بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم وحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فقد عرفنا سابقاً شروط تكفير المعين، وذكرنا أن أضداد هذه الشروط هي موانع من التكفير، والإنسان الواحد قد يقوم به من أوصاف أهل الإيمان ما يقتضي نفي اتصافه بصفة الكفر، فيكون الإنسان عرف باستقامته، وعبادته، وخوفه من الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك وقع منه أمر مستنكر، وأمر هو كفر، كاستباحة معلوم التحريم بالضرورة، أو نحو ذلك، فإنه يعذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نقيل ذوي الهيئات عثراتهم، ولذلك فإن أصحاب رسول لله صلى الله عليه وسلم، لما شرب قدامة بن مظعون رضي الله عنه الخمر متأولاً لقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا [المائدة:93]، رفعوا عنه التكفير، وأقاموا عليه حد الشرب، وعندما نام عمر بعد أن جلد قدامة قيل له في المنام: أرضِ قدامة فإنه أخوك، فذهب عمر إليه واسترضاه، مع أنه أقام عليه حد الشرب، وقدامة هنا كان مستحلاً للخمر، وهي من المعلوم من الدين بالضرورة وذلك بتأول لهذه الآية.
وكذلك فإنهم أجمعوا على عدم تكفير عبد الله بن مسعود، بل قد انعقد الإجماع على أنه من أهل الجنة، وقد كان ينكر أن الفاتحة والمعوذتين من القرآن، ومن أنكر ذلك الآن كفر، لكن ابن مسعود إنما له رأي في ذلك ومنهج محدد يختص به، ولا يمكن تكفيره أصلاً؛ لأنه قام به من الإيمان والتقوى، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة، ما يكون مانعاً من التكفير في حقه.
فلذلك قد يتصف الإنسان بصفات الإيمان التي تمنع اتصافه بالكفر، حتى لو وقع في بعض المكفرات لا يحكم عليه بها بمقتضى ذلك؛ لأنه قام به من صفات أهل الإيمان ما يمنع ذلك منه، وهذا التكفير أيضاً إنما يكون على أساس هذه الأمور التي جاءت في الشرع.
فما لم يرد في الشرع أنه كفر، لا يمكن أن يكفر الناس به باجتهادات البشر، وهذا أمر مهم لابد من الرجوع إليه، فنحن ما كنا نعرف الإيمان، ولم نكن نعرف الكفر، وإنما عرفنا الإيمان والكفر بالوحي.
فلذلك لابد من الاقتصار في مجال التكفير على الوحي فقط، فما جاء في الوحي أنه الإيمان، نعرف أنه الإيمان، وما جاء في الوحي أنه الكفر نعرف أنه الكفر، أما اجتهادات الناس وآراؤهم فيما دون ذلك فإنه لا يكفر بها.
ولذلك تجدون كثيراً من الغالين اليوم يعتمدون على أمور ما جاء في القرآن ولا في السنة أنه يكفر بها، وإنما اجتهد في ذلك أقوام، وهم يرون أن اجتهاد أولئك الأقوام قاضٍ على الأمة كلها، محكم في رقاب الناس، وهذا من الغلط في التصور وسوء التقدير، فقد ورد عن بعض السلف القول بالتكفير العام، وليس بتكفير المعين، وإنما يقصدون بذلك التغليظ والتنفير من بعض البدع بخصوصها.
كما ذكر ذلك الخطابي، وابن تيمية وغيرهما، في تكفير عدد من أئمة السلف للجهمية، قالوا: إنما يقصدون بذلك التغليظ والتنفير مما كانوا عليه، ولكن لا يقصد به تكفير كل فرد منهم بعينه.
ولذلك فإن أحمد بن حنبل قال: لو لم يكن لي إلا دعوة واحدة مستجابة لخصصت بها الخليفة، والخليفة كان آنذاك جهمياً وهو الذي حبسه وعذبه وآذاه، وقد كان هو ومن حوله إذ ذاك يمتحنون الناس بخلق القرآن، فلا يفكون أسيراً حتى يقر بخلق القرآن، ولا يولون والياً ولا قاضياً حتى يقر بذلك، وهذا أعظم من تبني أصل الفكرة، ومع ذلك كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة أهل السنة يصلون وراءهم ويدعون لهم، ويصلون على جنائزهم، ولو كانوا يعتقدون كفر كل فرد منهم لما جاز لهم ذلك، لأن الله تعالى يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].
فهذا يدل على أن قولهم بالتكفير المطلق ليس حكماً على الأفراد بالكفر، ولا معاملة لهم بمقتضاه.
ولذلك منع أحمد بن حنبل رحمه الله محمد بن نصر الخزاعي من الخروج على المأمون، وحذره من ذلك.
ثم إن الشبه التي يكفر بها الغالون- في زماننا هذا- الكثير من المسلمين إذا وضعناها على بساط البحث والمناقشة، سنجد كثيراً منها ليس له أساس من الناحية الشرعية، وإنما انطبع بغلوهم ومجاوزتهم لذلك.
فمن ذلك مثلاً: أن من الناس من يكفرون كثيراً من هذه الأمة وعلمائها، بسبب تأويلهم لبعض صفات الباري جل جلاله، ووصل بهم هذا إلى حد الاعتداء على أئمة السنة، والطعن فيهم، ولعن بعض الأئمة الأعلام، كـأبي حنيفة وغيره من الأئمة الأعلام رضي الله عنهم وأرضاهم.
بل وصل ببعضهم الأمر إلى إحراق كتب السنة، كفتح الباري، وشرح النووي على صحيح مسلم وغيرهما، وقد شاهدنا بعض ذلك! فمثل هذا النوع من الغلو هو قطعاً من عمل الشيطان، وإذا راجع أحدهم نفسه، فقال: أين أنا من هؤلاء، أين أنا من الحافظ ابن حجر، أو الإمام يحيى بن شرف النووي، أو الإمام أبي حنيفة؟ فسيجد أن بينه وبينهم بوناً شاسعاً كما بين الثرى والثريا، وأنه لا يمكن أن يساويهم في علمهم، ولا في تقواهم، ولا في عبادتهم، ولا في قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعهم له ونصرتهم لدينه.
فإذا عرف الإنسان ذلك تدرج بهؤلاء الغالين إلى أن يصلوا إلى العلماء والدعاة المعاصرين لهم، فيقال: أنت أعلم أم فلان بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ أنت أتقى لله منه وأخوف له منه؟ أنت أكثر منه قياماً لليل وصياماً للنفل وعبادةً وورعاً وزهداً في الدنيا؟ أنت أعف لساناً منه؟ فإذا راجع نفسه بذلك حكم عليه بقول حسان رضي الله عنه:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
فكثير من الذين يتطاولون على الأئمة، ويتجاسرون عليهم بسبب بعض الأخطاء التي لا يوافقونهم عليها، قد غفلوا عن مستواهم هم مقارنة بمستوى أولئك الأئمة، فجعلوا أنفسهم حكاماً على أولئك الأئمة، وعدلوا أنفسهم، وطعنوا في الأئمة وجرحوهم.
ومثل هذا أيضاً: الطعن في المدارس الدعوية، والجماعات العاملة للإسلام، فكثير من الغالين يطعنون في الذين دعوا إلى الإسلام واستجيب لدعوتهم ونفع الله بها، وثبت بها كثير من الناس الذين كانوا عرضة للكفر والفسوق والفجور والانحراف والانجراف وراء كثير من الدعايات والدعوات المنحرفة، فثبتهم الله بهذه الجماعات، وبهذه الجمعيات، وبهذه المدارس والمساجد والمكتبات ووسائل الإعلام وغيرها، فهم غضوا الطرف عما في هذه المؤسسات من الجانب الناصع الرباني الصحيح، وبحثوا عما فيها من الخطأ الذي ينقضونه.
وقد حصلت قصة لأحد الأعراب كان في مجلس الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، وكان يقرأ على الشيخ كتاب فتح الباري، فمر القارئ بكلام للحافظ ابن حجر فيه تأويل صفة من صفات الباري جل جلاله، فشغب هذا الأعرابي وصاح، وقال: هذا خطأ منافٍ للعقيدة الصحيحة، فقال له الشيخ محمد بن عبد الوهاب: منذ بداية المجلس وأنت تسمع العلم الصحيح، والسنة الثابتة، والشرح المستقيم لها، فلم تفرح بشيءٍ من ذلك، ولم تقم به، حتى إذا جاء خطأ واحد فرحت به وأخذته، فما أنت إلى كالذباب لا ينزل إلا على القذر.
فهؤلاء الغالون الذين يقع منهم هذا يتلمسون الأخطاء، ويبحثون عن شيء ينقدونه، فيسمعون إذاعة مثلاً فيها القرآن، وفيها السنة، وفيها الدروس، وفيها الإرشاد، فيبحثون عن أي شيء تنتقد به، ووجه البحث فقط هو وجه النقد، بأي شيءٍ نطعن في هذه الإذاعة مثلاً، فيبحثون فيجدون مثلاً كلاماً نقل في الإذاعة لشخص، وليس معنى نقله أن القائمين على الإذاعة يسلمون له مطلقاً، وكل كتاب وكل شريط يؤخذ منه ويرد، فيه الصواب والخطأ.
ولذلك قال البويطي: لما أتم الشافعي كتابه ناولنيه، وقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قال: قلت: يا أبا عبد الله أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، أبى الله العصمة إلا لكتابه.
فكل الكتب، وكل الأشرطة، وكل الدروس، فيها الصواب والخطأ بالضرورة، إلا كتاب الله فهو الكتاب الوحيد المعصوم، أما ما سواه من الكتب فلابد أن يقع فيه الأخطاء، ومن لا يعرف هذا يبحث عن هذه الأخطاء فيكبرها ويتناسى أخطاء نفسه، وما فيه هو من العيوب، ولو قارن تلك الأخطاء التي هو مطلع عليها بما نقده من أخطاء الآخرين لاستحيا من نفسه وهو في هذا الموقف الحرج.
ولذلك أخرج مالك في الموطأ، وأحمد في الزهد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه: ( أن عيسى بن مريم: كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية )، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة )، وفي الحديث الآخر: ( من تتبع عورة امرئ مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ).
فالمسلم هو الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ).
والمعتدي هو الذي يبحث عن الأخطاء، ويبحث عن الزلات والعيوب ويتتبعها ليس حسن الإسلام؛ لأن ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، والناس عليهم ملائكة يحصون أخطاءهم، فانشغالك بأخطائهم هو انشغال بشغل الملائكة الكرام الكاتبين، وتعطيل لواجباتك أنت في متابعتك لأخطاء نفسك وتوبتك منها.
فكل ذلك تجاوز للحد واعتداء فيه، ثم بعد ذلك كثيراً ما يكون هذا الغلو أيضاً في تكفير الحكام، فكثير من الناس تتجه ألسنتهم إلى الحكام بالخصوص، وما ذلك إلا لأن بأيديهم الثروات والمناصب، وهم المتقدمون أمام الشعب، والمفروض أن يكون عليهم من الواجبات أكثر مما على غيرهم، كما قال علي رضي الله عنه: (ما أنا إلا أحدكم ولكني أثقلكم حملاً).
فهم عليهم من الواجبات فعلاً ما ليس على سواهم، ويجب عليهم في نصرة الدين ما لا يجب على غيرهم، فيجب عليهم أن ينصروا دين الله، وأن يبينوه، وأن يدافعوا عنه؛ لأنهم الذين وضعوا أيديهم على ممتلكات الأمة، وثرواتها، وخيراتها، وسلاحها، وجيوشها، فلابد أن يستغلوا ذلك في الوجه الصحيح، وأخطاؤهم لا شك أكبر من أخطاء من سواهم، كما قال زياد: (إن كذبة الأمير على المنبر بلقاء)، ومعنى (بلقاء): أنها مشهورة يتناقلها الناس، فليس كذبهم ككذب من سواهم، ولا تصرفهم كتصرف من سواهم.
لكن مع ذلك هم مثل غيرهم، فيهم المحسنون الصادقون، وفيهم المسيئون المفرطون، وفيهم المتوسطون، فليس بالضرورة أن كل من تولى الحكم يكون عاصياً فاجراً فاسقاً، هذه النظرة ليست صحيحة.
وأيضاً الأخطاء التي يقعون فيها ليست بدرجة واحدة ولا متساوية، فكثير من الشباب يقرءون آية في سورة المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، ويقولون: هؤلاء الحكام جميعاً لم يحكموا بما أنزل الله، فهم كافرون، فيكفرونهم جميعاً، وهذا عدم فهم للآية، وعدم تنزيل لها في منزلها، فلو كان كل من لم يحكم بما أنزل الله كافراً، لكنتم جميعاً كفاراً؛ لأنكم جميعاً لم تحكموا بما أنزل الله.
فإذاً ليس هذا معنى الآية ولا وجه دلالتها، ولو سألت أي أحد منهم: أنت حكمت بما أنزل الله أم لا؟ فسيقول: لا ما حكمت بما أنزل الله، طيب إذا كنت تكفر الآخرين بأنهم لم يحكموا بما أنزل الله، فابدأ بنفسك.
فالآية سياقها هنا ودلالتها لابد من فهمها واستيعابها، فليست من العام الباقي على عمومه، بل هي من العام المخصوص، ولا يمكن أن يدخل فيها من لم يحكم أصلاً، فالناس على ثلاثة أقسام:
من لم يحكم أصلاً لا بما أنزل الله ولا بغيره مثلكم، فلا يمكن أن تدخلوا في دلالة الآية أصلاً.
القسم الثاني: من حكم بما أنزل الله، وهذا قطعاً خارج من دلالة الآية.
القسم الثالث: من حكم بغير ما أنزل الله، وهذا على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المحرفون المبدلون لما أنزل الله الذين حكموا بأحكام زعموا أنها من عند الله، كحال اليهود والنصارى، يقولون: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78]، فهذا النوع كفر من أصله، لكن هذا الإطلاق يحتاج إلى تحقيق الشروط الماضية وانتفاء الموانع في حق كل فرد لو حصل ذلك.
القسم الثاني: الذين يحكمون بغير ما أنزل الله لكن لا يزعمون أنه من عند الله، حكموا بقوانين وضعية هم وضعوها، لكن لم يزعموا أنها من القرآن، ولا من السنة، ولا أنها مما أنزل الله، بل زعموا أنها من وضعهم واجتهادهم.
وهؤلاء اختلف الناس في تكفيرهم من عدمه، فمن الناس من كفرهم بذلك وأطلق التكفير، ومنهم من لم يكفرهم بذلك، وقاعدة أهل السنة: أن كل مسألة اختلف فيها هل يكفر بها أم لا؟ فلا يطبق على صاحبها حكم التكفير؛ لأن التكفير حد من حدود الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ادرءوا الحدود بالشبهات )، وفي رواية أخرى: ( ادرءوا الحدود ما استطعتم ).
القسم الثالث: الذي حكم بغير ما أنزل الله طمعاً في الدنيا، أو إبقاء على كرسيه وحكمه، أو ميلاً إلى أقاربه وأصدقائه، فأخذ الرشوة وحكم بالظلم ونحو ذلك، أو كان جاهلاً بما أنزل الله فحكم بخلافه، وهو يظن أن هذا حكم الله جهلاً، فهذا عاصٍ ومستوياته مختلفة، فمنهم الفاسقون الذين يفسقون بذلك، كالذي يأخذ الرشوة ويجور في حكمه، ومنهم الظالمون كالذين يجهلون ويحكمون على جهل، ومنهم الذين لا يقعون في الوصف بالفسق بالكلية، ولا بالظلم لأنهم اجتهدوا فأخطئوا فهم متأولون في أحكامهم، وإن كانت أحكامهم باطلة مخالفة لما أنزل الله، لكنهم تأولوا وظنوا أنها موافقة وأنها هي الصواب، كحكم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في الميراث، إذ حكم بحكم ثم قال للسائل: واذهبوا إلى ابن مسعود فإنه سيوافقني فيه، فلما أتوه قالوا: إنه قال: إنك ستوافقه في حكمه، قال: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ويقصد أن هذا الحكم باطل، ولكن صاحبه قطعاً ليس ممن حكم بغير ما أنزل الله تبديلاً وتحريفاً، ولا ممن حكم بغير ما أنزل الله على أساس الرشوة والظلم، حتى يفسق ويظلم بذلك، وإنما حكم بغير ما أنزل الله اجتهاداً وطلباً للحق فهو معذور فيه، وهذا الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر ).
وهذه الآية بعد هذا قطعاً دلالتها ليست قطعية، لأن العام إذا خصص فإن دلالته على بقية أفراده ليس من قبيل القطع، فلا يمكن الاحتجاج بها على وجه القطع، العام المخصوص ليس مثل العام غير المخصوص، فالعام غير المخصوص هو الحجة الباقي في عمومه، والعام بعد التخصيص ليست دلالته قطعية؛ لأنه قد أخرج منه بعض الأفراد، فيمكن أن يكون محل النزاع من الذين خرجوا من دلالة العموم.
كذلك فإن كثيراً من هؤلاء الغالين في قضية تكفير الحكام يعتمدون على أساس أن هذا الحاكم طبق نظام الديمقراطية وهو حكم الشعب بالشعب، فيرون أن هذا مقتضٍ للتحلل من الدين، وأن يرجع إلى رأي الشعب فقط، وهذا أيضاً سوء تقدير وسوء فهم، فالحكم في الإسلام أيضاً بمعنى السلطان والتنظيم هو للشعب، وما في هذه الأمة الآن أحد يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان حياً الآن لكان أولى بالحكم من الشعب جميعاً؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لكن ليس بعده صلى الله عليه وسلم أحد أولى بالناس من أنفسهم، فكل إنسان ملكه الله شيئاً من الأمر، وملكه ماله وجزءًا من المال العام، فمثلاً خيرات الأرض ملك لهذا الشعب، وأنت من أفراد هذا الشعب، سواء كنت تقياً صالحاً أو كنت فاسقاً طالحاً، فأنت مالك لما جعل الله تحت يدك، ولا أحد يمنعك من التصرف في ملكك، فالصالح يتصرف في ماله، وفي موليته، وفي أهل بيته. والطالح كذلك يتصرف فيمن تحت يده، من هؤلاء مثلاً سفهاء محظور عليهم، هؤلاء نخرجهم من هذا العموم، لكن السفهاء المهملون الذين ليس عليهم يد لحاجر، والرشداء مطلقاً هؤلاء يتصرفون تصرفاً كاملاً في أموالهم، وفي حقوقهم، ولا يستطيع أحد أن يحجر عليهم.
فإذا كان الحال كذلك فنحن الآن لم يولِّ الله علينا شخصاً بعينه بالوحي: أن فلاناً هو رئيسكم أو هو أميركم، ولّى الله علينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالوحي، وقال: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، لكن لم يولّ علينا بعد النبي صلى الله عليه وسلم أحد بالوحي.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدم لنا أحداً وقال: فلان هو أميركم، وإنما حصل الاجتهاد من الأمة فكانت بيعة أبي بكر رضي الله عنه فلتة وقى الله المؤمنين شرها، كما قال عمر رضي الله عنه، فحمد المسلمون غبها، وحقق الله لهم الخير على يد أبي بكر رضي الله عنه.
ثم لما مرض أبو بكر رضي الله عنه، رشح للناس عمر رضي الله عنه باجتهاده، وقال: هو خيرهم، فبايعه الناس، ونال عمر سلطته لا من عهد أبي بكر كما يفهمه بعض الناس، ولكن من بيعة الناس العامة له في المسجد؛ لأنه لو ولي الخلافة بمجرد عهد أبي بكر لما كان للبيعة فائدة بعد ذلك.
ولما طعن عمر رضي الله عنه رشح للناس ستة، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهم خيرة الصحابة إذ ذاك، وهؤلاء الستة تنازل ثلاثة منهم لثلاثة، وتنازل واحد للاثنين بشرط أن يكون له اختيار السابق منهما فرضيا به، فكان عبد الرحمن بن عوف إذ ذاك حكماً عدلاً مرضياً لدى الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يمكن أن يطبق ما طبق في عهد الصحابة في واقعنا اليوم؛ لأن الصحابة إذ ذاك فيهم طبقة قد أنزل الله الرضا عليها وشرفها وميزها، وهم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وهي طبقة محصورة العدد، وهي لا شك أفضل الأمة إذ ذاك، لا يستطيع أحد أن يطعن في أهل بدر، ولا في أهل بيعة الرضوان؛ لأن الله زكاهم في القرآن.
ونحن الآن ليس لدينا طبقة جاء فيها الوحي أنها قد أحل الله عليها رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده.
ولا يمكن أن يقع تراضينا جميعاً على عدد من المشايخ الجالسين أمامكم مثلاً على أنهم مرضيون عند الأمة جميعاً، لابد أن يوجد من يطعن فيهم، ومن يخالفهم.
فلذلك كان عهد الصحابة رضوان الله عليهم مواتياً لهذه العملية التي حصلت فيه، فكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه متميزاً وأهلاً لهذا المنصب الذي اختير له، فهو ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة؛ لأنه من العشرة المبشرين، وهو من أهل بدر الذين قال فيهم: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، ومن أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وفي حديث جابر في صحيح مسلم: ( لما أنهينا البيعة التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم خير أهل الأرض )، فهذه خيريتهم، كذلك في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما كان لنبي أن يموت حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته، فكان عبد الرحمن بن عوف، صلى وراءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
فلذلك تميز عبد الرحمن وكان أهلاً لأن ترضى الأمة بحكمه، ونحن نعلم أن عبد الرحمن إذ ذاك لو كان مكانه أي شخص آخر منا اليوم، لما استطاع أن يقوم بهذا العمل؛ لأنه ليس لديه وسائل اتصال، ولا هواتف، ولا لديه دفاتر إحصاء، وعندهم ثلاث ليال فقط، فلا يمكن أن يكون عبد الرحمن قد استشار أهل مكة، وفيهم عدد من الصحابة إذ ذاك، ولا أهل العراق، ولا أهل مصر، ولا أهل الشام، ولا أهل اليمن، وفيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون إذ ذاك، فاقتصر في استشارته على أهل المدينة فقط، لكن مكث ثلاث ليال لا ينام، ولم يترك بيتاً إلا دخله حتى كان يدخل على العذراء في خدرها، وسأل الناس جميعاً، ولم نسمع أن أحداً اتهمه بالميل إلى عثمان، بل أول من بايع عثمان بعد عبد الرحمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فجاءت الخلافة الراشدة على هذا النحو، باختيار أهل الحل والعقد من المسلمين المزكين بتزكية القرآن لهم، بعد ذلك لم يبق في الأمة هذه الطبقة في خصوصها، ولم يعد الأمر ممكناً على هذا الوجه، فنحن الآن لو أردنا إقامة خلافة راشدة على منهاج النبوة، فكيف نختار حاكمنا؟ لا يمكن أن نقول: إن الحكم إلا لله، معناه أن القرآن هو الحاكم كأنه إنسان، فهذا الفهم فهمه الخوارج، فأمر علي رضي الله عنه بمصحف كبير فجاءوه بأكبر مصحف، فبسطه في حجره وقال: احكم، فقيل: ما تخاطب من هذا المصحف؟ قال: إنكم تزعمون أنه ينطق ويحكم.
فالحكم بمعنى القانون هو لله، وهو الموجود في المصحف وفي السنة، والحكم بمعنى التنفيذ والسلطان لابد أن يكون للإنسان، وهذا الإنسان الذي يكون له الحكم ليس شخصاً معيناً وإنما هو اختيار، ولا يمكن أن يقع في الاستبداد؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].
فكيف نختاره؟ لا يمكن أن نبقى دائماً رهن الخضوع للدبابات، والانقلابات والجيوش، والإكراه، بل لابد أن تكون للناس مشاركة في اختيار من يحكمهم، وفي تصرفه في مالهم العام؛ في عقود النفط، في عقود الأسماك، في عقود المعادن، في عقود التنقيب عن المياه، في غيرها من العقود، هذه ما حكمها القرآن بالوحي، وإنما هي مصالح راجعة إليكم، وأنتم تملكونها، سواء منكم من كان براً، ومن كان فاجراً، كل له حظه وملكه، فلا يمكن أن يقول الأبرار فقط: نحن أصحاب حق، ويقضون على الفجار، هذا غير ممكن؛ لأن المال مشترك بين الجميع، والرأي فيه للجميع، كما يتصرفون في أموالهم الخصوصية، كذلك لهم جزء من التصرف في الأملاك العمومية.
إذاً ما لنا وسيلة محصورة لتنفيذ الشورى التي أمرنا الله بها أرجع إليها القرآن، فعلم أن وسيلة ذلك اجتهادية، وهذه الوسيلة الاجتهادية لا مانع من استيرادها، كما نستورد آلات التسجيل، والكهرباء، والطائرات، والسيارات، والأمور كلها، الملابس التي نصلي بها ونسجد فيها لربنا نستوردها، والمطابع التي نطبع بها المصحف نستوردها، ولا عندنا غضاضة في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم استورد فكرة الخندق من حضارة فارس، وفكرة الخاتم من حضارة الروم، وفكرة المنبر من حضارة الحبشة.
فلم يكن لديه غضاضة في استيراد أي أمر نافع من أية حضارة أخرى غير حضارة العرب.
فإذا عرفنا ذلك وجدنا أن العالم الغربي ونحن نستورد منه الكهرباء، والآلات، وطرق البناء، وتنظيم الأمور، وتنظيم الدراسة، وغير ذلك، وجدنا لديه فكرة يعرفون بها رأي الأكثر في الأمور العامة، ونحن نعلم أن رأي الأكثر معبر شرعاً، وهي صناديق الاقتراع التي يعبر فيها الإنسان عن رأيه، ويختار بها من يتولى التصرف في ماله، أو من يكون نائباً عنه في حقه العام.
فهذا الذي يسميه الناس اليوم بالديمقراطية في بلاد المسلمين، وهو اسم مستورد لكنه اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، سمها ما شئت، ولكن لا يمكن أن تكون بهذا المعنى لمجرد حكم بين الناس برأي أكثرهم في مصالحهم، ومن يحكمهم، وفي رقابة حاكمهم، وفيما يتعلق باتفاقياتهم العامة في أملاكهم العمومية، هذه أمور لا يمكن أن يقال فيها: إن رأي الأكثر فيها غير معتبر، أو أن رأي الأكثر لا يمكن الوصول إليه مطلقاً، بل لابد من الوصول إلى رأي الأكثر، ورأي الأكثر لو قاموا جميعاً فرفعوا أصابعهم أو أصواتهم، هل سنعرف من وافق منهم ممن خالف؟
لا نعرف ذلك، فقد ثبت في صحيح البخاري: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد هوازن وقد أسلموا، فسألوه أن يرد عليهم الغنائم والسبي فخيرهم بين الغنائم والسبي، فاختاروا السبي، فقال: ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم، وما كان للناس فدعوني حتى أسألهم، فعرض ذلك على الناس فاختلطت عليه أصواتهم، فقال: لا أعرف من رضي منكم ممن لم يرضَ، ولكن أخرجوا إلي عرفاءكم )، وهؤلاء العرفاء هم نواب الشعب الذين يمثلون الناس في أملاكهم العامة، وفي حقوقهم المشتركة، وقد أخرج أبو داود في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يستقيم الناس إلا بعرفاء )، وفي هذا الحديث أيضاً: ( العرافة حق )، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، والعريف هو سيد القوم الذي يتكلم باسمهم، ويولونه أمرهم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من الحق الذي لابد منه، ولا يستقيم أمر الناس إلا به.
فإذاً إطلاقنا الديمقراطية على هذه العملية، وهي عملية معرفة رأي الأكثر فيما يقبل فيه رأي الأكثر ويطلب شرعاً، هذا اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، وهذا الأمر ليس كفراً، ولا فسوقاً، ولا معصية، ولا مخالفة للشرع، بل هو مطلوب شرعاً وأمر لابد منه، ولا يتم الواجب المطلق إلا به.
فإذاً لابد من تفهم هذا الأمر وإنزاله منزلته، هم يظنون أنه بمجرد تسمية الشيء باسم معين، يقتضي ذلك اتصافه بالحكم، وهذا غلط في التصور، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يستحلون الخمر في آخر الزمان وقال: ( يسمونها بغير اسمها )، فهل تسمية الخمر بغير اسمها يبيحها؟ لا يبيحها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم، فدل ذلك على أن تسمية هذه العملية بالديمقراطية، أو تسمية البرلمان بالبرلمان، أو بمجلس التشريع، بأي اسم من الأسماء لا يغير حكمها، وهذ قاعدة مهمة ذكرها ابن قدامة في المغني، وقد نظمها جدي رحمة الله عليه، فقال:
تسمية العين بغير اسمها لا تنقل الأعيان عن حكمها
لا تقتضي منعاً ولا تقتضي إثبات حق ليس في قسمها
بل حكمها من قبل في أمسها حكمها من بعد في يومها
فائدة مهمة ينبغي إيقاف من يفتي على فهمها
وتسمية الكبش خنزيراً لا تحرمه، كما أن تسمية الخنزير كبشاً لا تبيحه.
فلذلك لابد من فهم هذا الأمر وتنزيله منزلته.
فالتشريع هنا المقصود به: الموافقة على المصالح العامة مما ينظم أمور الناس، كتنظيم الإجازات، ووقت الدوام، وساعات العمل، والرواتب، وتحريرها، وزيادتها ونقصها، وتحديد العقوبات، وما ينظم سير الناس في الطرق، ونحو ذلك.
وكذلك الاتفاقيات مع الدول والمؤسسات ونحو ذلك، هذه أمور قطعاً الحق فيها مشترك لجميع أفراد الشعب، مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم؛ لأنها أملاك عامة مشتركة بينهم، وليس لنا أن نسلبهم حقهم، ولا أن نصادر حرياتهم فيها، بل لابد أن نعرف من يحبون أن يولى عليهم، ونعرف هل هم موافقون على هذه الاتفاقية مع الشركة الصينية، أو مع الشركة اليابانية، أو غيرها، أو غير موافقين على ذلك، هل هم موفقون على رفع الرواتب بهذا المستوى أو غير موفقين على ذلك، هل هم موافقون على سن التقاعد، أو غير موافقين على ذلك، هل هم موافقون على عقوبة قاطع إشارة المرور أو غير موافقين على ذلك.
هذه أمور كان أصلها الاستبداد، وكان الحكام يعسفون فيها ويظلمون ويأخذونها باجتهادهم، وإذا أتيحت فرصة لأن يشرك فيها الناس فذلك أبعد عن الظلم، وأبعد عن الجبر والإكراه.
كذلك مما يكفرون به، أنهم يقولون: إن الحكام يشرعون ما لم يأذن به الله في كثير من القضايا، ويقصدون بذلك أن الحاكم قد لا يستطيع إزالة الشر بكامله، فيريد تقليله ما استطاع وذلك واجب عليه، فإذا قال مثلاً: تنتهي الحفلة عند الوقت الفلاني -عند وقت محدد- فمعنى ذلك أنه لم يستطع القضاء على هذا الفسق بكامله واستطاع القضاء على بعضه، وما قدر عليه من الحق فهو واجب ولا يحل تركه؛ لأن ما لا يدرك كله لا يترك الممكن منه، فيحدد ذلك باعتبار المقدور عليه، وتكون هذه خطوة إيجابية تحمد له؛ لأنه على الأقل نقص الشر.
ولذلك فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أتاه ابنه فقال: يا أمير المؤمنين لقد وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم وما زلنا نرى ظلماً كثيراً، فقال: يا بني ألا يرضيك أن يكون أبوك كل يوم في إحياء سنة وإماتة بدعة.
فلا يمكن أن يزال الفجور والفسق بجرة قلم في وقت واحد، هذا أمر بني في سنوات وعقود طويلة، وتعود عليه الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم )، فلم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم مراعاة لهذا الأمر، وهو أقوى الحكام وأعدلهم صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان الأمر كذلك فلابد أن يشكر له كل خطوة فيها خير، وفيها نقص للباطل، وفيها نقص للفجور، ولو كانت بالتدريج، كما قال عمر بن عبد العزيز: ( ألا يكفيك أن يكون أبوك كل يوم في إحياء سنة، وإماتة بدعة).
كذلك من أسباب تكفير الحكام لديهم: أنهم يقولون: إن الحكام يظاهرون الكفار، وهذه شبهة عظيمة لديهم، فيرون أن من ظاهر الكافر ووالاه مطلقاً فقد خرم عقيدة الإسلام بذلك، وهنا لا يفرقون بين ما يسمى بالولاء للكفار، وما يسمى بإحسان المعاملة مع الكفار، وهما بابان مختلفان تماماً.
كثير من الناس لا يفرق بين الحب الطبعي، والحب في الدين، فموالاة الكافرين التي نهى الله عنها هي محبتهم ونصرتهم في دينهم، لكن محبتهم حباً طبعياً، كحب المسلم لزوجته الكتابية هذا لا ينقض الإسلام، وليس من الولاء في شيء، ولا يمكن أن يقال له: يجوز لك أن تتزوجها، لكن يجب عليك كراهتها، كيف تكرهها وتبغضها وأنت تتزوجها؟ من المستحيل أن يقع هذا.
فلذلك لابد أن يفرق بين الحب الطبعي، والحب في الدين والموالاة فيه، وقد قال الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8-9].
ومن هنا فإن الإنسان إذا اجتهد أيضاً في موالاة الكفار ونصرتهم في الدين، ولكنه أراد بذلك مصلحة له دنيوية، فإنه يكون بذلك عاصياً لله سبحانه وتعالى، لكن لا يصل إلى درجة الكفر؛ لأنه لم يرَ أن دينهم أولى من الإسلام، ولا أعدل منه، ولم يوالهم فيه بذاته، بدليل قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فقد كتب إلى قريش: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليكم بما لا قبل لكم به، ولما عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، بين أنه ما من أحد من الصحابة إلى وله بمكة من يدافع عنه سواه، وأنه يخشى على أهله وماله، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، ومنع عمر الذي كان يريد محاكمته، ويقول: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لـحاطب بالجنة، ( فقد قال له عبد حاطب: يا رسول الله، والله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، والله لا يدخل النار من بايع تحت الشجرة )، ومع ذلك صدرت منه هذه المظاهرة، لكن كانت هذه المظاهرة باجتهاد وتأول.
كذلك مما يكفرون به الحكام: أنهم يسلمون بعض المسلمين للظالمين لقتلهم ومحاكمتهم وتعذيبهم، فيرون ذلك خذلاناً للمسلمين وإسلاماً لهم، وهذا لا يكون كفراً، فقد رد النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل وأبا بصير إلى قريش بمعاهدته التي عقد معهم بالحديبية، ولو كان ذلك كفراً لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو معصوم من الكفر، ولما فعله أصحابه، ولما أقره بحكمه ووقع عليه باتفاقية، فدل ذلك على أن هذا راجع لتقدير المصلحة العامة لشأن المسلمين.
ومثل ذلك أيضاً ما يزعمونه من أنهم يمكنون للكفار في الأرض، فيشاركون في اتفاقيات الأمم المتحدة، وفي غيرها من الاتفاقيات، ويسلمون بعض خيرات البلاد للكفار.
والجواب: أن هذا كذلك راجع إلى تقدير المصلحة العامة ورفع الضرر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على غطفان أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ليرجعوا عنه عامهم ذاك- عام الأحزاب- والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكفر، ولا يمكن أن يقع منه ما هو كفر، ولا ما هو معصية.
هذه إذاً بعض الأمور فيما يتعلق بتكفير الحكام.
أما تكفير العلماء فإنهم كثيراً ما يكفرونهم بأنهم يوالون الحكام، ويقولون: من لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذه القاعدة لا هي من كتاب الله، ولا هي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هي وحي منزل، إنما رويت عن بعض العلماء يقصدون بها التنفير والتحذير من الوقوع في موالاة الكفار، ولا يقصدون أن كل من لم يكفر كل كافر فهو كافر، لو كان كذلك لكان الإلمام بالكفار واجباً، فكان يلزم أن تعرف جميع الكفار على وجه الأرض، وتعلم كفرهم لتكفرهم، ولا أحد يقول بهذا.
فهذه القاعدة ينطلقون منها في تكفير العلماء، وفي تكفير الشعوب، ويقولون: من لم يكفر الكافر فهو كافر، والكافر عندهم هو كل من لم يكفر الكافر أيضاً، فيقع التسلسل في هذا، وهذا لا شك غلو وإبعاد في النجعة.
هذا الغلو وهو ظاهرة وقد ذكرنا بعض مظاهرها، ولا نستطيع تتبعها ولا تتبع شبهاتها للوقت، ولكن لابد لكل ظاهرة من علاج، فنعرج قليلاً على علاجها، ومن علاجها:
أولاً: عدم معاملة أهلها بأخلاقهم وغلوهم، فإذا غلوت في الرد عليهم، فكنت تكفرهم في مقابل تكفيرهم للمسلمين، وكنت تعذبهم وتلقي بهم في غياهب السجون، فإن ذلك سيزيد هذه الظاهرة انتشاراً، ولا يمكن أن يكون علاجاً لها أبداً.
فلا يمكن أن تعالج هذه الظاهرة إلا بالمجادلة بالتي هي أحسن، وبالمناقشة مع أهل العلم؛ لأننا ذكرنا أن أصحابها إما أن يكونوا قد أخطئوا في الفهم، أو جهلوا أصل المسألة، أو قلدوا في المسألة، وكل هذه الأمور لا يزيلها إلا مناقشتها على حد الإنصاف، والرجوع إلى الدليل.
كذلك من أسباب علاج هذه الظاهرة: ترسيخ خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان شمائله، وهديه، وإشاعة ذلك بين الشباب، فكثير من الشباب لا يقرءون شيئاً عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه، وهديه، ومعاملته، ولا عن عمل أصحابه بعده، بل يقرءون بعض أدلة الأحكام فقط، مجردة عما يتعلق بالأخلاق والعمل، ويريدون تطبيقها، وهذا غلط في التصور.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود مرضى اليهود، و( سمع أن شاباً من اليهود في المدينة قد مرض، فذهب إليه يعوده، فوجده يجود بنفسه، فقال له: قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فرفع رأسه إلى أبيه يستأمره، فقال له أبوه: قل ما أمرك به أبو القاسم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار، ثم قال لـسعد بن أبي وقاص: خذوا صاحبكم )، فهي لحظة واحدة، كان يجود فيها بنفسه، فإن مات على ما كان عليه كان إلى النار، لكن الله هداه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال كلمة واحدة نجا بها من النار.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة إنكاراً شديداً قتله للرجل الذي قال: لا إله إلا الله، قال: ( أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! ما قالها إلا عائذاً من السيف، قال: هلا شققت عن قلبه )، فقال: أسامة بعد ذلك: والله لا أرفع سيفي في وجه امرئ مسلم، فقال سعد بن أبي وقاص: وأنا والله لا أقاتل حتى أرى ذا البطين يقتل، يقصد بذي البطين أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
فهذا الحصن العظيم الذي هو الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، من دخله فقد تحصن بحصن عظيم، ولابد من الحذر من الاعتداء عليه.
ثم بعد ذلك من العلاج: أن يعرف كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس، وكيف كان يعاملهم، كان يكرم الضيوف من المشركين، وكان يأذن لأهل الكتاب بثلاثة أيام بالليل في الحرمين ليبيعوا تجارتهم، وكان يحسن ضيافتهم، و( دعاه يهودي إلى إهالة سنخة- أي: زبدة قد تغير لونها واصفرت من قدمها- فأجاب دعوته )، و( لما أتاه عتبة بن ربيعة يجادله قال: اسمع أبا الوليد فقرأ عليه أول سورة فصلت )، فخاطبه بكنيته، ولما أتاه عامر بن الطفيل وأربد أكرم وفادتهما وضيافتهما، فقال له عامر: لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، فقال: ( يأبى الله ذلك وأبناء قيلة، فلما خرجا قال: اللهم اكفني عامراً وأربد بما شئت )، فأما عامر فأخذته غدة كغدة البعير ومات في بيت امرأة سلولية، وأما أربد فسقطت عليه صاعقة فأحرقته وجمله.
وكذلك فإن خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين عجيب جداً، ( دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بيته، وعنده نسوة فكن يرفعن الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم، ويجادلنه في حقوق النساء، فلما دخل عمر استحيين وسكتن، فقال عمر: أي عدوات أنفسهن، تهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: لأنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
فمن درس سيرته، وشمائله، وخلقة، وأتسى به واقتدى، فإنه سيزول عنه هذا الغلو.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ رادعاً لهؤلاء الغلاة، وهو رادع المقارنة، فيقول: ( إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا )، وهذا ردع لهم، فهم ما حملهم على هذا الغلو إلا طلب التقرب إلى الله، وهم لا يعرفونه حق معرفته، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بالله، وأخشاهم لله، وأتقاهم له، فلا يمكن أن نتجاوزه أصلاً، بل لابد أن نقتصر على ما هو عليه، وهذا الباب رادع لكثير من الشباب في تصرفاتهم، فلو طعن أحدهم في عالم من العلماء فقيل له: أنت أعلم أم هذا العالم الذي تطعن فيه؟ أنت أتقى لله منه؟ فيكون ذلك رادعاً له، وزاجراً له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ويمكن أن يأتسي العالم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول ذلك عن نفسه: أنا وأنت أينا أعلم بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ( إن أعلمكم بالله وأخشكم لله أنا )، فلا مانع من مثل هذا.
كذلك من وسائل العلاج لهذه الظاهرة: إفشاء ثقافة الشرع فيما يتعلق بالتكليف، فالتكليف لا يكون إلا بما هو داخل في الطوق: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، والإنسان لا يمكن أن يكلف بشيء لا يطيقه ولا يستطيعه، وعليه أن يسدد ويقارب ويتقرب إلى الله بما يقدر عليه وما يستطيعه، وهو معذور فيما عجز عنه:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وكذلك من هذا العلاج: اتخاذ الحكومات الإسلامية للقرارات العادلة، ومشورتهم للعلماء، ومواصاة العلماء بالحق، وإنكارهم للمنكر بالتي هي أحسن، وبالوجه الشرعي، فتراجع الحكومات عن أخطائها وتغييرها للمنكرات التي يصرح العلماء بإنكارها، كل ذلك يسد الباب أمام هذا الغلو وأمام هذه الظاهرة، وهو من العلاج الحسن لها.
وأرى الوقت قد تأخر على كثير من الشيوخ الجالسين، أما الشباب فيستطيعون التحمل، والصبر والمصابرة، فلعلي اقتصر على هذا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر