباحثين الذين سبقوه وكل الناقلين الذين نقلوا هذا من قبل، فخطئهم جميعاً، فخطّأ ابن نجيم, وخطأ من دونه، وهو المخطئ؛ فهو الذي نقل كلام الشارح ونسبه لصاحب الأصل, ونظير هذا كثير جداً في كتب المتأخرين.
لكن مع هذا فمن المتأخرين من لديه القوة التي يمكن أن يعتمد عليها في النقل، مثل: مصطفى أحمد الزرقاء, فهو في المدخل الفقهي العام أسلوبه علمي قوي ونقوله صحيحة, وأيضاً فهو يفهم كلام الفقهاء، فإذا قرأت كلامه عرفت أنه استوعب المسألة, وفهم كلام السابقين فيها, ومن ذلك ما يكتبه الشيخ عبد الكريم زيدان مثل كتابه: المدخل الفقهي، ومثل كتابه في أحكام النساء: المفصل في أحكام المرأة, فعندما تقرأ كتابه تجد أنه فعلاً استوعب كلام أهل العلم وفهمه, وأيضاً نقوله صحيحة, وكذلك كتبه في السياسة عموماً، مثل: الموقف الإسلامي من القانون الدولي العام، ومثل: العلاقة بين المسلمين ومن سواهم في الدولة الإسلامية، وغيرها من كتبه عموماً.
وكذلك من الباحثين المعاصرين الذين يعتمد على نقولهم أيضاً وفيهم دقة في النقل: الشيخ الدكتور: علي محي الدين القره داغي الكردي وهو من كردستان العراق، والآن جنسيته قطرية، وهو شافعي، وهو الذي حقق عدداً من كتب الشافعية مثل: الغاية القصوى في دراية الفتوى, ومثل الوسيط للغزالي، فيعتمد عليه في النقل؛ لأنه دقيق في النقل, ويفهم كلام أهل العلم.
وكذلك الدكتور: عبد الستار أبو غدة وهو من الباحثين في الموسوعة الكويتية, وأيضاً يفهم كلام أهل العلم, ونقوله دقيقة.
وكذلك باحث آخر اسمه نزيه حماد، فإن بحوثه الفقهية فيها دقة وفهم واستيعاب لنصوص السابقين, فهؤلاء يمكن أن يعتمد على نقولهم، وليس هذا حصراً للباحثين المشاهير في الفقه الذين يمكن الاعتماد عليهم؛ لكن فقط أمثلة.
السؤال: ما هو الضابط الفاصل بين التيسير على الناس والأخذ بالرخص؟
الجواب: فيه ضوابط مختلفة:
الضابط الأول: ألا يكون الأخذ بالرخص في المسألة الواحدة، كالمثال الذي سقناه من قبل, بل يكون في مسائل.
ثانياً: أن يكون الأخذ بالرخصة ليس في حق النفس, فلا يأخذ الإنسان بالرخصة دائماً لنفسه، بل في حق من يستفتيه من الناس.
ثالثاً: أن يكون التيسير على أساس قول ليس شاذاً ولا ضعيفاً, ومعه دليل, فهذه الضوابط لابد من اعتمادها، وقد أشار إلى بعضها صاحب مراقي السعود رحمه الله حيث قال:
وذكر ما ضعف ليس للعمل إذ ذاك عن وفاقهم قد انحظل
بل للترقي في مدارج السنا ويحفظ المدرك من له اعتنا
وكونه يلجي إليه الضرر إن كان لم يشتد فيه الخور
الخور أي: ضعف.
وثبت العزو وقد تحققا ضراً من الضر به تعلقا
فهنا يلزم التفريق بين الإفتاء على مقتضى الضرورة, والأخذ بالرخص, فالمضطر الضرورة تبيح له المحظور عليه؛ لقول الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119], ولقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173], فهذه قضية شخصية لا يمكن أن تكون حكماً عاماً للناس, فلا يقال: يباح كذا من أجل الضرورة, وهذا الذي يخطئ فيه بعض المفتين المعاصرين, فيبيحون مثلاً الربا من أجل الحصول على بيت يسكنه، ويجعلون هذا من باب الضرورة, وهل كل الناس أصحاب ضرورة في هذا المجال؟ لا, هذا غير صحيح، فلا يمكن أن يقال هذا.
كذلك الأقوال الشاذة والمتروكة مثل: شذوذات عطاء بن أبي رباح رحمه الله في مسائل, مثل: جواز إعارة الإماء للوطء, فهذا شاذ قطعاً, وهو ضعيف جداً، ولا يمكن أن يؤخذ به, ومثل ذلك نحو هذا من المسائل, وحتى الأقوال التي لم تكن شاذةً مائة بالمائة، لكن فيها ضعف واضح ومعارضة لبعض النصوص مثل: الأخذ بعدم وجود الربا إلا في الأصناف الستة, والأخذ بإباحة الأغاني مطلقاً بجميع أصنافها, وكذلك الأخذ بعدم الزكاة في النقود أي: في العملات الموجودة اليوم، فهذه أقوال ضعيفة جداً, ولا يمكن أن يقال فيها: نأخذ بها بالرخصة والتسهيل على الناس, لا, بل هذا النوع يتحاشى ويجتنب, وقد قال مالك رحمه الله: إن أبا جعفر المنصور حين طلب منه تأليف الموطأ، قال له: ألف لي كتاباً جنبني فيه تشديدات ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود.
السؤال: بالنسبة لما يتجدد من النوازل في كل زمان, والبحوث التي تقام فيها والأفتية والمؤلفات أيضاً, هل تعتبر من جنس التجديد؟
الجواب: نعم؛ لكن التجديد محصور في تلك المسائل, ولا شك أن لله حكماً في كل مسألة, وأن المسائل الفقهية غير محصورة, وأن الأدلة محصورة، وهذا ما سبق أن افتتحنا به وبيناه, فالأدلة محصورة, والمسائل الفقهية غير محصورة لتجددها, وإنما يتفاوت الناس في الفهم, وفي الرزق أيضاً، منهم من يرزق فهماً في هذه المسألة، ومنهم من يحجب عنه ذلك، حتى لو كان أعلم وأتقى وأكبر مقاماً من الذي رزقه, وفي هذا يقول العلامة محمذ فال بن متالي رحمه الله:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
ولا شك أن إنتاج المجامع الفقهية اليوم فيه كثير من الأبحاث التي يستفاد منها، وكذلك هيئات الإفتاء، فبحوثها يستفاد منها عموماً, وهي متفاوتة، فإذا رجعت إلى أبحاث اللجنة الدائمة للإفتاء مثلاً فإنك تجد أنها من الأبحاث القوية فعلاً، فتستحق أن تسمى أبحاثاً فقهية بمستوى راقٍ, وتجد أبحاثاً أخرى فيها ضعف شديد, وهكذا في القرارات؛ لكن مع الأسف فإن القرارات في زماننا هذا شملها جانب مما يمكن أن يسمى توسعاً من العلمانية.
والمجامع الفقهية ولجان الإفتاء ونحوها لا شك أن فيها خيراً كثيراً، وفيها كثير من الأبحاث المفيدة؛ لكن مع ذلك يوجد فيها بعض الأبحاث الضعيفة جداً؛ لأنها تتقيد بأوقات محددة، فيقال للباحث: لابد أن تأتي بالبحث في هذا الوقت، مع أن الأصوليين يذكرون أن الاجتهاد: هو بذل الفقيه الوسع حتى يظن من نفسه أو حتى ييأس من أنه يقدر على الزيادة.
ونحن اليوم من تجربتنا الواقعية الكثير منا يكتب أبحاثاً في أيام محصورة, وفي الواقع أنه يعلم أن طاقته لم تنتهِ, وأنه لو أعمل فيها السنوات لكان قد توصل إلى أكثر من هذا.
والإمام القرافي رحمه الله ذكر أنه مكث ثمان سنين وهو يبحث في التفريق بين الشهادة والإقرار والدعوى، فظل ثمان سنوات يبحث عن الفرق بين هذه الأمور الثلاث فلم يجده, ففرق هو بينها، قال: إن القول على فرض صحته إن اقتضى حقاً لقائله على غيره فهو دعوى, وعلى فرض صحته إن اقتضى حقاً لغير قائله على قائله فهو إقرار, وعلى فرض صحته إن اقتضى حقاً لغير قائله على غيره فهو شهادة, وهذا التفريق نتائج التفكير والبحث لثمان سنوات.
فذكرت أيضاً أن القرارات التي تتخذها المجامع ولجان الإفتاء ونحوها كثير منها تكون مبتورةً عن هذه البحوث، فتكون البحوث وحدها والقرارات وحدها, فتأتي القرارات في المواد القانونية الجافية التي لا يعرف مستندها, وانظروا إلى القرارات التي تنشر باسم قرارات مجمع الفقه مثلاً، أو قرارات الهيئات واللجان، فإنها جافة في الواقع, وما فيها ذاك البعد العلمي؛ لأنهم طبخوا البحوث ووصلوا إلى نتيجتها فاتخذوا القرار على أساساها, وقد أثرت في ذلك العلمانية الحديثة، فالقرارات الفقهية اليوم تتخذ بالأغلبية بالتصويت مع تفاوت الفقهاء في المستويات العلمية, وفي كثير من المسائل يكون بعض الفقهاء لا يحسن هذه المسألة، ولا له بها إلمام ولا أي اطلاع من قبل ويصرح بذلك, ومع هذا سيحسم الخلاف بالتصويت, وهذه مشكلة من مشكلات زماننا هذا، فأصواتهم متساوية في الغالب.
وفي الديمقراطية الأصوات تعتبر الأغلبية المطلقة في بعض الأحيان, وفي بعض الأحيان تعتبر الأغلبية النسبية, وفي بعض الأحيان يكون صوت الرئيس مرجحاً, وفي بعض الأحيان لا يكون مرجحاً.. وهكذا, فهذه هم يأخذون فيها بكل صاحب صوت له حق التصويت, والمشكلة الأطم من هذا والأكبر أن كثيراً من المجامع التمثيل فيها تمثيل للحكومات, فهي التي تختار الفقيه الذي يمثلها في المجمع, ومثل هذا لجان الإفتاء أو لجان كبار العلماء في مناطق مختلفة هي عبارة عن موظفين تختارهم الدولة لهذا, وبمجرد أن يوظف الشخص في هذا الديوان يسمى من كبار العلماء وهو في الواقع ليس من كبارهم ولا صغارهم.
السؤال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( استفت قلبك ), هل هو لكل أحد أو لا؟
الجواب: لا, ليس لكل أحد، بل المقصود لأهل التقوى والورع الذين يخشون الله عز وجل، فهم الذين يمكن أن يستفتوا قلوبهم، فما حاك في النفس وتردد في القلب اجتنبوه وعرفوا أنه من الإثم, وما انشرح له الصدر واطمأنت إليه النفس عرف أنه هو البر, فليس الخطاب هنا لكل أحد، بل الخطاب لأهل الإيمان الذين رسخت أقدامهم بالتقوى والورع.
السؤال: [هل هناك من العلماء من اعتنى بمقاصد الشرعية؟]
الجواب: بالنسبة لعناية الأئمة والمؤلفين بالمقاصد الشرعية، فقد أشرنا إلى بعضها من قبل، وهم في الغالب إنما يذكرونها تحت عنوان: حكمة التشريع أو الحكم التشريعية، وهذه تذكر في التراجم: حكمة تشريع الصوم.. حكمة تشريع الحج.. حكمة تشريع كذا.. وهكذا, وهذه في الغالب إنما يعتني بها المتوسعون في الفقه، فمثلاً: في المذهب الحنفي من الذين يعتنون بحكمة التشريع الكاساني في البدائع, وإن كان ذلك في شذرات فقط منه, وكذلك بعض المتأخرين منهم مثل: الحصكفي، والفقيه داماد, وملاخسرو، فإنهم يذكرون في بعض الأحيان حِكَم التشريع, وكذلك من المالكية الذين يعتنون بالحكمة المشروعية: الحطاب في حاشيته: مواهب الجليل على مختصر خليل, وكذلك من الذين يعتنون بهذا من المذهب الشافعي الإمام النووي نفسه في الروضة وفي غيرها من كتبه.
وفي المذهب الحنبلي من الذين يعتنون بحكمة التشريع: ابن تيمية وابن القيم, وابن القيم في كثير من أبحاثه ينحو هذا المنحا؛ ينحو إلى حكمة التشريع.
وقد ذكرنا من قبل أن الإمام سلطان العلماء العز بن عبد السلام من الأوائل الذين تكلموا في هذا الباب, وتبعه الإمام القرافي ثم الشاطبي والتلمساني, ثم جاء بعد هؤلاء المتأخرون من أمثال: محمد الطاهر بن عاشور الذي ألف مقاصد الشريعة, وعلال الفاسي الذي ألف كذلك: مقاصد الشريعة ومحاسنها, والقرضاوي الذي ألف خصائص الشريعة الإسلامية, والمقصود بها: مقاصد الشرعية، وبعض المتأخرين الذين لهم باع كتبوا في المقاصد, ومن أشهر المعاصرين في هذا الباب الدكتور الريسوني فهو مؤلف كتاب نظرية المقاصد عند الشاطبي, ومؤلف كتاب التعليل في الفقه الإسلامي.
وكذلك محمد سعيد رمضان البوطي فهو مؤلف كتاب ضوابط المصلحة, وضوابط المشقة, فله كتب في ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية, وضوابط المشقة كتاب صغير، وكتب أخرى مثل هذا النوع, فهؤلاء الذين يعتنون بالمقاصد وعموميات الشرع.
وقد أصبح اليوم هذا الباب يسمى بالنظريات, ومن أوائل الذين كتبوا تحت مسمى النظريات الفقيه محمد أبو زهرة وعلي الخفيف, فأبو زهرة يعتني بهذا حتى في كتبه في تراجم الأئمة, فهو يعتني فيه بفكر المقاصد عند أبي حنيفة ومالك كذلك, وغيرها من كتبه مثل: العقوبة, ومثل: نظرية العقد، وغيرها من كتبه يعتني بذكر المقاصد والأسباب المشروعية.
ومن المتأخرين الذين اعتنوا بهذا: عبد العزيز الهلالي المالكي مؤلف نور البصر في شرح المختصر؛ مختصر خليل.
السؤال: [ما رأيكم فضيلة الشيخ بكتاب المدخل لـابن الحاج؟]
الجواب: بالنسبة للمدخل لـابن الحاج هو في الأصل كتاب سلوك وليس كتاباً فقهياً، إلا أنه يتعرض للأخطاء التي يقع فيها الصوفية، فلذلك درس كثيراً من المسائل الفقهية في كتابه، وبالأخص ما يتعلق بالبدع, والكتاب فيه إجادة وفيه فوائد عظيمة جداً، لكن مع هذا فيه كثير من الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة, وفيه بعض الأحيان أيضاً مسائل من مسائل الصوفية الصريحة, فلذلك الذي يقرأه ويدرسه ينبغي أن يكون حذراً، مثلما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب إحياء علوم الدين الغزالي قال: هذا كتاب لا يستغني عنه طالب علم, وقد حذر أهل العلم من مواطن من كتاب الإحياء؛ لكن مع ذلك لا يستغني عنه طالب علم.
السؤال: [ما حكم الاستدلال بما عمت به البلوى؟]
الجواب: بالنسبة للاستدلال بما عمت به البلوى، أو بعموم البلوى عموماً، فهذا ضابط من ضوابط المشقة؛ لأن الشيء إذا كثر وانتشر وعسر الاحتراز منه لا شك أن ذلك مدعاة للتسهيل فيه، فإذا ضاق الأمر اتسع, لكن لابد أن يوضع لذلك ضوابط, وهذه الضوابط قد تكلم فيها الفقهاء, وعدوا المسائل التي تعم بها البلوى، فمثلاً: في باب الطهارة يعدونها بالحصر: وعفي عما يعسر كحدث مستنكح، وبلل باسور في يد إن كثر الرد أو ثوب، وثوب مرضعة تجتهد، وندب لها ثوب للصلاة، ودون درهم من دم مطلقاً، وقيح, وصديد، وبول فرس لغاز بأرض حربٍ، وأثر ذباب من عذرة, وموضع حجامة مسح، فإذا برئ غسل وإلا أعاد في الوقت، وأول بالنسيان وبالإطلاق، وكطين مطر، وإن اختلط العذرة بالمصيب لا إن غلبت وظاهرها العفو، ولا إن أصاب عينها، وذيل امرأة مطال للستر، ورجل بلت يمران بنجس يبس يطهران بما بعده، وخف ونعل من روث دواب وأبوالها إن دلكا لا غيره فيخلعه الماسح لا ماء معه ويتمم, واختار إلحاق رجل الفقير وفي غيره من المتأخرين قولان, وواقع على مارٍ وإن سأل صدق المسلم, وكسيف صقيل لإفساده من دم مباح، وأثر دمل لم ينكأ, وندب إن تفاحش كدم البراغيث إلا في صلاته. هذه المسائل المعفو عنها في الطهارة.
كذلك في غير الطهارة كثير من المسائل التي يحصل فيها هذا النوع، مثل: الأجبان عموماً, ومثل: بيع بعض الأمور التي لا تقيد ولا تنضبط, مثل: الأمور الملفقة كالمعجونات ونحوها، هذه كيف يُسلم فيها؛ لأن السلم يشترط فيه معرفة المسلم فيه، ولذلك شروط السلم المتفق عليها في الغالب بين الفقهاء سبعة، منها: أن تبين صفاته التي تختلف بها الرغبة فيه، ومنها: أن يضبط بضابط عادته في البلد من كيلٍ أو عدٍ أو وزنٍ, وهذه المسائل متعذرة في المعجنات والأمور المختلفة, فالآن يباع بعض الأمور يسمونها مكسرات، فيها من مختلف الأنواع، فكيف تباع بالوزن وهي أنواع مختلفة؟ لكن هذا مما عمت به البلوى وعسر؛ لأنها أصلاً مخلوطة, فيها لوز, وفيها فستق، وفيها أشياء مختلفة جداً, وتباع وزناً أو كيلاً دفعةً واحدة.. وهكذا.
السؤال: [ما حكم تقنين الفقه؟]
الجواب: بالنسبة لتقنين الفقه وكتابته بشكل مواد قانونية، جاء التفكير فيه من لدن الدولة العثمانية عندما اشتد ضغوط المندوبين الغربيين عليها؛ بأنه لابد أن تكون البلاد محكومة بنظام، وهذا الضغط ما زال قائماً، فاضطر السلاطين العثمانيون للبحث عن البديل, وكان التوجه إلى تقنين الفقه، وهذا التقنين هم يعلمون أنه لن ينضبط؛ لأنه لا يمكن أن تلزم الأمة الإسلامية كلها بقانون واحد, ولا أن يجعل له حدود جغرافية، فيقال مثلاً: يحكم في البلد الفلاني إلى حدود كذا بهذا المجلة أو بهذه المسطرة القانونية، وفيما عدا ذلك... للمسلمين ملتهم واحدة.
وأيضاً فإن كثيراً من الفقه في مذهب معين يمكن ألا يكون موافقاً لحال الواقع، أو بما ترغب فيه الدولة، فتحتاج إلى الخروج عنه, وعموماً كانت تجربة العلماء الستة عشر الذين عهد إليهم بكتابة مجلة الأحكام العدلية تجربة رائدة، فحالوا تقنين الفقه الحنفي، ثم عندما أكملوا ما قننوه وضعوا قواعد فقهية يستنير بها القضاة والمفتون فيما لم تتناوله هذه المواد القانونية, ثم جاء القادري -وهو من علماء مكة- فألف مجلة الأحكام الشرعية على المذهب الحنبلي، وقد حققها عبد الوهاب سليمان, وطبعت في مجلد واحد في جامعة أم القرى, وهي فقط تقنين.
وعندنا كذلك تقنين الفقه المالكي في المساطر التي يحكم بها الآن مثل: مجلة المرافعات المدنية والتجارية، ومثل: القانون الجزائي الموريتاني، والقانون الجنائي، فكلها على وفق المذهب المالكي مقننة بالمواد.
والمبهورون بالقانون يجدون بديلاً عنه, لكن الواقع أن آخرين أخذوا منحى التشدد في هذا الاتجاه، ومنهم الشيخ: محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه, فعندما سئل عن قانون المملكة؟ قال: قانوننا في الأصل القرآن، وأما ما يحكم به القضاة فهو ما في كشاف القناع على متن الإقناع, وكشاف القناع فيه خلافات كثيرة، وهو أراد التخلص، وأراد أن القضاة يختارون ما ترجح لديهم إذا كانوا أهلاً للاجتهاد، لكن المشكلة أن القضاة الآن قضاة ضرورة في أغلبهم، فكثير منهم ليسوا من أهل الاجتهاد.
ثم من الذين تبعوه على هذا الشيخ بكر أبو زيد، فهو يرى أن التقنين من المحذورات الكبيرة التي تجعل الفقه يتحجر، وتلزم الناس بالتقليد الأعمى وغير ذلك.
وعموماً فإن إسماعيل باشا حاكم مصر لما جمع علماء الأزهر، وقال لهم: هاتوا بديلاً عن القانون الوضعي أحكم به وإلا فسأحكم بالقانون الوضعي ما وجدوا له بديلاً, فقرر القانون الوضعي.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر