بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فيقول المؤلف رحمه الله:
[وبعد أن يقوم من وسطاه وعقده الثلاث من يمناه
لدى التشهد وبسط ما خلاه تحريك سبابتها حين تلاه
والبطن من فخذ الرجال يبعدون ومرفقاً من ركبة إذ يسجدون
وصفة الجلوس تمكين اليد من ركبتيه في الركوع وزد
نصبهما قراءة المأموم في سرية وضع اليدين فاقتفي
لدى السجود حذو أذن وكذا رفع اليدين عند الإحرام حذا
تطويله صبحا وظهراً سورتين توسط العشا وقصر الباقيين
كالسورة الأخرى كذا الوسطى استحب سبق يد ووضعها وفي الرفع الركب]
قوله: (وبعد أن يقوم من وسطاه) أي: أن من المندوب أن يؤخر التكبير في الجلسة الوسطى حتى يقوم؛ لأنه كالذي يفتتح الصلاة من جديد، وهذا أحد القولين للمالكية، وهما مشهوران على السواء، متساويان، التكبير في الانتقال والتكبير بعد القيام من الجلسة الوسطى، والذي يترجح أن الحركة إلى الركن مقصودة مطلقاً، ولذلك ينبغي أن يكبر في الانتقال وألا ينتظر القيام، ولو كان كمفتتح الصلاة.
(وعقده الثلاث من يمناه) كذلك من مندوبات الصلاة في حال التشهد أن يعقد الإنسان الثلاث من يمناه، أي: هذه الأصابع الثلاثة، وذلك ببسط هاتين، وهذا وجه من الأوجه الخمسة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أرجح الأوجه وهو أشهرها في الرواية، أن يقبض هاتين وأن يحلق بهاتين، وأن يشير بهذه وهي المسبحة، وكذلك أن يجعل هذه تحت هذه هكذا، فيقبض الأربع ويشير بالمسبحة وحدها، أو أن يجعل هذه هكذا، ويجعل هذه فوقها هكذا، أو أن يجعلها معها هكذا، فكل ذلك وارد، أو أن يبسطها كلها ثم يشير بالسبابة فقط، فهذه خمسة أوجه ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها في حال التشهد فقط.
وأما الجلوس بين السجدتين فلا يطلب فيه قبض شيء من الأصابع، وما ترونه من بعض الناس يقبضون دائماً أصابعهم في الجلوس هذا فيه مخالفة؛ لأن الذي ثبت إنما هو قبض الأصابع للإشارة إلى التشهد فقط؛ ولذلك قال: (وعقده الثلاث من يمناه).
(وبسط ما خلاه) معناه: ما عدا ذلك.
(تحريك سبابتها) أي: سبابة اليمنى، (حين تلاه) أي: حين تلاوته للتشهد، وقد سبق الكلام في التحريك.
(والبطن من فخذ الرجال يبعدون) أي: من مندوبات الصلاة أن يجافي الرجل بطنه عن فخذيه، وقوله: (رجال) هذا مخرج للنساء.
وقد اختلف في هيئة صلاة النساء هل تكون مثل صلاة الرجال فينصبن أفخاذهن، ويباعدن بطونهن عن أفخاذهن كما يجافين الضبعين عن الجنبين، فهذا الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا خطاب للرجال والنساء معاً، ولكن ورد عن ابن عمر أنه رأى إحدى بناته تفعله، فنهاها عن ذلك، ونهاها أن تسترجل، أي: أن تفعل مثل ما يفعله الرجال، وأمرها أن تثني فخذيها؛ لأن ذلك أستر لها، ومحل هذا عند ضيق اللباس أو عند رؤية الرجال لصلاتهن؛ لأن انتصابها فيه تعرض للكشف إذا كان اللباس خفيفاً، وكان اللباس غير سابغ في رفعها للفخذين وتجافيها تعرض للكشف.
(ومرفقاً من ركبة إذ يسجدون) كذلك لا بد من مباعدة المرفقين عن الركبتين أو عن الفخذين أو عن الرسغين، فبعض الناس يجعل مرفقه في رسغيه أو على فخذيه أو حول ركبتيه، وهذا غير صحيح، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بروك الكلب، وهو أن يبسط يديه عند بروكه؛ فاليدان تنصبان، أي: يضع كفيه وأصابعه على الأرض، وينصب ساعديه، ويكون رأسه بين يديه، فالإبهامان مقابلان للأذنين في السجود؛ لأنه سيسجد على هذه الأعظم السبعة، فكل عظم يستحق نصيبه من جسمه، فيتوزع ثقل جسمه على هذه الأعظم السبعة، فيحمل كل عظم جزءاً من ثقل البدن.
(وصفة الجلوس) كذلك من المندوب في الصلاة صفة الجلوس، وقد سبق أن الراجح التفريق بين جلوس التشهد الثاني وما سواه من الجلوس، وأن الجلوس الأول دائماً يفترش فيه الإنسان رجله اليسرى، وأن الجلوس الآخر إذا كان في الصلاة تشهدان يتورك فيه، أي: يجلس على وركه الأيسر، ويخرج رجله اليسرى من تحت رجله اليمنى أو من فوقها.
وقد ذكرنا وجه غلط المتأخرين من المالكية في ذلك بسبب حديث مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عمر كان يعلمه جلوس التشهد في الصلاة فيتورك فيه، وهذا جلوس التشهد فقط، وليس جلوس جميع الصلاة، واختلف أهل العلم، فالمتأخرون من المالكية يرون أن جلوس الصلاة دائماً بالتورك، والشافعية يرون أن الجلوس بين السجدتين بالافتراش، وجلوس التشهد كله يكون بالتورك، سواءً كان التشهد الأول أو الأخير؛ لهذا الحديث: أن عمر كان يعلمهم جلوس التشهد، وهو عموم يشمل التشهد الأول والتشهد الأخير، والحنابلة والشافعية يقتصرون على ما في حديث أبي حميد الساعدي، فيرون أن التشهد الأول يفترش فيه، وأن التشهد الثاني يتورك فيه.
(تمكين اليد من ركبتيه في الركوع) معناه: ومن مندوبات الصلاة أن يمكن يديه من ركبتيه، فيجعل الركبتين في حفرتي الكفين، ويفرق الأصابع تحتهما، فهذا هو التمكين، وذلك مندوب؛ لأنه سبق في الواجب في الركوع أنه انحناء تقرب راحتاه فيه من ركبتيه، وتمكينهما منهما إنما هو مندوب.
(وزد نصبهما) كذلك من مندوبات الصلاة أن ينصب الإنسان ركبتيه وألا يبرزهما، والإبراز أن يثني شيئاً يسيراً منهما حتى يدخله في كفيه، فالإبراز مكروه وفي مقابله النصب فيكون مندوباً.
(قراءة المأموم في سرية) كذلك من مندوبات الصلاة قراءة المأموم في السرية، فيقرأ الفاتحة وسورة معها، والراجح أيضاً أنه يقرأ في الجهرية الفاتحة فقط؛ لحديث أبي هريرة الذي أخرجه مالك في الموطأ: (أن رجلاً سأله فقال: فما أفعل بأم الكتاب؟ قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي) وفي حديث جابر: ( إلا بأم الكتاب )، فهو استثناء من النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة في حال جهر الإمام إلا بأم الكتاب.
(وضع اليدين فاقتفي لدى السجود حذو أذن) معناه: من مندوبات الصلاة أن يضع الإنسان يديه حذو أذنيه، أي: مقابل أذنيه في حال السجود، (وكذا رفع اليدين عند الإحرام خذا) كذا من مندوبات الصلاة، وينبغي أن يكون من سننها، ولكنه هو جعله هنا في المندوبات أن يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وهذا الرفع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه خمسة وسبعون من الصحابة.
خمس وسبعون رووا من كذبا ومنهم العشرة ثم انتسبا
لها حديث الرفع لليدين والحوض والمسح على الخفين
فهذه من الأحاديث المتواترة التي رواها على الأقل خمسة وسبعون من الصحابة، وهذا الرفع الذي تواتر هو الرفع عند تكبيرة الإحرام، أما الرفع فيما دون ذلك فلم يبلغ حيز التواتر؛ ولذلك فإن الرفع عند الركوع ثبت، وعند الرفع من الركوع ثبت، وعند القيام من الجلسة الوسطى ثبت، لكن لم يثبت الرفع للسجود ولا للرفع منه، أي: الجلوس، وقد عمل به أهل العراق وهو مذهب قديم لهم، وهو مذهب سفيان الثوري، وترك أبو حنيفة الرفع مطلقاً ما عدا تكبيرة الإحرام، وقد روي ذلك عن ابن القاسم أيضاً في المذهب المالكي أنه لا رفع في غير تكبيرة الإحرام، ولذلك اقتصر هو هنا على تكبيرة الإحرام فقال: (وكذا رفع اليدين عند الإحرام خذا) أي: خذ هذا، و(خذا) الألف منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة، فأصل الكلام (خذن) فنون التوكيد الخفيفة في حال الوقف تبدل ألفاً كما قال ابن مالك:
وأبدلنها بعد فتح ألفا وقفاً كما تقول في قفن قفا
(تطويله صبحاً وظهراً سورتين) أي: من مندوبات الصلاة أن يطيل الإنسان قراءته في الظهر والصبح في السورتين معاً، أي: في الأولى والثانية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الصبح ليدركه من كان نائماً ومن كان يغتسل من جنابة، وإذا أطال القراءة فسيطيل بقية الأركان؛ لأن صلاته متناسبة كما سبق.
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يصلي في الصبح بالبقرة وآل عمران قراءة بطيئة فيقال له: (كادت الشمس تطلع! فيقول: لو طلعت ما وجدتنا غافلين)، وكان عمر كذلك يطيل القراءة في الصبح ويبكي، وكان عثمان يقرأ فيها بسورة يوسف، وقد أخرج مالك في الموطأ عن الفرافصة: (ما حفظت سورة يوسف إلا من كثرة قراءة عثمان لها في الصبح)، فحفظها الفرافصة بكاملها من كثرة قراءة عثمان لها في الصبح.
وكذلك الظهر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل في قراءتها، وقد سبق ذكر حديث أنس في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بعد الفاتحة بثلاثين آية في الركعة الأولى وبثلاثين في الركعة الثانية وبخمس عشرة آية بعد الفاتحة في الركعة الثالثة، وبخمس عشرة في الركعة الرابعة)، ويندب تقصير الثانية عن الأولى كما سيأتي إن شاء الله.
(توسط العشا) فصلاة العشاء ينبغي أن يتوسط الإمام فيها في التطويل؛ لأن كثيراً من الناس كانوا في أعمالهم فيشق عليهم أن يطيل بهم، وهذا وقت نوم وراحة؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم غضب على معاذ غضباً شديداً فقال: ( إن منكم منفرين، من صلى بالناس فليخفف )، وقد حمل ذلك بعض أهل العلم على صلاة العشاء وحدها؛ لأنها وقت نصب الناس وتعبهم، وهم راجعون من أعمالهم ومزارعهم، وحمله بعضهم على أن المقصود تخفيف الوسط غير ما كان معاذ يفعله؛ فقد قرأ في الركعة الواحدة بالبقرة وآل عمران، وقال ابن دقيق العيد رحمه لله: (تالله ما التخفيف الذي أمر به إلا الذي كان يفعله)، فلا يمكن أن يتعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله؛ فالتخفيف الذي أمر به بقوله: ( من صلى بالناس فليخفف ) هو ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم؛ فعلى هذا لا يدخل فيه قصر الصبح ولا قصر الظهر؛ فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصرهما إلا إذا حصل عارض؛ لأنه ذكر أنه يفتتح الصلاة وهو يريد أن يطيل فيها، فيسمع بكاء الصبي فيقصرها خشية أن يفتن أمه، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس.
والتوسط في العشاءن يط أيضاً ليس المقصود به القصر؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في صلاة العشاء بالطور، وثبت عنه أنه افتتح في صلاة العشاء سورة المؤمنين، حتى إذا بلغ إلى ذكر موسى وعيسى أخذته سعلة فركع، وذكر موسى وعيسى هو بعد أكثر من ربع الحزب، أي: ثمانين وزيادة في الركعة الأولى.
(وقصر الباقيين) أي: يندب تقصير الباقيين وهما العصر والمغرب، أما العصر فقصرها في مقابل الظهر، وقد سبق في حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيها بالأولى بالفاتحة وخمس عشرة آية، وفي الثانية بالفاتحة وخمس عشرة آية، وفي الثالثة بالفاتحة وسبع آيات، وفي الرابعة بالفاتحة وسبع آيات)، أما المغرب فهذا الذي لدى المتأخرين من المالكية بقصرها، ولكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الإطالة فقد صلى بسورة الأعراف، وهي طولى الطوليين يقسمها بين الركعتين، أي: في كل ركعة تقريباً يصلي بمائة آية أو مائة وثلاث آيات؛ لأن سورة الأعراف مائة وست آيات، وهو كان يقسمها بين الركعتين.
ولا ينبغي أن يلزم الإنسان سورة أو سورتين لا يصلي إلا بهما، إلا إذا كان لا يحفظ القرآن، وقد كان خالد بن الوليد رضي الله عنه لا يحفظ القرآن لكثرة الغزو، وكان يكون أميراً للجيش، والأمير هو الذي يصلي بالناس فيقرأ من سورة البقرة ما يحفظ، ثم يقرأ من سورة أخرى حتى يكمل قدر القيام الذي يريده، وإذا سلم اعتذر للناس فيقولون: إنه شغل بالغزو عن حفظ القرآن فقرأ لهم ما يحفظ.
وهذا في غير صلاة الصبح يوم الجمعة فلا يكره المواظبة على قراءة السجدة والإنسان فيها فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على ذلك في يوم الجمعة، والمقصود بالمواظبة الإكثار من ذلك؛ فهو كثيراً ما يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح بسورة السجدة في الركعة الأولى، وبسورة الإنسان في الركعة الثانية.
(كالسورة الأخرى) معناه: كما يندب قصر السورة الثانية عن السورة الأولى، (كذا الوسطى) أي: كذلك قصر الجلسة الوسطى (استحب) أي: الاقتصار على التشهد فيها وعدم تجاوزه، وذلك مستحب، أي: مندوب.
(سبق يد ووضعها وفي الرفع الركب) يقول: إن من مندوبات الصلاة في حال الانحطاط للسجود أن يبدأ الإنسان بوضع يديه على الأرض قبل ركبتيه، وفي حال القيام أن يبدأ برفع ركبتيه ويؤخر يديه.
أما في حال القيام من السجود فهذا صحيح؛ لأنه يعتمد على يديه ثم يرفع ركبتيه ويقوم، إلا إذا كان سيجلس جلوس الاستراحة، وهو جلوس الأوتار، أما في الانخفاض فقد جاء الأمران معاً؛ جاء وضع الركبتين قبل اليدين، وجاء وضع اليدين قبل الركبتين، وقد جمع ابن القيم رحمه الله بين ذلك فقال: (المقصود ألا يضرب الأرض سواءً بيديه أو بركبتيه)؛ لأن هذا هو بروك البعير، وقد نهينا عن بروك البعير، لكن البعير ركبتاه في مقدمه، والإنسان ركبتاه في مؤخره؛ ولذلك حمل بعض أهل العلم هذا على النهي عن وضع اليدين أولاً؛ لأن ركبتي البعير في مقدمه بمثابة اليدين في الإنسان، وبعضهم حمله على النهي عن وضع الركبتين أولاً؛ أن البعير يضع ركبتيه أولاً على الأرض.
قال المصنف رحمه الله:
[وكرهوا بسملة تعوذاً في الفرض والسجود في الثوب كذا
كور عمامة وبعض كمه وحمل شيء فيه أو في فمه
قراءة لدى السجود والركوع تفكر القلب بما نافى الخشوع
وعبث والالتفات والدعا أثنا قراءة كذا إن ركعا
تشبيك أو فرقعة الأصابع تخصر تغميض عين تابع]
(وكرهوا بسملة تعوذاً) بدأ هنا في مكروهات الصلاة، أي: ما يكره فيها، فذكر من المكروهات الجهر بالبسملة والتعوذ في الفرض، وهذا المقصود هنا بالكراهة، ولا يقصد كراهة قراءة البسملة أو التعوذ في الصلاة، بل البسملة إما أن تكون آية من الفاتحة فمن تركها بطلت صلاته، أو أن تكون آية من القرآن فلا يكره شيء من الذكر في الصلاة وبالأخص القرآن؛ فلذلك يكره الجهر بالبسملة وبالتعوذ أيضاً، فالتعوذ مأمور به قبل القرآن لقول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[النحل:98]، لكن يكره في الفرض الجهر به، فيسر به الإنسان ويسر بالبسملة كذلك؛ لما ثبت في حديث أنس قال: ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يفتتحون الصلاة بـ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] )، وهذا الحديث يقتضي أنهم لا يجهرون بـ: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1]، لكن يرى الشافعية الجهر بالبسملة؛ لأنهم يعتبرونها آية من الفاتحة، وعللوا حديث أنس بتسع علل:
الأولى: الاضطراب في متنه؛ فقد جاء فيه: (صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان ) بترك الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء فيه: (فكانوا يسرون بـ: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1]) وجاء فيه: (فكانوا لا يجهرون بــ: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1]) وجاء فيه: (فكانوا لا يذكرون بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1] سراً ولا جهراً) وهذا اضطراب في المتن.
الثانية: الاضطراب في السند؛ فقد حصل اضطراب في الرواية عن قتادة بن دعامة عن أنس.
الثالثة: أنه متلقىً عن طريق الكتابة؛ فقد قال الوليد بن مسلم: (كتب إلي قتادة بن دعامة)، والكتابة إحدى وسائل التلقي، فأوجه التلقي ثمانية هي: السماع، ثم القراءة على الشيخ، ثم إجازته، ثم مناولته، ثم كتابته، ثم إعلامه، ثم وصيته، ثم الوجادة، فهذه الثمانية هي طرق تلقي الحديث؛ والكتابة منها ولكنها نازلة؛ لأن الإنسان لم يسمع من الشيخ ولا يجزم بأن هذا خطه جزماً كافياً.
الرابعة: جهالة الكاتب لـقتادة؛ لأن قتادة كان أكمه، لم يشق بصره، والوليد بن مسلم قال: كتب إلي قتادة، ومن المعلوم أنه هو لم يكتب، فمن الكاتب له؟ الكاتب له سيكون من الإسناد وهو مجهول.
الخامسة: أن أنساً سئل: (هل تحفظ شيئاً في البسملة؟ فقال: لا) فهذا إنكار لمرويه.
السادسة: معارضته لأحاديث صحاح؛ كحديث أم سلمة وحديث أبي هريرة، أما حديث أبي هريرة فهو في عد آيات الفاتحة كان يقول: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:1-3].. إلى آخره، كذلك حديث أم سلمة: ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يهذ القراءة كهذكم للشعر، إنما كان يقف على رأس كل آية فيقول: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:1-2] ).
وقد أجيب عن هذه العلل أن الاضطراب في المتن والاضطراب في السند بأن رواية الصحيح قاضية على كل الروايات الأخرى، وهذه قاعدة المحدثين أن كل حديث حصل فيه اضطراب وله رواية في الصحيحين، فرواية الصحيح تقضي على الاضطراب، سواءً كان الاضطراب في المتن أو في الإسناد.
كذلك فإن إنكار أنس لمرويه لا يبطله؛ لأنه قد ينسى، وكثير هم الذين حدثوا ثم نسوا، وكان سهيل بن أبي صالح يقول: (حدثني فلان عن نفسي)، فقد حدث هو بالحديث ثم نسيه، فأصبح يحدث به عن نفسه بواسطة.
وكذلك معارضته للحديثين المذكورين لا تقوى؛ لأن حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم والموطأ والسنن الأربع والمستدرك وصحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة، وأتى به البخاري في القراءة خلف الإمام فيه: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] )، وليس فيه ذكر للبسملة.
ومن العلل علة ذكرها الشافعية وهو تدليس تسوية من الوليد بن مسلم، فـالوليد بن مسلم مشهور بتدليس التسوية، وتدليس التسوية هو إسقاط المجروح بين الثقتين ليستوي الإسناد، لكن يجاب عن ذلك بأن رواية الصحيح كما ذكرنا قاضية عليه، وبأنه ليس مدار الحديث أصلاً على الوليد بن مسلم حتى يطعن فيه من قبله؛ فقد توبع عليه بمتابعات صحاح، لا نطعن فيها.
أما في النفل فعن مالك روايتان في الجهر بالبسملة والتعوذ؛ فقد روي عنه كراهة الجهر بالبسملة والتعوذ مطلقاً في الفرض والنفل، وروي عنه جواز ذلك في النفل، وهذه الرواية الأخيرة هي المأخوذ بها في المذهب.
(والسجود في الثوب كذا) معناه: من مكروهات الصلاة السجود في الثوب، وهو أن يسجد الإنسان ويداه في داخل ثوبه، فهذا قد ورد في تفسير قول الله تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى[النساء:142]، تفسير (كسالى) مدخلي أيديهم في ثيابهم، ومثل ذلك ستر الوجه بالثوب أو وضع الثوب على الفم أو الأنف، وفي الموطأ أن ابن عمر رأى رجلاً يتلثم في الصلاة - أي: يستر وجهه - فقام إليه فجبذه جبذاً شديداً في أثناء الصلاة.
(كور عمامة) معناه: يكره السجود على كور العمامة، والكور معناه: المستدير الذي يرفع الجبهة عن الأرض، ومحل ذلك إذا مس شيء من الجبهة الأرض، أما إذا ارتفع الإنسان عن الأرض فلم تمسها جبهته بالكلية فإن السجود لم يحصل؛ وقد سبق أن السجود يجب فيه وضع الجبهة على الأرض.
(وبعض كمه) كذلك من مكروهات الصلاة أن يسجد الإنسان في بعض كمه، والكم هو مدخل اليد، والمقصود أن يضع بعض كمه تحت جبهته ليسجد عليه؛ لقول البراء رضي الله عنه: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء بجباهنا وأكفنا فلم يشكنا )، أي: لم يأذن لهم في السجود على الثياب.
(وحمل شيء فيه أو في فمه) كذلك من المكروه في الصلاة أن يحمل الإنسان شيئاً في كمه؛ لأنه مشغل له، ولا يقصد بذلك حمل شيء في الجيب إلا إذا كان شيئاً ثقيلاً؛ كالذي يضع مثلاً مسجلاً في جيبه أو عدداً من الهواتف،فإذا سجد هزت به؛ فلذلك المقصود هنا وضع شيء يلهي عن الصلاة.
(أو في فمه) كذلك من المكروه في الصلاة أن يجعل الإنسان شيئاً في فمه؛ لأنه مفسد لقراءته، مغير لصفات الحروف، بل قد يؤثر في مخارجها.
(قراءة لدى السجود والركوع) كذلك من المكروه في الصلاة أن يقرأ الإنسان في سجوده وركوعه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم البديل فقال: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه لأنفسكم بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم ).
(تفكر القلب بما نافى الخشوع) كذلك من المكروه في الصلاة تعمد التفكر في أي شيء، سواءً كان من أمر الدين أو من أمر الدنيا، فتفكر الإنسان في الجنة ونعيم أهلها في أثناء الصلاة، أو تفكره في النار وعذاب أهلها، أو تفكره في مشيه على الصراط، هذا يشغله عن تدبر ما يقرأه وتفهمه؛ فلا ينبغي أن يفكر إلا في ما يقرأ.
لكن تدبره لما يقرأه لا ينافي ذلك، حتى لو قرأ شيئاً يتعلق بالجنة أو بالنار أو بأمر الدنيا والأحكام؛ فتدبره في معناه، إذا تدبر قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة:275] ففكر في البيع المباح والربا المحرم فهذا ليس مكروهاً؛ لأنه من التدبر؛ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29]؛ ولذلك قال محمد مولود رحمة الله عليه:
وخنزَب وخنزِب وخنزُب اسم لشيطان الصلاة يرسب
من أربى مثلث الوترين تذكيره أمراً من الدارين
عند دخولك الصلاة تشتغل به فلا تصلحه ولا تصل
(من أربى) أي: من دواهي، الأربى: الداهية، (مثلث الوترين) أي: مثلث الحرف الأول والثالث، (تذكيره أمراً من الدارين) من الدنيا أو من أمر الآخرة (عند دخولك الصلاة تشتغل به) أي: بذلك الأمر الذي يلقيه الشيطان عليك، (فلا تصلحه) لأنك في الصلاة، (ولا تصل) فأنت مشغول بالتفكير في ذلك الأمر.
(وعبث) كذلك من مكروهات الصلاة العبث باللحية كتحريكها أو تخليلها بأصابعه، وكذلك العبث بالعمامة أو بالثوب أو بالساعة، فهو تشاغل بما ليس يتعلق بالصلاة.
والعبث مطلقاً اختلف في حكمه؛ فكل الفقهاء يذكرون في مكروهات الصلاة كراهة العبث، لكن ذكر المواق في الوديعة حرمة العبث، قال: العبث حرام، وذكر ذلك فيما يتعلق بطلب العلم، وذكر أن من واجب المسلمين إذا لم يكن لهم بيت مال منتظم أن يجمعوا مالاً للنفقة على طلبة العلم ومعلميه، ويشترط لذلك أن يكون الطالب ممن طابت سريرته وحمدت سيرته، وكان أهلاً لذلك؛ فمن لم يكن أهلاً له لا يحل له أخذه؛ لأنه عبث والعبث حرام، وقد نظم هذه المسألة جدي رحمة الله عليه فقال:
من واجب الإسلام جمع مال تقضى به حقوق بيت المال
إن لم يكن كحامل علوم فرض الكفاية من الموسوم
بحسن إدراك مع السريرة وطيبة سجية وسيرة
ومن خلا من هذه الأوصاف منعه لفقد الاتصاف
بل طلب العلم بتلك المرتبة خال من المصلحة المجتلبة
بل هو من تكليف ما لم يطق وعبث في فعله والمنطق
وكل ذين حجروه حجراً فكيف يأخذ عليه أجرا
ذكره المواق في الإيداع فانظر تجده يوم يدع الداع
(والالتفات) كذلك من مكروهات الصلاة الالتفات، والالتفات أن ينظر إلى غير جهة القبلة، ولكن لا تبطل الصلاة به ما دام شيء منه إلى القبلة، فما دامت رجلاه إلى القبلة لا تبطل صلاته بالالتفات ولو اشتد الالتفات، لكنه مكروه كراهة شديدة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير ممن التفت إليه )، ( وقد سئل عن الالتفات في الصلاة فقال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم ).
(والدعا أثنا قراءته) كذلك من مكروهات الصلاة بالنسبة للإمام أن يدعو أثناء القراءة؛ لأن في ذلك تطويلاً على الناس وتشويشاً عليهم، فإذا مر الإمام بآية رحمة توقف فدعا، فإن المأموم يظن أن الإمام يريد أن يفتح عليه؛ لأنه قد توقف في القراءة؛ ولذلك لا ينبغي للإمام أن يفعل؛ لما في ذلك من التشويش على المصلي، أم بالنسبة للمأموم فيجوز له الدعاء عند ذكر آية الرحمة أو عند المرور بآية العذاب، وكذلك الفذ لأنه لا يشوش على أحد؛ ولهذا المتنفل يجوز له ذلك مطلقاً؛ كما في صفة نافلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ( فما مر بآية رحمة إلا سأل الله منها، ولا بآية عذاب إلا استعاذ بالله منه )، وهذا في صلاة النافلة.
والدعاء له مواضع في الصلاة يشرع فيها؛ فيشرع بعد تكبيرة الإحرام قبل القراءة وهو دعاء الاستفتاح، ويكره في أثناء الفاتحة لاشتمالها على الدعاء وهي أفضله؛ فأفضل الدعاء الفاتحة وفيها: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6]، فهي مشتملة على الدعاء وهي أفضله، ولذلك يكره الدعاء في أثنائها، لكن يشرع الدعاء بعدها بينها وبين السورة، ويشرع الدعاء بعد السورة قبل الركوع، ويشرع في الرفع من الركوع، ويشرع في السجود، ويشرع في الجلوس بين السجدتين، ويشرع بعد التشهد؛ فهذه المواضع يشرع فيها الدعاء في الصلاة.
(كذا إن ركعا) معناه: كذلك يكره الدعاء في الركوع بغير المغفرة، يكره للإنسان أن يدعو في ركوعه بغير المغفرة، أما المغفرة فقد ثبت الدعاء بها في الركوع عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(تشبيك أو فرقعة الأصابع) كذلك يكره في الصلاة تشبيك الأصابع هكذا، ويكره في المسجد مطلقاً وفي السير إليه، فإذا كان الإنسان آتياً للصلاة فيكره له تشبيك الأصابع، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يشبك أصابعه في طريقه للمسجد فنهاه عن ذلك، وبين له أنه في صلاة ما قصد الصلاة.
وكذلك فرقعة الأصابع، وهي تكسيرها حتى يسمع صوت؛ فهو مكروه في الصلاة، ومكروه في المسجد وفي قصد الصلاة أيضاً؛ لما فيه من العبث والهزء.
(تخصر) كذلك يكره للإنسان التخصر؛ لما ثبت في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل مختصراً)، وهذا الحديث فسروه بثلاثة تفسيرات:
الأول: أن يضع يديه على خصريه، هكذا، فهذا تخصر.
الثاني: أن يعتمد على المخصرة، والمخصرة هي العصا.
الثالث: أن يقصر ركوعه وسجوده فيجعلهما أقصر بكثير من قيامه؛ فهذا اختصار للركوع والسجود.
(تغميض عين تابع) كذلك من المكروهات في الصلاة أن يغمض الإنسان عينيه لما في ذلك من تهمة الرياء؛ ولأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم تغمضيهما، بل قال: ( قد نظرت إلى علمها في صلاتي فكاد يفتنني عنها )، وهذا دليل على أنه يرى، بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ( أما ترون وجهي هكذا، أما إنه لا يخفى علي شيء من ركوعكم ولا خشوعكم )، فقد كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
أستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وإخلاصاً ويقيناً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر