بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد وصلنا إلى قول البخاري رحمه الله تعالى: باب: يرد المصلي من مر بين يديه.
عقد البخاري رحمه الله تعالى هذا الباب لدرء المصلي كل من أراد أن يمر بين يديه، سواء كان عاقلًا، أو غير عاقل، فيرد الإنسان إذا أراد أن يمر بين يديه، ويرد البهيمة إذا أرادت أن تمر بين يديه، وهذا الرد يتم بما يقتضي تفهيمًا أولًا، فإذا كانت الإشارة الخفيفة مفهمة لذلك اقتصر عليها واكتفى، فإن لم تكف فلا بد أن يمد يديه ليمنع المرور، فإن لم يكف ذلك، فلا بد أن يتقدم إلى سترته، وهكذا، فكل هذه الأمور هي درء له، وتعتبر في نطاق الفعل اليسير الذي لا يبطل الصلاة، فقد ذكرنا في حديث ابن عمر تقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجدار، وفي حديث ابن مسعود فتحه للباب.
كذلك ما ذكر في مصافحته صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر بدرئه ما استطاع، والدرء معناه: الرد، فعليه أن يرده، ومعنى قوله: (يرد المصلي)؛ أي: ليرد المصلي، فهو فعل مضارع، ولكنه في معنى الأمر، وقد يرد الفعل المضارع بمعنى الأمر، كقول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، ومعنى الآية: ليرضع الوالدات أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة.
والمقصود بـ(المصلي) هنا: ما يشمل من هو في فرض، ومن هو في نفل، ولكنه يختص- كما سبق- بالإمام والفذ؛ لأن المأموم سترته سترة الإمام، أو الإمام نفسه سترته، وقد سبق: باب: سترة الإمام سترة لمن خلفه.
وكذلك المقصود بقوله: (من مر بين يديه)؛ أي: من أراد المرور، فلا يقصد من قد مر بالفعل أن يناوشه بعد أن تجاوزه، هذا غير مطلوب، فالمقصود: أن يدرأ من يريد المرور بين يديه، فـ(مر) هنا- وإن كانت فعلًا ماضيًا- فهي أيضًا بمعنى المضارع، بمعنى الاستقبال، معناه: من يريد أن يمر بين يديه، وقد يأتي الماضي بمعنى المضارع، كقول الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وذلك أن تحقق وقوعه نزل به منزلة الماضي، كأنه قد مضى، والمقصود بين يديه: ما كان على القرب، كما ذكرنا في المسافة التي يستحقها المصلي من الحريم بين يديه.
فقال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ( أنه كان يصلي في يوم الجمعة إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغًا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان، فشكى إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان )، أبو سعيد الخدري هو: سعد بن مالك بن سنان، وهو وأبوه صحابيان، وقد قتل أبوه شهيدًا يوم أحد، وكان هو من الذين يحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الأحاديث، وقد كان من الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، فكان يغير المنكرات، ومنها منكرات السلاطين من بني أمية في ذلك الوقت، وقد كان هذا الفعل الذي حصل منه في أيام مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أميرًا على المدينة لـمعاوية رضي الله عنه، أو لابنه يزيد.
(عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه كان يصلي في يوم جمعة إلى شيء)، (أنه)؛ أي: أن أبا سعيد، وقد لا يكون هذا مرويًا من قوله، ولكنه نسب إليه؛ لأنه من فعله، فليس المعنى أن أبا سعيد حدث أنه كان يصلي، ولكن المعنى أن هذا الفعل ثبت عنه بالرواية، والرواية: تشمل ما أثر، سواء كان من أقوال، أو أفعال، أو تقريرات، (أنه كان يصلي في يوم جمعة)، وظاهر السياق أن ذلك كان نافلة، (إلى شيء يستره)؛ أي: إلى سترة، وهذا معنى (يستره من الناس)؛ أي: يمنعهم المرور بين يديه، ولم يحدد لنا ذلك الشيء، لكن سبق أن السترة تحصل بثلثي ذراع، وما زاد على ذلك، كالعنزة أو كالرمح أو كالعصا أو كالأُسطوانة أو كالسرير أو نحو ذلك، فكله يستر الإنسان، (يستره من الناس)، وإنما فهمنا أن ذلك كان في نافلة؛ لأنه لو كان هذا في صلاة جمعة مثلًا، لكان أبو سعيد مأمومًا، ولم يكن إمامًا، والجمعة لا يصليها فذ، فتعين حينئذ أن يكون مأمومًا؛ وعليه فسترة الإمام سترة لمن خلفه.
(فأراد شاب من بني أبي معيط)، بنو أبي معيط: هم ذرية ذكوان، وقد كان عبدًا لـأمية بن عبد شمس، فلما عمي أمية كان يقوده، فتبناه، واستلحقه، فنسبوا إليه، (فنسب ذكوان إلى أمية)، وذريته في الأصل ليسوا من ذرية أمية، ولكنهم اختلطوا ببني أمية، واختلطت خئولاتهم، وقد أسر عقبة بن أبي معيط يوم بدر، وكان من أشد المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسرى من بدر حتى بلغ الأثيل أمر علياً فقتله هو والنضر بن الحارث صبرًا، وله ذرية في بني أمية، ومنهم ابنه الوليد، وهو معدود في الصحابة، وكان عقبة بن أبي معيط خلف على أروى بنت كريز بعد موت زوجها عفان- وهو والد عثمان- وقد قتل في الجاهلية في تجارة له هو وعوف بن عبد عوف، وهو والد عبد الرحمن بن عوف، كانا في تجارة لهما فقتلا، وكان عبد الرحمن شابًّا، وكان ذهب ليطلب الماء، فوجد الأعداء قد قتلوا عفان وعوفاً، وأسروا عثمان، فاستخلص منهم عثمان وقتلهم، وخلف عقبة بن أبي معيط على أروى بنت كريز- وهي أم عثمان بن عفان- وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لهم خئولة مهمة في قريش، وبالأخص في بني أمية، وفي بني هاشم.
(فأراد شاب من بني أبي معيط)؛ أي: من هذه الأسرة، وقد كان لهم مكانة في دولة بني أمية؛ لقربهم النسبي بالسلاطين، والتصاقهم بهم، (أن يجتاز بين يديه)؛ أي: أن يمر بين يدي أبي سعيد؛ أي: بينه وبين سترته، (فدفع أبو سعيد في صدره)؛ أي: دفع بيده في صدره، كأنه ضربه في الصدر ليرجع، (فنظر الشاب)؛ أي: انتظر ساعة، فلم يجد مساغًا، والمساغ: المكان الذي يخرج منه ولو كان ضيقًا، ومن ذلك قول الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى مساغًا لناباه الشجاع لصمما
(مساغًا)؛ أي: منفذًا.
(فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغًا إلا بين يديه)؛ أي: هذه الفرجة التي بين يدي أبي سعيد، (فعاد ليجتاز)؛ أي: جاء ليمر مرة أخرى، (فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى)؛ أي: دفعة أشد من الأولى، (فنال من أبي سعيد)؛ أي: تكلم في أبي سعيد، (ثم دخل على مروان)؛ أي: دخل هذا الشاب على مروان، ومن أدب أهل الحديث أنهم لا يسمون من حصل منه سوء أدب، فالشاب إنما ذكرت نسبته لآل أبي معيط لتفهم من ذلك أن أبا سعيد لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنه لا يبالي في القيام بالسنة من كان من بيت الإمارة، ومن ليس كذلك، لكن لم يذكر لنا اسم هذا الشاب؛ لئلا يكون ذلك قدحًا فيه؛ لأنه أساء الأدب فتكلم في صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد المرور بين يديه.
(ثم دخل)؛ أي: هذا الشاب، (على مروان)؛ أي: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وهو أمير المدينة إذ ذاك، (فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد)؛ أي: شكا إليه أن أبا سعيد دفع في صدره مرتين، (ودخل أبو سعيد خلفه)؛ أي: جاء على أثره على مروان؛ أي: دخل على مروان بعده مباشرة خلفه، (فقال)؛ أي: (قال مروان لـأبي سعيد: ما لك ولابن أخيك؟)؛ أي: ما الشيء الذي حصل بينك وبين ابن أخيك حتى تضربه في صدره مرتين؟ (يا أبا سعيد)، وهذا يدل على تأدب مروان مع أبي سعيد، فإنه خاطبه بكنيته، وسأله عن حجته، وذلك أن الأمير إذا اشتكى إليه أي أحد من الناس فلا بد أن ينصفه، ولو كان يشتكي من ذي فضل ومنزلة، إذا كان ما اشتكاه يمكن أن يقع، فإذا اشتكى خسة مثلًا على شريف، كما إذا ادعى عليه السرقة أو الغصب أو نحو ذلك، فإن المدعي يؤدب، ولا ينظر إلى قوله، وهو من الدعاوي التي يصرف عنها القاضي النظر؛ كدعوى الخسة على شريف، ودعوى الغصب أو السرقة على صالح، فإنه يؤدب المدعي، ولا يستمع إلى الدعوى، لكن بما أن الضرب ليس من الخسة، والدفع ليس من الخسة، فيمكن أن يقع من أبي سعيد؛ فلذلك سأله مروان عنه، فقال: ( ما لك ولابن أخيك، يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان )، وهنا أجاب أبو سعيد بدليله، وذلك أن الحكم الشرعي من حيث هو مؤلف من قضيتين: قضية كبرى وهي الدليل؛ أي: ما جاء به الوحي، فهذا لا بد أن يستسلم له الجميع، ولا يمكن في الأصل أن يكون محل خلاف إلا إذا اختلف في ثبوته، أو اختلف في دلالته.
أما القضية الثانية، فهي القضية الواقعية الجزئية، وهي الصغرى، وهي من جزئيات الدليل؛ أي: مما يدل عليه الدليل، فالقضية الصغرى دائمًا يحصل فيها الخلاف، فمن صلى إلى هذه الجهة فإنك تقول: هذه الصلاة باطلة؛ لقول الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فالقضية الصغرى أن هذه الصلاة باطلة، وهذه قابلة للنقاش والاختلاف، والقضية الكبرى أن كل صلاة إلى غير القبلة باطلة، وهذا محل اتفاق؛ لأنه حسمه النص، وكثير من الناس لا يميز بين القضية الكبرى والقضية الصغرى، فتلتبس عليه، فإذا أنكر إنسان القضية الصغرى، ظن أنه يناقش في الكبرى، فادعى عليه أنه يطعن في الدليل، أو أنه يستنكف عن قول الله ورسوله، وهذا غلط كبير جدًّا، ومناف للأسلوب العلمي، فإذا حصل الخلاف في القضية الصغرى فلا داعي لنقله إلى القضية الكبرى، القضية الكبرى ستكون محل اتفاق، لكن هل هذا فعل من جزئيات هذا الدليل وداخل فيه، أو ليس جزءًا منه؛ وهذا قابل للنقاش، وقابل لأن نختلف فيه، فـأبو سعيد هنا لم يقل له: إنه أراد أن يمر بين يدي فدرأته، بل استدل بالقضية الكبرى مباشرة، فذكر الدليل، وهو قوله: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه )، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هنا أطلق، فقال: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس)؛ أي: إلى سترته، (فأراد أحد أن يجتاز بين يديه)؛ أي: أن يمر بين يديه، (فليدفعه)، وقضية هذا الشاب داخلة هنا في هذا النص، وأنتم تعرفون أن دلالة النص على مدلوله تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يسمى بتحقيق المناط، والقسم الثاني: ما يسمى بتنقيح المناط، والقسم الثالث: ما يسمى بتخريج المناط.
فالقسم الأول: تحقيق المناط، معناه: أن تحقق أن هذا جزئية من جزئيات هذه القاعدة العامة، أو أن هذا المدلول داخل في دلالة هذا الدليل العام، فمثلًا إذا أراد أحد أن يجتاز بين يديه، (فأراد أحد أن يجتاز بين يديه)، فهذا يشمل هذه القضية بذاتها؛ لأن هذا الشاب أراد أن يجتاز بين يدي أبي سعيد، وأبو سعيد يصلي، وبين يديه شيء يستره من الناس، فإذًا تحقق المناط في قضية أبي سعيد، وتحقيق المناط دائمًا هو: إثبات كون هذا الفرع من فروع هذه القاعدة؛ أي: داخل في هذه القاعدة، أو إثبات كون هذا المدلول داخلًا في هذا الدليل، فالدليل يمكن أن يكون أعم من المدلول، ويمكن أن يكون مساويًا له، لكن لا يمكن أن يكون أخص منه؛ لأنه إذا كان الدليل أخص من المدلول، فإنه دليل على ما يتضمنه، وليس دليلًا على ما كان أكبر وأوسع مما يتضمنه؛ فلذلك كان هذا من باب تحقيق المناط.
القسم الثاني: تنقيح المناط: وهو إزالة ما لا يصلح للتعليل من الأوصاف، فإذا كان الحكم الشرعي جاء في سياق ذكر فيه عدد من الأوصاف، أو جاءت فيه قصة طويلة وحكاية، ورتب عليها حكم شرعي، فحينئذ نحتاج إلى عملية، هي عملية التنقيح، والتنقيح مثل تنقيح العظم، بإزالة ما عليه من اللحم، وإزالة ما عليه من العصب، كأنك تزيل الأوصاف التي لا تصلح للتعليل، فتطرحها، ويبقى لديك الوصف الصالح للتعليل، مثل حديث سلمة بن صخر الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: ( يا رسول الله، هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة )، فالحكم الشرعي هنا: هو كفارة هذا الرجل أنه تجب عليه الكفارة، والحكم قطعًا ليس مختصًا بـسلمة هذا، بل هو متعد إلى ما سواه، فمن الذي ينطبق عليه هذا الحكم حتى نجعله مناطًا للدليل؟ كيف نطبق هذا الحكم على غير سلمة؟ أما دلالة الحديث (دلالة الوحي) هنا على سلمة فهي قطعية؛ لأنه المأمور الأول، ودلالته على من سواه تحتاج إلى اجتهاد، وهذا الاجتهاد هو الاجتهاد في تنقيح المناط فنحذف الأوصاف التي لا تصلح للتعليل، فنقول: كونه جاء متأثرًا يضرب صدره، وينتف شعره لا أثر لها في الحكم، فالمستنكف المستكبر يقام عليه الحكم كما يقام على المنكسر المتعظ، فإذًا لا فرق، فهذا الوصف وصف طردي لا يصلح للتعليل، فنلغيه.
الوصف الثاني: في بعض الروايات أنه أعرابي، ولا فرق في الأحكام الشرعية بين الأعرابي والحضري، فكل مكلف من عند الله سبحانه وتعالى بأحكامه، فإذًا هذا الوصف نلغيه؛ لأنه لا يصلح للتعليل.
ثم قوله: (واقعت أهلي)، لا فرق بين أهله وبين أمته في ذلك، أو لو واقع امرأة أجنبية- عائذًا بالله- سواء كان ذلك على وجه الشبهة، أو على وجه الزنا، فكل ذلك مقتض لفساد الصوم وإبطاله، فإذًا لا فرق بين قوله: واقعت أهلي، ولو قال: واقعت أمتي، أو حصل الوقاع من غيرها، كذلك قوله: (في نهار رمضان)، لا خصوص لذلك اليوم عن سائر أيام الشهر، ولا خصوص لذلك الشهر أيضًا عن سائر الرمضانات كلها طيلة العمر، فإذًا عرفنا أن الحكم هنا يناط بالوقاع في نهار رمضان، فكل من واقع في نهار رمضان فإنه تلزمه الكفارة إذا كان صائمًا، وهذا هو تنقيح المناط بالنقص، فقد نقصنا الأوصاف.
ولدينا نوع آخر من تنقيح المناط يسمى "تنقيح المناط بالزيادة" أن نزيد الأوصاف، نزيد من الأوصاف ما لم يرد حتى يصلح ذلك للتعليل، فمثلًا: القول بأن الكفارة مختصة بالوقاع في نهار رمضان للصائم هذا مذهب الشافعية والحنابلة، لكن لدينا نوع آخر من تنقيح المناط يسمى "تنقيح المناط بالزيادة"، وهو أن يقال: ما الفرق بين الشرب والأكل وبين الوقاع؟ فكل يفسد الصيام إجماعًا، إذا شرب الإنسان عامدًا في نهار رمضان أو أكل فقد فسد صومه قطعًا إجماعًا، كذلك إذا واقع عامدًا، وهو صائم في نهار رمضان، فقد فسد صومه إجماعًا، فما الفرق إذًا بين الوقاع وبين الأكل والشرب إذا تعمد ذلك الصائم؟
نقول: لا فرق، فيكون هذا من باب تنقيح المناط بالزيادة؛ لأنا زدنا وصفًا لم يذكر في الحديث، وهو الأكل والشرب، وأردنا أن نلحق الحكم، أن نجعل مناط الحكم هو الاعتداء على حرمة الصوم بما هو مفطر، فكل المفطرات إذا تعمدها الإنسان في نهار رمضان فإنه يلحق بها هذا الحكم الذي هو الكفارة، وهذا مذهب المالكية والحنفية مثلًا، ويقصد به: تعميم الحكم بأكثر مما جاء به في الأصل، لكن بقياس عدم الفرق فيه؛ لأنه لا فارق.
أما القسم الثالث فهو: تخريج المناط، هو: أن يأتي حكم غير مرتبط بوصف، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على السارق مثلًا وقطع يده، وقال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، وجاء إقامة الحد على شارب الخمر، وجلده ثمانين جلدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أردنا أن نعرف المناط؛ أي: كيف تعلق هذا الحكم، أين يعلق هذا الحكم لنقيس عليه، فلن نقول: إنما يختص هذا الحكم بالذين جلدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الذين قطعهم فقط، بل لا فرق بينهم وبين سواهم من المكلفين الذين اعتدوا على حرمات الله، بل قد يكون الذين أقام عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد أصلح وأتقى لله من الذين يأتون بعدهم من الفجار من غير الصحابة، فإذًا ماذا يكون مناط الحكم؟
سيكون مناط الحكم حينئذ مستنبطًا استنباطًا فنستنبطه، فنقول: إن جلد شارب الخمر منوط بأنه سعى للسكر الذي هو تغطية للعقل الذي به شرف على سائر الحيوانات، فشرب أي مسكر سواء كان خمرًا، كان مما تسميه العرب خمرًا أو ليس كذلك يلزم به الجلد ثمانين جلدة، أي إنسان شرب مسكرًا، حتى لو لم يكن ذلك موجودًا في العهد النبوي، قد كان المسكر في العهد النبوي يصنع من ستة أشياء، لو صنع اليوم، حضر تحضيرًا كيميائيًّا، وكان مسكرًا، ولم يكن معهودًا في العهد النبوي، فشربه إنسان فسكر به، فإنه يجلد كما يجلد من شرب الخمر ولا فرق، فهذا يسمى (تخريج المناط)، ومثل ذلك السرقة، وجدنا أن المناط هو: أخذ المال المعصوم من حرزه من غير شبهة فيه خفية، فإذا كان الإنسان يأخذ المال علانية بالمجاهرة، فهذا غصب، وليس سرقة، فلا يقطع فيه، وإذا كان أخذه من غير حرز، وجده في الطريق فأخذه، فإنه لا يقطع، وإذا كان له فيه شبهة، كالوالد إذا أخذ من مال ولده، أو الزوجة إذا سرقت من مال زوجها، أو نحو ذلك، فهذا له فيه شبهة فلا يقطع، (لا قطع فيه)، وهكذا، فهذا هو تخريج المناط.
والحديث- كما رأيتم- هو من باب تحقيق المناط لا تنقيحه ولا تخريجه؛ فلذلك قال: ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه )، والإرادة إنما تعرف حينئذ من الفعل؛ لأن الإرادة أمر خفي، وهو يرجع إلى عقل الإنسان، فقد يريد الإنسان المرور بين يديك، ولكنه يعدل عن ذلك وهو لم يفعله قبل أن تشعر أنت بذلك، لكن إذا رأيته يقدم، وليس له مساغ إلا هذا الذي بين يديك وهو يتقدم، فأنت تعلم أنه يريد ذلك، فتنبهه في البداية لعله لا يراك، والتنبيه يكون خفيفًا بالإشارة، فإذا لم يردعه ذلك، فلا بد أن تمد يدك لتقطع عليه مثلًا الطريق؛ فإن لم يردعه ذلك، فلا بد من دفعه.
وهنا يمكن أن يقال: لماذا لم ينبه أبو سعيد الخدري هذا الفتى مجرد تنبيه؟ أليس التدرج مطلوبًا في الأحكام، وبالأخص في تغيير المنكر، وفي الأمر بالمعروف، يلزم أن يكون متدرجًا، وألا يأتي الإنسان بآخر ما لديه من قوة في أول درجة من درجات النهي؟ والجواب عن ذلك: أن أبا سعيد تدرج، فإنه دفع في صدره في المرة الأولى، ولكنه للمرة الثانية كان الدفع أشد، فكانت الدفعة الثانية أشد من الأولى، وإنما ردعه بالدفع؛ لأنه رأى من جسارته أنه يقصد ذلك، فهو يراه، وأيضًا فإن حال هذا الشاب- وهو من بيت ملك ونحوه- أنه يتوقع منه الجسارة على مثل هذا والجرأة عليه؛ فلذلك دفع أبو سعيد في صدره.
(فإن أبى فليقاتله)، إن أبى معناه: امتنع إلا أن يمر بين يديه، (فليقاتله)، والمقصود بالمقاتلة هنا: الدرء ما استطاع، ولا يقصد بها القتال الذي يؤدي إلى القتل، فالمقاتلة في الأصل (مفاعلة) من القتل، لكن ذلك غير مقصود هنا، لكن إذا دفعه فوقع في حفرة فمات أو انكسر، أو وقع على شجرة فأصابت عينه أو نحو ذلك، فإنه لا يأثم بذلك، ويبقى الخلاف هل تلزم الدية في ذلك أو لا تلزم، فلا قود أصلًا في مثل هذا قطعًا، ولا إثم، ويبقى الخلاف في لزوم الدية أو لا؛ لأنه تصرف تصرفًا جائزًا له، ومثل ذلك فيمن صال عليه صائل، فإنه مطلوب أن يدفعه، واختلف في حكم دفع الصائل، فذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه، وذهب بعضهم إلى إباحته فقط، والصائل هو: الذي يريد نفسك أو مالك أو دينك، يريد الاعتداء عليك، فدفعه أنت مطالب به قطعًا، لكن هل المطالبة على وجه الإيجاب، أو على وجه الندب؟ محل خلاف، وفي ذلك يقول العلامة محمد مولود رحمة الله عليه:
وهل دفاع صائل على حرم أو نفسٍ او مال يجوز أو حُتم
هل هو جائز، أو هو واجب؟ هذا محل خلاف بين الفقهاء.
فإذا أخذنا بظاهر النص هنا، وهو: (فليدرأه ما استطاع) أو (فليدفعه)، فهذه صيغة أمر، والأصل في الأمر أنه يدل على الوجوب، ومن أهل العلم من قال: القرينة أنه قال: (فليقاتله)، ومن المعلوم أنه لا يقصد القتال، فليست الصلاة محل له، والمقاتلة بين المسلمين نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار )، فلا يقصد إذًا القتال بمعنى المقاتلة الحقيقية، وإنما يقصد الدرء، وإذا وصل الدرء إلى حد المصارعة المبطلة للصلاة، فإن هذا مناف لما أريد أصلًا، والتكميل إذا رجع على الأصل بالإبطال كان فاسدًا؛ فلذلك لا يمكن أن يعتبر هذا؛ لأن المقصود هو: الدفاع عن الصلاة، وعدم قطع نورها، وعدم قطع خشوعها، فإذا كانت المصارعة في الصلاة تقتضي قطعًا لخشوعها أو نورها فهي مخالفة للمقصد الأصلي الذي من أجله شرع هذا.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإنما هو شيطان )، هذا من باب الوعيد والتحذير والتنفير، وليس مثبتًا لأن كل من مر بين يدي المصلي فهو شيطان، بل المقصود بذلك: التحذير من هذا الأمر؛ أي: قد اتصف بصفة من صفات الشيطان، ولا يقتضي ذلك شيطانيته بالكامل؛ لأجل أن يكون شيطانًا بذاته.
ومن هنا، فللمصلي والمار أربع صور:
الصورة الأولى: يأثمان فيها معًا، كما إذا كان المصلي متعرضًا، وكان المار يجد مندوحة؛ أي: يجد فرجة يمر بها، ليست بين يدي المصلي، فمر المار بين يدي المصلي متعمدًا، والمصلي متعرض، فهما آثمان، المصلي لأنه تعرض، والمار لأنه مر بين المصلي ويستطيع ألا يمر بين يديه.
الصورة الثانية: لا يأثم فيها واحد منهما، وهي ما إذا كان المار لا يجد مندوحة ولا مساغًا إلا الذي بين يدي المصلي، والمصلي غير متعرض، مستتر بأسطوانة أو صف أو نحو ذلك، كما إذا كنت في الحرم، وكنت لو تأخرت الناس يصلون، ولن تنقطع الصلاة في أية ساعة من ليل أو نهار حتى في أوقات النهي، ولو وقفت تنتظر حتى لا تمر بين يدي أحد مطلقًا يصلي لفاتك كثير من مصالحك، فأنت محتاج للمرور، وإذا كان المار غير متعرض، يصلي وراء صف أو أسطوانة، فليس واحد منكما آثمًا، لا المار آثم؛ لأنه لا يجد مندوحة، ولا المصلي آثم؛ لأنه غير متعرض.
الصورة الثالثة: يأثم فيها المار، ولا يأثم فيها المصلي، إذا كان المصلي غير متعرض، والمار يجد مندوحة يخرج منها، غير التي بين يدي المصلي، فالمصلي غير آثم؛ لأنه فعل ما أمر به فاستتر، والمار آثم؛ لأنه يجد مكانًا آخر يمر منه غير الذي بين يدي المصلي.
والصورة الرابعة: يأثم فيها المصلي، ولا يأثم المار، إذا كان المصلي متعرضًا، والمار لا يجد مندوحة إلا التي بين يديه، جاء فوقف عند الباب وأحرم، المسجد ما له إلا هذا الباب، فأنت ما تجد مكانًا تمر منه إلا الذي بين يديه، وأنت مضطر للخروج لأمر لا بد منه، فالمار غير آثم قطعًا؛ لأنه لا يجد مندوحة يمر بها إلا التي بين يدي المصلي، والمصلي آثم قطعًا؛ لأنه تعرض.
وهذا الحديث يؤخذ منه عدد من الفوائد منها:
لزوم السترة للمصلي إذا خشي مرورًا، وقد اختلف إذا لم يخش مرورًا، فقد قال بعض أهل العلم بوجوب السترة مطلقًا، خشي مرورًا أو لم يخشه، وقال آخرون بسنيتها مطلقًا، خشي مرورًا أو لم يخشه، وقالت طائفة: إنما تشرع السترة في حق من يخشى مرورًا، أما من كان في خلاء من الأرض، أو كان وحده في مسجد لا يخشى مرور أحد بين يديه فلا تشرع له أو لا تطلب منه هذه السترة، إذا جاء إلى مسجد ليس فيه أي أحد، وأراد أن يصلي في وسط المسجد، هو الآن لا يخشى مرورًا، فحينئذ لا تشرع له عند هؤلاء، ولكن الاحتياط أن يفعل دائمًا، وهذا يدل أيضًا على ارتباط القلب والحواس، فعقل الإنسان وقلبه مرتبط بما تنقله إليه حواسه، فالمطلوب في الصلاة- كما ذكرنا من قبل- الخشوع، وخشوعها يذهب بمرور أحد بين يديه، وكذلك بالنظر إليه، واختلف إذا كان الكلام من خلفه مشوشًا عليه، هل يكون كالمرور بين يديه، فإذا ذهبنا إلى تنقيح المناط الذي سبق، فنقحناه بالزيادة، فقلنا: إنما حرم المرور بين يدي المصلي لما في ذلك من التشويش عليه، فالكلام والخصومة بين يديه أو خلفه أو حوله أشد تشويشًا عليه، ويدخل في هذا أيضًا تشغيل الهواتف في المساجد؛ لما فيها من إدخال التشويش على المصلين، فتكون كالمرور بين أيديهم، إذ لا فرق بين المرور بين أيديهم وبين سماع أصوات الهواتف في التشويش عليهم، فكل يحصل به التشويش، فإذا كان سبب تحريم المرور: هو حصول التشويش، فهو حاصل بقضية الهواتف، ويدخل في ذلك أيضًا إحضار الصبي الذي لا يكف إذا نهي، كثير من الناس يحضرون صبيانهم إلى المساجد، فيبكون فيها بكاء مزعجًا، أو يتحركون حركات تدخل على المصلي من الانشغال الشيء الكثير، وتشوش عليه في صلاته، فيكون فاعل ذلك آثمًا إذا أخذنا بتنقيح المناط؛ لأن المرور إنما حرم من أجل حصول التشويش، وهو حاصل على كل.
وقد فصل بعضهم بين ما كان أمام المصلي وما كان خلفه، فقالوا: ما كان أمام المصلي فيمكن أن يلحق بالمرور بين يديه؛ لأن المرور من خلفه غير منهي عنه، فيمنع إذًا بين يديه فقط، فلا تتكلم إذا كنت أمامه حتى لو اقتدى بك، لو كان مستترًا بك، وأنت جالس أمامه، توليه ظهرك فلا تتكلم؛ لأن كلامك مثل مرورك، لكن إذا كنت من خلفه فيجوز أن تتكلم، ولو أدى ذلك إلى تشويش؛ لأن الحرية لا بد أن تقيد، وإلا لكان إطلاقها تقييدًا لحرية الآخرين، إذا كان المصلي سيؤثر على الجميع، مثلًا: أنا أتكلم الآن وفي المسجد شخص واحد يصلي، لكن أنتم كلكم تريدون الدرس، فلا يمكن أن يكون القادم الذي يصلي ركعتين مثلًا أولى من جميع الحاضرين السامعين؛ فلذلك قيدوا الحرية بهذا، وقال أحدهم:
حول المصلي جوز الكلاما وامنعه من خلف ومن أماما
لأنهم يرون أنه من خلفه سيكون بمثابة المؤامرة عليه، وهو لا يرى صاحبه، فيظن أنه شخص يريد الاعتداء عليه أو إحداث شيء به.
وقال بعضهم: بل إنما يجوز التناجي فقط؛ أي: الكلام المنخفض؛ ولذلك يقول أحد الفقهاء أيضًا:
خلف المصلي جوزًا تناجيا وامنع أمام ذلك التناجيا
لأنه إذا كان أمام فسيدخل من التشويش ما يدخله المرور، وكل ذلك داخل في دلالة هذا الحديث.
كذلك يدل الحديث على أن ما كان من حق الله المتمحض، ولو كان في بعض الأحيان يوافق حظًّا للنفوس، فإظهار حق الله فيه أولى من العفو والمسامحة، وهذه المسألة فيها ميزان شرعي، فالإنسان الذي يخالط الناس لا بد أن يجد منهم ما يحوجه إلى الصبر، ولا بد أن يجد ظلمًا منهم، لكنه في بعض الأحيان يشرع له الصفح والصبر، وفي بعض الأحيان تشرع له العقوبة، وميزان ذلك هو بحسب حال المعتدي، وحال المعتدى عليه، فإن كانت نفسك وهواك تدعوك إلى الانتقام، فالأفضل لك الصبر والمسامحة، إذا كان ذلك في حقك المتخصص، وإذا كان المتعدي عليك أيضًا معروفًا بالفساد والطغيان والعدوان فالأفضل أن تعاقبه وألا تسامحه، بل قد قال مالك رحمه الله في حق من عرف بالسرقة أو الغصب: إن العفو عنه مشاركة له في جريمته؛ لأنه تشجيع له على أن يعتدي على الآخرين، فحرمه؛ فلذلك لا بد من النظر إلى هذا الميزان العجيب الذي ذكره الله في سورة الشورى، فقال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، هذه بعضها في الجانب الأول، جانب العفو والمسامحة، وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:37-39]، هذا الجانب الثاني: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، ثم رجعنا إلى الجانب الأول: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40]، ثم رجعنا إلى الجانب الثاني
الجانب الأول: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، وهذا في جانب الصفح والصبر، وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ [الشورى:41]، الجانب الثاني: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:41-42]، ثم رجعنا إلى الجانب الأول: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، فكل كفة يضع فيها وزنًا، ثم يضع في الكفة الثانية وزنًا، ثم يضع في الكفة الأولى وزنًا، ثم يرجع إلى الكفة الثانية.. وهكذا، وإذا راجعتم ذلك وجدتم أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ففي بعض الأحيان يكون الأفضل الصفح والمسامحة، وفي بعضها الأفضل الأخذ والعقوبة بحسب حال المعتدى عليه والمعتدي، وأبو سعيد هنا- كما عرفتم- كان الحق غير متمحض؛ لأنه صلاة، ففيها حق لله سبحانه وتعالى، ولو كان حظ النفس يقتضي من الإنسان دائمًا ألا يحب أن يمر أحد بين يديه وألا يتقدم عليه، لكن يتقدم حق الله على حق العبد؛ فلذلك الأفضل في مثل هذا عدم الصفح.
كذلك يدل الحديث على مشروعية تغيير المنكر من أي وجه صدر، وأنه مطلوب من الإنسان أن يفعله، وأبو سعيد هو الراوي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه )، والمصلي يمكن أن يغير بلسانه بأن يقول: سبحان الله، أو أن يجهر بالقراءة مثلًا، ولكن لعل أبا سعيد هنا لم يتمكن من ذلك، أو لعله فعل فلم يرو، والأصل أن يكون البدء بالقول، ثم يأتي بعده الفعل؛ لأن القول أيسر وأسهل، ثم يأتي بعده الفعل.
ثم قال: باب: إثم المار بين يدي المصلي:
لما بين حرمة المرور بين يدي المصلي، وحرمة تعرضه، وأنه مأمور أن يجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، عقد هذا الباب أيضًا لإثم المار بين يدي المصلي، فالباب الأول: خطاب للمصلي أن يرد من يمر بين يديه، والباب الثاني: خطاب للمار ألا يمر بين يديه، وهكذا الأحكام الشرعية تكون خطابًا للجانبين، تكون خطابًا للمار ألا يمر بين يدي المصلي، ويكون الخطاب أيضًا للمصلي ألا يدعه يمر، حتى يقع التعاون على البر والتقوى.
فقال: عن أبي جهيم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه )، قال الراوي: (لا أدري أقال: أربعين يومًا، أو شهرًا، أو سنة) هذا الحديث فيه تنفير بليغ، وتحذير كبير من المرور بين يدي المصلي، مما يدل على أنه من الكبائر؛ لما فيه من قطع خشوعه ومناجاته لله جل جلاله، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه )؛ أي: من الإثم، ( لكان أن يقف أربعين خيرًا له )؛ أي: لكان لو عرف ذلك لوقف أربعين، وعرف أن ذلك خير له، فإذًا هذا على تقدير محذوف، (فلو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان يعلم أن يقف أربعين خيرًا له)؛ أي: يعلم أن وقوفه أربعين خير له من المرور، (لكان أن يقف أربعين)، والمقصود بالوقوف هنا: انتظار المصلي حتى يسلم، وهذا العدد، وهو لفظ (أربعين) محتمل للمبالغة، كما يقول العرب في إطلاق الأعداد، وبالأخص الأعداد العشرية يطلقونها يقصدون بها المبالغة، وقد حمل عليه قول الله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهمْ [التوبة:80]، حمل ذلك على التكثير، وعلى العدد الكبير، وأنه لا يقصد به هذا العدد بذاته، وبهذا أخذ الحنفية الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة، فيرون أن مفهوم المخالفة لا يعتبر؛ لأن مفهوم العدد من مفهوم المخالفة، وقد يكون هذا العدد مقصودًا؛ فيكون المقصود أن يقف أربعين يومًا، أو أن يقف أربعين شهرًا، أو أن يقف أربعين سنة أو أن يقف ينتظر أربعين مصليًا واحدًا بعد الآخر، فكل هذا محتمل، فإذًا اللفظ النبوي لم يبين لنا تمييز العدد، والعدد في الأصل مبهم يحتاج إلى تمييز، فلفظ (أربعين) مبهم؛ لأنه يمكن أن يعد به الليالي والأيام، ويمكن أن تعد به الشهور، ويمكن أن تعد به السنوات، ويمكن أن يعد به المصلون والأشخاص، فلم يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اللفظ ذلك، أو لم يذكره الراوي عنه فأطلق فقال: (أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه).
وقوف الإنسان أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين سنة، أو وقوفه بانتظار أربعين مصليًا فيه عقوبة للإنسان، وفيه إدخال مشقة عليه، تصوروا هل يستطيع أحد منكم أن يقف أربعين سنة، أو أربعين شهرًا، أو أربعين يومًا؟ لا يمكن أن يقف كذلك، فإذا كان الحال كذلك، وكان هذا شديد المشقة، وفيه عقوبة وتعذيب دنيوي، فمعناه: أن الذي يترتب على المرور أشد منه، وهو التعذيب الأخروي، فدل ذلك على أنه من الكبائر؛ لأن الكبائر هي الذنوب التي توعد عليها بنار أو بعقوبة أخروية، أو رتب عليها حد من حدود الله في الحياة الدنيا، أو أطلق اللعن على صاحبها، هذه هي الكبائر.
(قال الراوي)؛ أي: عن أبي جهيم (لا أدري أقال: أربعين يومًا، أو شهرًا، أو سنة)؛ أي: شك في تمييز العدد، فلم يحفظه.
والحديث يدل على حرمة المرور بين يدي المصلي إلا من ضرورة، كما إذا كان الإنسان مضطرًّا للخروج لحاجة الإنسان، أو لعمل لا بد منه، أو لفوات الرفقة، أو لضياع مال، أو لإنقاذ إنسان، أو نحو ذلك مما يبيح مثل هذا الأمر للضرورة.
ثم قال: باب: الصلاة خلف النائم:
قد سبق بيان ما يكون سترة للإنسان، وذكرنا حديث عائشة من قبل في الصلاة إلى السرير، لكن السرير قد يكون فوقه إنسان كما في حديث عائشة، فيكون نائمًا، والنائم في بعض الأحيان قد يكون له شخير، وقد يصدر منه هذيان، وقد يتحرك يتقلب، فيدخل ذلك تشويشًا على المصلي، فما حكم ذلك؟
قال: (باب: الصلاة خلف النائم)؛ أي: باب جواز ذلك لأن الأصل فيه الجواز، وأن الأصل في النائم عدم ذلك، فالمقصود: جواز ذلك،
فقال: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت )، جاء عن عائشة ذلك بعدة ألفاظ، أوردها البخاري في هذا الكتاب، وفيها أنها تكون معترضة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وهي تارة تكون نائمة، وتارة تستيقظ، وقد سبق في باب الصلاة إلى السرير أنها كانت مستيقظة حين انسلت إلى جهة رجلي السرير، ولم ترد أن تسنحه، وجاء في بعضها: ( أنه كان إذا سجد غمزها، فقبضت رجليها، فإذا قام بسطتهما )، وهذا الحديث فيه: أنها كانت نائمة، قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة )؛ أي: نائمة، ( معترضة على فراشه )؛ أي: بين يديه ( فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت معه )، إذا أراد أن يوتر؛ أي: في آخر صلاته، (أيقظني فأوترت معه).
والحديث يدل على عدد من الأحكام والفوائد منها:
جواز أن يصلي الإنسان خلف النائم، إذا أمن منه التشويش، بأن كان النور غير معمل، وبأن كان النائم لا يشوش ولا يهذي، وكذلك جواز أن تكون المرأة بين يديه، وقد سبق ذلك، ومثل ذلك أيضًا جواز النوم في قبلة المصلي، فـعائشة كانت تتعمد النوم في هذا المكان، ومن المعلوم أن السرير كان في قبلة الحجرة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جهتها وهي نائمة.
وكذلك في الحديث دلالة على أن غمز المرأة لتقبض رجليها لا ينقض الوضوء، ولا يبطل الصلاة، سواء كان من فوق حائل، أو بدون حائل؛ لأنها لم تبين لنا ذلك، فبينت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يسجد غمزها، والشافعية يرون أن ملامسة المرأة إذا كانت مثلًا غير محرم كالزوجة أو الأجنبية، أن ذلك ينقض الوضوء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، ولكن هذا الحديث حجة عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغمز عائشة، والمالكية يرون أن لمس المرأة إذا كان يلتذ به صاحبه عادة فهو ناقض، سواء وجد اللذة أو لم يجدها أو قصدها أو لم يقصدها، فذلك فيه صور؛ لأنه إما أن يكون اللمس للجسد مباشرة أو بحائل، وسواء كان يقصد لذة أو لا يقصدها، وسواء كان وجدها أو لم يجدها، فهو ناقض لديهم على كل حال إذا كان يلتذ به صاحبه عادة، ولو لظفر أو شعر أو حائل، ويشيرون بـ(لو) إلى خلاف داخل المذهب كما نص عليه خليل.
وهذا الحديث حجة على الجميع، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغمز عائشة وهو في الصلاة، فلا ينقض ذلك وضوءه ولا صلاته، لكن قد يجاب عن هذا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه ما لا يملك أحد من الناس إربه كما في حديث عائشة؛ ولذلك كان يقبل وهو صائم، فيدل ذلك على أنه يجوز له من هذا الأمر ما لا يجوز لغيره؛ لأن المرجع فيه إلى العادة- كما ذكرنا- لأنه لمس يلتذ صاحبه به عادة، والنبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه ما لا يملك أحدنا إربه.
وأيضًا في الحديث إيقاظ الرجل امرأته لتصلي معه، وقد ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رحم الله امرأ قام من الليل ليصلي، فأيقظ امرأته لتصلي معه، فإن هي نامت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي، فأيقظت زوجها ليصلي معها، فإن هو نام نضحت في وجهه من الماء )، فهذا من التعاون على البر والتقوى، وهو يدل على أن إيقاظ النائم للقرب مشروع إلا إذا خشي منه غضب، فالنائم إيقاظه للقرب إذا كانت القرب غير واجبة كالوتر مثلًا مشروع فيندب، وهو من التعاون على البر والتقوى إلا إذا خشي منه غضب؛ لأنه قد رفع عنه القلم ما دام نائمًا، وهو بخلاف تنبيه الغافل، فتنبيه الغافل واجب، وإيقاظ النائم لا يجب، والفرق بينهما: أن الغافل لم يرفع عنه القلم بخلاف النائم؛ فالنائم القلم مرفوع عنه، والغافل لم يرفع عنه القلم لغفلته؛ ولذلك قال العلامة محمد مولود:
إيقاظ نائم لإدراك القرب إلا إذا خشي منه الغضب
ذكر ندبه فقط.
أما الغافل، فيقول:
تنبيه غافل لما لو انتبه لزمه من الأمور الواجبه
كذلك في الحديث تأكيد الوتر، وأنه آكد النوافل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ عائشة لتوتر معه، وكذلك فيه مشروعية الجماعة في النافلة؛ لأنها توتر معه فتصلي به، وقد ثبت عن عدد من الصحابة أنهم صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل كـعبد الله بن العباس، وكـعبد الله بن مسعود، وكـحذيفة بن اليمان، وكـيعلى بن أمية، فكل هؤلاء قد صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل في غير رمضان، وقد صلى معه الناس في رمضان في الليالي الثلاث، كما في حديث أبي ذر وغيره.
ثم قال: باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة:
عقد هذا الباب لحمل الجارية- وهي البنت الصغيرة، ومثلها: الطفل أيضًا في الصلاة- على عنقه أو على عاتقه، أو حملها أيضًا إلى جنبه، كل ذلك من الحمل، وعلاقة هذا الباب بأبواب المساجد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في المسجد، وهو يدل على جواز إدخال الصبيان للمساجد إذا كانوا لا يعبثون، أو كانوا يكفون إذا نهوا، أو استطاع الإنسان أن يمسكهم ويمنعهم من التصرف، فيجوز إدخال الصبيان في المساجد لذلك، والحديث الذي فيه: ( جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم )، ضعيف، لا يصلح للاحتجاج.
وقد ثبت إدخال النبي صلى الله عليه وسلم لعدد من الصبيان المسجد، فكانت أمامة بنت أبي العاص تركبه هي والحسين بن علي رضي الله عنهم، وكانا صغيرين.
فقال: عن أبي قتادة رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي لـأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها )، هذا فعل من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من رحمته، وقد وصفه الله بهذه الرحمة في كتابه، وبين أنها من عنده، أن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي منحة من الله منحها للمؤمنين، فقال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
ومن رحمته عنايته بأولاده، وبالأخص الصغار منهم، ورحمته بهم؛ ولذلك كان يرحم هذه الجارية من بناته، وهي ابنة بنته، وهي: أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وأبوها أبو العاص ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم كما عرفتم في نسبه، وأمه هالة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أيضًا، وهي أخت خديجة بنت خويلد، وقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وهي أكبر بناته بمكة، وقد بقي هو على شركه، فأسر وهو في عير له، قيل: أسره أبو جندل، وأبو بصير على الساحل بعد غزوة الحديبية، وقيل: أسر مرتين، فأسر أولًا في بدر في أسرى بدر، وأسر الأسرة الثانية في أسر أبي جندل وأبي بصير له، ولعل هذا القول أرجح؛ لأنه لما أسر في المرة الأولى في غزوة بدر أرسلت زينب -وهي بمكة- بعقد لها كانت خديجة أعطتها إياه، أرسلت في فداء أسيرها، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم على الناس، قال: ( إن شئتم رددتم عليها عقدها، وفككتم لها أسيرها )، ففعلوا، فأخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد أن يردها إليه، وأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بها، فأرسل إليها زيد بن حارثة وآخر، ولما خرجت مهاجرة كانت حاملًا، فنخس بها هبار بعيرها، فوقعت على حجر، فمات جنينها، وقد قيل: استمر بها المرض بعد ذلك من تلك النخسة، ولكن الذي يبدو أن ذلك غير صحيح، فلا يمكن أن يكون هذا في العام الأول من الهجرة بعد غزوة بدر، وتستمر مريضة طيلة حياتها، وقد ماتت قطعًا بعد الحديبية؛ لأن أبا العاص إنما أسر بعد الحديبية، بعد صلح الحديبية لما أسره أبو جندل وأبو بصير، وقد جيء به حينئذ، وأسلم في ذلك الوقت، وردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالعقد الأول، كما قال ابن عباس، وقيل: بعقد جديد، ولكن لم يثبت ذلك، وعلى هذا تكون قد ردت عليه بعد انتهاء عدتها بمدة طويلة.
وقد كان أسره للمرة الثانية في العام السابع من الهجرة، وكان أسره للمرة الأولى في العام الأول من الهجرة، وجاءت زينب مهاجرة في ذلك العام، والفقهاء جمهورهم يرون أن الزوجين الكافرين إذا أسلم أحدهما فإنهما يفرق بينهما حتى إذا أسلم الآخر في العدة فإنه يرجع إليه بالعقد الأول، إذا أسلمت الزوجة أولًا فإنه يفصل بينها وبين زوجها، فإذا أسلم وهي في عدته فهو أولى بها، فترجع إليه بعقدهما الذي كان، واختلف في عقود الكفار، هل هي معتبرة، أو غير معتبرة؟ فذهب مالك رحمه الله إلى أن عقودهم باطلة، ولكنها يترتب عليها الحكم، فيثبت بها النسب، ويقرون عليها بعد الإسلام تأليفًا لهم، وذهب الجمهور إلى أن عقودهم على الصحة؛ لأنهم هكذا كانوا يفعلون، وكان من ملة إبراهيم عندهم عقد النكاح، فكانوا يعقدون عقود الأنكحة؛ فلذلك يرون إقرارهم على هذا، وإذا كان هذا في المشركين الذين يأخذون بملة إبراهيم، فنظير ذلك أيضًا غيرهم، كمن أسلم من أهل الكتاب، فيقرون على أنكحتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر من أسلموا منهم على أنكحتهم، وأيضًا أثبت النسب بذلك، وقد ثبت في الصحيح: ( أنه أثبت نسب صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها إلى هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام )، وقد كان ذلك بأنكحة اليهود، فدل ذلك على صحتها؛ لأنه رتب عليها ثبوت النسب.
وإذا كان الإنسان من المسلمين، ولكنه من بيئة جاهلة فاسقة، كما كان الحال في بعض البلدان في أوروبا الشرقية تحت حكم الشيوعية، فإنهم كانوا لا يعقدون عقد النكاح بصيغة، وإنما يحصل بينهم التراضي، فيعقدون عزيمة ووليمة فقط، ويعتبرون العقد قد ترتب على ذلك دون رضى الولي، ودون حصول عقد بالصيغة أصلًا.
فإذا التزموا وتابوا فعليهم أن يجددوا العقد من جديد، عليهم أن يعقدوا عقدًا جديدًا، ومن مات منهم على ذلك اعتبر له، فثبت به النسب، وترتب عليه ما يترتب على العقد من الميراث وغيره.
وأمامة هذه تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد فاطمة رضي الله عنها، فصاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، كـعثمان، فـعثمان صاهره مرتين: على رقية أولًا، فلما ماتت زوجه بـأم كلثوم، وكذلك علي صاهره مرتين، فصاهره أولًا على فاطمة، ثم لما ماتت صاهره على أمامة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فكلاهما صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.
وقد ذكر أبو قتادة هنا نسبها، فقال: (بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فنسبها إلى أمها مع أن الأصل أن ينسب الولد إلى أبيه؛ لأن الله تعالى يقول: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ [الأحزاب:5]، لكن إذا لم يقصد بذلك نكارة النسب ولا جهله، ولكن قصد التشريف بنسب الأم؛ لأنه أشرف، فلا مانع من مثل هذا؛ ولذلك قال.. جمع بين الأمرين، فقال: (وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي لـأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها في قيامه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها، وهذا يدل على أن هذا النوع من الفعل الذي ليس كثيرًا لا يبطل الصلاة، ويدل على أن ما كان في ثياب الصبي من النجاسة، سواء كان ذلك محققًا أو محتملًا، فإنه لا يؤثر في حق حامله إذا لم يكن مباشرًا له، مماسًّا له، ويدل كذلك على جواز إدخال الصبيان في الصلاة، ويدل على أن المصلي لا يبطل صلاته من النجس إلا ما كان مماسًا له، ويدل على أنه إذا كان حامل النجس حيًا فإنه لا عبرة بحامل الحامل، بل العبرة بالحامل المباشر، وهذا يتفرع على قاعدة مشهورة لدى الفقهاء، وهي: (المباشرة تقطع حكم التسبب)، وقد ذكرنا مثال كالذي يقود بعيرًا بحبل، وما في فم البعير من الحبل فيه دم- مثلًا نجس- والذي يليك من الحبل طاهر، فصليت وأنت تربط الحبل بساقك أو نحو ذلك، فصلاتك صحيحة؛ لأن الذي فيه نجس هو الذي يلي البعير، وكأن الحبل قسم بينكما، فكان نصيبك منه طاهرًا، ونصيب البعير هو الذي فيه نجس، ولكن إذا كان الحبل مربوطًا في سفينة، (في نجس في سفينة)، أو في جيفة، وكنت أنت تصلي وهو مربوط بساقك يتحرك بحركتك، فإن ذلك مبطل لك؛ لأن الميت كالجيفة أو النجس الذي هو غير حي لا يمكن أن يكون من المباشرة التي تقطع حكم التسبب، فليس له مباشرة، وقد نظم هذه المسألة علي الأجهوري رحمه الله في قوله:
وجاعل حبل طرفه تحت رجله وطرْف بنجْس أو ملابسه اتصل
وكان يصلي لا يضر وإن يكن برجل له يربط فقد أفسد العمل
إذا لم يكن حي وإلا فما به من النجس المحذور لا يوجب الخلل
فالصور إذًا أربع: أن يكون الحبل تحت رجل الإنسان، والطرف الذي يطؤه منه طاهر، والطرف الآخر فيه نجس، فهذا لا يضر مطلقًا؛ لأنه كالفراش إذا كنت تصلي على طرفه، وطرفه الآخر عليه نجس، فما لا يمسك منه لا ضرر به عليك، فهاتان الصورتان: أن يكون طرفه الآخر في حي أو في ميت، فكلتاهما الصلاة صحيحة معها إذا كان غير مربوط بك، بل كان تحت رجلك.
والصورتان الأخريان: إذا كان مربوطًا بك، فإن كان متصلًا بحي- وهو الذي يليه النجس منه- فصلاتك صحيحة، وإن كان مربوطًا بميت أو بنجس- وهو الذي يليه النجس منه- فصلاتك باطلة.
ويدل الحديث كذلك على رحمة الصغار والعناية بالأطفال، وأن ذلك من خلق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم..
لكن المقصود: أنه يحملها إذا قام، في القيام فقط يحملها، لكن الجلوس والركوع والسجود لا يحملها في هذه الأركان الثلاثة، الحمل إنما يكون في حال القيام فقط، لكن ورد أيضًا أنها هي والحسين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فركبا على ظهره، فأطال لهما السجود، فلما سلم قال: ( نعم الجمل جملكما ).
ثم قال: باب: المرأة تطرح عن المصلي شيئًا من الأذى:
علاقة هذا الباب أيضا ًبأبواب المساجد: أن الحديث الذي ورد فيه جاء عندما وضع المشركون على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم السلا وهو ساجد لربه عند الركن اليماني، وقد كان ذلك في المسجد، فجاءت فاطمة- وهي جويرية- فانتزعت السلا عن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وطهرته فكان ذلك في المسجد الحرام؛ فلذلك قال: (باب المرأة تطرح عن المصلي)؛ أي: ترفع عنه (شيئًا من الأذى)؛ أي: النجس، والمقصود: وهو في الصلاة في المسجد؛ ليكون ذلك متصلًا بأبواب المساجد التي نحن فيها.
فذكر فيه حديث ابن مسعود في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش يوم وضعوا عليه السلا، وقد تقدم هذا الحديث، وقال هنا في آخره؛ أي: في هذه الرواية التي أوردها هنا: ( ثم سحبوا إلى القليب، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأتبع أصحاب القليب لعنة )، فالحديث سياقه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى ملأ من قريش- وهم عند الكعبة- فأحرم يصلي عند الركن اليماني، فتمالئوا به، فقالوا: أيكم يأتي بسلا ناقة بني فلان، فنضعه عليه؟ فذهب أشقاهم فجاء به، فوضعه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدًا، وأطال السجود وهم حوله يهزءون به ويضحكون، فأتى آت إلى فاطمة، فقال: أما علمت ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخبرها بذلك- وهي جويرية- فجاءت فوقفت عليهم، فسبتهم سبًّا شديدًا، ثم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت عنه السلا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتم صلاته، فلما سلم وقف عليهم فدعا عليهم، وابن مسعود هو الذي يروي هذا، فذكر أنه رأى أولئك النفر جميعًا يسحبون على وجوههم يوم بدر إلى القليب، ومع ذلك ليس القليب فقط جزاءهم، بل وراءه النار -نسأل الله السلامة والعافية- والقليب: قليب بدر الذي رموا فيه، وهو البئر المغورة التي ليس فيها ماء، إنما هي حفير، وقد رمى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جثثهم في ذلك القليب، وطمه عليهم، وذلك أن الإنسان من حيث هو لا تترك جثته تأكلها السباع والطيور، بل هو مشرف بأصل الخلقة فيدفن، كما قال تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]؛ أي: جعله من جنس من يقبر؛ فلذلك طم عليهم القليب، ودفعهم فيه.
ولما ذكر ابن مسعود هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قال: (ثم سحبوا إلى القليب)؛ أي: استجاب الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم، فرآهم ابن مسعود جميعًا وقد سحبوا إلى القليب يوم بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأتبع أصحاب القليب لعنة )، هذا اللفظ: قيل: كان وحيًا أنزل إليه صلى الله عليه وسلم، فكان من القرآن ثم نسخ، والمقصود بنسخه هنا: نسخ قرآنيته؛ أي: بقاؤه، لا نسخ صحته، فالخبر لا يقبل النسخ بمعنى التكذيب؛ لأن تكذيبه إنكار، ومن المستحيل أن ينزل وحي ثم يتبين كذبًا، هذا مستحيل، الذي يمكن نسخه هو الإنشاء، فالإنشاء هو القابل للنسخ، والخبر لا يقبل النسخ؛ لأن نسخه تكذيب له، لكن المقصود بالنسخ: نسخ معناه، والنسخ ينقسم إلى قسمين: إلى نسخ لفظي، ونسخ معنوي، فقد ينسخ اللفظ والمعنى معًا، فيكون الأمر كان منزلًا أولًا ثم نسخ، كالصلاة إلى بيت المقدس، فقد أمر الله بها بوحي أنزل على رسوله، ولم يبق ذلك الوحي في القرآن الآن لا نقرأه فيه، ولم يبق الحكم أيضًا قائمًا، بل نسخ الحكم واللفظ.
وقد ينسخ اللفظ، ويبقى الحكم كآية الرجم، فإن الله أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله)، وكانت آية تتلى في كتاب الله، فنسخ لفظها، وبقي حكمها.
كذلك قد يكون النسخ للحكم، ويبقى اللفظ، كقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، فهذا الحكم منسوخ، واللفظ باق، فاللفظ الآن باق في سورة البقرة، تتبعد الله بتلاوته، وتصلي به، والحكم منسوخ، نسختها الآية التي قبلها بالترتيب، وهي بعدها في النزول، وهي: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، ونظير هذا كل آية جاء فيها نسخ، وقد بقي لفظها، كقول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ [البقرة:180]، (للوالدين)، هذا اللفظ منسوخ حكمه، ولكن بقي لفظه قرآنا يتلى، ويتعبد الله بتلاوته، ومثل ذلك قول الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:15-16]، فهذا الحكم منسوخ واللفظ باقٍ، فأنت تقرأ الآن هاتين الآيتين في سورة النساء، وتتعبد الله بتلاوتهما، وتصلي بهما، ولكن الحكم منسوخ، فقد جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريم عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ).
وهذا اللفظ: وهو: ( وأتبع أصحاب القليب لعنة )، هو خبر؛ فلذلك لا ينسخ بمعنى التكذيب، بل إن أصحاب القليب قد لعنوا، وأتبعتهم لعنة من الله جل جلاله، وهذه اللعنة باقية عليهم، ولكن لم يعد هذا قرآنًا يتلى، وابن مسعود في هذه الرواية لم يذكر أن ذلك كان من القرآن، بل قال: (ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لكن واضح من الأسلوب أن هذا ليس من خلال كلامه هو، فليس متصلًا بما قبله والذي يقرؤه يعرف أنه مقطع مستقل، وهو: ( وأتبع أصحاب القليب لعنة )، وبالأخص أنه ذكر فيه واو العطف؛ فابتدئ بواو العطف التي تقتضي عطفًا على شيء قبله، فهو يدل على أن هذا كان مما يتلى؛ ولذلك فالذي قبله كان كلام ابن مسعود عن رؤيته لأولئك يسحبون إلى القليب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر