بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
قال البخاري رحمه الله تعالى: باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
عقد هذا الباب لحكم تشبيك الأصابع في المسجد، وفي غيره من الأماكن، أو لبيان جواز ذلك، فيمكن أن يكون التقدير: باب: حكم تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ويمكن أن يكون التقدير: باب: جواز تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، وذلك أنه أورد حديثين في هذه الترجمة هنا، وفي رواية عن الفربري إثبات حديث آخر قبلهما، وهو محذوف من أكثر الروايات، ولم يطبع في روايات الصحيح المطبوعة، والحديثان أحدهما يدل على جواز التشبيك في المسجد، والآخر يدل على جواز التشبيك في غيره.
والتشبيك معناه: جعل بعض الأصابع في بعض؛ أي: إدخال أصابع إحدى اليدين في أصابع الأخرى، وذلك يقتضي إدخال أصابع كل واحدة من اليدين في الأخرى؛ لأنه سيقع التبادل بينهما.
وهذا التشبيك ورد فيه عدد من الأحاديث، منها ما يدل على النهي عنه، ومنها ما يدل على جوازه، فمما يدل على النهي عنه حديث كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم، وخرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في صلاة)، وكذلك أحاديث أخرى عنه رضي الله عنه، عن كعب بن عجرة، فهذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه ابن حبان، والحاكم، ولكن في إسناده إشكالًا؛ ولذلك ضعفه أهل العلم ومنهم ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري، ووافقه الحافظ ابن حجر على ذلك، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد فيه مجهول، وفيه ضعيف أيضًا، أو المجهول هو الضعيف الذي ضعف به الحديث؛ ولذلك ضعفه الحافظ، وفي لفظ ابن أبي شيبة في المصنف: (فإنه من الشيطان)؛ أي: فإن التشبيك من الشيطان، وهذا يدل على أدلة النهي؛ أي: إن النهي عن التشبيك إنما جاء لأنه من الأفعال التي يفعلها الشيطان، أو من الأفعال التي يدعو إليها الشيطان؛ فإذًا الفعل المنسوب للشيطان ينقسم إلى قسمين: فعل يفعله الشيطان، فالتشبه بالشياطين منهي عنه مطلقًا، وقد جاء كثير من الأحاديث في النهي عن بعض الأفعال أو الصفات، وأن الشيطان يفعلها، والقسم الثاني هو ما كان يسر الشيطان أو يأمر به؛ فيكون ذلك الفعل منسوبًا إليه من هذا الوجه، وكون الفعل مرضيًا لدى الشيطان، إما لأنه في الأصل منهي عنه، وعلى هذا يقع التداخل، فكون الفعل من فعل الشيطان يقتضي نهيًا، وسبب النهي عن الفعل الذي يرضي الشيطان أنه مخالف لأمر الله، وذلك يؤدي إلى ما يسمى بالدور، وهو: توقف الشيء على ما يتوقف عليه، وقد يجاب عنه بأن الله سبحانه وتعالى نهى عن اتباع خطوات الشيطان مطلقًا، فكل ما كان من خطوات الشيطان وعمله فهو منهي عنه بهذا، ولا نعرف أن الشيء من خطوات الشيطان إلا بالوحي، بما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحذر من الشيء بما يردع عنه، بأن يذكر أنه من عمل الشيطان، أو أنه فعله وذلك، اقتداء بكتاب الله، فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة:90]، فجعل هذه المنهيات من عمل الشيطان، فكان ذلك أبلغ في الزجر عنها، مع أن حرمتها ما جاءت من كونها من عمل الشيطان، بل جاءت من قول الله: فَاجْتَنِبُوهُ[المائدة:90]، فالحرمة هي من قبل الله جل جلاله الذي حرم ونهى.
وكونه من عمل الشيطان رادع وزاجر عنه؛ فلذلك يقترن بالنهي، وقد يكون الفعل غير منهي عنه لذاته؛ أي: ليس من معصية الله لذاته، ولكنه يشغله عن الطاعة، أو ينقص أداء الإنسان، أو يكون مضحكًا للشيطان من هيئة الإنسان كالتثاؤب، فالتثاؤب دليل على الغفلة، والشيطان يضحك إذا فتح الإنسان فاه كالبهيمة، فيسره أي وضع سيئ يكون عليه ابن آدم؛ لتحقيق العداوة؛ لأنه عدو الله.
وقد يكون التشبيك من هذا القبيل؛ لأنه يشغل الإنسان عن استغلال يديه، وفيهما قوته ونشاطه، فإذا شبكهما فالتصقتا لم يستطع إمساك ملابسه، ولا إمساك ما سقط منه، فيكون مشغولًا بذلك، فيضحك الشيطان منه كضحكه في تثاؤبه.
وقد يكون لأن ذلك من باب العبث، والعبث مختلف في حكمه على قولين: القول الأول: التحريم، أن العبث حرام، وأصل هذا أن الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع اختلف الأصوليون في حكمها، هل هي على الجواز أو على التحريم؟ فذهب بعض الأصوليين إلى أنها على التحريم؛ لأنها ملك الغير، ولم يأذن فيه، فكل فعل ليس فيه منفعة خاصة للإنسان، ولم يرد أمر به ولا نهي عنه فيكون أصله على التحريم؛ لأن البدن ملك لله جل جلاله، ولم يأمرك بأن تفعل هذا الفعل، ولا أذن لك فيه، لا في عموم، ولا في خصوص، فيكون هذا الفعل تعديا ً على المالك في ملكه، والتعدي على المالك في ملكه باستغلالٍ، هو من باب التعدي الذي يضمن صاحبه، فيكون الإنسان حينئذ معتديًا في التصرف، وذهب جمهور الأصوليين إلى الجواز في ما لا ضرر فيه، فقالوا: تعلق الحكم إنما هو من جهة الضرر لا من جهة عدم النفع، فقد يكون الشيء ليس نافعًا ولا ضارًّا، فيرجع إلى أصل الإباحة، وهذا البحث تجدون تعميقه فيما يتعلق بأقسام الخطاب التكليفي، مثلًا: هل الإباحة حكم أم لا؟ فجمهور الأصوليين على أن الإباحة قسم من أقسام الخطاب الخمسة، فيرون أنها خطاب تكليف، والتكليف اختلف فيه ما هو؟ فذهب بعضهم إلى أنه إلزام ما فيه كلفة والإباحة، ليس فيها إلزام، والندب ليس فيه إلزام، والكراهة ليس فيها إلزام؛ فيختص التكليف حينئذ بالوجوب والتحريم فقط، فيكون أقسام الخطاب التكليفي تقتصر على الوجوب والتحريم؛ لأنهما اللذان فيهما إلزام.
القول الثاني في تعريف التكليف أنه: طلب ما فيه كلفة، وعلى هذا فالطلب يشمل طلب الفعل وطلب الترك، وكل واحد منهما يشمل ما كان على جهة الجزم وما كان بغير جهة الجزم؛ ولذلك يقول الأصوليون: الأمر والنهي كلاهما يرد بقيد شيء، وبقيد لا شيء، ولا بقيد لا شيء، فيرد الأمر والنهي بقيد شيء؛ أي: بقيد الجزم فهما: الواجب، والمحرم، ويرد الأمر والنهي بقيد لا شيء؛ أي: بقيد عدم الجزم، وهما: المندوب، والمكروه، ويرد الأمر والنهي لا بقيد شيء؛ أي: مع السكوت عن الجزم وعدمه، وهذا الذي يسميه الأصوليون بالأمر المطلق والنهي المطلق كما تقرءون: الأمر المطلق هل يدل على التكرار؟ الأمر المطلق هل يدل على الفورية؟ إلى آخر ذلك من مباحث الأمر، فهذا الأمر المطلق معناه الذي لا بقيد شيء، لا بقيد الجزم ولا بقيد عدمه، وكذلك النهي المطلق أيضًا هو الذي لم يرد بقيد الجزم ولا بقيد عدمه.
وعمومًا إذا كان التكليف هو طلب ما فيه كلفة فمعناه أن الصبي مكلف؛ لأنه مأمور بالواجبات على سبيل الندب، ومنهي عن المحرمات على سبيل الكراهة، ومن المعلوم أن الصبي ضد المكلف، فالمكلف هو البالغ، والصبي غير مكلف، فإذًا على التعريفين إشكالان، سواء عرفنا التكليف بأنه طلب ما فيه كلفة، أو إلزام ما فيه كلفة، فلا بد أن يبقى الاعتراض واردًا عليه، فعلى الأول على أنه إلزام ما فيه كلفة يسقط المندوب والمكروه والمباح، وعلى الثاني يكون الصبي مكلفًا؛ لأنه مأمور بالمندوبات، ومنهي عن المحرمات على وجه الندب والكراهة.
وعمومًا وجه إدخال الإباحة في الخطاب التكليفي عند الجمهور أن المباح يوزن بميزانين: الميزان الأول ميزان الشرع، فتعرف أن الشرع أباحه إما بالسكوت عنه، وإما بالإذن فيه، والإذن قد يأتي مرادفًا للأمر، ولكن ذلك ليس هو الغالب، وليس هو الأصل، فمثلًا قول الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ[النور:36]، فالإذن هنا بمعنى الأمر؛ أي: أمر الله أن ترفع، وليس ذلك جائزًا فقط؛ ولذلك فإن قول الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ[القدر:1-4]، فسّرها المفسرون جميعًا بأن بِإِذْنِ رَبِّهِمْ[القدر:4]؛ أي: بأمره؛ لقول الله تعالى في سورة مريم: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا[مريم:64]، فالملائكة لا يتنزلون أبدًا إلا بأمر الله لهم، لأنه قال: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ[مريم:64]، وهذا أسلوب حاصل جمع النفي والإثبات؛ لأن النفي جاء بما النافية، ثم جاء بعدها الإثبات بـ(إلا) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ[مريم:64]، فدل هذا على أن قوله: تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ[القدر:4]؛ أي: بأمره، فإذا جاء الميزان الأول، ووجدنا أن الفعل أو العين مأذون فيها حينئذ نزنها بالميزان الثاني، وهو: ميزان المصلحة، فما كان منها يصلح للإنسان من المباحات فإن استعماله على وجه المصلحة، كصيانة بدنه، أو حفظ قواه، أو سد الباب عن الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء يكون من باب الطاعة والعبادة، وهذا هو الذي يسمى باستحلال الحلال كما في الحديث: (أرأيت إن تركت المحرمات، وأديت المكتوبات، واستحللت الحلال، وتركت الحرام، ثم لم أزد على ذلك شيئًا، أأدخلُ الجنة؟)، (استحللت الحلال) جعلها مما يثاب عليه، ومعنى استحلال الحلال هنا؛ أي: فعله معتقدًا حليته كما قال النووي: معنى استحلال الحلال: فعله معتقدًا حليته، وجعل ذلك راجعًا للاعتقاد ليربطه بالثواب، فإن فعل الحلال المجرد- الذي هو مأذون فيه إن شاء الإنسان فعله، وإن شاء تركه، لا يرتبط به في الأصل ثواب ولا عقاب؛ ولذلك في تعريف الجويني للمأمور به أمرًا جازمًا أو غير جازم، قال في تعريف الواجب، قال: ما يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، وفي تعريف المندوب قال: ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، فهذا يدل على أن الثواب على الفعل والعقاب على الترك يختص بالمأمور به، والمباح مستوي الطرفين، ليس مأمورًا به، فإذا فعله الإنسان من باب الاعتقاد معتقدًا حله فإنه يثاب على ذلك من جهة الاعتقاد، وهذا نظير ما جاء في النيات وإعمالها؛ فإن النية إكسير العمل، ومعنى الإكسير؛ أي: الكيمياء الذي يحول الشيء عن حقيقته إلى حقيقة أخرى، إكسير العمل والإكسير معناه: الكيمياء، والكيمياء عند الأولين ليست هي الكيمياء الحديثة، الكيمياء عند الأولين: ما يحول حقائق الأشياء، فهي من علوم الشر، وهي علم يستعمل فيه الزئبق، فيوضع على الحجر فيصيره ذهبًا مثلًا، وفيها كثير من اللبس والتخليط؛ ولذلك جاء فيها: (من طلب الغنى بالكيمياء أفلس!) وكان الناس يضربون بها المثل، فمثلًا يقول أحدهم:
مدح ابن يحيى الكيمياء الأعظم
لو لم يكن في الأرض إلا درهم ومدحته لأتاك ذاك الدرهم
فهذا من باب المبالغة في قضية الكيمياء.
فالأكسير: هو الكيمياء، ومعنى ذلك: ما يقلب الحقائق ويغيرها، فالنية تقلب الحقائق وتغيرها، فيكون الأمر في الأصل مندوبًا، فتحوله النية إلى واجب، أو يكون جائزًا، وتحوله إلى واجب، ونظير ذلك أيضًا في العكس، قد يفعل الإنسان عبادة بنية سيئة فتصير معصية، فإذًا النية هي إكسير العمل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)، فهذا يرجع إلى استغلال النيات وتنميتها كما قال أبو الدرداء: (إني لأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي).
ومن هنا فالذين يرون أن العبث حرام يقصدون به الإهدار للطاقة، واستغلال ما لم يأذن الله في استغلاله من ملكه، وهذا القول بتحريم العبث ذكره المواق في التاج والإكليل في مقدمة كتاب الإيداع من شرحه لمختصر خليل.
والفقهاء الذين لا يرون التحريم يذكرون أن العبث مكروه في الصلاة، فيعدون من مكروهات الصلاة (وهو عبث بلحية أو غيرها)، فعبث الإنسان بنظاراته أو بخاتمه أو بلحيته، بالشيء الذي ليس فيه فعل كثير مكروه، فإذا كان الفعل كثيرًا بالعبث أبطل عند الذين يرون الإبطال بالفعل الكثير في الصلاة، والحنفية يرون أن ضابط الكثرة: ما زاد على الثلاثة، إذا كان الفعل ثلاثة أفعال فصاعدًا فهو مبطل، ولم يرد في ذلك نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ذكر أبو عمر بن عبد البر أن الضابط فيما يتعلق بالأفعال في الصلاة يرجع إلى الاستحسان، فمن المعلوم أن الله طلب منا الخشوع في الصلاة والحضور فيها وإتقانها، وكل ذلك داخل في إقامتها، فإذا كانت إقامتها لا تتصور مع الاشتغال عنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الصلاة لشغلًا)، فدل ذلك على أن الفعل الذي يمنع من صفاء البال لها منهي عنه، ويبقى هذا مشككًا باعتبار الأشخاص، فمن الأشخاص من يكون الفعل اليسير شاغلًا لذهنيته لضيق باعه، ومنهم من لا يكون الحال كذلك في حقه، ويحمل على هذا قول عمر رضي الله عنه: (إني أجهز جيشي في الصلاة) ومعنى ذلك: التفكير في وجه تجهيزه، وقيل: معناه أنه يهتم بذلك فيدعو الله أن ييسر له تجهيزه في الصلاة، وهو موقن بالإجابة، فيكون كأنما جهزه في الصلاة؛ لأنه سأل الله ذلك في صلاته موقنًا بالإجابة.
أما الاشتغال بالتفكير في أمر دنيوي أو أمر أخروي في الصلاة فليس قطعًا موافقًا للحضور فيها والخشوع؛ لأن الإنسان إذا ذكر أمرًا في الصلاة من أمر الدنيا أو من أمر الآخرة سينشغل به عن الصلاة، وبذلك يغيب عنها، وقد ذكرنا قول العلامة محمد مولود رحمة الله عليه.
وخَنزب وخِنزب وخُنزب اسم لشيطان الصلاة ينسب
من أرباه مثلث وترين تذكيره أمرًا من الدارين
عند دخولك الصلاة تشتغل به فلا تصلحه ولا تصل
(خنزب) هو شيطان الصلاة، وهو بتثليث الوترين؛ أي: الحرف الأول والحرف الثالث، الحرف الأول الخاء والحرف الثالث الزاي فيهما التثليث معًا، فإذًا اللغات تسعة حاصل ضرب ثلاث في ثلاثة: خنزَب وخِنزب وخُنزب وكلها منوعة بالضرب فثلاثة ضرب ثلاثة تسعة.
و(خنزب) من أرباه؛ أي: من دواهيه، والأربى بمعنى: الداهية، والأربى مثلث الوترين تذكيره المصلي، (تذكيره أمرًا من الدارين) سواء كان من أمر الآخرة أو من أمر الدنيا، (عند دخولك الصلاة تشتغل به فلا تصلحه ولا تصل) فيذكرك مثلًا بتمتع أهل الجنة بما هم فيه من الجنان، وهم في شغل فاكهون، فتتفكر فيما هنالك فتنشغل عن صلاتك، أو يذكرك بعذاب أهل النار وما هم فيه من الهوان والمذلة فتنشغل بذلك عن صلاتك، أو بشيء من أمر الدنيا.
فعمومًا ما كان من العبث ليس فعلًا كثيرًا فهو مكروه في الصلاة، وما كان فعلًا كثيرًا فهو محرم لا لذاته بل لشغله عن الصلاة.
وضابط العبث الذي يبطل الصلاة ما كان فعلًا كثيرًا، وما كان غير كثير لا يبطلها، الكثير عند الحنفية ثلاثة، مثلًا إذا حك ثلاث مرات، أو عمل هكذا ثلاث مرات، فهذا المبطل عندهم، والحك مؤلف من جرتين، فإذا فعل الإنسان هكذا فليست حكة حتى يفعل هكذا، فالحك إذًا بجرتين فإذا فعل ذلك ثلاثًا عند الحنفية هذا ضابط الكثرة، ما زاد عليها مبطل.
وهذا الذي اخترناه، أنه يختلف باعتبار حال المصلي نفسه، إذا عرف أن هذا يشوش عليه، فهذا الشيء الذي يشوش عليه ويشغله شغلًا كاملًا عن الصلاة، فيغيب ويتذكر هل كان يقرأ الفاتحة، أو كان يقرأ السورة، أو هل كان قائمًا قبل الركوع، أو بعد الركوع هذا الذي يؤدي إلى البطلان.
وقد ذكر المالكية ضابطًا لهذا: وهو أن ما أخال الإعراض عن الصلاة فهو المبطل؛ أي: الذي إذا رآه الإنسان خال؛ أي: ظن الإعراض عن الصلاة والخروج منها، فهذا المبطل، وما لا يخيل الإعراض عن الصلاة لا يبطل، إذا رأيت إنسانًا يعد نقوده في الصلاة، يدخل يده في جيبه ويعد نقوده، فإنك ستظن أنه قد خرج من الصلاة، أليس كذلك؟ فهذا القدر مبطل، لكن إذا رأيته أدخل يده لإغلاق الجوال مثلًا ونحو ذلك، أو تقدم للباب ففتحه، فهذا لا يخيل الإعراض عن الصلاة، ومحل الإخالة ما يرجع إلى أعراف الناس، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم صافح في الصلاة عبد الله بن مسعود، ونحن اليوم لو رأينا شخصًا يصافح في الصلاة لأخال هذا الإعراض عن الصلاة عندنا؛ فالمرجع في ذلك إلى الأعراف، والنبي صلى الله عليه وسلم تقدم ففتح الباب، لكن الأبواب في زمانهم ليس لها الرتاج الذي لدينا اليوم وفتحها لا يكون بمجاهدة وصعوبة.
وعمومًا اختلف أهل العلم في حكم التشبيك في الصلاة، فاتفقوا تقريبًا على أن التشبيك خارج المسجد في غير الصلاة؛ أي: لمن لا يقصد الصلاة، من ليس في طريقه إلى الصلاة، وقد خرج من المسجد، وليس هذا التشبيك للعبث- أنه جائز، وما كان للعبث يدخل في الخلاف الذي ذكرناه، وما كان لمصلحة للإنسان كرياضة أصابعه أو تليينها أو نحو ذلك ففيه فائدة للإنسان، فيكون خارجًا من ذلك على وجه الجواز، ومثل ذلك ما إذا كان في المسجد وقد خرج من الصلاة، فالجمهور على الجواز إذا لم يكن ينتظر صلاة أخرى، فإن كان قد خرج من صلاة العصر وهو ينتظر صلاة المغرب في المسجد فلا يشبك بعدها، وسنذكر دليل ذلك وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فشبك بين أصابعه)، وذلك أنه يظن أنه قد خرج من الصلاة، وإن كان قد بقي منها ركعتان إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عند فعله ذلك يعتقد أنه قد أكمل صلاته، فدل ذلك على أن من خرج من الصلاة وهو لا يريد انتظار الصلاة ليس في صلاة، فيجوز له نظير هذا، وبالأخص إذا كان خرج من مصلاه الذي صلى فيه.
وذهب الحنابلة والشافعية إلى كراهة التشبيك لقاصد الصلاة، ولو كان في طريقه إلى المسجد، ولمن هو في المسجد ينتظر الصلاة، ولمن ينتظر الصلاة بعد الصلاة أيضًا؛ لأن حديث كعب بن عجرة الذي أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم فيه النهي عن ذلك حتى في طريقه إلى المسجد: (إذا توضأ أحدكم فخرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه)، ولكن حديث كعب بن عجرة فيه ذكر اليدين، وليس فيه ذكر الأصابع، والأحاديث التي فيها فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها تشبيك الأصابع، لكن اليدان ليس لهما وجه للتشبيك إلا الأصابع؛ لأن جعل إحدى اليدين هكذا مع الأخرى لا يعد تشبيكًا في عرف الناس وفي كلامهم، مع أنه داخل في التشبيك في اللغة، فالتشبيك في اللغة: الاشتباك والاختلاط مطلقًا، ولذلك يقال: اشتبك الجيش الفلاني مع الجيش الفلاني معناه: اختلطوا على وجه المعركة، ويقال: تشابك فلان مع فلان، فكل ذلك يدخل في الاشتباك، لكن حملوا الحديث على أنه فيمن هو في صلاة؛ أي: في أثناء الصلاة، أو في قصدها، أو في انتظارها.
وذهب المالكية إلى أن التشبيك مكروه في أثناء الصلاة؛ لأن لها هيئات مخصوصة، وكل ما خالف تلك الهيئات- ولو كان غير منهي عنه لذاته- فهو مكروه، فمثلًا رفع الإنسان يديه في الصلاة بالدعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فيكون مكروهًا، ومثل ذلك ليُّهما وراء ظهره، ومثل ذلك وضعهما على رأسه، فكل هيئة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ففعلها مكروه؛ لأنها ستكون مسقطة لهيئة مخالفة، والهيئة التي ضدها هي المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولم تفعل هيئة إلا تركت في مقابلها هيئة أخرى، فإذا كانت الهيئة المتروكة هي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والهيئة المفعولة هي التي لم ترد فيكون هذا مخالفة بذلك.
والمالكية يرون أن التشبيك في غير الصلاة كتشبيك قاصد الصلاة الذي هو في الطريق، الذي دل عليه حديث كعب بن عجرة يرون أنه غير مكروه لأمرين: الأمر الأول: أنهم يضعِّفون حديث كعب بن عجرة، وقد ذكرنا تضعيف ابن بطال وابن حجر له، وإن كان الحاكم وابن حبان صححاه، الأمر الثاني: أن في حديث كعب بن عجرة ذكر تشبيك اليدين، وليس فيه تشبيك الأصابع، فيعتبر المقصود بذلك ما كان ملهيًا للإنسان عن العمل، أو مظهرًا له في هيئة معينة كهيئة الخشوع الكاذب، وهو الذي يسمى خشوع النفاق، أن يتخشع الإنسان وهو غافل لاه، فهذا بمثابة الرياء، وهو منهي عنه، وإن كان الأمر جاء بالتباكي في دخول ديار الكفار: (لا تدخلوا ديار المغضوب عليهم إلا باكين أو متباكين)، وجاء الأمر بالتباكي أيضًا عند قراءة القرآن، ونحو ذلك جاء في خواتيم سورة آل عمران: (نزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأهن ولم يتدبر فيهن)، فحمل ذلك بعض أهل العلم على إدخاله، إذا كان الإنسان لا يجد ذلك في نفسه فليتباكى، إما أن يبكي وإما أن يتباكى، فإذًا يحمل التباكي على أنه استدعاء للبكاء وتشاغل به؛ لأنه سبب لإحداثه، ويحمل الخشوع الكاذب الذي هو خشوع النفاق على أنه ليس فيه استدعاء للخشوع، فإذًا هذا الفرق بين الأمرين، الخشوع الكاذب ليس فيه استدعاء للخشوع، بل هو رياء، والتباكي فيه استدعاء للخشوع والبكاء، فيكون وسيلة له.
وبعد نهاية الصلاة مذهب الجمهور: أن التشبيك- ولو كان في المسجد- لا حرج فيه، وهو في غير المسجد أحل منه في المسجد، لكنه خلاف الأولى؛ لأنه على الأقل ورد عدد من الأحاديث- ولو كانت ضعيفة- وورد عدد من الآثار كقيام ابن عمر إلى الرجل الذي كان يشبك يديه في الصلاة ففصلهما ابن عمر، وورد عدد من الآثار في مثل هذا عن السلف، فيكون على الأقل خلاف الأولى في غير الصلاة في المسجد، ويكون في غير المسجد على الجواز إذا انتفع به الإنسان فله أن يفعله، وإن لم ينتفع به فلا يفعله.
والفرق بين خلاف الأولى والمكروه: أن المكروه ما دل نص على النهي عنه على غير جهة الجزم، وخلاف الأولى ما لم يرد نص بخصوصه بالنهي عنه، ولكن جاء الأمر بمقابله، فمثلًا جاء الأمر بالخشوع في الصلاة..
فالذي ينشغل بالوسواس في الصلاة، هذا قطعًا اتبع خطوات الشيطان؛ لأن الوسواس مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتلاهي عنه، وبين أنه من عمل الشيطان، كما في حديث عثمان بن أبي العاصي في صحيح مسلم، والتشاغل به مخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذا أمر بالتلاهي عنه، فعلى الإنسان ألا ينشغل بالوساوس التي يلقيها الشيطان؛ ولذلك ما كان منها يتعلق بالطهارة عليه أن يلغيه مطلقًا: (إن الشيطان يفسو بين أليتي أحدكم وهو في صلاته، فمن وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)، فمن باب أولى ما كان من الوساوس الأخرى، لعل الإنسان أن ينشغل عن ذلك كله، ونحن نشاهد بعض الموسوسين في الصلاة، تجده يدخل إصبعه في فمه، ويأخذ ريقه ويمسح ويتحرك، وكل ذلك من عبث الشيطان به.
فإذا جاء الأمر مثلًا بأمر ما مثل الخشوع في الصلاة، جاء الأمر عامًا بأمر ما، فما يخالفه لم يأت نهي عنه بذاته لكنه خلاف الأولى؛ لأن الأولى هو فعل المأمور به وإتمامه.
قال: عن أبي موسى رضي الله عنه، أبو موسى هو: عبد الله بن قيس الأشعري، وقد أسلم في العام السابع من الهجرة- كما ذكرنا سابقًا- وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وفد الأشعريين، جاءوا مهاجرين من اليمن، والنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بخيبر، فلما رجع إلى المدينة أقطعهم بطحان- وهو واد بين قضاء والمدينة- فنزلوا فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبهم ويزورهم، وبيَّن الثناء على بعض أخلاقهم: (كانوا إذا أرملوا جمعوا أزوادهم في ثوب فاقتسموه بإناء، فهم مني، وأنا منهم).
وأبو موسى رضي الله عنه حفظ القرآن في السنوات الثلاث التي مكثها مع النبي صلى الله عليه وسلم، قد أدرك من عمر النبي صلى الله عليه وسلم من الصحبة ثلاث سنوات، حفظ فيها القرآن، وكان من فقهاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الصوت بالقرآن، وكان كثير القراءة في المسجد، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (أوتي مزمارًا من مزامير آل داود)، وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا، وشبك أصابعه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين أخوة المؤمنين فيما بينهم وتعاونهم على الخير، وأن ذلك التعاون هو قوة لهم وبقاء لمكانتهم، بحيث لو انفصل لحصل الخلل والضعف في بناء دولتهم، فقد جعل المؤمن للمؤمن كالبنيان، والبنيان إذا سقط جدار من جدرانه أسرع السقوط إلى الجدران الأخرى، وإذا حصل الخلل فيه فكان في الجدار نتوءات أو ضمور؛ فإن ذلك مدعاة للسقوط، فقال: (كالبنيان يشد بعضه بعضًا).
وهذا التمثيل للمؤمن مع أخيه المؤمن بالبنيان يدل على أن أخوة الإسلام هي آكد الأخوات وأعظمها، وأن حق المؤمن على المؤمن عظيم؛ ولذلك عليه أن ينظر إليه بما ينظر به إلى نفسه، فما هو إلا بمثابة نفسه، وقد جاءت النصوص بذلك في قول الله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا[النور:12]، بأنفسهم؛ أي: بإخوانهم، بالمؤمنين والمؤمنات، فالمقصود في الآية الظن بأم المؤمنين عائشة وبصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوان بن المعطل، لكن جعلهم الله (أنفسنا) قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ[النور:12]؛ أي: بالمؤمنين والمؤمنات خيرًا، وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ[النور:12]؛ فلذلك المؤمن للمؤمن ما هو إلا بمثابة نفسه، فيسره ما يسره، ويسوءه ما يسوءه، ويسعى لنفعه في الدنيا والآخرة بما يستطيع: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: (إن المؤمن للمؤمن)، والمؤمن هنا المقصود به كامل الإيمان، وإلا فقد يكون المؤمن مؤمنًا ولكنه لا يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، أو بينه وبينهم عداوة أو شحناء أو بغضاء فيكون ناقص الإيمان بذلك؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأعمال ترفع إلى الله تعالى في يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل مؤمن ومؤمنة إلا مشركًا ومشاحنًا)، وفي الحديث الآخر: (فيقال: أرجوا هذين حتى يصطلحا)، وفي رواية: (أخروا هذين حتى يفيئا)؛ أي: حتى يرجعا إلى صوابهما ويصطلحا فيما بينهما، فعملهما لا يرفع إلى الله، اللذان بينهما شحناء من المؤمنين، لا يرفع عملهما إلى الله حتى يصطلحا أو يفيئا، فيؤمر بإرجاء عملهما وتأخيره حتى يصطلحا، وهذا يدل على التحذير البالغ من الشحناء والبغضاء بين المؤمنين، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم الحالقة وقال: (لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)، فهي تحلق الدين وتزيله؛ لأنها من طاعة إبليس وقرة عينه، فهو الذي يحب التفرقة بين المؤمنين.
ويتدرج ذلك ويتفاوت، فالتفرق بين الولد ووالده وبين الزوج وزوجه وبين الجار وجيرانه أعظم وأشد؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لإبليس عرشًا على البحر..)، أو: (على الماء، وإنه يرسل جنوده بالليل، فيأتي أحدهم فيقول: ما زلت به حتى قتل، فيقول: ما فعلت شيئًا، لعله يتوب فيتوب الله عليه، فيأتي آخر فيقول: ما زلت به حتى زنى، فيقول: ما فعلت شيئًا، لعله يتوب فيتوب الله عليه، فيأتيه آخر فيقول: ما زلت به حتى شرب الخمر، فيقول: ما فعلت شيئًا، لعله يتوب فيتوب الله عليه، فيأتيه آخر فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه ويقبله ويقول: أنت ابني)، فيقربه لأنه فعل ما يقر عيني إبليس، وهو حصول التفرقة، فأطمع شيء لإبليس في الناس حصول التفرقة بينهم؛ لأنه إذا حصلت الشحناء أدت أولًا إلى الاعتداء والظلم، وهذا معصية، ثم تؤدي بعد ذلك إلى استباحة الأموال والأعراض والدماء، فيقع ما في ذلك من الكبائر، ثم كثيرًا ما تؤدي إلى الشرك باستحلال ما حرم الله، وهذا أقصى ما يطلبه إبليس من ابن آدم أن يكفر بالله، فكل ذلك تؤدي إليه الشحناء والبغضاء؛ فلذلك قال: (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا)؛ أي: يقويه، (وشبك أصابعه)، هذا وجه الاستدلال من الحديث هو وقوله: (وشبك أصابعه) وفي الرواية الأخرى: (وشبك بين أصابعه)؛ أي: شبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، وذلك أن البنيان القوي هو المتشابك المتداخل الذي لا تبقى فيه فرجة كتشبيك الأصابع، فإن الأصابع إذا تشابكت لم يبق بينها فرجة، ولم يخرج الماء من بينها؛ لشدة التصاق بعضها ببعض، وهذا المطلوب في المؤمنين، وهو المطلوب في البنيان أن يقع الالتصاق الكامل والتعاون التام بحيث لا تبقى للشيطان فرجة يدخل منها.
والتشبيك هنا فعله رسول صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على إباحته في غير المسجد؛ لأنه لم يرد قيد كون ذلك في المسجد، وهذا موافق للجزء الأخير من الترجمة حيث قال: (باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) فحديث أبي موسى يدل على تشبيك الأصابع في غيره؛ أي: في غير المسجد.
وتشبيك الأصابع هنا لحاجة وهي الشرح والبيان والإيضاح؛ لأن كثيرًا من الأمور المعنوية لا يتعقلها الإنسان ولا يفهمها إلا إذا نقلت إلى أمور حسية؛ فالعلاقة القلبية بين المؤمن والمؤمن إنما تتعقل إذا ضرب لها المثل بالأمر الحسي، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ[الصف:4]، وكذلك رص الصفوف، وليس المقصود به أن يؤذي بعض الناس بعضًا، وأن يطأ على قدمه، أو أن يضايقه مضايقة شديدة حتى لا يستطيع أداء سنن الصلاة وهيئاتها كما يفعله بعض الناس، فليس ذلك مطلوبًا، بل المقصود هنا الأمر المعنوي الذي هو الاتصال والالتصاق، فكذلك لا بد أن يمس بعض المصلي في الصف بعضًا؛ أي: يمس المصلي من يليه، لكن ليس المس بالضرورة الشديدة، وليس بالضرورة لكل الأعضاء، فمن المعلوم أن القائمين في الصف ليسا على قامة واحدة، وليسا على عرض واحدة، فلا يمكن أن يلصق الطويل منكبه بمنكب القصير، ولا يمكن أن يلصق ساقه بساقه، فالمقصود بالمنكب؛ أي: أن يكون مناظرًا له مساويًا له، وكذلك الساق بالساق؛ أي: أن تكون الساق مساويةً للساق، وليس المقصود إلصاق الساق بالساق كما يتعمده بعضهم؛ لأنه لو كان كذلك لكان معناه كشف الملابس بين الساقين حتى تلتصق الساق بالساق، وكشف الملابس بين المنكبين حتى يلتصق المنكب بالمنكب، ولم يقل هذا أحد، ولم يره عاقل، فدل ذلك على أن المقصود التناظر والتساوي، ولا شك أن القرب مطلوب؛ لأنه قال: (حتى لا تبقى للشيطان فرجة)، فلا يترك فرجة للشيطان، لكن الفرج الضرورية مثل ما بين ساقي الإنسان القائم، الإنسان القائم في الصف بين رجليه فرجة ضرورية لا بد منها، وإلصاقه لرجليه هو المكروه، وهو الذي يمثله الفقهاء بالمكبل؛ أي: الذي قد وضع الكبل في رجليه؛ فلذلك ما كان من الفرج مثل ما بين رجلي القائم نفسه، فالشيء اليسير من ذلك مغتفر، وبالأخص إذا كان لباسه يمس لباس جاره، أو بعض بدنه يمس بعض بدن جاره، فهذا المطلوب في الصف.
وللحديث فوائد كثيرة فيما يتعلق بالأخوة الإسلامية، وحقوق المسلمين، والتعاضد، والتعاون بينهم، وكذلك على ما يقابل ذلك، فما نشهده اليوم من التقاطع والتناحر بين المسلمين، وإسلام بعضهم بعضًا، وخذلان بعضهم لبعض هو مناف لحقوق هذه الأخوة الإسلامية، التي لم يشرع أي حكم في الشرع إلا وقد نظر إلى الأخوة فيه، فهي من المقاصد العامة الشرعية، ينظر إليها في التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فهذا الرباط القوي الذي يربط المؤمنين جميعًا، وينظر إليها في الصلاة: (لتسون بين صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، وينظر إليها في الزكاة، فهي تحمل لأعباء الفقراء وتكافل اجتماعي بين المسلمين، وينظر إليها في الصوم؛ ليذوق الأغنياء حرارة الحرمان، فتلين قلوبهم على الفقراء المحرومين، وينظر إليها في الحج الذي يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها حتى يتعرف بعضهم على بعض ويعرف حاله، وينظر إليها في الجهاد: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ[الصف:4]، وينظر إليها فيما سوى ذلك حتى من المحرمات، لماذا حرمت السرقة؟ ينظر إليها في المحرمات؛ فكثير من المحرمات، إنما حرمت من أجل التقاطع، وقد ذكر الله بعض أسباب القطيعة وحرمها، فذكر ثلاثة عشر سببًا من أسباب القطيعة في سورة الحجرات وحرمها جميعًا، وسورة الحجرات هي النظام الاجتماعي الرابط للمسلمين، فكل سبب من أسباب البغضاء والشحناء بين المسلمين من الأسباب العامة الكبرى حرم في هذه السورة، وهي ثلاثة عشر سببًا، أولها:
سوء الأدب وتعدي الصلاحيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ[الحجرات:1-2].. إلى آخر الآيات.
ثم بعدها عدم التثبت في نقل الأخبار وتلقيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).
وبعد ذلك الاعتداء والظلم: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ[الحجرات:9].
وبعد ذلك السخرية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ[الحجرات:11].
وبعد ذلك: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ[الحجرات:11]، اللمز والغمز.
ثم بعد ذلك التنابز بالألقاب: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات:11].
ثم بعد ذلك ظن السوء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[الحجرات:12].
ثم بعد ذلك التجسس: وَلا تَجَسَّسُوا[الحجرات:12].
ثم الغيبة: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ[الحجرات:12].
ثم بعد ذلك التفاخر بالأنساب: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].
ثم بعد ذلك ادعاء الإنسان ما ليس له: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[الحجرات:14].
ثم بعد ذلك: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ[الحجرات:15-16]، المن والإعجاب بالنفس والعمل هو سبب للعداوة والبغضاء: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[الحجرات:16-17].. إلى آخره، فهذه ثلاثة عشر سببًا من أسباب الشحناء والبغضاء حرمت بالترتيب في هذه السورة فدل ذلك على أن الأخوة الإسلامية منظور إليها في الجانبين: جانب الإيجاب، وجانب النهي.
وهذا الحديث الثاني هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي) قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا، قال: (فصلى بنا ركعتين، ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس، ولم تقصر، قال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه، ثم سلم فيقول: نبئت أن عمران بن حصين..)، قال: (ثم سلم)، وهذا الحديث هو من أحاديث السهو في الصلاة، وقد ورد في السهو في الصلاة- بمعنى الجنس- خمس سنن، أربع منها سنن فعلية، وسنة واحدة قولية، فالسنن الفعلية أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين وهو هذا الحديث، وأنه قام لخامسة سبحوا به فرجع، وأنه قام عن التشهد الأول، وبعد أن انتظروا سلامه سجد ولم يرجع إليه، وأنه جهر بالآية والآيتين سهوًا فلم يسجد لذلك ولم يعد، فهذه السنن الفعلية أربع، أما السنة القولية فهي قوله: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أم أربعًا)، وهذه السنة جاء فيها ألفاظ، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
فهذه السنن الخمس التي هي الأربع الفعلية والواحدة القولية هي مدار هذا الباب؛ أي: مدار السهو في الصلاة، ومن أعظم هذه السنن وأكثرها فوائد هذا الحديث الذي بين أيدينا، وهي قصة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي، والعشي يبدأ من الزوال، والمقصود بهما الظهر والعصر، وهذه هي رواية الجمهور؛ أي: الرواية الصحيحة هي: (إحدى صلاتي العشي)، وفي بعض روايات صحيح البخاري: (إحدى صلاتي العشاء)، بدل العشي.
أي: المغرب أو العشاء، ولكن هذه الرواية متروكة فهي قطعًا غلط؛ لأن الحديث كان في النهار قطعًا، وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح رجلان هما: أبو هريرة، وعمران بن الحصين، وكلاهما ذكر أنها كانت إما الظهر وإما العصر، وفي هذا اللفظ هنا يقول محمد بن سيرين- وهو الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال: (سماها أبو هريرة)؛ أي: سمى أنها الظهر أو العصر، (ولكن نسيت أنا) ومحمد بن سيرين رحمة الله عليه كان من أشد التابعين تورعًا في الحديث، فكان إذا شك في أي لفظ لم يحدث به؛ ولذلك أتاه آت فقال: (رأيت ثلاث حمائم، ابتلعت إحداهن لؤلؤة فأخرجتها كما هي، وابتلعتها الأخرى فأخرجتها أصغر مما كانت عليه، وابتلعتها الأخرى فأخرجتها أكبر مما كانت عليه، قال: أما حمائمك الثلاث: فأنا، وقتادة، والحسن بن أبي الحسن، فروينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما قتادة فحفظه كما هو وحدث به كما سمعه..) قتادة كان شديد الحفظ، وكان أعمى أكمه، لم يشق بصره، فكان شديد الحفظ يحدث به كما سمعه، (وأما التي أخرجتها أكبر مما كانت فـالحسن)، وكان فقيهًا بارع الفهم، فيستنبط من النصوص فيزيد علمًا، (وأما التي أخرجتها أصغر مما كانت فأنا)، فقد كان يتورع عن الحديث بكل ما شك فيه من ألفاظه؛ ولذلك شك هنا في أي الصلاتين كانت، مع أنه سمع أبا هريرة عينها، ولكن لم يتأكد من ذلك؛ فلهذا ترك التحديث به، (سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا) ومن ورعه أنه بين أن أبا هريرة سماها، وأن الشك منه هو، وليس من الصحابي.
قال: (فصلى بنا ركعتين)؛ أي: صلى بالناس- وهو إمام- ركعتين (ثم سلم) وهذا في الحضر في المدينة، في المسجد النبوي، (ثم سلم)؛ أي: بعد التشهد الأول، (فقام إلى خشبة) معناه: بعد سلامه قام من محرابه إلى خشبة معروضة في المسجد؛ أي: كانت معروضة على الأرض أمام الصف، وكأنها يراد بها إصلاح شيء من المسجد، فلا توضع في المسجد إلا لقصد ذلك، (فاتكأ عليها)؛ أي: اعتمد عليها، والاتكاء معناه: الارتفاق؛ أي: الاعتماد والاستناد، وهو أصله من (توكأ)؛ أي: اعتمد: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا[طه:18]، ويقال: (توكأ) و(توكل) و(تركل) وكلها بمعنى، ومنه قول الشاعر:
ربت وربا في كرمها ابن مدينة يظل على مسحاته يتوكل
وفي البيت أيضًا:
(يظل على مسحاته يتركل)؛ أي: يعتمد، في المزرعة (ربت)؛ أي: هذه المزرعة، (وربا في كرمها) هو شجر العنب، (ابن مدينة)؛ أي: ابن أمة، والمدينة: الأمة، (يظل على مسحاته يتركل) أي، يعتمد عليها فيها.
(فاتكأ عليها كأنه غضبان) وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في سرعة خروجه من مكان صلاته، وفي اتكائه على هذه الخشبة، وفي الهيئة التي فعل (كأنه غضبان)؛ أي: كأنه أسف على أمر ما فغضب، ودليل ذلك الهيئة التي فعلها، فقد شبّك أصابعه، ووضع خده على ظهر يده اليسرى هكذا، هذه الصورة يفعلها الآسف على أمر ما، أو الغضبان المتأثر، وهو لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب؛ لأنه كان في الصلاة، ولم يدر هل أعلم بشيء أو أخبر به عن طريق الوحي من شأن أصحابه أو غير ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُطْلَع على بعض أعمال أصحابه، وكان ينهى بعضهم على أن ينقل إليه شيئًا من عملهم، وبيَّن أنه يحب أن يأتيهم وهو صافي البال، ليس في خاطره عليهم شيء؛ فلذلك نهى أن ينقل إليه شيء مما يكدر خاطره في خطابهم؛ وذلك أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو حريص عليهم، محب لكل ما ينفعهم، فشرح قوله: (كأنه غضبان) بقوله: (ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه)؛ أي: أدخلها فيها، (ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى)؛ أي: هكذا، (وخرجت السرعان)؛ أي: السرعان: الناس الذين يخرجون قبل أن يسبحوا التسبيح ما بعد الصلاة، أو الذين يسرعون في ذلك، أو كان هذا قبل مشروعية التسبيح، والتسبيح الذي بعد الصلاة هو الأمر على ألا يخرج الإنسان من مصلاه حتى يفعله كان في الأصل لحكمة، وهي أن الفقراء شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إخوانهم من الأغنياء الذين يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم؛ فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما إذا فعلوه أدركوا من سبقهم، ولم يسبقهم أحد، وهو أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ويحمدوا ثلاثًا وثلاثين، ويكبروا ثلاثًا وثلاثين، وفي رواية: أربعًا وثلاثين، وفي رواية: ويجعلوا تمام المائة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وقد جاءت فيه حكمة أخرى، وهي شغل الرجال في مصلاهم حتى يخرج النساء؛ لئلا يقع الاختلاط أو النظر، فالنساء يصلين في آخر المسجد، والمسجد أبوابه متفقة؛ فلذلك كان يأمر الرجال ألا ينصرفوا حتى ينصرف النساء، ويأمر النساء ألا يرفعن أبصارهن حتى يجلس الرجال؛ لئلا ينكشف شيء من عورات الرجال، ولم تكن الملابس إذ ذاك بوفرتها وكثرتها، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الورع في ذلك فبين: (إن خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وإن خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)، فمن كانت في آخر الصف من النساء لا ينكشف عليها شيء من الرجال، ولا تكون عرضة لهذا الاختلاط أو النظر، بخلاف من كانت في الصف الأول من النساء، فهي أقرب إلى الرجال، ولم يكن الفارق بين الصفوف كثيرًا، فقد كان النساء في المسجد إذا نابهن شيء صفقن، فسمع الإمام تصفيقهن، وقد أمرن بذلك: (إنما التصفيح للنساء)، التصفيح: هو التصفيق.
(خرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا)؛ أي: قال السرعان للناس (قصرت الصلاة) كأنه طرأ تغيير أو نسخ فقصرت الصلاة، فأصبحت صلاة الظهر في الحضر أو صلاة العصر في الحضر ركعتين، (وفي القوم)؛ أي: المصلين الذين لم يخرجوا؛ أي: غير السرعان، أبو بكر وعمر، (فهابا أن يكلماه) هاب أبو بكر وعمر (أن يكلماه)؛ أي: أن يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جزمهما أن الصلاة لم تكمل بعد، (وفي القوم رجل في يديه طول)، في القوم؛ أي: الذين بقوا في المسجد، (رجل في يديه طول) وذلك في الخلقة، يقال له: ذو اليدين؛ أي: كان يلقب ذا اليدين لطولهما، كما صرح بذلك في الرواية الأخرى (كان يلقب ذا اليدين لطولهما)، وهذا دليل أن ما كان من الخلقة ليس عيبًا فلا حرج في تسمية الإنسان به أو تلقيبه به، فما كان يكرهه الإنسان من ذلك لا يجوز تلقيبه به؛ ولذلك فإن مسلماً البطين- وهو من رجال الصحيحين- كان يعرف بالبطين، وكان يكره ذلك، فكان شعبة إذا حدث عنه يقول: حدثنا مسلم، ويمد يديه هكذا، لا يقول: البطين، ويمد يديه؛ لكراهته لهذا اللقب، وإذا كان اللقب معناه سيئًا، لكن لم يكن مكروهًا لدى صاحبه فلا حرج من تلقيبه به؛ ولذلك كثر في كتب الحديث تلقيب عارم وهو: محمد بن الفضل، وهو شيخ البخاري، تلقيبه بـ(عارم) و(عارم) معناه: المفسد، وهو محمد بن الفضل ليس مفسدًا، رجل صالح، وهو شيخ البخاري في الصحيح، قد روى عنه كثيرًا، والبخاري يقول في الصحيح: حدثنا عارم، أو حدثنا محمد بن الفضل عارم، و(عارم) معناه: المفسد، ومثل ذلك غندر؛ فإن هذا اللقب أيضًا لقب سيئ، مع أن كل المحدثين يطلقونه على هذا الإمام الجليل، وكذلك بعض النسبة التي يكرهها أصحابها كابن علية فكان يكره هذه النسبة، ومع ذلك أطبق المحدثون على ذكرها؛ لأنه لا يعرف إلا بها، ومثل ذلك جزرة، فقد غلط في القراءة فقال: جزرة بدل خرزة فلقب بهذه الكلمة التي أخطأ فيها، ولم يكره هذا اللقب، وكان المحدثون يطلقونه عليه دائمًا.
(يقال له ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟) تجاسر فتكلم فقال: يا رسول الله، أنسيت؟ أي: سهوت، أم قصرت الصلاة؛ أي: بنسخ من عند الله، قال: (لم أنس، ولم تقصر)، هذا اللفظ المذكور هنا، وفي رواية: (كل ذلك لم يقع)؛ أي: لم يقع النسيان، ولم يقع النسخ، فقال: قد كان بعض ذلك؛ أي: قطعًا كان أحدهما، إما أن تكون أنت نسيت فسلمت من اثنتين، وإما أن تكون الصلاة قد نسخت، ولم ترد تلك الرواية هنا، فظاهر الرواية هنا أن ذا اليدين سكت بعد ذلك لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لم أنس، ولم تقصر)، (فقال)؛ أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكما يقول ذو اليدين؟)؛ أي: سأل أصحابه: هل صحيح ما يقوله ذو اليدين؟ فقال: (أكما يقول؟)؛ أي: تقولون كما يقول ذو اليدين؛ أي: أتصدقونه؟ وفي الرواية الأخرى: (أصدقتم ذا اليدين؟ قالوا: نعم)، وهذا حوار، وكان كله بداخل الصلاة، فهو يدل على أن الكلام في الصلاة بإصلاحها وإقناع الإمام إذا لم يقتنع الإمام، أو لم يفهم إلا بالكلام جائز، ولا يبطل الصلاة، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تقييد ذلك بأن يكون الكلام يسيرًا، قالوا: إنما يغتفر في الصلاة الكلام اليسير لإصلاحها.
إذًا أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر